بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلي على محمد وآله الطيبين الطاهرين
حينما يرى الإنسان إنجازات الآخرين وإبداعاتهم، فيجب أن يدفعه ذلك للثقة بنفسه، والتوجه إلى تفجير قدراته وطاقاته، فهو إنسان مثلهم، يمتلك ما يمتلكون من عقل وإرادة، وكما استخدموا عقولهم، ومارسوا إرادتهم، فأبدعوا وأنجزوا، فعليه أن يفعل مثل ذلك لكي يبدع وينتج. هذا هو المنهج الصحيح. لكن بعض الناس على العكس من ذلك ينبهرون بإنجازات غيرهم، إلى حد فقد الثقة بأنفسهم، وتجميد عقولهم وطاقاتهم، بحيث لا يرون أنفسهم قادرين على المجاراة والمماثلة، فضلاً عن التفوق والتقدم. وبهذا تتوقف الحركة، ويتعذر التطوير والتجديد.
وتارة يكون الانبهار بالسلف، كجيل سابق، أو شخصيات تاريخية، تُضفي عليها هالة من التقديس والتعظيم، فتكون سقفاً لفكر من بعدها، وحداً في الإنجاز لا يمكن تخطيه وتجاوزه. فيتم الوقوف عند مستوى فهم السلف، وطريقة حياتهم، أو تعظيم شخصية كان لها شأن، ودور تاريخي مميز، لا يجرأ أحد على نقدها، أو مخالفة آرائها ونظرياتها.
إن غير المعصوم مهما كانت كفاءته وقدرته، فهو بشر محدود بزمانه وظرفه، واجتهاده لا يمنع من بعده من الاجتهاد، ورأيه يحتمل فيه الخطأ والصواب.
إن أسلاف الأمة الصالحين ينبغي تقديرهم، والاستفادة من آرائهم وتجاربهم، لكن لا ينبغي الوقوف عند حدود فهمهم، فقد حبانا اللَّه تعالى عقولاً كما حباهم، وخاطبنا بوحيه كما خاطبهم، ولعل بعض آرائهم أو أساليب تعاملهم، كانت من وحي ظروفهم، كما أن تطور الحياة وتراكم التجارب، قد تفتح لنا آفاقاً أو تكشف لنا أموراً، لم تكن متاحة لهم.
والشخصيات القيادية في مجالات العلم أو العمل، مهما كان مستوى علمها، أو حجم عملها، فإن أحداً منها لا يشكل نهاية للعلم، ولا سقفاً للعمل، و (( كم ترك الأول للآخر )) كما يقول شاعر عربي، ويقول شاعر آخر:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل
وأصدق من ذلك قول اللَّه تعكمثال على دور تقديس الشخصيات، والانبهار بها إلى حد التوقف والجمود، نشير إلى ما ذكره العلماء في ترجمة الشيخ الطوسي محمد بن الحسن رحمه اللَّه (384هـ -460هـ) إنه لعظم مكانته العلمية، في نفوس تلامذته ومن بعدهم فقد (( مضت على الشيعة سنون متطاولة وأجيال متعاقبة، ولم يكن من الهيِّن على أحد منهم، أن يعدو نظريات شيخ الطائفة - الطوسي - في الفتاوى، وكانوا يعدون أحاديثه أصلاً مسلماً، ويكتفون بها، ويعدون التأليف في قبالها، وإصدار الفتاوى مع وجودها، تجاسراً على الشيخ وإهانة له، واستمرت الحال على ذلك حتى عصر الشيخ ابن إدريس -محمد بن أحمد بن إدريس الحلي توفي 598هـ- فكان يسميهم بالمقلدة، وهو أول من خالف بعض آراء الشيخ وفتاواه، وفتح باب الرد على نظرياته )) ولولا شجاعة الشيخ ابن إدريس، وتحليه بالثقة بالنفس، ورفضه لحالة الانبهار والاستلاب أمام شخصية الشيخ الطوسي، لأوشك أن يغلق باب الاجتهاد في الوسط الديني العلمي.الى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}