بسم الله الرحمن الرحيم
1- في هذا البحث نريد أن نقدّم نموذجاً لكيفية تأثير دراسة الفلسفة على بناء الفهم العقائدي العميق، و المثال يتعلّق بمسألة وصف الله تعالى بأنّه أزلي.
2- لو سألت أي شيعي هل الله تعالى أزلي؟ فسيجيب دون تردّد : نعم الله تعالى أزلي أبدي! و النصوص الدينية الكثيرة تؤيد ذلك .
و لكن المشكلة ستبدأ فيما لو سألته: ماذا يعني كون الله أزلياً؟ و ذلك لأن المعنى المتبادر إلى أذهاننا من هذه الصفة هو أنّ الله موجود قبل وجود المخلوقات و أنه سبحانه و تعالى موجود منذ زمان سحيق و قبل أن توجد المخلوقات بمليارات السنين بل بما لا نهاية له من السنين، فهو سبحانه قديم جدا بحيث لا يوجد زمان يسبق وجوده عزّ و جل بحيث يكون سبحانه معدوماً قبل هذا الزمان ثمّ يوجد من بعده ، بل هو سبحانه لم يزل موجوداً منذ سحيق الأزمان بما لا نهاية له و لا حدّ. هذا هو المعنى العرفي الذي يتبادر إلى ذهن الإنسان من قولنا إنّ الله أزلي.
3- و هنا يأتي دور البحث الفلسفي، حيث يبحث الحكماء عن حقيقة الزمان ما هو؟ و بأي شيء يتعلّق؟ و هذا من البحوث المهمة و العميقة، (و لا يخفى عليكم أن آينشتاين بحث هذا السؤال أعني حقيقة الزمان من ناحية فيزيائية فوصل إلى النظرية النسبية. ولكن لا علاقة لنا بذلك الآن

حسناً.. فلنعد إلى البحث الفلسفي... لقد توصّل الفلاسفة إلى أن الزمان و المكان إنما تتعلّق بالجسمانيات فقط ، و أنه لا معنى للزمان و إذا عدمت الأجسام ، وأقاموا البراهين على ذلك و لا يسع المجال لتفصيل هذا البحث هنا. و بالتالي فلا يمكن لنا أن نقول بأن الله أزلي بمعنى أنّه موجود منذ سالف الأزمان، لأنّ ذلك يعني إثبات الجسمية له سبحانه و تعالى!! بل لابدّ بأن نلتزم بأنّ الله تعالى هو خالق الزمان و المكان و ذلك لأنّه سبحانه هو خالق الأجسام و الجسمانيات، و الزمان و المكان منتزعة منها، فهو خالقها سبحانه و تعالى.
4- ولكن.. إذا كان الفهم العرفي للزمان غير مقبول و لا يمكن إثباته لله تعالى ، فماذا نفعل بكل هذه النصوص الواردة التي تثبت أنّ الله سابق على خلقه، و أنه أزلي، و أنه قديم إلى غير ذلك من الأوصاف التي تدلّ على هذا المعنى الذي ثبت بطلانه؟ و هنا مرّة أخرى يأتي دور الفلسفة، حيث أثبت الفلاسفة وجود عدّة أنواع من السبق و التأخّر ، و السبق الزماني أحدها، ثمّ بحثوا في مسألة القدم و الحدوث، و أثبتوا أنّ القدم و الحدوث له معنى دقيق يصحّ وصفه تعالى به، و لا يلزم منه هذا المحذور.
و لبيان ذلك باختصار أترككم مع كلمات السيّد العلامة الطباطبائي رضوان الله عليه في بداية الحكمة حيث يقول:
إقتباس:
الفصل الثالث في القدم و الحدوث و أقسامهما
كانت العامة تطلق اللفظتين القديم و الحادث على أمرين يشتركان في الانطباق على زمان واحد إذا كان زمان وجود أحدهما أكثر من زمان وجود الآخر فكان الأكثر زمانا هو القديم و الأقل زمانا هو الحادث و الحديث و هما وصفان إضافيان أي إن الشيء الواحد يكون حادثا بالنسبة إلى شيء و قديما بالنسبة إلى آخر فكان المحصل من مفهوم الحدوث هو مسبوقية الشيء بالعدم في زمان و من مفهوم القدم عدم كونه مسبوقا بذلك.
....
[حتّى يقول قدس سرّه في بيان أنواع الحدوث و القدم]
فمن الحدوث الحدوث الزماني و هو مسبوقية وجود الشيء بالعدم الزماني كمسبوقية اليوم بالعدم في أمس و مسبوقية حوادث اليوم بالعدم في أمس و يقابله القدم الزماني و هو عدم مسبوقية الشيء بالعدم الزماني ....
و من الحدوث الحدوث الذاتي و هو مسبوقية وجود الشيء بالعدم في ذاته كجميع الموجودات الممكنة التي لها الوجود بعلة خارجة من ذاتها و ليس لها في ماهيتها و حد ذاتها إلا العدم.
...
و يقابل الحدوث بهذا المعنى القدم الذاتي و هو عدم مسبوقية الشيء بالعدم في حد ذاتهو إنما يكون فيما كانت الذات عين حقيقة الوجود الطارد للعدم بذاته و هو الوجود الواجبي الذي ماهيته إنيته.
و إذا استوعبنا هذا الكلام الدقيق فسوف نفهم معنى جديداً للقدم و الحدوث أدقّ بكثير من المعنى العرفي العامّي و حتّى من معنى القدم الزماني الذي ذكره الفلاسفة القدماء، فالحدوث هو أن يكون الشيء في حدّ ذاته مسبوقاً بالعدم، بمعنى أنّه في حدّ ذاته لا يقتضي الوجود، و ليس له في ذاته إلا العدم ، و إنما هو موجود بسبب خارجي عن ذاته غير ذاته. و من هذا يظهر أن وجود مثل هذا الشيء مسبوق بالعدم في ذاته و لذا سمّيناه حادثاً، و هذا هو حال جميع الممكنات، لأنه قد ثبت في بحوث أخرى أن كلّ ما له ماهية فإنه لا يقتضي الوجود بذاته بل هو محتاج إلى علّة لتمنحه الوجود. و هذا معنى الحدوث الذاتي.
و أمّا القديم الذاتي الذي يقابل الحادث بهذا المعنى فهو أن يكون الشيء غير مسبوق بالعدم في ذاته.. يعني أن يقتضي بذاته الوجود، فيستحيل عليه العدم، فهذا الشيء ذاته غير مسبوقة بالعدم فهو قديم ذاتاً، و هو معنى حصري لله تعالى.
ملاحظة: لو تأملنا فيما تقدّم فسوف نستنتج دليلاً آخر على وجود واجب الوجود سبحانه و تعالى و ذلك أنّ كل موجودٍ حادثٍ في نفسه (بهذا المعنى الأخير) يدلّ بنفسه على وجود موجود قديم بالذات هو الذي منحه الوجود و هو الله سبحانه و تعالى.
*****
5- و هنا لا يفوتنا أن نلفت نظر الإخوة الكرام إلى أنّ هذه المعاني في الواقع مستفادة من كلمات الأمة المعصومين صلوات الله عليهم، فهم كانوا يرشدون الناس إلى حقيقة المباحث التوحيدية على شكل استدلالات عقلية دقيقة، لأنّ أسلوب الأئمة عليهم السلام في هذه البحوث لم يكن يعتمد على إعطاء معلومات تعبدية كما في روايات الأحكام، بل كانوا يرشدون الناس إلى الاستدلال العقلي القويم و هذا واضح لمن يتأل في كلامهم صلوات الله عليهم في هذه البحوث، و هذا هو سرّ إقناعهم لخصومهم الذين لا يؤمنون بهم.
و قد اقتنص الفلاسفة المسلمون هذه الأفكار الراقية و البراهين الساطعة و صاغوها على شكل نقاط مفصّلة نشأت منها مسائل الحكمة في هذا الباب. و فيما يلي بعض هذه النصوص الرائعة:
إقتباس:
- قال أمير المؤمنين عليه السلام: (...سبق الاوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء ازله ...)
- و قال عليه السلام في كلامه لرجل يدعى ذعلب: (...لا تحويه الاماكن، و لا تصحبه الاوقات، و لا تحده الصفات، و لا تأخذه السنات، سبق الاوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء ازله ...)
- و عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " إن قيل : كان فعلى تأويل أزلية الوجود، وإن قيل : لم يزل فعلى تأويل نفى العدم ".
[لاحظو أن هذه الرواية السابقة تكاد تكون نصاً في معنى القدم الذاتي الذي بيذنه السيد العلامة الطباطبائي رضوان الله عليه فيما تقدّم]
- و عن أبي الحسن عليه السلام قال : سألته عن أدنى المعرفة فقال : الاقرار بأنه لا إله غيره ولا شبه له ولا نظير وأنه قديم مثبت موجود غير فقيد وأنه ليس كمثله شئ .
- و عن أبي حمزة الثمالي ، قال : سأل نافع بن الأزرق أبا جعفر عليه السلام فقال : أخبرني عن الله متى كان ؟ فقال له : ويلك ، أخبرني أنت متى لم يكن حتى أخبرك متى كان ، سبحان من لم يزل ولا يزال فردا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا .
- عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : جاء حبر من الأحبار إلى أمير - المؤمنين عليه السلام فقال له : يا أمير المؤمنين متى كان ربك ؟ فقال له : ثكلتك أمك ، و متى لم يكن حتى يقال : متى كان ، كان ربي قبل القبل ، بلا قبل ويكون بعد البعد بلا بعد ، ولا غاية ولا منتهى لغايته ، انقطعت الغايات عنه ، فهو منتهى كل غاية...
- و عن موسى بن جعفر عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان ...
- و عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رأس الجالوت لليهود : إن المسلمين يزعمون أن عليا ، من أجدل الناس وأعلمهم ، اذهبوا بنا إليه لعلي أسأله عن مسألة أخطئه فيها ،
فأتاه فقال : يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن مسألة ، قال : سل عما شئت ،
قال : يا أمير المؤمنين متى كان ربنا ؟ قال : يا يهودي ، إنما يقال : متى كان لمن لم يكن فكان ، هو كائن بلا كينونة كائن كان بلا كيف ، يا يهودي ، كيف يكون له قبل وهو قبل القبل بلا غاية ولا منتهى ، غاية ولا غاية إليها ، غاية انقطعت الغايات عنه ، فهو غاية كل غاية ، فقال : أشهد أن دينك الحق وأن ما خالفه باطل .
- عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام ، قال : إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون ، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
- و قال أمير المؤمنين عليه السلام: ... ليس لأوليته ابتداء ، ولا لأزليته انقضاء . هو الأول لم يزل ، والباقي بلا أجل . خرت له الجباه ، ووحدته الشفاه . حد الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها . لا تقدره الأوهام بالحدود والحركات ، ولا بالجوارح والأدوات . لا يقال له متى ، ولا يضرب له أمد بحتّى ...
[لاحظ قوله صلوات الله عليه: ولا لأزليته انقضاء ، فهذا يكشف عن أن المقصود من أزليته و قدمه عزّ وجل معنىً غير السبق و القدم الزماني، و هو معنى لا ينقضي !! فالله أزليّ و قديم حتّى بعد خلق المخلوقات لأنّه قديم بالذات و هي حادثة بالذات كما تقدّم]
*****
نرجو أن يكون هذا المثال وافياً في بيان ما اردنا من الحاجة للدراسة الفلسفية لفهم عقائدنا بعمق، و في المشاركة القادمة سنتعرّض لمدارس التشكيك و السفسطة إن شاء الله كمثال على دور الفلسفة في ردّ الشبهات.
بسم الله الرحمن الرحيم
سؤال:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: (...سبق الاوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء ازله ...)
مامعنى أن وجود الله تبارك وتعالى سابق للأوقات؟؟
بإنتظار الاجابة من انوار الملكوت او جابر الجعفي ان لم يكونا شخص واحد.
سؤال:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: (...سبق الاوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء ازله ...)
مامعنى أن وجود الله تبارك وتعالى سابق للأوقات؟؟
بإنتظار الاجابة من انوار الملكوت او جابر الجعفي ان لم يكونا شخص واحد.
تعليق