الثورة الاسلامية وملاحم المقاومة الشعبية

لم يتضرر الاستكبار الاميركي ــ الاسرائيلي، من الثورة الاسلامية، بقدر تضرره من عطاءاتها العابرة للحدود. ولاشك في ان تبلور (محور المقاومة والممانعة) في العالم الاسلامي يشكل المنعطف الاهم في سلسلة هذه العطاءات، فقد مني الغرب والصهيونية بهزائم ماحقة ولقيا ضربات قاصمة على ايدي المجاهدين المؤمنين الذين التزموا نهج المقاومة والكفاح المسلح وحرب العصابات في التصدي للعدوان والغزو الخارجي طيلة العقود الثلاثة الماضية.
ولا يختلف اثنان في ان المقاومة الباسلة انما ولدت من رحم ثورتنا الاسلامية المباركة، وان ابناءها الميامين هم خريجو مدرسة الولي الفقيه الثائر الإمام الخميني(قدس سره الشريف)، والسائرون على خط خليفته المفدى القائد السيد علي الحسيني خامنئي (دام ظله الوارف).
ففي العام 1982 نُفذت اضخم عملية ضد الجيش الاميركي بأيدي رجال حزب الله وقد اوقعت 241 قتيلا من المارينز ما عدا الجرحى في طريق مطار بيروت الدولي ويقال ان العدد كان اكبر من ذلك بكثير بسبب اعلان واشنطن في حينها عن عشرات المفقودين مازالوا حتى اليوم.
كما وقع اضخم تفجير ضد الجيش الفرنسي في عملية البقاع الاستشهادية ضد مقر المظليين اوقعت 59 جنديا فرنسيا قتلى ماخلا المجروحين.
لكن اضخم واول عملية استشهادية ضد الجيش الصهيوني المتغطرس في تاريخه، فهي تلك التي نفذها المجاهد اللبناني الشاب الشهيد احمد قصير، حين هجم بشاحنته المفخخة بأكثر من مئتي كيلوغرام من المواد المتفجرة، واقتحم بها مقر الحاكم العسكري الاسرائيلي في مدينة صور الساحلية، مفجرا نفسه بالمقر المؤلف من ثماني طبقات ليحوله الى ركام على من فيه من ضباط قيادة الاحتلال وجنوده، في اول عملية من نوعها يشهدها لبنان ما اوقع (150) قتيلا غير الجرحى والمعوقين.
اللافت ان هذه العمليات الثلاث نفذت في فترة متقاربة وفي مناطق كادت تتحول الى معاقل دائمية للمحتلين، لكن بطولات المقاومة الاسلامية الباسلة قلبت هذه المعادلة رأسا على عقب، ولم يجد الغزاة مفرا سوى الجلاء من بيروت والبقاع. اما اسرائيل فقد تمركزت في شريط حدودي بين لبنان وفلسطين واستعانت بالعملاء الذين اطلقوا على انفسهم جيش لبنان الجنوبي، لكن هذا الشريط والمعتقلات التي اوجدت فيها مثل (الخيام) و(انصار) وغيرهما، انهارت جميعها جراء معارك الكر والفر والهجمات الميلشياوية لمجاهدي حزب الله، التي توجت بهروب الصهاينة والمرتزقة من الشريط المحتل في ايار2000 والتراجع الى مزارع شبعا.
وفي الجزيرة العربية نفذ عام 1982 ثاني اضخم عملية بحسب تصنيف وزارة الدفاع الاميركية، وهي عملية تفجير مقر المارينز في منطقتي (الخبر) و(الظهران)، التي اوقعت 272 جندي مارينز بين قتيل وجريح.
وفي 28 ايلول 2000 اندلعت انتفاضة الاقصى المباركة في عموم فلسطين المحتلة، لتتكامل بذلك حلقات رواية الفداء والتضحية في العالم الاسلامي ولينطلق المجاهدون الى عالم ارحب، ظن المستكبرون بانهم يسيطرون عليه شبرا شبرا، لكن المقاومة اعلنت في تموز 2006 عن قدراتها الحقيقية عندما تصدت للعدوان الاسرائيلي الغاشم بحرب العصابات، ودكت العمق الصهيوني بالصواريخ المتوسطة المدى، وقصفت حيفا ويافا وهددت بقصف مفاعل ديمونا النووي، وقامت بتدمير بارجة حربية اسرائيلية قبالة السواحل اللبنانية ولوحت بأن تل ابيب ومناطق العدو الاستراتيجية الاخرى في فلسطين المحتلة، لن تكون في مأمن من ضربات المقاومة الاسلامية المؤمنة.
كما ان الصمود الاسطوري لاهلنا الفلسطينيين في الحصار والعدوان على قطاع غزة عام 2008، عبر هو الآخر عن معادلة جديدة في الصراع الاسلامي ــ الصهيوني، وعندئذ ادركت اسرائيل بأنها ليست سوى اضحوكة تتندر بها افواه اطفال المسلمين والعرب واحرار العالم ، وبأن الامور تسير خلافا لمشاريعها المتعجرفة، واسطورتها الخاوية وانتصاراتها المزيفة في الحروب النظامية السابقة.
لقد شكل محور سورية وايران ولبنان وفلسطين البنيان المرصوص لمقاومة الاحتلال الصهيوني والغزوات الاميركية والاطلسية في المنطقة، وقد دفع هذا التحول الاستكبار العالمي الى تغيير استراتيجية الهيمنة المباشرة والاستعاضة عنها بالفوضى الهدامة، الامر الذي جعلها تستعين بالتكفيريين والمتطرفين وتحريضهم على تشويه الاسلام باسم الاسلام، وكان محور المقاومة والممانعة في الشرق الاوسط، المستهدف الرئيسي للعمليات التخريبية والتفجيرات التدميرية ولاسيما في سورية. فقد شعرت اميركا واسرائيل وحليفاتهما بأن غرورها قد تمرغ في الوحل وان هيبتها التي حرصت عليها لاكثر من 60 عاما، قد تلاشت وعفا عليها الزمن، وان الشرق الاوسط اخذ يتشكل لفائدة قوى الصحوة الاسلامية والثورات الشعبية الاصيلة، أي تلك التي لا تستمد جذورها من الغرب المتصهين ولا تقيم وزنا لاملاءاته وأوامره الشريرة.
من هنا جاءت التفاتة قائد الثورة الاسلامية الامام الخامنئي لدى استقباله في طهران الدكتور رمضان شلح الامين العام لحركة الجهاد الاسلامي في فلسطين، الى ان اميركا وعملاءها ترمي من وراء الاضطرابات والاحداث الدامية في سورية، الى ضرب محور المقاومة في المنطقة مشيدا سماحته بدور دمشق المدافع بلاهوادة عن المقاومين والمجاهدين في فلسطين ولبنان.
صفوة القول ان المقاومة الشعبية اضحت جزء لا يتجزأ من مكونات الامة الاسلامية وهي تمتد في الشرق الاوسط امتدادا تعبويا عفويا، وان سورية وفلسطين ولبنان والعراق وافغانستان والبحرين واليمن، هي حلقات مترابطة في هذا المسار الذي اعتنق الجهاد والشهادة والنصر استلهاما من مدرسة ثورة الامام الخميني ونهج القائد خامنئي، وكلاهما ينهل من مدرسة الاسلام المحمدي الاصيل التي قدمت على مر التاريخ أمثولات رائعة في مقارعة الطغيان والاستكبار والظلم وانتصرت عليها بكل جدارة.
الامام الخميني واليوم الالهي
مايزال الناس يتذكرون ضحى الاول من شباط 1979، يوم ادهش الامام الخميني (قدس سره) البشرية جمعاء بهبوطه المتئد في مطار مهرآباد القريب من طهران، وقد حفت به الحشود بالملايين على مسار الطريق في الشوارع والساحات حتى تقطعت به السبل بسبب بحار الجماهير المحبة والمشتاقة الى رؤية محياه الكريمة، فكان لابد من طائرة مروحية اقلته من وسط الزحام الى مقبرة بهشت الزهراء خارج العاصمة، وليستمع الوالهون الى (البيان الاول) للثورة الاسلامية المباركة من فم مفجرها وقائدها (سأشكل الحكومة.. ساعين الحكومة ساقوم بذلك بتخويل من الشعب الذي قبل بي واستجاب لتعليماتي. اما الحكومة الشاهانية القائمة فعليها ان ترحل وان لم تفعل فسأضربها). ان ايران لن تبقى بعد هذا اليوم اسيرة للمستشارين الاميركيين والاسرائيليين، فقد اختار الشعب الاسلام وفقد اختار الشعب الاسلام وارادة الحياة.
لا نشك قيد انملة ان الامام الخميني الراحل وهو العارف بار...، كان يقرأ يومها المستقبل ويستشرف ما ستؤول اليه ايران بفضل الايمان والجهاد والمثابرة والتحدي، فقد كان سماحته (طاب ثراه) النبراس الذي اضاء للاجيال طريق العزة والكرامة والسؤدد، كان يثق بشعبه وقدرته على صناعة الاعاجيب، ولولا ذلك لما اسس اول جمهورية اسلامية في عصر الثقافة المادية وسيطرة الطواغيت، وعهد الغطرسة الاميركية ــ الصهيونية.
ولقد صدقت رؤياه، وها نحن اولاء بين يدي ايران المبدعة في كل شيء..
ومن لا يصدق فليسأل الـ (آر كيو 170) وكيف لايكون الامر كذلك وقد عهد بالثورة والدولة الى تلميذه النجيب السيد الحسيني خامنئي الذي حمل الامانة بصدق وجد، وواصل المشوار بلا هوادة ومعه الخيرة من المجاهدين في سبيل الله.. والحريصين على كل حبة تراب ليس في ايران وحسب بل وفي جميع ارجاء العالم الاسلامي ايضا.
انه الخميني العظيم الذي نادى بتحرير القدس الشريف وبشر بالصحوة الاسلامية المعاصرة، وتوقع سقوط الدكتاتوريات المحلية مثل ما اطاح الشعب الايراني المؤمن بنظام بهلوي العميل قبل 33 عاما.
انه العالم الرباني الذي قال الاب المسيحي المعروف الياس زحلاوي فيه: " ذاك الذي حرك كما راكدا من الايمان في عموم العالم."
الامام الخميني (قدس سره) هو رجل التاريخ ومحيي الشريعة ومكافح اميركا المستبدة والصهيونية الشرسة، وعلى مدى سيرته ستقوض الشعوب الاسلامية والانسانية المعذبة يداً بيد عروش الدكتاتوريات العالمية المفسدة في الارض كل الارض.
الامام الخامنئي ومسؤوليات شباب الصحوة الاسلامية
عبر اللقاء الذي جمع ضيوف المؤتمر الدولي للشباب والصحوة الاسلامية، بقائد الثورة الاسلامية الامام الخامنئي (دام ظله) امس في حسينية الامام الخميني(قدس سره) بطهران، عن التواصل الوثيق بين ابناء الحركة الاسلاميةالمعاصرة من 72 بلدا، وام قرى الاسلام اليوم اضطلعت الجمهورية الاسلامية بمسؤولية تصدير الثورة بالكلمة والرسالة والموقف، الامر الذي اعطى ثماره اليافعة بعد 33 عاما من الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن القضايا المصيرية للامة وعلى رأسها قضية فلسطين والقدس الشريف.
فحتى الامس القريب لم يكن احد يصدق ان تتغير الاوضاع في المنطقة، لفائدة الحركة الاسلامية، باعتبار ان الاستراتيجية الاميركية ــ الصهيونية خالت ان الموزائيك الشرق اوسطي آخذ بالتبلور في ضوء سياسات الغرب واسرائيل، لكن الهزيمةالتي مني بها هذا الثنائي على ا يدي ابطال حزب الله لبنان خلال حرب الـ 33 يوما (تموز عام 2006)، وايضا على ايدي رجال المقاومة الاسلامية الباسلة في فلسطين (عام 2008) قدم تصورا جديدا على مستوى التصدي للمشروع الاستكباري وظهور معادلة (توازن الرعب)، كعامل حاسم في دحر الغطرسة الصهيونية التي تشدقت زمنا طويلا باسطورة (الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر)
آنئذ ادركت الامة الاسلامية قدرة تأثيرها في المعادلة الشرق الاوسطية باعتبار ان ابناء المقاومة الباسلة سواء في لبنان او فلسطين او العراق، هم جزء لا يتجزأ من المشروع التحرري العام للمسلمين والعرب في مجابهة الغزو الاطلسي للعالم الاسلامي والذي دشن حملاته المعادية منذ عام 2001 ضد افغانستان تحت ذريعة مكافحة الارهاب وعام 2003 ضد العراق، بدعوى تدمير اسلحة الدمار الشامل او الاطاحة بالدكتاتورية وعام 2006، للثأر من حزب الله لبنان وعام 2008 لمعاقبة الفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة.
لقد اكد تصاعد المد التحرري في العالم العربي على حقيقة العلاقة الوثيقة بين المسلمين وطهران كون ان جميع الحركات المقاومة في الشرق الاوسط قد استلهمت نضالها وتضحياتها وانتصاراتها من ثورة ايران الاسلامية وزعيمها الراحل الامام الخميني (طاب ثراه) الذي اهدى هذه الثورة لعموم الامة الاسلامية واحرار العالم، من اجل ان تكون نبراسا في عملية الخلاص من الطغيان والاستبداد والتبعية.
المؤكد ان اجتماع شباب الصحوة الاسلامية في ام قرى المقاومة والثبات والابداع في راهننا المعاصر يحمل الكثير من المعاني والمفاهيم المعنوية والمبدئية، باعتبار ان طهران دعمت الثورات الشعبية الاسلامية التي صدقت في نواياها وممارساتها، ولم تسمح للغرب المتصهين بتلويث نهضتها التحررية، علما منها بان هذا الغرب هو اصل البلاء والكوارث والمآسي التي ارهقت الامة على مدى اكثر من 100 عام. وازاء ذلك فان المئات من الشباب الذين جاؤوا من 72 بلدا الى ايران، جاؤوا يحدوهم الامل بان تواصل الجمهورية الاسلامية الدعم والتعاون والنصح والارشاد لحماية الصحوة الاسلامية من التحديات الخارجية والداخلية، واستلهام التجربة الاسلامية الايرانية، لبناء الاوطان صناعة المنجزات وتنقية المسيرة القادمة من ذهنية التعصب والافراط والتفريط، والوقوف سدا منيعا بوجه قوى الثورة المضادة التي اعادت انتاج نفسها، وهي تعمل ليل نهار على ضرب النهضة الاسلامية من هنا لم يكن مستغربا ان يلفت سماحة الامام خامنئي انتباه ضيوف الجمهورية الاسلامية بأن التحدي الاكبر لايكمن في الانظمة الاستبدادية، فهذه جزء من الشبكة الاستكبارية الشاملة، مشيرا الى ان المسؤوليات المقبلة، الملقاة على عاتق. جيل الصحوة الاسلامية المعاصرة، تتمحور على مقارعة الدكتاتوريات العالمية التي لاتفتأ تعيث في الارض فسادا، ولاتتردد في تمويه اهدافها ومآربها الشريرة بشعارات براقة وبكلمات معسولة تدغدغ بها العواطف البريئة وتستميل بها النفوس الطيبة.
ولا نشك ابدا في ان هذه المؤامرة الدولية غير غائبة عن ابناء الحركة الاسلامية الذين خبروا المخططات الجهنمية لاميركا واوروبا واسرائيل، ونحن واثقون بان الصحوة الاسلامية التي قوضت المشاريع الاستكبارية، ستكون قادرة على الحاق الهزيمة المرة بزعماء الشر والعدوان القادمين من وراء القارات، وطردهم من المنطقة جارين وراءهم اذيال الخيبة.
* حميد حلمي زادة
تعليق