إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

خربشات وشخبطات طفل في هلوسات الرّسم

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • خربشات وشخبطات طفل في هلوسات الرّسم

    خربشات وشخبطات طفل في هلوسات الرّسم
    بقلم: حسين أحمد سليم
    كان طفلا صغيرا ومُدلّلاكثيرا, كونه البكرُ لوالديه القرويين, المزارعين في الرّيف البقاعي البعلبكي...حملته أمّه كُرها على كره, رغم قساوة العيش, ووضعته كذلك كُرها على كره, رغمالحرمان, وقامت على تربيته بالعذاب والقهر والفقر والعوز... ومارست امّه الرّضاعةله من ثديها زمنا طويلا, لأكثر ممّا قسم الله له من الرّضاعة المشروعة العادلة,لشراهته وجوعه الدّائم, وكأنّ في بطنه حوتا يتلقّف الحليب الذي يرضعه, وممّا يزيدفي صراخه, عدم تناوله أيّ غذاء آخر ومهما كان, حتّى حليب المواشي الطّلزج والفاتر,من ضأن وماعز وبقر, والتي كانت تُوفّره له جدّته العجوز, فقد كان يرفضه إمعانا فيالعناد, بحيث كان دائما يُمارس العويل والصّراخ, وفي حالات من الهيستريا والجنونوالعناد, حتّى تلتفت له والدته, وتقوم على ضمّه لصدرها بحنان ورأفة ولهفة وتمارس رضاعته...وبقي على هذه الحال من الشّراهة والعويل والصّراخ والعناد, حتّى بعد أن تشقّقتلثّته, وبرزت أسنانه من لحم نيرته الطّريّ وتفتّقت في فمه, وعانى ما عانى من الألم,الذي تسبّبت به له, وصرخ ما صرخ من الوجع متأثّرا بحالات بروز ونموّ أسنانه...
    تفتّح الضّوء في عينيه الصّغيرتين,على والديه وجدّيه وعمّاته, والوحدة في البيت الذي ولد فيه... ولم يلحظ حوله, إلاّبعض الأدوات البيتيّة القديمة, سيّما التّقليديّة والتّراثيّة منها... الموقدالتّرابي الدّلغاني في زاوية الغرفةالواسعة, والنّيران فيه تئجّ من الحطبالسّندياني, وكان يلتفت إلى خزانة في الجدار, تسمّى: ليوك حيث تُحفظ فيها الفرشوالوسائد واللحف والطّراريح والمخدّات والمساند والدّواشك والأغطية والشّراشف...وكان دائم التّحديق في شكل جرّة الماء الفخّاريّة, وإلى جانبها إبريق الفخّار, فوقطاولة خشبيّة صغيرة, وضعتها أمّه في فراغ الشّبّاك العريض الجدار, لتسرق من برودةالجوّ القروي لها برودة منعشة... وعلى الحائط كان يرى صورة جدّه, بشاربيه الكبيرينالمعكوفين, وكوفيّته البيضاء المتدلّية على كتفيه, وعقاله الأسود بشراريبه اللواحةعلى ظهره, والصّورة معلّقة بمسمار خشبيّ... وعلى الحائط المقابل, كان يلمح الكثيرمن الملابس العربيّة الفلكلوريّة والأزياء القرويّة القديمة, المستخدمة من قبلجدّيه وأبويه, وغالبا ما كان يتلهّى بشراريب شملة جدّته, التي كانت تستخدمها كغطاءتقليديّ فوق رأسها, تحت قمطة سوداء تعصب جبينها... وكان مساءا يُلقى به في سريرخشبيّ صغير, فوق سطيحة البيت الشّرقيّة, ليرى من بين عناقيد العنب المتدلّية مندالية العريش, نقاطا ضوئيّة لامعة وبعيدة جدّا, تتلامع وتتوامض فوق رأسه, مشكّلةخرائط من الكوكبات, تركت أثرا في وجدانه, تقمّص فيما بعد, عندما كبر وشبّ, إبحارافي شؤون علم الفلك... وكان رغم صغره, يطرب لجرّات وتر قوس الرّبابة على الوتر السّيّب,الذي تلاعبه عفقات أنامل جدّه, بمرونة مبتدعا منها جميع النّغمات الموسيقيّة, وكانينتعش مزهوّا, لصوت جدّته, تغنّي الدّلعونا وأبو الزّلف والميجانا والعتاباوالشّروقي, بين جمع من الجيران والأقارب, يُمارسن التّصفيق الإيقاعيّ والتّرداد فيالموشّحات, فيما آخرون يتمتّعون برشف القهوة العربيّة المرّة, المحلاّة بالهالوالزّعفران, والمطهوّة على جمرات الفحم السّندياني, التي تتّقد في كانون أو منقلمن النّحاس الأصفر اللامع, الذي يتّسع لعدد من الأوعية النّحاسيّة الخاصّة بطبخالقهوة...
    وعى نفسه شيئا فشيئا,وتوالدت في طبائعه الشّراسة, التي تعلّمها من شراسة الدّجاج الهندي, حيث كان يلهوبينهاصغيرا, ونمت هذه الشّراسة مع نموّه الجسدي, إلى جانب الشّقاوة في تصرّفاته,والتي إستقاها من شقاوة صراع ديكة جدّه... لقد كان في البداية, وحيدا في كنف والديه,قبل أن يستكملا حركات فعل الإنجاب, تمسّكا بأهداب الدّين الحنيف, وإستكمالا لسنّةالحياة في التّكاثر والإستمرار, وتسابقا مع آخرين من أفراد القبيلة, الذينواللواتي يتماهين ويُفاخرن بكثرة الإنجاب والأولاد والذّرّيّة... وكثيرا ما كانيبكي لبكاء أمّه أوان حبلها, دون أن يُدرك شيئا عن لعبة الحمل والحبل, وأسباب إستدارةالبطن عند أمّه, ووضعها تحت فعل العويل والصّراخ في المخاض العسير, ممّا ترك فينفسه, كرها ذاتيّا لنفسه من حيث لا يدري, وهو يُراقب والدته تضع أخوته, تحت وطأةمخاض مؤلم وصراخ وإستغاثات, وعذاب مميت...
    كان في سنّ نعومة أظافره,عندما تولّع قدرا, بالخربشات الطّفوليّة على التّراب, والشّخبطات الصّبيانيّة علىالجدران, فلم يكن بإمكانيّات أبويه الفقيرين, تأمين الألعاب له في مجتمع القريةالرّيفي, وكانت أمّه, لا تُجيد صناعة الألعاب من بقايا أقمشة الملبوسات الباليةوالمهترئة, فكان لا بُدّ له, إلاّ اللعب بالتّراب والحصى في حاكورة البيت في تلكالقرية البقاعيّة المنسيّة, الواقعة ضمن شريط قرى غربي مدينة الشّمس... فقد كانجدّه يُمارس فعل التّشجيع له على الخربشات والشّخبطات, وكانت جدّته تعمل على تأمينعيدان الفحم من موقدتها بزاوية البيت, ليخربش بها فوق غباريات التّراب, ويشخبط بهاعلى جدران البيوت والمنازل القرويّة, المحيطة بالبيت الذي يسكنه وأبويه, ولم تكنتسلم من خربشاته وشخبطاته, جدران وحوائط وزوايا البيت الدّاخليّة, وكذلك الأبوابوالشّبابيك والزّجاج... وكانت أمّه تُمارس التّعنيف له بين الحين والحين, فيما كانوالده يُمارس صفعه وضربه على أنامله الطّريّة حينا وعلى رقبته ورأسه حينا آخر, علىعكس جدّه العجوز, الذي كان يحتضنه ويُدافع عنه, ويصطحبه معه أينما توجّه, ويضعهامامه فوق ظهر دابّته, فيما كانت جدّته, تحمله في شقبانها وتزوّده بما يحلو له منالطّيبات... وكثيرا ما كان ينقر الأرض بأصابع يديه, ويُبحبش بأصابع رجليه فيالتّراب, كما فعل الدّجاج الحبشي والسّندي والبرّي, وكان دائما يتماهى أمامخربشاته وشخبطاته في رغام التّراب, كما الدّيكة التي تنفلت من الخمّ الذي في وسطالحاكورة, وكان يثور شرسا كما الرّنقاء الخائفة على صيصانها, إذا ما صادف ومحى البعضشيئا من شخبطاته وخربشاته, ويُمارس القرقرة كما قرق الدّجاجة, ويستمر يُقاقي بغضبوشراسة... وكثيرا ما كان يتناول من قعر التّنّور الذي في زاوية الحاكورة, بقاياالعيدان الفحميّة الصّغيرة, ويُخربش ويشخبط بها على وجهه, وفي أنحاء كثيرة من جسدهالنّحيل, وكان غالبا ما يقوم يجبل التّراب الأحمر والأسود والأبيض والرّماد بالماء,ليصبح طينا لزجا كما اللبن الرّائب, ويطلي وجهه به, وجوانب من بدنه, بخربشاتوشخبطات, وخطوط عشوائيّة, ورسومات غريبة عجيبة...
    في مدرسة القرية الرّيفيّة الأولى,ذات الغرفة الواسعة, والعالية السّقف, والكبيرة الشّبّاك والمرتفعة الباب... وفيالصّفّ الأوّل, ومع الأستاذ الأوّل, ولسعات القضيب الأوّل من أغصان شجر الرّمّانفي القرية, الذي كان يهوي به الأستاذ على رأس وظهر التّلامذة, وفوق أناملهم النّاعمة,وعلى جوانبهم النّحيلة والطّريّة, وفوق الطّرّاحة الأولى المستخدمة ككرسيّ أرضيّ للتّلميذفي ذلك الوقت, ومع كرّاسة الأبجديّة الأولى, وأشكال الحروف الأولى, وأجسام الأرقامالأولى, ومع شكل الدّفتر الأوّل, ذات الأسطر المتقاطعة, لتصنع مربّعات صغيرة, ومع القلمالرّصاصي الأوّل, وقلم الكوبيا الأوّل, ومع الممحاة الشّمعيّة الأولى, ومع المبراةالمعدنيّة الأولى, ومع المسطرة الخشبيّة الأولى, والورقة البيضاء الأولى... بدأ فيوجدان ذلك الطفل القروي, هوس الخربشات, المتمّمة لخربشات الجدران والحوائط فيالقرية, وبدأت في طبائعه كذلك, حركات فعل الجنون الأولى في الشّخبطات, إستكمالالشخبطات جدران وحوائط بيوت القرية... وراح يُمارس نفس حركات فعل البحبشات, التيكان يمارسها في غباريات تربة حاكورة البيت, ولكنهذه المرّة فوق صفحات الدّفترالجديد, وعلى أوراق كرّاسة الحروفيات... وبدأ يمارس حركة فعل المحاكاة, لما يرى فيكرّاسته الحروفيّة والرّقميّة, ويحاول رسم ما يقع نظره عليه, من حوله في البيت وفيالمدرسة, وفي أزقّة القرية, وكرومها وحواكيرها, وسهولها ووعرها, وبيادرها وفضاءاتها...ولم يبرع في نهاية مرحلته التّعليميّة الأولى, إلاّ في جنون وهلوسات شخبطاتوخربشات الرّسم العشوائي, تلك الخربشات والشّخبطات الأولى, كانت ومضات البدايات,لولادة فنون الرّسم وبدائع الإبتكارات في حياة وشخصيّة, فنّان تشكيلي وفنّي مبتكروخلاّق ومن نوع آخر...
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
x

رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

صورة التسجيل تحديث الصورة

اقرأ في منتديات يا حسين

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

يعمل...
X