انقل اليكم رد الشيخ جعفر السبحاني حول اسكالات على نهج البلاغة الذي يستشكله بعض النواصب
اشكال النواصب حول كلام الامام
رد الشيخ جعفر السبحاني
إنّ الذين أرادوه على البيعة هم الذين بايعوا الخلفاء السابقين، وكان عثمان منهم، وقد منع حقّ كثير منهم في العطاء، فلمّا قُتِل قالوا لعلي (عليه السلام): نبايعك على أن تَسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر لأنّهما لا يستأثران بالمال لأنفسهما ولا لأهلهما فطلبوا من علي(عليه السلام) البيعة على أن يسير بسيرتهما، فاستعفاهم وسألهم أن يطلبوا غيره ممّن يسير بسيرتهما، ثم ذكر عدم قبوله في ذيل كلامه وهو «إنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وان الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت» مشيراً إلى أنّ الشبهة قد استولت على العقول والقلوب، وجهل أكثر الناس محجّة الحق، ففي مثل هذه الظروف لا أقدر ان أسير فيكم بسيرة الرسول في أصحابه مستقلاًّ بالتدبير، لفساد أحوالكم، وتعذر صلاحكم.
وقد صدق الخُبْر الخَبَر، فلمّا قام الإمام بالأمر وقسّم الأموال بينهم بالعدل، نكثت طائفة، ومرقت أُخرى، وقسط آخرون ([3]).
فالذي رفضه الإمام هو الخلافة الّتي يتقمّصها الإمام عن طريق البيعة، وأمّا الخلافة الالهية الّتي ألبسها الله سبحانه إيّاه يوم الغدير وغيره فلم تكن مطروحة لدى البائعين والإمام، حتّى يستقيلها أو يقبلها.
فالخلافة الّتي ينحلها الناس عن طريق البيعة، فالإمام وغيره أمامها سواء، وفي حقها قال: دعوني والتمسوا غيري. وأمّا الخلافة الإلهية الّتي تدّعيها الشيعة بفضل النصوص الكثيرة فهي غنية عن البيعة، غير خاضعة لإقبال الناس وإدبارهم. وليست الناس أمامها سواء، بل تختص بمن خصه سبحانه بها، وليس لمن خصَّه بها رفضها ولا استقالتها. والإمامة بهذا المعنى لم تكن مطروحة حين الحوار حتّى يرفضها الإمام .
وليس هذا أول كلام للامام وآخره حول رفضه بيعة القوم وإنّ أصرّوا عليه وتداكّوا عليه تداكّ الإبل على حياضها يوم وِرْدها، يقول: «وبسطتم يدي فكففُتها، ومددتموها فقبضُتها ثم تداكّكتم عليّ تداكّ الابل الهِيْم على حياضها يوم وِردها، حتّى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطُئ الضعيف وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير، وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب». ([4])
قال ابن أبي الحديد في شرح مفردات الخطبة:
التداك: الازدحام الشديد، والإبل الهيم: العطاش.
وهدج اليها الكبير: مشى مشياً ضعيفاً مرتعشاً، والمضارع يهدج، بالكسر.
وتحامل نحوها العليل: تكلّف المشي على مشقّة .
وحسرت إليها الكعاب: كشفت عن وجهها حرصاً على حضور البيعة، والكعاب: الجارية الّتي نهد ثديها، كعُب تكعُب (بالضم).
قوله: «حتّى انقطع النعل وسقط الرداء» شبيه بقوله في الخطبة الشقشقية: «حتّى لقد وطئ الحسنان وشُقَّ عِطفاي»([5]).
أقول: إنّ الذين جاءوا لمبايعة علي من الصحابة والتابعين، إنّما حاولوا أن يبايعوه كما بايعوا الخلفاء الماضين، فالخليفة في هذا المقام يستمد شرعية خلافته من بيعة الناس، وهي التي وقف منها الإمام موقفاً رافضاً لعدم رغبته فيها ، وعلماً منه بأنّ المبايعين لا يطيقون عدله وقضاءه.
وأين ذلك من الإمامة الإلهية الثابتة له بتنصيص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غير واحد من المواقف؟! فإنّ المبايعين في تلك الظروف العصيبة لم يكن لهم همّ سوى تنصيب الخليفة من دون نظر إلى الإمامة المنصوصة لعلي(عليه السلام) . حتّى يستقيلها الإمام أو يقبلها.
وفي الختام نودّ الإشارة إلى نكتة، وهي أنّ البيعة الّتي تمّت لعلي (عليه السلام) على النحو الّذي وصفها الإمام(عليه السلام) كانت ظاهرة استثنائية لم يكن لها مثيل في من سبقه من الخلفاء، ومع ذلك نرى أنّه لمّا استتب الأمر للإمام (عليه السلام) ظهرت بوادر التمّرد والعصيان عليه، والتي شغلت باله(عليه السلام) منذ تولِّيه منصب الخلافة وحتّى استشهاده (عليه السلام) .
ثم إنّ الإمام في نهاية الأمر يبيّن وجه قبوله لبيعة هؤلاء (مع عدم رغبته في الخلافة) في خطبة أُخرى، حيث يقول :
أما والّذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ([6]) .
وهذه الفقرات تعرب عن وجه قبول الخلافة ومبايعة الناس، كما تعرب عن مكانة الحكم عند الإمام(عليه السلام) .
اشكال النواصب حول كلام الامام
رفض الإمام علي عليه السلام لبيعته
يقول الشيخ:
ففي نهج البلاغة خطبة لعلي حينما دعوه إلى البيعة بعد مقتل عثمان (رضي الله عنه) قال فيها: دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول... إلى أن قال: وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلِّي أسمَعُكم وأطوعُكم لمن ولّيتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً». ([1])
فلله العجب إذ لو كان أمر الإمامة أو الخلافة كما يصوّرها الشيعة بأنها نص إلهي في علي (عليه السلام) وأبنائه الأحد عشر من بعده،... كيف يستطيع علي (عليه السلام) أن يقول دعوني والتمسوا غيري؟ هل يتّهم الشيعة الإمام علي (عليه السلام) بعصيان الله؟ أين حبهم لعلي؟
إنّ علياً (عليه السلام) هنا يقرر أن الخلافة يجوز أن تكون له أو لغيره، ويقول نفسه عن نفسه: أكون مقتدِياً خيرلي من أن أكون أماماً، فهو لا يرى الأمر كما يراه الشيعة ([2]).
فلله العجب إذ لو كان أمر الإمامة أو الخلافة كما يصوّرها الشيعة بأنها نص إلهي في علي (عليه السلام) وأبنائه الأحد عشر من بعده،... كيف يستطيع علي (عليه السلام) أن يقول دعوني والتمسوا غيري؟ هل يتّهم الشيعة الإمام علي (عليه السلام) بعصيان الله؟ أين حبهم لعلي؟
إنّ علياً (عليه السلام) هنا يقرر أن الخلافة يجوز أن تكون له أو لغيره، ويقول نفسه عن نفسه: أكون مقتدِياً خيرلي من أن أكون أماماً، فهو لا يرى الأمر كما يراه الشيعة ([2]).
رد الشيخ جعفر السبحاني
المناقشة:
كان على فضيلة الشيخ أن يتأمّل مورد صدور الكلام من الإمام، وانّه في أيّ موقف رفض بيعة القوم وقال: «دعوني والتمسوا غيري». وأي خلافة رفضها، وقال في حقها ما قال؟إنّ الذين أرادوه على البيعة هم الذين بايعوا الخلفاء السابقين، وكان عثمان منهم، وقد منع حقّ كثير منهم في العطاء، فلمّا قُتِل قالوا لعلي (عليه السلام): نبايعك على أن تَسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر لأنّهما لا يستأثران بالمال لأنفسهما ولا لأهلهما فطلبوا من علي(عليه السلام) البيعة على أن يسير بسيرتهما، فاستعفاهم وسألهم أن يطلبوا غيره ممّن يسير بسيرتهما، ثم ذكر عدم قبوله في ذيل كلامه وهو «إنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وان الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت» مشيراً إلى أنّ الشبهة قد استولت على العقول والقلوب، وجهل أكثر الناس محجّة الحق، ففي مثل هذه الظروف لا أقدر ان أسير فيكم بسيرة الرسول في أصحابه مستقلاًّ بالتدبير، لفساد أحوالكم، وتعذر صلاحكم.
وقد صدق الخُبْر الخَبَر، فلمّا قام الإمام بالأمر وقسّم الأموال بينهم بالعدل، نكثت طائفة، ومرقت أُخرى، وقسط آخرون ([3]).
فالذي رفضه الإمام هو الخلافة الّتي يتقمّصها الإمام عن طريق البيعة، وأمّا الخلافة الالهية الّتي ألبسها الله سبحانه إيّاه يوم الغدير وغيره فلم تكن مطروحة لدى البائعين والإمام، حتّى يستقيلها أو يقبلها.
فالخلافة الّتي ينحلها الناس عن طريق البيعة، فالإمام وغيره أمامها سواء، وفي حقها قال: دعوني والتمسوا غيري. وأمّا الخلافة الإلهية الّتي تدّعيها الشيعة بفضل النصوص الكثيرة فهي غنية عن البيعة، غير خاضعة لإقبال الناس وإدبارهم. وليست الناس أمامها سواء، بل تختص بمن خصه سبحانه بها، وليس لمن خصَّه بها رفضها ولا استقالتها. والإمامة بهذا المعنى لم تكن مطروحة حين الحوار حتّى يرفضها الإمام .
وليس هذا أول كلام للامام وآخره حول رفضه بيعة القوم وإنّ أصرّوا عليه وتداكّوا عليه تداكّ الإبل على حياضها يوم وِرْدها، يقول: «وبسطتم يدي فكففُتها، ومددتموها فقبضُتها ثم تداكّكتم عليّ تداكّ الابل الهِيْم على حياضها يوم وِردها، حتّى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطُئ الضعيف وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير، وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب». ([4])
قال ابن أبي الحديد في شرح مفردات الخطبة:
التداك: الازدحام الشديد، والإبل الهيم: العطاش.
وهدج اليها الكبير: مشى مشياً ضعيفاً مرتعشاً، والمضارع يهدج، بالكسر.
وتحامل نحوها العليل: تكلّف المشي على مشقّة .
وحسرت إليها الكعاب: كشفت عن وجهها حرصاً على حضور البيعة، والكعاب: الجارية الّتي نهد ثديها، كعُب تكعُب (بالضم).
قوله: «حتّى انقطع النعل وسقط الرداء» شبيه بقوله في الخطبة الشقشقية: «حتّى لقد وطئ الحسنان وشُقَّ عِطفاي»([5]).
أقول: إنّ الذين جاءوا لمبايعة علي من الصحابة والتابعين، إنّما حاولوا أن يبايعوه كما بايعوا الخلفاء الماضين، فالخليفة في هذا المقام يستمد شرعية خلافته من بيعة الناس، وهي التي وقف منها الإمام موقفاً رافضاً لعدم رغبته فيها ، وعلماً منه بأنّ المبايعين لا يطيقون عدله وقضاءه.
وأين ذلك من الإمامة الإلهية الثابتة له بتنصيص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غير واحد من المواقف؟! فإنّ المبايعين في تلك الظروف العصيبة لم يكن لهم همّ سوى تنصيب الخليفة من دون نظر إلى الإمامة المنصوصة لعلي(عليه السلام) . حتّى يستقيلها الإمام أو يقبلها.
وفي الختام نودّ الإشارة إلى نكتة، وهي أنّ البيعة الّتي تمّت لعلي (عليه السلام) على النحو الّذي وصفها الإمام(عليه السلام) كانت ظاهرة استثنائية لم يكن لها مثيل في من سبقه من الخلفاء، ومع ذلك نرى أنّه لمّا استتب الأمر للإمام (عليه السلام) ظهرت بوادر التمّرد والعصيان عليه، والتي شغلت باله(عليه السلام) منذ تولِّيه منصب الخلافة وحتّى استشهاده (عليه السلام) .
ثم إنّ الإمام في نهاية الأمر يبيّن وجه قبوله لبيعة هؤلاء (مع عدم رغبته في الخلافة) في خطبة أُخرى، حيث يقول :
أما والّذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ([6]) .
وهذه الفقرات تعرب عن وجه قبول الخلافة ومبايعة الناس، كما تعرب عن مكانة الحكم عند الإمام(عليه السلام) .
[1] . نهج البلاغة، الخطبة 88 ، ط عبده .
[2] . تأمّلات في كتاب نهج البلاغة: 10 - 11.
[3] . نهج البلاغة: الخطبة 3 .
[4] . نهج البلاغة: الخطبة 224، ط عبده .
[5] . شرح نهج البلاغة: 13 / 3 - 4 .
[6] . نهج البلاغة: الخطبة رقم 3 .
نسألكم الدعاء
[2] . تأمّلات في كتاب نهج البلاغة: 10 - 11.
[3] . نهج البلاغة: الخطبة 3 .
[4] . نهج البلاغة: الخطبة 224، ط عبده .
[5] . شرح نهج البلاغة: 13 / 3 - 4 .
[6] . نهج البلاغة: الخطبة رقم 3 .
نسألكم الدعاء
تعليق