
ثمة نبرة مستجدّة في جبل محسن. «نحن علويون» يقولون. الطائفة التي تجد نفسها اليوم محاصرة، مهددة بالتهجير، موعودة بالقتل، نطق رئيسها الروحي أمس معلناً بداية مرحلة جديدة. سبقه إلى ذلك، سياسياً وعسكرياً، رفعت عيد. لسان ذاك الحي الطرابلسي يُردّد: «انتهينا... يا قاتل يا مقتول»
محمد نزال
«محور التبانة ــــ جبل محسن أصبح من الماضي». الكلام لأحد المسؤولين في الجبل. ولكن ماذا يعني بدقة؟ يوضح: «لن نكتفي بضرب التبانة. ليعرفوا جميعاً، سنضرب بيوت الزعماء السياسيين في طرابلس، الذين هم في الواقع رعاة المسلحين، من نجيب ميقاتي وسمير الجسر وأبو العبد كبارة وغيرهم. سنضرب شارع المعرض وحتى المرفأ».
سيناريو جنوني بلا ريب. المتكلم يعرف ماذا يعني هذا الأمر. لكنه أمر مشروط. هذا «لن يحصل إذا توقّفت الاعتداءات على جبل محسن، على أهالي الجبل. وبوضوح أكثر، على العلويين في الجبل أو في طرابلس وضواحيها. لن يحصل هذا إن قررت الدولة أن تكون دولة، وأن تحمينا عبر جيشها وقواها الأمنية. ولكن أن يستقيل الجميع من مهماتهم، فنحن لن نصبر بعد على إباحة دمنا. كل يوم يعود أولادنا إلى منازلهم وفي أجسامهم طعنات سكاكين. لقد اكتفينا».
جولة بسيطة على أهالي جبل محسن، شبه المحاصر، تخرجك بخلاصة مفادها أن هؤلاء يعيشون هاجس وجودهم. يسمعون عن نية تهجيرهم. يقرأون المنشورات التي تلقى في شوارع طرابلس، وفيها «فتاوى» تبيح دمهم، وتحلّل أعراضهم، وإحداها ظهرت أخيراً مذيّلة بعبارة «لا تُشاور في قتل العلوي أحداً». كثر من هؤلاء الأهالي قصدوا المجلس الإسلامي العلوي، وتحدثوا إلى الرئيس الروحي للطائفة، الشيخ أسد عاصي، واستشاروه بأمرهم. هل نقاتل؟ هل نهاجر؟ قل لنا ماذا نفعل؟ مكتب المجلس كشف لـ«الأخبار» عن كثير من هذه المراجعات.
منذ بداية جولات العنف في جبل محسن والتبانة، التي اندلعت قبل نحو 5 سنوات، يقول مسؤول في الحزب العربي الديمقراطي إن «الحزب بشخص رفعت عيد جهد لعدم مذهبة ما يحصل. كان، ومعه بعض الحزبيين، يتحدثون باسم الحزب تارة، وباسم جبل محسن تارة أخرى، تحاشياً للغة المذاهب التي يدركون أنها تضر أكثر مما تنفع». لكن، يوم أمس، اختلف الأمر تماماً. كل من في الجبل كان «علوياً». خرج رئيس مجلس الطائفة، الشيخ عاصي، ليعلن: «لقد بدأت الفتنة». عقد مؤتمراً صحافياً في الجبل، وبوجه متجهّم، قال: «لا أحد يلوم الطائفة العلوية إذا دافعت عن نفسها من أجل كرامتها. لقد طفح الكيل، وقد أعذر من أنذر. إن هذا التمادي، ما لم يتمكن المسؤولون من وضع حدّ له، فالعاقبة ستكون وخيمة، وأقول إن كل حجر يهدم على رؤوسنا أو رؤوسهم يقع على عاتق المسؤولين».
المسؤولون في المجلس العلوي عاتبون على الجميع. بلا استثناء.
يقولون لا أحد يتصل بهم. لا الزعماء السياسيون، ولا رئيس طائفة روحي يسأل، ولا حتى ضابط يستفسر... «كأننا لسنا من هذا البلد». يقولها أحمد عاصي، رئيس مكتب المجلس الإسلامي العلوي، بنبرة مرتفعة. يروي عاصي حادثة حصلت أول من أمس، كادت تشعل طرابلس، حيث «أوقف مسلحون سلفيّون باصاً عند مستديرة أبو علي. أخذوا بطاقات الهوية للركاب، فمن تبيّن أنه علوي اعتدوا عليه بالضرب المبرح. بعضهم كادوا يفارقون الحياة بسبب الضرب والطعن بالسكاكين، ومن هؤلاء ابن شقيقتي. هؤلاء كانوا عائدين إلى الجبل من أعمالهم، على غرار أكثرية أهالي الجبل الذين يعملون في طرابلس وخارجها». نتيجة ما حصل نقل 22 شخصاً إلى المستشفى.
يضيف عاصي: «أحد المصابين كان في طوارئ المستشفى الحكومي، فدخل عليه بعض المسلحين وأطلقوا النار. يريدون قتله، وبحسب زعمهم أن هذا المستشفى لهم، وهو مستشفى حكومي، ولا يريدون لعلوي أن يُعالج فيه». اتصل وزير الداخلية مروان شربل بعاصي، وطلب الصبر وعدم الرد، فردّ عليه: «لماذا لا تأتي وتزورنا وترى بعينيك؟ قل لرئيس الجمهورية أن يترك الأسفار قليلاً وليزر طرابلس إن كان فعلاً رئيساً لكل البلاد». نقل عاصي إلى شربل أن العلويين «يريدون التعايش مع الجميع. من دون مشاكل. ولكن يبدو أن الطرف الآخر ظن صبرنا خوفاً، ولذا يبدو أن علينا تغيير هذه النظرة، ونحن قادرون على فرض معادلة جديدة في طرابلس. نأمل ألا نصل إلى هناك».
اليوم، بعد كلام المجلس الإسلامي العلوي، لم يعد بإمكان أحد الغمز من قناة آل عيد. الأطراف الأخرى كانت تردد خلال السنوات الماضية أن رفعت عيد، ووالده قبله، لا يمثلان الطائفة. هذه المقولة سقطت أمس، أقلّه مذهبياً، بعد مباركة الشيخ عاصي لرفعت عيد، وبعدما أصبح النفس علوياً بامتياز. يبدو أن القائمين على المجلس أدركوا أنه لا بد من شدّ العصب العلوي. يقولون إن «هذه هي لعنة لبنان، لا تسمح لك بأن تبقى علمانياً أو متحدثاً باسم الوطنية. بلد يدفعك إلى الطائفية دفعاً».
ربما يظن البعض أن جبل محسن هو منطقة قائمة بذاتها. ربما يتخيلها البعض مقاطعة. في الواقع، الحديث يدور عن حي من أحياء طرابلس القديمة. كثيرون من سكان هذه المنطقة أرزاقهم مقطوعة اليوم. السبب أن أعمالهم هي في المدينة، وبالتالي فإن مسألة التنقل محفوفة بالمخاطر. عاجلاً أو آجلاً هذا الوضع سيؤدي إلى انفجار اجتماعي. لا يمكن أن يستمر حصار كهذا. بعض الأهالي الذين باتوا يقضون أوقاتهم في المقاهي، يرون أن رفعت عيد «لا يمكنه أن يتحمل كل هذا الضغط. نحن نريد أن نأكل ونشرب ونربّي أطفالنا. يمكن أن نسبق الجميع إلى المواجهة، وربما نختارها حتى لو لم يردها رفعت عيد. لتتفضّل وزارة الشؤون الاجتماعية وتزورنا لتقرأ واقعنا كما هو».
بعد المؤتمر الصحافي للشيخ عاصي أمس، ومؤتمر رفعت عيد قبل أيام، اتصل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بـ عيد. نبرة عيد كانت عالية جداً. أخبره أن «الأمور تغيّرت بعدما علمنا بنية تهجيرنا. لكن هذا لن يحصل وسنواجه إن كان هذا هو المخطط. قادرون على فعل ما لا يتوقعه أحد للدفاع عن أنفسنا. على الجيش والقوى الأمنية أن توقف الذين اعتدوا علينا أخيراً، والذين قتلوا واحداً منا بواسطة القنص». ثمّة تحوّل بارز في لغة المسؤولين في الجبل. مفردتا «الصبر» و«وأد الفتنة» ما عادتا تردان في خطاباتهم. العصب مشدود إلى حدّ الانفجار. جهوزية تامة، لكل الاحتمالات، على قاعدة «يا قاتل يا مقتول». يمكن فهم الحالة النفسية هناك، قبل العسكرية واللوجستية، من خلال ما قاله الشيخ عاصي أمس: «كفوا أيديكم عنا. نحن نمد أيادينا للسلام والمحبة والخير، فإياكم والتمادي. لقد بلغ السيل الزبى، فإما أن نعيش بكرامة في وطن أو نموت شهداء، وإن تكرّمتم علينا بالشهادة فأهلاً وسهلاً بها... لكن العاقبة ستكون وخيمة».
الأخبار