إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

نبذه عن حياة أبو الفضل العباس عليه السلام

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • نبذه عن حياة أبو الفضل العباس عليه السلام

    بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف

    العبّاس في نظر الأئمّة عليهم السّلام
    إنّي لا أحسب القارئ في حاجةٍ إلى الإفاضة في هذه الغاية بعد ما أوقفناه على مكانة أبي الفضل عليه السّلام من العلم والتّقى ، والملكات الفاضلة ؛ من إباء وشمم ، وتضحية في سبيل الهدى ، وتهالك في العبادة ؛ فإنّ أئمّة الهدى من أهل البيت عليهم السّلام يُقدّرون لمَن هو دونه في تلكم الأحوال فضله ، فكيف به وهو من لُحمتهم وفرعِ أرومتهم ، وغصن باسق في دوحتهم ؟! وقد أثبت له الإمام السّجاد عليه السّلام منزلة كبرى لم يَنلها غيره من الشُّهداء ، ساوى بها عمّه الطيّار ، فقال عليه السّلام :
    رحمَ اللّهُ عمِّي العبّاسَ بنَ عليٍّ ، فلقد آثرَ وأبلَى ، وفدَى أخاه بنفسِهِ حتّى قُطِعتْ يَداهُ ، فأبدلَهُ اللّهُ عزّ وجل جناحينِ يطيرُ بهمَا مع الملائكةِ في الجنّةِ ، كما جعلَ لجعْفرِ بنِ أبي طالبٍ . إنّ للعبّاسِ عندَ اللّهِ تباركَ وتعالى منزلةً يَغبطُهُ عليها جميعُ الشُّهداءِ يومَ القيامةِ.
    ولفظ ( الجميع ) يشمل مثل حمزة وجعفر الشاهدين للأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة ، وقد نفى البُعد عنه العلاّمة المُحقّق المُتبحّر في الكبريت الأحمر ص47 ج3 .
    ولعلّ ما جاء في زيارة الشُّهداء يشهد له : السّلامُ عليكُمْ أيُّها الرَّبّانيّونَ ، أنتُمْ لنا فرطٌ وسَلفٌ ونحنُ لكُمْ أتباعٌ وأنصارٌ ، أنتُمْ سادةُ الشُّهداءِ في الدُّنيا والآخرةِ . وكذلك قوله عليه السّلام فيهم : إنّهم لم يسبقهم سابقٌ ، ولا يلحقهم لاحقٌ . فقد أثبت لهم السّيادة على جميع الشُّهداء ، أنّهم لم يسبقهم ولا يلحقهم أيُّ أحدٍ ، وأبو الفضل في جملتهم بهذا التفضيل ، وقد انفرد عنهم بما أثبته له الإمام السّجاد عليه السّلام من المنزلة التي لم تكن لأيِّ شهيد .
    ولهذه الغايات الثمينة والمراتب العُليا ؛ كان أهلُ البيت عليهم السّلام يُدخلونه في أعالي اُمورهم ما لا يتدخّل فيه إنسانٌ عادي ، فمِن ذلك : مُشاطرتُه الحسينَ عليه السّلام في غسل الحسن عليه السّلام .
    وأنتَ بعد ما علمت مرتبة الإمامة ، وموقف صاحبها من العظمة ، وأنّه لا يلي أمره إلاّ إمامٌ مثله ، فلا ندحة لك إلاّ الإيمان بأنّ مَن له أيّ تدخل في ذلك ـ بالخدمة من جلب الماء وما يقتضيه الحال ـ [ هو ] أعظم رجلٍ في العالم بعد أئمّة الدِّين عليهم السّلام ؛ فإنّ جثمان المعصوم عليه السّلام عند سيره إلى المبدأ الأعلى ـ تقدّست أسماؤه ـ لا يُمكن أنْ يقربَ أو ينظر إليه مَن تقاعس عن تلك المرتبة ؛ إذ هو مقامُ قابَ قوسين أو أدنى ، ذلك الذي لم يطق الروح الأمين أنْ يصل إليه حتّى تقهقر ، وغاب النّبيُّ الأقدس في سبحات الملكوت والجلال وحدهُ إلى أنْ وقف الموقف الرهيب . وهكذا خلفاء النّبيِّ صلّى الله عليه وآله المشاركون له في المآثر كُلِّها ما خلا النّبوَّة والأزواج ، ومنه حال انقطاعهم عن عالَم الوجود بانتهاء أمد الفيض المُقدّس .
    وممّا يشهد له أنّ الفضل بن العبّاس بن عبد المُطّلب كان يحمل الماء عند تغسيل النّبيِّ صلّى الله عليه وآله ، معاوناً لأمير المؤمنين عليه السّلام على غسله ، ولكنّه عصبَ عينيه ؛ خشية العمَى إنْ وقع نظرُهُ على ذلك الجسد الطّاهر .
    ومثله ما جاء في الأثر عن الإشراف على ضريح رسول اللّه صلّى الله عليه وآله ؛ حذراً أنْ يرى النّاظر شيئاً فيعمى ، وقد اشتهر ذلك بين أهل المدينة ، فكان إذا سقط في الضريح شيءٌ أنزلوا صبيّاً وشدّوا عينيه بعصابة فيخرجه .
    وهذه أسرار لا تصل إليها أفكار البشر ، وليس لنا إلاّ التسليم على الجملة ، ولا سبيل لنا إلى الإنكار بمجرّد بُعدنا عن إدراك مثلها ، خصوصاً بعد استفاضة النّقل في أنّ للنّبيِّ صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السّلام بعد وفاتهم أحوالاً غريبةً ليس لسائر الخلق معهم شركة ، كحرمة لحومهم على الأرض ، وصعود أجسادهم إلى السّماء ، ورؤية بعضهم بعضاً ، وإحيائهم الأموات منهم بالأجساد الأصليّة عند الاقتضاء ؛ إذ لا يمنع العقل منه مع دلالة النّقل الكثير عليه واعتراف الأصحاب به ، فيصار التحصّل : إنّ الحواس الظاهرة العاديّة لا تتحمّل مثل تلك الأمثلة القُدسية ـ وهي في حال صعودها إلى سبحات القُدس ـ إلاّ نفوس المعصومين عليهم السّلام بعضها مع بعض دون غيرهم ، مهما بلغ من الخشوع والطاعة .
    لكنّ ( عباس المعرفة ) الذي منحه الإمام عليه السّلام في الزيارة أسمى صفة حظي بها الأنبياء والمقرّبون عليهم السّلام ، وهي : ( العبد الصالح ) تسنّى له التوصّل إلى ذلك المحل الأقدس من دون أنْ يُذكر له تعصيبُ عينٍ أو إغضاءُ طرفٍ ، فشارك السّبط الشهيد عليه السّلام ، والرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله ، ووصيه المُقدّم مع الروح الأمين عليه السّلام ، وجملةَ الملائكة في غسل الإمام المجتبى الحسن السّبط صلوات اللّه عليهم أجمعين . وهذه هي المنزلة الكبرى التي لا يحظى بها إلاّ ذَوو النّفوس القُدسيّة من الحُجج المعصومين عليهم السّلام ، ولا غرو إنْ غبط أبا الفضل الصّدِّيقون والشُّهداء الصالحون .
    وإذا قرأنا قول الحسين للعبّاس عليهما السّلام ، لمّا زحف القوم على مخيّمه عشيّة التاسع من المُحرّم : اركَبْ بنفسِي أنتَ يا أخي حتّى تَلقاهُمْ . . . وتسألَهُمْ عمّا جاءَ بِهم . فاستقبلهم العبّاس في عشرين فارساً ، فيهم حبيب وزهير ، وسألهم عن ذلك ، فقالوا : إنّ الأمير يأمر إمّا النّزول على حكمه أو المُنازلة .
    فأخبر الحسينَ عليه السّلام ، فأرجعه ليُرجئهم إلى غد.1
    ====
    1-الخصائص العبّاسيّة / محمّد إبراهيم الكلباسي النجفي ص115_118.
    ومع السلامة.

  • #2
    نبذه عن حياة أبو الفضل العباس عليه السلام

    بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
    نبذه عن حياة أبو الفضل العباس عليه السلام
    هكذا كان العباس...~
    فتح العباس عليه السلام عينيه في عيني علي عليه السلام، و رافق السبطين الحسن والحسين عليهما السلام خلال فترة طفولته وشبابه.
    بقي مع أمير المؤمنين أربعة عشر عاماُ في أصعب مراحل حياة الإمام علي عليه السلام حيث عاد إليه حقه في الخلافة ليواجه الناكثين والقاسطين والمارقين، الذين شنوا عليه الحروب والغزوات. وكان العباس يمر مع أمير المؤمنين بتلك الظروف الصعبة، ويرافق التطورات التي حدثت فيوماً شاهد معركة الجمل، ويوماً آخر معركة صفين، ويوماً ثالثاً معركة النهروان.
    ولقد أبلى العباس بلاءً حسناً في معركة صفين التي طالت ثمانية عشر شهراً بين الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه من جهة، وبين معاوية بن أبي سفيان وجلاوزته من جهة أخرى. وكما أن أباه خاض المعارك وهو لا يزال في مقتبل عمره، وكشف الكروب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد وخيبر وغيرها.
    كذلك ظهرت من العباس وهو لا يزال في سني المراهقته شجاعة فائقة في يوم صفين، ومما يروى في هذا المجال أنه في بعض أيام صفين، خرج من جيش أمير المؤمنين شابٌ يعلو وجهه نقاب تعلوه الهيبة وتظهر عليه الشجاعة وكان يقدر عمره بخمسة عشر عاماً وأخذ يطلب المبارزة من أصحاب معاوية فهابه الأعداء، فندب معاوية إليه واحداً من أشجع أهل الشام يسمى أبو الشعثاء فقال أبو الشعثاء: ((يا معاوية إن أهل الشام يعدونني بألف فارس، فلا أخرج إليه وإنما أرسل إليه أحد أولادي)) وكان عنده سبعة فأرسل ابنه الأول فبارز صاحب النقاب فقتله صاحب النقاب، ثم أرسل أبو الشعثاء ابنه الثاني فقتله ايضاً فأرسل الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع، فقضى عليهم جميعاً فساء ذلك أبا الشعثاء وأغصبه فبرز إلى صاحب النقاب وهو يظن أنه قادرُ على مواجهة ألف فارس مثله وقال ((لأثكلن عليك أمك)) فشد عليه صاحب النقاب وألحقه بأولاده السبعة.
    فهاب كل أصحاب معاوية ذلك الرجل، ولم يجرؤ على مبارزته أحدٌ فيما بعد أدهش هذا الموقف ليس العدو فقط وإنما الصديق أيضا، وعرف أصحاب الإمام علي من هذه البسالة أنها لا تعدو الهاشميين، ولكنهم لم يعرفوا من هو ذلك البطل الباسل فلما رجع إلى المخيم الإمام أزال النقاب عن وجهه فإذا هو قمر بني هاشم العباس عليه السلام.
    وينقل هنا أن الإمام علياً كان يتبادل مع العباس أحيانا ما يلبسه ولده من أجل تعمية على العدو فقد نص الخوارزمي في كتابه المناقب أنه ((خرج من عسكر معاوية رجلٌ يقال له كريب وكان شجاعاً قوياُ يأخذ الدرهم فيغمزه بإبهامه فتذهب كتابته، فنادى بين الصفين ((ليخرج إلي علي)). فبرز إليه مرتفع بن وضاح الزبيدي فقتله كريب، ثم برز إليه شرح ابن أبي بكر فقتله كريب، ثم برز إليه الحرث بن الحلاج الشيباني فقتله كريب أيضاً فساء ذلك أمير المؤمنين فدعى ولده العباس وكان تاماً كاملاً من الرجال بالرغم انه لم يتجاوز السادسة عشر من عمره، وأمره أن ينزل من فرسه وينزع ثيابه فلبس علي عليه السلام ثياب ولده و ركب فرسه وألبس ابنه العباس ثيابه هو وإنما فعل ذلك حتى لا يهرب كريب منه جبناً إذ عرف من هو الذي يبارزه، فلما برز إليه أمير المؤمنين ذكره الآخرة وحذره بأس الله وسخطه، فقال كريب: ((لقد قتلت بسيفي هذا كثيراً من أمثالك)) فلما هجم على الإمام ، فتلقى الإمام ضربته بالدرقة، ثم ضربه على رأسه بسيفه فشقه نصفين.
    ومرت الأيام، وقتل أمير المؤمنين سلام الله عليه بسيف عبد الرحمن بن ملجم، وجرى ذلك ما جرى على الحسن بن علي سلام الله عليه، وكان العباس عليه السلام يقف مع الإمام خلال تلك السنوات العشر التي تولى الإمام الحسن مقام الإمامة فيها. وشارك مع الإمام في دفع حيل معاوية، وكشف زيفه وخداعه.
    وتحمل مع الحسن والحسين ما تحمله السبطان مثل من سب معاوية للإمام أميرالمؤمنين ومصادرة حقوقهم ومطاردة أصحابهم وغير ذلك. لقد مرت ظروفٌ صعبة على أهل البيت عليهم السلام وكان العباس يتحمل قسطاً من تلك الصعاب، حتى إذا التحق الإمام الحسن بالرفيق الأعلى مسموماً مغدوراً به وامتلأت عيون الهاشميين بالدموع على رحيله، كان العباس ممن رثى أخاه وصبر بنيه على ما ألم بهم.
    وشارك العباس أخواه الحسين ومحمد بن الحنيفة في تغسيل الإمام الحسن وتكفينه وتشييعه ، وكان ممن شاهد منع بني أمية دفن جثمان الإمام الحسن عن قبر جده، ولولا وصية الحسن بأن لا تراق محجمة الشيعة في تشييعه ودفنه ، لولا ذلك لما صبر أبو الضيم الفضائل على ما جرى على الإمام الحسن بعد وفاته.
    وبقي العباس في جوار أخيه الحسين مع بني هاشم إلى أن حل عام 60 من الهجرة، ومات معاوية بن أبي سفيان وتولى يزيد سدة الحكم من بعده، و أرسل هذا الأخير إلى واليه على المدينة- الوليد بن عتبة- رسالة يطالبه فيها بأخذ البيعة من الحسين بن علي عليه السلام قسراً، إن لم يبايع طوعاً، وأمره بأن يقتل الحسين إن امتنع عن ذلك،وحينما استُدعي الإمام إلى قصر الإمارة في المدينة المنورة، اصطحب معه جمعاً من بني هاشم بزعامة العباس عليه السلام، وأمرهم بأن يحيطوا بدار الإمارة، حتى إذا سمعوا صوته، اقتحموا الدار ، وأنقذوه.
    وهكذا فعل العباس وبنو هاشم، حيث أغلط مروانُ بن الحكمُ القول لأبي عبدالله عليه السلام وانبرى الإمام قائلاً((إنا أهل بيت النبوة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد شارب الخمور وراكب الفجور، وقاتل النفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله)).
    و رفع عليه السلام صوته مما دفع بني هاشم لاقتحام دار الإمارة، وإنقاذ الإمام الحسين عليه السلام في تلك الليلة.
    كانت تلك باختصار بعض الحوادث التي جرت على العباس عليه السلام في سني حياته.
    ونسألكم الدعاء.

    تعليق


    • #3
      ولادة العباس عليه السلام

      بسم الله الرحمن الرحيم
      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
      اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف

      ولادة العباس عليه السلام
      تزوّج أمير المؤمنين عليه السّلام من فاطمة ابنة حزام العامرية، إمّا بعد وفاة الصديقة سيّدة النّساء عليها السّلام كما يراه بعضُ المؤرّخين، أو بعد أنْ تزوّج باُمامة بنت زينب بنت رسول اللّه صلّى الله عليه وآله كما يراه البعضُ الآخر. وهذا بعد وفاة الزهراء عليها السّلام ; لأنّ اللّه قد حرّم النّساء على عليٍّ عليه السّلام ما دامت فاطمةُ عليها السّلام موجودة.
      فولدت أربعة بنين وأنجبت بهم : العبّاس وعبد اللّه، وجعفر وعثمان، وعاشت بعده مدّة طويلة ولم تتزوّج من غيره، كما أنّ اُمامة وأسماء بنت عُميس وليلى النّهشلية لم يخرجنَ إلى أحد بعده، وهذه الحرائر الأربع تُوفي عنهنّ سيّد الوصيين عليهما السلام.
      وقد خطب المغيرة بن نوفل اُمامة، ثُمّ خطبها أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث، فامتنعت، وروت حديثاً عن علي عليه السّلام : أنّ أزواج النّبي صلّى الله عليه وآله والوصيّ عليه السّلام لا يتزوّجنَ بعده ، فلم يتزوّجنَ الحرائرُ واُمّهات الأولاد عملاً بالرواية.
      وكانت اُمّ البنين من النّساء الفاضلات العارفات بحقّ أهل البيت عليهم السّلام، مُخلصة في ولائهم، مُمحّضة في مودّتهم، ولها عندهم الجاه الوجيه والمحلّ الرفيع، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تُعزّيها بأولادها الأربعة، كما كانت تزورها أيّام العيد.
      وبلغ من عظمها ومعرفتها وتبصّرها بمقام أهل البيت عليهم السّلام، أنّها لمّا اُدخلت على أمير المؤمنين عليه السّلام، وكان الحسنان عليهما السّلام مريضين، أخذت تُلاطف القول معهما، وتُلقي إليهما من طيب الكلام ما يأخذ بمجامع القلوب، وما برحت على ذلك تُحسن السّيرة معهما وتخضع لهما كالاُمّ الحنون.
      ولا بِدعَ في ذلك ، فإنّها ضجيعة شخص الإيمان، قد استضاءت بأنواره، وربت في روضة أزهاره، واستفادت من معارفه، وتأدّبت بآدابه، وتخلّقت بأخلاقه.
      الولادة
      لقد أشرق الكون بمولد قمر بني هاشم يوم بزوغ نوره من اُفق المجد العلوي، مُرتضعاً ثدي البسالة، مُتربّياً في حِجر الخلافة، وقد ضربت فيه الإمامةُ بعرقٍ نابضٍ، فترعرع ومزيجُ روحه الشهامة والإباء، والنّزوع عن الدَّنايا، وما شُوهد مُشتدّاً بشبيبته الغضة إلاّ وملء إهابه إيمانٌ ثابت، وحشوُ ردائه حلم راجح، ولبّ ناضج، وعلم ناجع.
      فلم يزل يقتصّ أثر السّبط الشهيد عليه السّلام الذي خُلق لأجله، وكُوّن لأنْ يكون ردءاً له في صفات الفضل ومخائل الرفعة، وملامح الشجاعة والسّؤدد والخطر. فإنْ خطى سلام اللّه عليه فإلى الشرف، وإنْ قال فعَن الهُدى والرشاد، وإنْ رمق فإلى الحقِّ، وإنْ مال فعَن الباطل، وإنْ ترفّع فعَن الضيم، وإنْ تهالك فدون الدِّين.
      فكان أبو الفضل جامع الفضل والمثل الأعلى للعبقرية ; لأنّه كان يستفيد بلجِّ هاتيك المآثر من شمسِ فَلَكِ الإمامة ( حسينُ العلمِ والبأسِ والصلاحِ )، فكان هو وأخوه الشهيد عليهما السّلام من مصاديق قوله تعالى في التأويل : وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا. فلم يسبقه بقولٍ استفاده منه، ولا بعملٍ أتبعه فيه، ولا بنفسيَّةٍ هي ظلّ نفسيَّته، ولا بمنقبة هي شعاع نوره الأقدس المُنطبع في مرآة غرائزه الصقيلة.
      وقد تابع إمامه في كُلّ أطواره حتّى في بروز هيكله القدسي إلى عالم الوجود، فكان مولد الإمام السّبط عليه السّلام في ثالث شعبان، وظهور أبي الفضل العبّاس إلى عالم الشهود في الرابع منه سنة ستٍّ وعشرين من الهجرة.
      وممّا لا شكّ فيه أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا اُحضر أمامه ولدُهُ المحبوبُ ليُقيم عليه مراسيم السُّنّة النّبويّة التي تُقام عند الولادة، ونظر إلى هذا الولد الجديد الذي كان يتحرّى البناء على اُمّه أنْ تكون من أشجع بيوتات العرب ; ليكون ولدها ردءاً لأخيه السّبط الشهيد يوم تحيط به عصب الضلال، شاهد بواسع علم الإمامة ما يجري عليه من الفادح الجَلل، فكان بطبع الحال يُطبّق على كُلِّ عضو يُشاهده مصيبةً سوف تجري عليه، يُقلّب كفّيه اللذين سيُقطعان في نُصرة حُجّة وقته، فتهمل عيونُهُ،
      ويُبصر صدرَه عيبةَ العلم واليقين، فيُشاهده منبتاً لسهام الأعداء، فتتصاعد زفرتُهُ، وينظر إلى رأسه المُطهّر فلا يعزب عنه أنّه سوف يُقرع بعمد الحديد ، فتثور عاطفتُهُ وترتفعُ عقيرتُه، كما لا يُبارح فاكرته حينما يراه يسقي أخاه الماء ما يكون غداً من تفانيه في سقاية كريمات النّبوّة، ويحمل إليهنّ الماء على عطشه المرمض، وينفض الماء حيث يذكر عطش أخيه عليه السّلام ، تهالكاً في المواساة، ومبالغة في المفادات، وإخلاصاً في الاُخوّة، فيتنفس الصعداء، ويُكثر من قول : مالي وليزيد !. وعلى هذا فقس كُلَّ كارثةٍ يُقدّر سوف تلمّ به وتجري عليه.
      فكان هذا الولد العزيز على أبويه وحامّته، كُلّما سرّ أباه اعتدالُ خلقتِهِ، أو ملامح الخير فيه، أو سمة البسالة عليه، أو شارة السّعادة منه، ساءه ما يُشاهده هنالك من مصائب يتحمّلها، أو فادحٍ ينوء به ، من جُرحٍ دامٍ، وعطشٍ مُجهدٍ، وبلاءٍ مُكرب. وهذه قضايا طبيعيّة تشتدّ عليها الحالة في مثل هاتيك الموارد، ممّن يحمل أقلّ شيء من الرّقّة على أقلّ إنسان، فكيف بأمير المؤمنين عليه السّلام الذي هو أعطف النّاس على البشر عامّة من الأب الرؤوف، وأرقّ عليهم من الاُمّ الحنون !
      إذاً فكيف به في مثل هذا الإنسان الكامل (أبي الفضل) الذي لا يقف أحدٌ على مدى فضله، كما ينحسر البيان عن تحديد مظلوميّته واضطهاده.
      وذكر صاحب كتاب ( قمر بني هاشم ) ص21 : إنّ اُمّ البنين رأت أمير المؤمنين عليه السّلام في بعض الأيّام أجلس أبا الفضل عليه السّلام على فخذه، وشمّر عن ساعديه، وقبَّلهما وبكى، فأدهشها الحال ; لأنّها لم تكنْ تعهد صبيّاً بتلك الشمائل العلويّة ينظر إليه أبوه ويبكي من دون سبب ظاهر، ولمّا أوقفها أمير المؤمنين عليه السّلام على غامض القضاء، وما يجري على يديه من القطع في نصرة الحسين عليه السّلام، بكت وأعولت، وشاركها مَن في الدار في الزفرة والحسرة، غير أنّ سيّد الأوصياء عليه السّلام بشّرها بمكانة ولدها العزيز عند اللّه جلّ شأنه، وما حباه عن يديه بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل ذلك لجعفر بن أبي طالب، فقامت تحمل بشرى الأبد، والسّعادة الخالدة 1.
      ====
      1-الخصائص العبّاسيّة / محمّد إبراهيم الكلباسي النجفي ص 230_233.
      ومع السلامة.

      تعليق


      • #4
        الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام ومنزلة العبّاس عنده

        بسم الله الرحمن الرحيم
        السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
        اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف

        الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام ومنزلة العبّاس عنده
        روي أنّ اُمّ البنين عليها السّلام؛ رأت أمير المؤمنين عليه السّلام في بعض الأيام قد أجلس ولده أبا الفضل العبّاس عليه السّلام وهو صغير في حضنه، وشمّر عن ساعديه وكفّيه الصغيرتين، وأخذ يقبّلهما ويبكي، فأدهشها الحال، وتعجّبت من هذا الأمر، فأقبلت على الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام تسأله مندهشة، وتقول: لا أبكى الله عينك يا أمير المؤمنين ، وهل في ساعدَي ولدي وكفّيه ما يستدعي التأثر والبكاء ؟!
        فأوقفها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام على ما لهذا الطفل من شأن كبير عند الله، ومنزلة رفيعة لديه على ما سيقوم به من نصرة أخيه وإمامه الإمام الحسين عليه السّلام في يوم عاشوراء، والذبّ عنه حتّى تُقطع كلتا يديه في نصرته.
        فلم تتمالك الاُمّ الحنون نفسها من وقع هذا الخبر حتّى بكت وأعولت، وشاركها مَنْ كان في الدار الزفرة والحسرة، والبكاء والعويل، فهدّأهم الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام وأسكتهم، ثمّ بشّر اُمّ البنين عليها السّلام بمكانة ولدها العزيز عند الله جلّ شأنه، وأخبرها بأنّه سوف يعوّضه الله عن يديه المقطوعتين بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل مثل ذلك لجعفر بن أبي طالب عليه السّلام أيضاً.
        ومعلوم أنّ تقبيل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام كفّي ولده أبي الفضل العبّاس عليه السّلام وساعديه ليس هو من باب الشفقة والمحبّة فقط، بل هو من باب المقام والمنزلة أيضاً.
        وروي أنّه لمّا كانت ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان عام أربعين للهجرة، أي في ليلة استشهاد الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، وهي الليلة الأخيرة من عمر الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، حيث أخذ الإمام يودّع فيها أهل بيته وخاصّته، ويوصيهم بوصاياه ومواعظه، وفيها التفت إلى ولده أبي الفضل العبّاس عليه السّلام، وضمّه إلى صدره، وقال له: ولدي عبّاس، وستقرّ عيني بك يوم القيامة.
        ولدي أبا الفضل، إذا كان يوم عاشوراء ، ودخلت الماء وملكت المشرعة، فإيّاك أن تشرب الماء وأن تذوق منه قطرة وأخوك الحسين عليه السّلام عطشان.
        والشاهد من هذا الخبر هو قول الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لولده أبي الفضل العبّاس عليه السّلام: وستقرّ عيني بك في يوم القيامة ، فإنّ قرّة عين الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لا يكون إلاّ بما يراه الإمام من علوّ مقام ولده أبي الفضل العبّاس عليه السّلام عند الله تبارك وتعالى، ورفيع منزلته لديه 1.
        ====
        1-الخصائص العبّاسيّة / محمّد إبراهيم الكلباسي النجفي ص174_178.
        ومع السلامة.

        تعليق


        • #5
          شخصية أبو الفضل العباس عليه السلام 2015

          بسم الله الرحمن الرحيم
          السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
          اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف

          شخصية أبو الفضل العباس عليه السلام 2015
          احتلّ أبو الفضل ( عليه السلام ) قلوب العظماء ومشاعرهم ، وصار أنشودة الاَحرار في كلّ زمان ومكان ، وذلك لما قام به من عظيم التضحية تجاه أخيه سيّد الشهداء ، الذي ثار في وجه الظلم والطغيان ، وبنى للمسلمين عزّاً شامخاً ، ومجداً خالداً.
          وفيما يلي بعض الكلمات القيّمة التي أدلى بها بعض الشخصيات الرفيعة في حقّ أبي الفضل ( عليه السلام ) .
          1 ـ الاِمام زين العابدين:
          أمّا الاِمام زين العابدين فهو من المؤسسين للتقوى والفضيلة في الاِسلام ، وكان هذا الاِمام العظيم يترحّم ـ دوماً ـ على عمّه العبّاس ويذكر بمزيد من الاِجلال والاِكبار تضحياته الهائلة لاَخيه الحسين وكان مما قاله في حقّه هذه الكلمات القيّمة:
          « رحم الله عمّي العباس ، فلقد آثر وأبلى ، وفدى أخاه بنفسه ، حتى قُطعت يداه ، فأبدله الله بجناحين ، يطير بهما مع الملائكة في الجنّة ، كما جعل لجعفر بن أبي طالب ، وان للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة.. ».
          وألمّت هذه الكلمات بأبرز ما قام به أبو الفضل من التضحيات تجاه أخيه أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، فقد أبدى في سبيله من ضروب الاِيثار وصنوف التضحية ما يفوق حدّ الوصف ، وما كان به مضرب المثل على امتداد التاريخ ، فقد قطعت يداه الكريمتان يوم الطفّ في سبيله ، وظلّ يقاوم عنه حتى هوى إلى الاَرض صريعاً ، وان لهذه التضحيات الهائلة عند الله منزلة كريمة ، فقد منحه من الثواب العظيم ، والاَجر الجزيل ما يغبطه عليه جميع شهداء الحقّ والفضيلة في دنيا الاِسلام وغيره.
          2 ـ الاِمام الصادق:
          أمّا الاِمام الصادق ( عليه السلام ) فهو العقل المبدع والمفكّر في الاِسلام فقد كان هذا العملاق العظيم يشيد دوماً بعمّه العبّاس ، ويثني ثناءً عاطراً ونديّاً على مواقفه البطولية يوم الطفّ ، وكان مما قاله في حقّه:
          « كان عمّي العبّاس بن علي ( عليه السلام ) نافذ البصيرة ، صُلب الاِيمان ، جاهد مع أخيه الحسين ، وأبلى بلاءً حسناً ، ومضى شهيداً.. ».
          وتحدّث الاِمام الصادق ( عليه السلام ) عن أنبل الصفات الماثلة عند عمّه العبّاس والتي كانت موضع إعجابه وهي:
          أ ـ نفاذ البصيرة:
          أمّا نفاذ البصيرة ، فانها منبعثة من سداد الرأي ، وأصالة الفكر ، ولا يتّصف بها إلاّ من صفت ذاته ، وخلصت سريرته ، ولم يكن لدواعي الهوى والغرور أي سلطان عليه ، وكانت هذه الصفة الكريمة من أبرز صفات أبي الفضل فقد كان من نفاذ بصيرته ، وعمق تفكيره مناصرته ومتابعته لاِمام الهدى وسيّد الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وقد ارتقى بذلك إلى قمّة الشرف والمجد ، وخلدت نفسه العظيمة على امتداد التأريخ ، فما دامت القيم الاِنسانية يخضع لها الاِنسان ، ويمجّدها فأبو الفضل قد بلغ قمّتها وذروتها.
          ب ـ الصلابة في الاِيمان:
          والظاهرة الاَخرى من صفات أبي الفضل ( عليه السلام ) هي الصلابة في الاِيمان وكان من صلابة إيمانه انطلاقه في ساحات الجهاد بين يدي ريحانة رسول الله مبتغياً في ذلك الاَجر عند الله ، ولم يندفع إلى تضحيته بأي دافع من الدوافع المادية ، كما أعلن ذلك في رجزه يوم الطفّ ، وكان ذلك من أوثق الاَدلة على إيمانه.
          ج ـ الجهاد مع الحسين:
          وثمّة مكرمة وفضيلة أخرى لبطل كربلاء العباس ( عليه السلام ) أشاد بها الاِمام الصادق ( عليه السلام ) وهي جهاده المشرق بين يدي سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، ويعتبر الجهاد في سبيله من أسمى مراتب الفضيلة التي انتهى إليها أبو الفضل ، وقد أبلى بلاءً حسناً يوم الطفّ لم يشاهد مثله في دنيا البطولات.
          د ـ زيارة الاِمام الصادق:
          وزار الاِمام الصادق ( عليه السلام ) أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وبعدما انتهى من زيارة الاِمام الحسين وأهل بيته والمجتبين من أصحابه ، انطلق بشوق إلى زيارة قبر عمّه العبّاس ، ووقف على المرقد المعظّم ، وزاره بالزيارة التالية التي تنمّ عن سموّ منزلة العبّاس ، وعظيم مكانته ، وقد استهلّ زيارته بقوله:
          « سلام الله ، وسلام ملائكته المقرّبين ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، وجميع الشهداء والصدّيقين والزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح عليك يا ابن أمير المؤمنين.. ».
          لقد استقبل الاِمام الصادق عمّه العباس بهذه الكلمات الحافلة بجميع معاني الاِجلال والتعظيم ، فقد رفع له تحيات من الله وسلام ملائكته ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، والشهداء ، والصدّيقين ، وهي أندى وأزكى تحيّة رفعت له ، ويمضي سليل النبوّة الاِمام الصادق ( عليه السلام ) في زيارته قائلاً:
          « وأشهد لك بالتسليم ، والتصديق ، والوفاء ، والنصيحه لخلف النبيّ المرسل ، والسبط المنتجب ، والدليل العالم ، والوصي المبلّغ والمظلوم المهتضم... »
          وأضفى الاِمام الصادق ( عليه السلام ) بهذا المقطع أوسمة رفيعة على عمّه العبّاس هي من أجلّ وأسمى الاَوسمة التي تضفى على الشهداء العظام ، وهي:
          أ ـ التسليم:
          وسلّم العباس ( عليه السلام ) لاَخيه سيّد الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) جميع أموره ، وتابعه في جميع قضاياه حتّى استشهد في سبيله ، وذلك لعلمه بإمامته القائمة على الاِيمان الوثيق بالله تعالى ، وعلى أصالة الرأي وسلامة القصد ، والاِخلاص في النيّة.
          ب ـ التصديق:
          وصدّق العبّاس ( عليه السلام ) أخاه ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في جميع اتجاهاته ، ولم يخامره شكّ في عدالة قضيّته ، وانّه على الحق ، وان من نصب له العداوة وناجزه الحرب كان على ضلال مبين.
          ج ـ الوفاء:
          من الصفات الكريمة التي أضافها الاِمام الصادق ( عليه السلام ) على عمّه أبي الفضل ( عليه السلام ) ، الوفاء ، فقد وفى ما عاهد عليه الله من نصرة إمام الحق أخيه أبي عبدالله الحسين ( عليه السلام ) ، فقد وقف إلى جانبه في أحلك الظروف وأشدّها محنة وقسوة ، ولم يفارقه حتى قطعت يداه ، واستشهد في سبيله.
          لقد كان الوفاء الذي هو من أميز الصفات الرفيعة عنصراً من عناصر أبي الفضل وذاتياً من ذاتياته ، فقد خُلِق للوفاء والبرّ للقريب والبعيد.
          د ـ النصيحة:
          وشهد الاِمام الصادق بنصيحة عمّه العبّاس لاَخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) ، فقد أخلص له في النصيحة على مقارعة الباطل ، ومناجزة أئمّة الكفر والضلال ، وشاركه في تضحياته الهائلة التي لم يشاهد العالم مثلها نظيراً في جميع فترات التاريخ... ولننظر إلى بند آخر من بنود هذه الزيارة الكريمة ، يقول ( عليه السلام ) :
          « فجزاك الله عن رسوله ، وعن أمير المؤمنين ، وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء بما صبرت ، واحتسبت ، وأعنت فنعم عقبى الدار ... ».
          وحوى هذا المقطع على إكبار الاِمام الصادق ( عليه السلام ) لعمّه العبّاس وذلك لما قدّمه من الخدمات العظيمة ، والتضحيات الهائلة لسيّد شباب أهل الجنّة ، وريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) فقد فداه بروحه ، ووقاه بمهجته ، وصبر على ما لاقاه في سبيله من المحن والشدائد مبتغياً في ذلك الاَجر عند الله ، فجزاه الله عن نبيّه الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) وعن باب مدينته الاِمام أمير المؤمنين ، وعن الحسن والحسين أفضل الجزاء على عظيم تضحياته.
          ويستمرّ مجدّد الاِسلام الاِمام الصادق ( عليه السلام ) في زيارته لعمّه العبّاس ، فيذكر صفاته الكريمة ، وما له من المنزلة العظيمة عند الله تعالى ، فيقول بعد السلام عليه:
          « أشهد ، وأُشهد الله أنّك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله ، المناصحون له في جهاد أعدائه ، المبالغون في نصرة أوليائه ، الذابّون عن أحبّائه ، فجزاك الله أفضل الجزاء وأوفى الجزاء ، وأوفى جزاء أحد ممن وفي ببيعته ، واستجاب لدعوته ، وأطاع ولاة أمره... ».
          لقد شهد الاِمام الصادق العقل المفكّر والمبدع في الاِسلام ، واشهد الله تعالى على ما يقول: من أنّ عمّه أبا الفضل العبّاس ( عليه السلام ) قد مضى في جهاده مع أخيه أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، على الخطّ الذي مضى عليه شهداء بدر الذين هم من أكرم الشهداء عند الله فهم الذين كتبوا النصر للاِسلام ، وبدمائهم الزكية ارتفعت كلمة الله عالية في الاَرض وقد استشهدوا وهم على بصيرة من أمرهم ، ويقين من عدالة قضيّتهم ، وكذلك سار أبو الفضل العبّاس على هذا الخطّ المشرق ، فقد استشهد لاِنقاذ الاِسلام من محنته الحازبة ، فقد حاول صعلوك بني أميّة حفيد أبي سفيان أن يمحو كلمة الله ، ويلف لواء الاِسلام ، ويعيد الناس لجاهليتهم الاَولى ، فثار أبو الفضل بقيادة أخيه أبي الاَحرار في وجه الطاغية السفّاك ، وتحققت بثورتهم كلمة الله العليا في نصر الاِسلام وإنزال الهزيمة الساحقة بأعدائه وخصومه.
          ويستمرّ الاِمام الصادق ( عليه السلام ) في زيارته لعمّه العباس فيسجّل ما يحمله من إكبار وتعظيم ، فيقول:
          « أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة ، وأعطيت غاية المجهود فبعثك الله في الشهداء ، وجعل روحك مع أرواح السعداء ، وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً ، وأفضلها غرفاً ، ورفع ذكرك في علّيين وحشرك مع النبّيين ، والصديقين والشهداء ، والصالحين ، وحسن أُولئك رفيقاً.
          أشهد أنّك لم تهن ولم تنكل ، وانّك مضيت على بصيرة من أمرك ، مقتدياً بالصالحين ، ومتبعاً للنبيّين ، فجمع الله بيننا ، وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين ، فانّه أرحم الراحمين.. ».
          ويلمس في هذه البنود الاَخيرة من الزيارة مدى أهميّة العبّاس ، وسموّ مكانته عند إمام الهدي الاِمام الصادق ( عليه السلام ) ، وذلك لما قام به هذا البطل العظيم من خالص النصيحة ، وعظيم التضحيّه لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، كما دعا الاِمام له ببلوغ المنزلة السامية عند الله التي لا ينالها إلاّ الاَنبياء ، واوصيائهم ، ومن أمتحن الله قلبه للاِيمان.
          3 ـ الاِمام الحجّة:
          وأدلى الاِمام المصلح العظيم بقيّة الله في الاَرض قائم آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) بكلمة رائعة في حقّ عمّه العبّاس ( عليه السلام ) جاء فيها :
          « السلام على أبي الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنين ، المواسي أخاه بنفسه ، الآخذ لغده من أمسه ، الفادي له ، الواقي ، الساعي إليه بمائه ، المقطوعة يداه ، لعن الله قاتليه يزيد بن الرقاد ، وحكيم بن الطفيل الطائي.. »
          وأشاد بقيّة الله في الاَرض بالصفات الكريمة الماثلة في عمّه قمر بني هاشم وفخر عدنان ، وهي:
          1 ـ مواساته لاَخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) ، فقد واساه في أحلك الظروف ، وأشدّها محنة وقسوة ، وظلّت مواساته له مضرب المثل على امتداد التاريخ.
          2 ـ تقديمه أفضل الزاد لآخرته ، وذلك بتقواه ، وشدّة تحرّجه في الدين ، ونصرته لاِمام الهدى.
          3 ـ تقديم نفسه ، واخوته ، وولده فداءً لسيّد شباب أهل الجنّة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) .
          4 ـ وقايته لاَخيه المظلوم بمهجته.
          5 ـ سعيه لاَخيه وأهل بيته بالماء حينما فرضت سلطات البغي والجور الحصار على ماء الفرات من أن تصل قطرة منه لآل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) .

          تعليق


          • #6
            مصرع أبي الفضل العباس عليه السلام 2015

            بسم الله الرحمن الرحيم
            السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
            اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف

            مصرع أبي الفضل العباس عليه السلام 2015
            ولما رأى أبو الفضل عليه السلام وحدة أخيه ، وقتل أصحابه ، وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله انبرى إليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق فلم يسمح له الاِمام ، وقال له بصوت حزين النبرات:
            «أنت صاحب لوائي..».
            لقد كان الاِمام يشعر بالقوّة والحماية ما دام أبو الفضل فهو كقوة ضاربة إلى جانبه يذبّ عنه ، ويردّ عنه كيد المعتدين ، وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً:
            « لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين ، وأريد أن آخذ ثأري منهم..».
            لقد ضاق صدره ، وسئم من الحياة حينما رأى النجوم المشرقة من أخوته ، وأبناء عمومته صرعى مجزرين على رمضاء كربلاء فتحرّق شوقاً للاَخذ بثأرهم والالتحاق بهم.
            وطلب الاِمام منه أن يسعى لتحصيل الماء إلى الاَطفال الذين صرعهم العطش فانبرى الشهم النبيل نحو أولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة فجعل يعظهم ، ويحذّرهم من عذاب الله ونقمته ، ووجّه خطابه بعد ذلك إلى ابن سعد:
            «يا بن سعد هذا الحسين بن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء ، قد احرق الظمأ قلوبهم ، وهو مع ذلك يقول: « دعوني أذهب إلى الروم أو الهند ، وأخلّي لكم الحجاز والعراق..».
            وساد صمت رهيب على قوّات ابن سعد ، ووجم الكثيرون ، وودّوا أن الاَرض تسيخ بهم ، فانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فردّ عليه قائلاً:
            يا بن أبي تراب ، لو كان وجه الاَرض كلّه ماءً ، وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد . . .
            لقد بلغت الخسّة ، ولؤم العنصر ، وخبث السريرة بهذا الرجس إلى مستوى ما له من قرار... وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتوّ القوم وطغيانهم ، وسمع فخر عدنان صراخ الاَطفال ، وهم يستغيثون ، وينادون:
            «العطش العطش..».
            ورآهم أبو الفضل قد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم ، وأشرفوا على الهلاك ، من شدّة العطش ، وفزع أبو الفضل ، وسرى الاَلم العاصف في محيّاه ، واندفع ببسالة لاِغاثتهم ، فركب فرسه ، وأخذ معه القربة ، فاقتحم الفرات ، فانهزم الجيش من بين يديه ، واستطاع أن يفكّ الحصار الذي فرض على الماء ، فاحتلّه ، وكان قلبه الشريف كصالية الغضا من شدّة العطش ، فاغترف من الماء غرفة ليشرب منه ، إلاّ أنه تذكّر عطش أخيه ، ومن معه من النساء والاَطفال ، فرمى الماء من يده ، وامتنع أن يروي غليله ، وقال:
            يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كنت أن تكوني
            هذا الحسيـن وارد المنـون وتشربيـن بارد المعين
            تالله ما هذا فعال ديني
            ان الاِنسانية بكل إجلال واحترام لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الفضيلة والاِسلام وهي تلقي على الاَجيال أروع الدروس عن الكرامة الاِنسانية.
            ان هذا الاِيثار الذي تجاوز حدود الزمان والمكان كان من أبرز الذاتيات في خلق سيّدنا أبي الفضل ، فلم تمكّنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان أن يشرب من الماء قبله ، فأي إيثار أنبل أو أصدق من هذا الاِيثار ، ... واتجه فخر هاشم مزهواً نحو المخيم بعدما ملاَ القربة ، وهي عنده أثمن من حياته ، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشرية التحاماً رهيباً فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى آل النبيّ صلى الله عليه وآله ، وأشاع فيهم القتل والدمار وهو يرتجز:
            لا أرهـب الموت اذ المـوت زقا حتى أواري في المصاليت لقى
            نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا إني أنا العبـاس أغـدو بالسقا
            ولا أخاف الشرّ يــوم الملتقى
            لقد أعلن بهذا الرجز عن شجاعته النادرة ، وانّه لا يخشى الموت ، وانّما يستقبله بثغر باسم دفاعاً عن الحق ، وفداءً لاَخيه سبط النبيّ صلى الله عليه وآله .. وانه لفخور أن يغدو بالسقاء مملوءً من الماء ليروي به عطاشى أهل البيت.
            وانهزمت الجيوش من بين يديه يطاردها الفزع والرعب ، فقد ذكرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ، ومحطّم فلول الشرك ، إلاّ ان وضراً خبيثاً من جبناء أهل الكوفة كمن له من وراء نخلة ، ولم يستقبله بوجهه ، فضربه على يمينه ضربة غادرة فبراها ، لقد قطع تلك اليد الكريمة التي كانت تفيض برّاً وكرماً على المحرومين والفقراء ، والتي طالما دافع بها عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، ولم يعن بها بطل كربلاء وراح يرتجز:
            والله ان قطعتـم يميني انّي أحامي أبداً عن ديني
            وعن إمام صادق اليقين نجل النبيّ الطاهر الاَمين
            ودلل بهذا الرجز على الاَهداف العظيمة ، والمثل الكريمة التي يناضل من أجلها فهو انّما يناضل دفاعاً عن الاِسلام ، ودفاعاً عن إمام المسلمين وسيّد شباب أهل الجنّة.
            ولم يبعد العباس قليلاً حتى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس البشرية وهو الحكيم بن الطفيل الطائي فضربه على يساره فبراها ، وحمل القربة بأسنانه ـ حسبما تقول بعض المصادر ـ وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت عليهم السلام وهو غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء وألم الجراح ، وشدّة العطش ، وكان ذلك حقّاً هو منتهى ما وصلت إليه الاِنسانية من الشرف والوفاء والرحمة... وبينما هو يركض وهو بتلك الحالة إذ أصاب القربة سهم غادر فأريق ماؤها ، ووقف البطل حزيناً ، فقد كان إراقة الماء عنده أشدّ عليه من قطع يديه ، وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته ، وهوى إلى الاَرض ، وهو يؤدّي تحيّته ، ووداعه الاَخير إلى أخيه قائلاً:
            «عليك منّي السلام أبا عبدالله...».
            وحمل الاَثير محنته إلى أخيه فمزّقت قلبه ، ومزّقت أحشاءه ، وانطلق نحو نهر العلقمي حيث هوى إلى جنبه أبو الفضل ، واقتحم جيوش الاَعداء ، فوقف على جثمان أخيه فألقى بنفسه عليه ، وجعل يضمخه بدموع عينيه ، وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزّقته الكوارث قائلاً:
            «الآن انكسر ظهري ، وقلّت حيلتي ، وشمت بي عدويّ...».
            وجعل إمام الهدى يطيل النظر إلى جثمان أخيه ، وقد انهارت قواه ، وانهدّ ركنه وتبددت جميع آماله ، وودّ أن الموت قد وافاه قبله ، وقد وصف السيّد جعفر الحلّي حالته بقوله:
            فمشى لمصرعه الحسين وطرفه بيـن الخيـام وبينـه مـتقسم
            ألفـاه محجـوب الجمال كـأنّه بـدر بمنحطـم الـوشيج ملثم
            فأكب منحنيـاً عليـه ودمعـه صبـغ البسيط كأنّما هـو عندم
            قـد رام يلثمه فلم يـر موضعاً لـم يدمه عـضّ السلاح فيلثم
            نـادى وقد ملاَ البوادي صيحة صـم الصخـور لهولهـا تتألّم
            أأخـي يهنيك النعيم ولـم أخل ترضى بأن أرزى وأنت مـنعم
            أأخي مـن يحمي بنـات محمد اذ صرن يسترحمن من لا يرحم
            مـا خلت بعدك أن تشلّ سواعدي وتكف بـاصرتي وظهري يقصم
            لسـواك يـلطم بـالاَكف وهـذه بيض الضبا لك فـي جبيني تلطم
            ما بين مصرعك الفضيع ومصرعي إلاّ كمـا أدعـوك قبـل وتنعـم
            هـذا حسامك من يذلّ بـه العـدا ولـواك هـذا مـن بـه يتقـدم
            هونت يا باابن أبي مصارع فتيتي والجـرح يسكنـه الذي هـو آلم
            وهو وصف دقيق للحالة الراهنة التي حلّت بسيّد الشهداء بعد فقده لاَخيه ووصف شاعر آخر وهو الحاج محمد رضا الاَزري وضع الاِمام عليه السلام بقوله:
            وهـوى عليـه مـا هنـالك قائلاً اليوم بان عـن اليميـن حسـامها
            اليـوم سـار عـن الكتائب كبشها اليوم بـان عـن الهـداة امـامها
            اليـوم آل إلـى التفـرق جمعنـا اليـوم حلّ عـن البنود نـظامها
            اليوم نـامت أعيـن بـك لـم تنم وتسهّـدت أخـرى فعـز منامها
            اشقيق روحي هل تراك علمت ان غـودرت وانثالت عليك لئـامها
            قد خلت اطبقت السماء على الثرى أو دكـدكت فـوق الربى أعلامها
            لكـن أهـان الخطب عندي انني بك لاحق أمـراً قضـى علامهـا
            ومهما قال الشعراء والكتّاب فانهم لا يستطيعون أن يصفون ما ألمّ بالاِمام من فادح الحزن ، وعظيم المصاب ، ووصفه أرباب المقاتل بأنّه قام من أخيه وهو لايتمكّن أن ينقل قدميه ، وقد بان عليه الانكسار ، وهو الصبور ، واتجه صوب المخيّم ، وهو يكفكف دموعه ، فاستقبلته سكينة قائلة:
            «أين عمّي أبو الفضل ، ..».
            فغرق بالبكاء ، واخبرها بنبرات متقطّعة من شدّة البكاء بشهادته ، وذعرت سكينة ، وعلا صراخها ، ولما سمعت بطلة كربلاء حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله بشهادة أخيها الذي ما ترك لوناً من ألوان البرّ والمعروف إلاّ قدّمه لها أخذت تعاني آلام الاحتضار ، ووضعت يدها على قلبها المذاب ، وهي تصيح:
            «وا أخاه ، واعبّاساه ، وا ضعيتنا بعدك...».
            يالهول الفاجعة.
            يالهول الكارثة.
            لقد ضجّت البقعة من كثرة الصراخ والبكاء ، وأخذت عقائل النبوة يلطمن الوجوه وقد أيقن بالضياع بعده ، وشاركهنّ الثاكل الحزين أبو الشهداء في محنتهنّ ومصابهنّ ، وقد علا صوته قائلاً:
            «واضيعتنا بعدك يا أبا الفضل...».
            لقد شعر أبو عبدالله عليه السلام بالضيعة والغربة بعد فقده لاَخيه الذي ليس مثله أخ في برّه ووفائه ومواساته ، فكانت فاجعته به من أقسى ما مُني به من المصائب والكوارث.
            وداعاً يا قمر بني هاشم.
            وداعاً يا فجر كل ليل.
            وداعاً يا رمز المواساة والوفاء.
            سلام عليك يوم ولدت ، ويوم استشهدت ، ويوم تُبعث حيّاً.
            ونسألكم الدعاء.

            تعليق


            • #7
              العباس بن علي.. قمر بني هاشم وحامل اللواء

              بسم الله الرحمن الرحيم
              السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
              اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف

              العباس بن علي.. قمر بني هاشم وحامل اللواء
              ما أشرف منبتَ أبي الفضل العبّاس وما أكرم نسبَه، فأبوه هو الإمام عليّ ابن أبي طالب عليه السّلام إمام المتقين وسيد الوصيين، وأخواه هما الحسن والحسين عليهما السّلام سيدا شباب أهل الجنة، وأمه أم البنين واسمها فاطمة بنت حزام، وأرجع بعضهم نسبها إلى عامر بن صعصعة.
              وينقل صاحب أعيان الشيعة عن كتاب عمدة الطالب أن أمير المؤمنين عليه السّلام قال لأخيه عقيل وكان نسّابة عالماً بأخبار العرب وأنسابهم: « ابغِني امرأة وقد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً، فقال له: أين أنت عن فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابية فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس، فتزوجها أمير المؤمنين عليه السّلام... وأول ما ولدت العباس... ».
              وقد ذُكر عن أم العباس عليه السّلام: « وأبوها حزام من أعمدة الشرف في العرب، ومن الشخصيات النابهة في السخاء والشجاعة وقَرْي الأضياف، وأما أسرتها فهي من أجلّ الأسر العربية، وقد عرفت بالنجدة والشهامة، وقد اشتهر منهم جماعة بالنبل والبسالة ».
              وكان لبيد الشاعر يقول فيهم: « نحن خيرُ عامرِ بنِ صعصعة ».
              « وقد رأى الإمام عليه السّلام في زوجته ( أم البنين ) العقل الراجح، والإيمان الوثيق وسموّ الآداب، ومحاسن الصفات، فأعزّها وأخلص لها كأعظم ما يكون الاخلاص ».
              صفاته وميزاته
              يقول السيّد عبدالرزاق المقرّم: « هذه الفضائل كلها وان كان القلم يقف عند انتهاء السلسلة إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فلا يدري اليراع ما يخط من صفات الجلال والجمال وأنه كيف عرقها في ولده المحبوب ؟ قمر الهاشميين ».
              كما يقول أيضاً: « وقد ظهرت في أبي الفضل ( العباس ) الشجاعتان الهاشمية التي هي الأربى والأرقى فمن ناحية أبيه سيّد الوصيين، والعامرية فمن ناحية أمه أم البنين ».
              في ظلّ هذه الأسرة وُلِد العباس بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، وقد لُقّب بالسقّاء وقمر بني هاشم، وبطل العلقمي، وحامل اللواء، وكبش الكتيبة، والعميد، وحامي الظعينة، وباب الحوائج، وكُنيّ بأبي الفضل، وأبي القربة، وأبي القاسم.
              شجاعته واخلاصه
              « كان العباس رجلاً وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطان في الأرض، وكان يقال له: قمر بني هاشم. وكان لواء الحسين بن عليّ عليه السّلام معه يوم قُتل ».
              وروي عن أبي عبدالله الصادق عليه السّلام: « كان عمنا العباس بن عليّ نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبدالله عليه السّلام وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً ».
              وعن عليّ بن الحسين عليه السّلام: « رحم الله العباس فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه » وكانت له عليه السّلام صفات عالية وأفعال جليلة امتاز بها، ( منها ) أنه كان أبداً شجاعاً فارساً وسيماً جسيماً وانه كان صاحب لواء الحسين عليه السّلام واللواء هو العلم الأكبر ولا يحمله إلاّ الشجاع الشريف في المعسكر.
              ( ومنها ) انه لما طلب الإمام الحسين عليه السّلام من أصحابه الرحيل قام إليه العباس عليه السّلام فقال: « ولِمَ نفعل ذلك ؟ لنبقى بعدك ؟ لا أرانا الله ذلك أبداً.
              ( ومنها ) انه لما أخذ عبدالله بن حزام ابن خال العباس أماناً من ابن زياد في كربلاء للعباس واخوته من أمه قال العباس وإخوته: لا حاجة لنا في الأمان، أمان الله خير من أمان ابن سمية.
              كما أجاب العباس الشمرَ ( وهو بعض أخواله ): لعنك الله ولعن أمانك، أتُؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ؟!
              ومن شجاعته أنه في كربلاء حين حوصر أربعةُ رجال بين الأعداء ندب إليهم الحسين عليه السّلام أخاه العباس فحمل على القوم وضرب فيهم بسيفه حتى فرّقهم عن أصحابه ووصل إليهم فسلموا عليه وأتى بهم ولكنهم كانوا جرحى... ».
              العباس مع أبيه
              ولد العباس عليه السّلام سنة 26هـ وقتل في سنة 61هـ وعمره أربع وثلاثون عاش منها مع أبيه أمير المؤمنين عليه السّلام أربع عشرة سنة وحضر بعض الحروب فلم يأذن له أبوه في النزال.
              إن إمضاء هذه السنوات حتّى البلوغ مع أبيه عليه السّلام إنما يكشف عن عمق الاستفادة من أبيه علماً وأدباً وشجاعة وخلقا وتديّناً. إذ في هذه السنوات تكتمل المكوّنات وتبدو الملامح البارزة لشخصية الإنسان.
              « ولقد غذّاه أبوه بعلومه وتقواه، وأشاع في نفسه النزعات الشريفة، والعادات الطيبة ليكون مثالاً عنه، وأنموذجاً لمثله ».
              وقد « دعاه أبوه عليه السّلام في عهد الصبا وأجلسه في حجره وقال له: قل واحد، فقال: واحد، فقال له قل: اثنين، فامتنع، وقال: اني أستحي أن أقول اثنين بلسان قلت به واحداً ».
              « وإذا كان الإمام عليه السّلام يربي البعداء الأجانب بتلك التربية الصحيحة المأثورة حتى استفادوا منه أسرار التكوين، ووقفوا على غامض ما في النشأتين... فهل من المعقول أن يذر قرة عينه وفلذة كبده خلواً من أي علم ؟ ».
              قال المحقق الفقيه المولى محمد باقر القاييني نزيل بيرجند في كتاب الكبريت الأحمر / ج 3 / ص 45 /: « إن العباس من أكابر وأفاضل فقهاء أهل البيت عليهم السّلام، بل إنه عالم غير متعلم، وليس في ذلك منافاة لتعليم أبيه إياه ».
              وقد عاصر العباس عليه السّلام الحروب التي خاضها أبوه عليه السّلام والأحداث التي عصفت بالأمّة الإسلامية كفتنة مقتل عثمان، ثم بيعة الإمام عليه السّلام والنكث بها من قبل البعض، ثم معركة الجمل، ومعركة صفين، ومعركة النهروان.
              و « لقد شاهد أبو الفضل العباس عليه السّلام خلافة أبيه وما رافقها من الأحداث الجسام، وما قاساه أبوه من المصاعب والمشاكل في سبيل تطبيق العدالة الاجتماعية على واقع الحياة العامة بين المسلمين... ».
              « لقد وعى العباس الأهداف المشرقة التي كان ينشدها أبوه فآمن بها وجاهد في سبيلها، وقد انطلق مع أخيه سيّد الشهداء إلى ساحات الشرف والجهاد من أجل أن يعيد للمسلمين سيرة أبيهما الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام ومنهجه المشرق في عالم السياسة والحكم ».
              مع الحسن والحسين عليهم السّلام
              تسلّم الإمام الحسن عليه السّلام الخلافة بعد استشهاد أبيه عليه السّلام، ومالت الأمور لغير صالح الحسن عليه السّلام الذي ورث من أبيه جيشاً مفككاً، ميّالاً لحب الدنيا، متخاذلاً متقلباً متجابناً، وقد دبّت فيه حالة الخيانة والتثاقل إلى الأرض، والتقاعس عن الجهاد وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...
              مما اضطُرّ الإمام الحسن عليه السّلام لأن يقيم صلحاً مع معاوية اشترط عليه فيه شروطاً خانها معاوية ولم يلتزم بها.
              فكان أول ما يعانيه الحسن والحسين ومعهما العباس عليهم السّلام بعد الصلح غدر معاوية بشيعة أبيهم عليه السّلام وقتلهم وسجنهم ومطاردتهم في الأمصار، حتى وصل الأمر إلى قتل الحسن عليه السّلام نفسه بدسّ السم إليه.
              وبالإجمال فقد استمرت معاناة العباس عليه السّلام والآلام تقرح قلبه وقلب اخوته وأهل بيته وشيعتهم منذ خلافة أبيه، وما عاناه حتى استشهاد الإمام الحسن عليه السّلام وما عقبه من ظلم وانحراف وتدليس للحق بالباطل وتحويل الخلافة الإسلامية الحقة إلى ملك عضوض كما يقول الجاحظ.
              وصبر العباس عليه السّلام مع أخيه الحسين عليه السّلام منذ شهادة الإمام الحسن عليه السّلام التزاماً بشروط الصلح مع معاوية وصبرا حتى يأتي اليوم الذي تدرك فيه الأمّة حقيقة المواجهة وأبعاد الصراع بين الحق والباطل، صبرا ينتظران الفرصة السانحة لكشف القناع والخداع والزيف الأموي.
              صبرا على مضض وأبوهما أمير المؤمنين وإمام المتقين عليه السّلام يُسَبّ على المنابر بأمر وتحريض من معاوية حتى غدا ذلك وكأنه من واجبات الدين ومتممات الخُطَب!
              ولقد مليء قلب الحسن وبعده الحسين والعباس قرحاً وغيظاً، وتألمت نفوسهم الأبية بانتظار الوقت المناسب للتحرك والثورة على الظلم والفساد.
              شهادة العباس
              مَن مثلُ العباس في منزلته وموقعه... إلى جنبٍ الحسين عليه السّلام في موقفه والتزامه.. يلتزمه إماماً ومنهجاً وقدوة وهادياً وقائداً إلى الجنة.. ولقد ضنّ به الحسين عليه السّلام عن الحرب والنزول للميدان حتّى ذاب قلب أبي الفضل أسى وحزناً، وضاق صدره لما عاناه إذ ظلّ في كربلاء يوم العاشر من المحرم وأخوه الحسين يستقبلان شاباً أو فتى أو غلاماً أو عزيزاً أو صاحباً مضرجاً بدمه، وهما يسمعان عويل الأيامى والثكالى والأيتام.. حتّى أرسل العباس رضي الله عنه إخوته الثلاثة لأمه أمامه ليطمئن على وفائهم لسيّد الشهداء ومبدئه عليه السّلام: « تقدموا يا بني أمي حتّى أراكم نصحتم لله ولرسوله.. ».
              ولشدة حاجة الحسين عليه السّلام لأخيه العباس واعتماده عليه خاطبه قائلاً: « أنت صاحب لوائي » « أنت قائد عسكري » وبعد شهادته وهو يرجع حاملاً قربة الماء للأطفال قال الحسين عليه السّلام يرثي حاله وأخاه وقد بقي بعده وحيداً فريداً:
              « الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوي... »، « الآن تشتت عسكري » مع أن العباس رضي الله عنه كان آخر من بقي من الآل والأصحاب مع الحسين عليه السّلام.
              وخير ما نختم به اطلالتنا على جوانب من سيرة العباس عليه السّلام قول الشاعر:
              أحقُّ الناس أن يُبكَى عليـه فتى أبكى الحسينَ بكـربلاءِ
              أخوه وابـن والـده علـيٍّ أبو الفضل المضرَّج بالدماءِ
              ومن واساه لا يثنيه شـيء وجاد له على عطش بمـاءِ
              وقول شاعر آخر:
              لا تنـس للعبـاس حُسنَ مقامـه في الروع عند الغـارة الشعـواءِ
              واسى أخاه بهـا وجـاد بنفسـه في سَقْـي أطفـال لـه ونسـاءِ
              ردّ الألوف على الألوف معارضاً حـدّ السـيـوف بجبهـة غـرّاءِ
              ومع السلامة.

              تعليق


              • #8
                العباس بن علي عليهما السلام 2015

                بسم الله الرحمن الرحيم
                السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
                اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف

                العباس بن علي عليهما السلام 2015
                مقدمة
                برز أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) على مسرح التاريخ الاِسلامي كأعظم قائد فذّ لم تعرف له الاِنسانية نظيراً في بطولاته النادرة بل ولا في سائر مُثله الاَخرى التي استوعبت ـ بفخر ـ جميع لغات الاَرض.
                لقد أبدى أبو الفضل يوم الطف من الصمود الهائل ، والارادة الصلبة ما يفوق الوصف ، فكان برباطة جأشه ، وقوّة عزيمته جيشاً لا يقهر فقد أرعب عسكر ابن زياد ، وهزمهم نفسيّاً ، كما هزمهم في ميادين الحرب.
                ان بطولات أبي الفضل كانت ولا تزال حديث الناس في مختلف العصور ، فلم يشاهدوا رجلاً واحداً مثقلاً بالهموم والنكبات يحمل على جيش مكثّف مدعّم بجميع آلات الحرب قد ضمّ عشرات الآلاف من المشاة وغيرهم فيلحق بهم أفدح الخسائر من معداتهم وجنودهم ، ويقول المؤرخون عن بسالته ـ يوم الطف ـ إنه كلما حمل على كتيبة تفرّ منهزمة من بين يديه يسحق بعضها بعضاً قد خيّم عليها الموت ، واستولى عليها الفزع والذعر قد خلعت منها الاَفئدة والقلوب ، ولم تغن عنها كثرتها شيئاً.
                انّ شجاعة أبي الفضل وسائر مواهبه ومزاياه مما تدعو إلى الاعتزاز والفخر ليس له وللمسلمين فحسب ، وإنما لكل إنسان يدين لإنسانيته ، ويخضع لقيمها الكريمة.
                وبالاِضافة إلى ما يتمتّع به أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) من البطولات الرائعة فانّه كان مثالاً للصفات الشريفة ، والنزعات العظيمة ، فقد تجسّدت فيه الشهامة والنبل والوفاء والمواساة ، فقد واسى أخاه أبا الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) في أيام محنته الكبرى ، ففداه بنفسه ووقاه بمهجته ، ومن المقطوع به أن تلك المواساة لا يقدر عليها إلاّ من امتحن الله قلبه للاِيمان ، وزاده هدى.
                ومثَّل أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) في سلوكه مع أخيه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) حقيقة الاَخوّة الاِسلامية الصادقة ، وأبرز جميع قيمها ومثلها ، فلم يبق لون من ألوان الاَدب ، والبرّ والاِحسان إلاّ قدّمه له ، وكان من أروع ما قام به في ميادين المواساة له ، انه حينما استولى على الماء يوم الطفّ تناول منه غرفة ليشرب ، وكان قلبه الزاكي كصالية الغضا من شدّة الظمأ ، فتذكّر في تلك اللحظات الرهيبة عطش أخيه الاِمام الحسين وعطش الصبية من أهل البيت عليهم السلام ، فدفعه شرف النفس ، وسموّ الذات إلى رمي الماء من يده ، ومواساتهم في هذه المحنة الحازبة ، تصفّحوا في تاريخ الاَمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الاَخوّة الصادقة؟!! انظروا في سجلاّت نبلاء الدنيا فهل ترون مثل هذا النبل ، ومثل هذا الاِيثار؟!
                لقد استشهد أبو الفضل العباس من أجل المبادئ العليا التي رفع شعارها أبو الاَحرار أخوه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، والتي كان من أهمّها أن يقيم في هذا الشرق حكم القرآن ، وينشر العدل بين الناس ويوزّع عليهم خيرات الاَرض ، فليست هي لقوم دون آخرين.
                لقد استشهد أبو الفضل من أجل أن يعيد للاِنسان المسلم حرّيته وكرامته ، وينشر بين الناس رحمة الاِسلام ، ونعمته الكبرى الهادفة لاستئصال الظلم والجور ، وبناء مجتمع لا ظلّ فيه لأي لون من ألوان الفزع ، والخوف.
                لقد حمل أبو الفضل مشعل الحرية والكرامة ، وقاد قوافل الشهداء إلى ساحات الشرف ، وميادين العزّة ، والنصر للشعوب الاِسلامية التي كانت ترزح تحت وطأة الظلم والجور.
                لقد انطلق أبو الفضل إلى ميادين الجهاد من أجل أن ترتفع كلمة الله تعالى عالية في الاَرض ، تلك الكلمة التي هي منهج كامل للحياة الكريمة بين الناس.
                وفجّر الاِمام أبو الاَحرار ثورته الكبرى التي أوضح الله بها الكتاب وجعلها عبرة لأولي الاَلباب ، فدكّ بها حصون الظلم ، وقلاع الجور.
                ولم يفجّر الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ثورته الرائدة العملاقة أشراً ولا بطراً ،
                ولا ظالماً ، ولا مفسداً ـ حسب ما يقول ـ وإنّما أراد تغيير الواقع المرير الذي تعيشه الاَمة من جرّاء الحكم الاَموي المنحرف عن جميع الأعراف والقوانين ، ذلك النظام الذي أحال حياة الناس إلى جحيم لا يطاق ، فقد عجّت البلاد الاِسلامية بجميع صنوف الجور والاِرهاب ، وكان من أعظمها محنة وأشدّها بلاءً البلاد الخاضعة لحكم زياد بن أبيه ، والي معاوية على العراق ، وأخيه اللاشرعي ، الذي أجّج نار الفتنة ، وحكم بين الناس بغير ما أنزل الله ، فأخذ البريء بالسقيم ، والمقبل بالمدبر ، وقتل على الظنّة والتهمة ، كما أعلن ذلك ، وطبّقه بالفعل على الحياة العامة بين الناس.
                ان ملحمة كربلاء من أهم الاَحداث العالمية ، بل ومن أهمّ ما حققته البشرية من إنجازات رائعة في ميادين الكفاح المسلّح ضدّ الظلم والطغيان ، فقد غيّرت مجرى تاريخ الشعوب الاِسلامية ، وفتحت لها آفاقاً مشرقة للتمرّد على الظلم والطغيان.
                لقد ألهبت هذه الملحمة الخالدة عواطف الاَحرار ، ودفعتهم إلى النضال المسلّح في سبيل تحرير المجتمع من نير العبودية والذلّ ، وإنقاذه من الحكم اللاشرعي.
                لقد انتصر سيّد الشهداء في ثورته الخالدة ، وانتصرت أهدافه ومبادئه العظيمة ، وظلّ مثلاً خالداً للكفاح المقدّس يطارد الظالمين والطغاة في كل عصر وزمان ، ويمدّ الثوّار بروح التضحية والفداء.
                ان من الانتصارات الرائعة التي حقّقها أبي الضيم في ثورته أنه جرّد الحكم الاَموي من الشرعية ، وأنّه لا يمثّل الاِسلام ، ولا المسلمين بأي حال من الاَحوال ، وإنّما هو حكم ديكتاتوري قائم على النطع والسيف لا على رضى الاَمة واختيارها.
                لقد وضع أبو الاَحرار العبوات الناسفة في أروقة الحكم الاَموي ففجّرتها ، ونسفت معالم زهوهم وفجورهم وطغيانهم ، وظلّوا مثلاً أسوداً لكل حكم منحرف عن سنن الحق والعدل.
                لقد أيقظت ثورة أبي الاَحرار الشعوب الاِسلامية من تخديرها وسباتها ، فانطلقت كالمارد الجبّار في ثورات متلاحقة ، وهي ترفع شعار التحرير ، وشعار الاستقلال ، وشعار الكرامة من أجل التخلّص من ذلك الحكم الاَسود.
                لقد قامت الشعوب الاِسلامية في ثورات متلاحقة كانت امتداداً لثورة الحسين ( عليه السلام ) ، حتى أطاحت بالحكم الاَموي ، وأزالته من دنيا الوجود.
                ومن الجدير بالذكر أن كارثة كربلاء ، وما لحق بالاِمام الحسين ( عليه السلام ) من التنكيل ، والاعتداء الصارخ ، لم يأتِ ذلك عفواً ، وإنّما كان من النتائج المباشرة للانحرافات ، والسلوك في المنعطفات السياسية من جانب الحكام والمسؤولين الذين كانوا ينظرون إلى السلطة بأنّها مغنم ، ووسيلة للظفر بالثراء العريض ، ولم يعوا أن الاِسلام اعتبر السلطة أداة لخدمة المجتمع ، وتطوير حياته الفكرية والاقتصادية ، وانّها مسؤولة أمام الله عن اقتصاد الاَمة فيجب عليها الاحتياط فيه كأشدّ ما يكون الاحتياط فليس لرئيس الدولة ، ولا لغيره من أجهزة الحكم أن يصطفوا لأنفسهم وذويهم أي شيء من أموال الدولة.
                وكان على رأس الحكّام المنحرفين ملوك بني أمية الذين اتخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً ، وبالاِضافة إلى ما اقترفوه من ظلم الاَمة والاعتداء على كرامتها ، فانّهم عمدوا إلى ظلم العلويين ، والاِجهاز على شيعتهم ، وقد شاهد أبوالفضل ( عليه السلام ) المحن الشاقة والعسيرة التي حلّت بأهل بيته ومحبّيهم ، ومما لا ريب فيه انّها تركت في أعماق نفسه أقسى ألوان المحن ، والآلام.
                أمّا دور سيّدنا العباس ( عليه السلام ) في ملحمة كربلاء فانّه يأتي في الاَهمية بعد أخيه أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) صانع هذه الملحمة الخالدة في دنيا الحقّ والعدل ، وقد فاق جميع أصحاب الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وأهل بيته المكرمين ، وذلك بما قدّمه من عظيم الخدمات لاَخيه ، بالاِضافة إلى مواقفه البطولية الرائعة ، وصموده الهائل أمام معسكر ابن زياد ، وقد أبدى من البسالة ما يذهل الاَفكار ويحيّر الاَلباب ، وكان يشيع في نفوس أصحاب أخيه وأهل بيته العزم والتصميم على التضحية والجهاد بين يديه ، فقد استهان بالموت وسخر من الحياة ، وقد انطبعت هذه الظاهرة في نفوسهم فاعتنقوا الشهادة ، وانطلقوا إلى ميادين الجهاد ليرفعوا كلمة الله في الاَرض.
                وكان العبّاس ( عليه السلام ) أيّام المحنة الكبرى التي حلّت بأخيه ملازماً له لم يفارقه ، وقدّم له جميع ألوان البرّ والاِحسان ، فكان يقيه بنفسه ويفيديه بمهجته ، فهو صاحب لوائه ، ومدير شؤونه ، والمتصدّي لخدماته ، ويقول الرواة: انّه قد استوعب حبّه والاِخلاص له قلب أخيه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) حتى فداه بنفسه ، وكان عليه ضيفاً ، فلم يسمح له بالحرب حتى بعد مقتل أصحابه وأهل بيته ، لاَنّه كان يشعر بالقوة والمنعة ، ما دام حيّاً إلى جانبه ، ولما استشهد العباس شعر الاِمام الحسين بالوحدة والغربة والضياع بعده وفقد كلّ أمل له في الحياة ، وراح يبكي عليه أمرّ البكاء ، ويندبه بذوب روحه ، وسارع إلى ساحة الحرب ليلتقي به في جنان الخلد.
                سلام الله عليك يا أبا الفضل ففي حياتك وشهادتك ملتقى أمين لجميع القيم الاِنسانية ، وحسبك أنّك وحدك كنت انموذجاً رائعاً لشهداء الطفّ الذين احتلّوا قمّة الشرف والمجد في دنيا العرب والاِسلام.
                ونسألكم الدعاء.

                تعليق


                • #9
                  العباس سبع القنطرة ..

                  بسم الله الرحمن الرحيم
                  السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
                  اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف

                  العباس سبع القنطرة ..
                  السلام على أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين ، المواسي أخاه بنفسه الآخذ لغده من أمسه ، الفادي له الوافي الساعي إليه بمائه المقطوعة يداه لعن الله قاتليه يزيد بن الرقاد وحكيم بن الطفيل الطائي.
                  يكنّى أبو الفضل و يلقّب بالسقّاء و قمر بني هاشم، و باب الحوائج و سبع القنطرة و كافل زينب و بطل الشريعة.
                  كثير من الأخوة يتسائل عن معنى (سبع القنطرة) وبعضهم يظن أن المقصود بسبع القنطرة هي ( سبع كربلاء او المعركة او ساحة الميدان او ..أو ..)
                  أولاً معنى القنطرة:
                  فسر علماء اللغة معنى كلمة 'قنطرة' بأنها جسر أو معبر يعبر الناس عليه
                  سبع القنطرة
                  روي لما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) في واقعة النهروان (جرت بين الإمام علي (ع) والخوارج في سنة 37 هـ)
                  ودخل وقت الصلاة فقال آتوني بماء فقعد يتوضأ فاقبل فارس وقال قد عبر القوم (اي الخوارج)
                  فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) ما عبروا ولا يعبرونه ولا يفلت منهم إلا دون العشرة ولا يقتل منكم إلا دون العشرة والله ما كذبت ولا كُذبت
                  فتعجب الناس وكان معه رجل وهو في شك في أمره فقال إن صح ما قال فلا احتياج إلى دليل غيره فبينما هم كذلك إذ أقبل فارس فقال يا أمير المؤمنين القوم على ما ذكرت لم يعبروا (القنطرة) فصلى بالناس الظهر وأمرهم بالمسير إليهم وهم دون القنطرة.
                  ثم حمل واختلطوا فلم يكن إلا ساعة حتى قتلوا بأجمعهم وكانوا أربعة آلاف وقيل أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد وضع على القنطرة جماعة من الفوارس وفيهم قمر الهاشميين ولده العباس (عليه السلام)
                  فلما جاء القوم ليعبروا منعوهم وظهرت في ذلك اليوم شجاعة وبسالة للعباس أبهرت الناس بحيث ما مر به أحد من القوم إلا ومسحه بالسيف مسحاً أو بعجه بعجا،
                  ولا زالت شعراء أهل البيت باللغة الدارجة في الرثاء والمديح تذكر موقفه هذا وتذكر شجاعته وبسالته فيه وتصفه (بسبع القنطرة).

                  جزء من القصيدة الخالدة
                  (وجه الصباح)
                  حتى إذا اشتبك النزال وصرحت … صيد الرجال بما تجن وتكتم
                  وقع العذاب على جيوش أمية … من باسل هو في الوقائع معلم
                  ماراعهم إلا تفحم ضيغم … غيران يعجم لفظه ويدمدم
                  عبست وجوه القوم خوف الـموت والـ… ــــعباس فيهم ضاحك متبسم
                  قلب اليمين على الشمال وغاص في الـ…ـأوساط يحصد الرؤوس ويحطم
                  وثنى أبو الفضل الفوارس نكصا … فرأوا أشد ثباتهم أن يهزموا
                  ما كر ذو بأس له متقدما … إلا وفر ورأسه المتقدم
                  صبغ الخيول برمحها حتى غدا … سيان أشقر لونها والأدهم
                  ما شد غضبانا على ملومة … إلا وحل بها البلاء المبرم
                  بطل تورث من أبيه شجاعة … فيها أنوف بني الضلاة ترغم
                  يلقي السلاح بشدة من بأسه … فالبيض تثلم والرماح تحطم
                  عرف المواعظ لاتفيد بمعشر … صموا عن النبأ العظميم كما عموا
                  فانصاع يخطب بالجماجم والكلى … فالسيف ينشر والمثقف ينظم
                  أو تشتكي العطش الفواطم عنده … وبصدر صعدته الفرات المفعم
                  لو سد ذو القرنين دون ورده … نسفته همته بما هو أعظم
                  ولو استقى نهر المجرة لارتقى … وطويل ذابلها إليها سلم
                  حامي الظعينة أين منه ربيعة … أم أين من عليا أبيه مكدم
                  في كفه اليسرى السقاء يقله … وبكفه اليمنى الحسام المخدم
                  مثل السحابة للفواطم صوبه … ويصيب حاصبة العدو فيرجم
                  بطل إذا ركب المطهم خلته … جبلا أشم يخف فيه مطهم
                  قسما بصارمه الصقيل وإنني … بغير صاعقة السماء لا أقسم
                  لولا القضا لمحا الوجود بسيفه … والله يقضي مايشاء ويحكم
                  ومع السلامة.

                  تعليق


                  • #10
                    نشأة العباس عليه السلام

                    بسم الله الرحمن الرحيم
                    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
                    اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف

                    نشأة العباس عليه السلام
                    ممّا لا شكّ فيه أنّ لنفسيات الآباء ونزعاتهم ، وكمّياتهم من العلم والخطر ، أو الانحطاط والضّعة ، دخلاً تامّاً في نشأة الأولاد وتربيتهم ، إنْ لم نقل إنّ مقتضاهما هو العامل الوحيد في تكيّف نفسيّات النّاشئة بكيفيّاتٍ فاضلة أو رذيلة ، فلا يكاد يرتأي صاحب أيِّ خطّة إلاّ أنْ يكون خَلَفُهُ على خطَّته ، ولا أنّ الخلفَ يتحرّى غير ما وجد عليه سلفه ؛ ولذلك تجد في الغالب مشاكلة بين الجيل الأوّل والثاني في العادات والأهواء ، والمعارف والعلوم ، اللهمّ إلاّ أنْ يسود هناك تطوّرٌ يكبح ذلك الاقتضاء .
                    وعلى هذا النّاموس يسعنا أنْ نعرف مقدار ما عليه أبو الفضل عليه السّلام من العلم والمعرفة وحُسن التربية ، بنشوئه في البيت العلوي مُنبَثق أنوار العلم ، ومحطّ أسرار اللاهوت ، ومختبأ نواميس الغيب ، فهو بيتُ العلم والعمل ، بيتُ الجهاد والورع ، بيتُ المعرفة والإيمان :
                    بَيتٌ عَلاَ سَمكَ الضّراحِ رِفعَةً فَـكانَ أعَـلاَ شَـرفَاً وأمَـنعَا
                    أعـزَّهُ الـلّهُ فَـما تَـهبِطُ فِيْ كَـعبَتهِ الأمـلاكُ إلاّ خَـضعَا
                    بَـيتٌ مِـن القُدسِ ونَاهيِك بِهِ مَـحطُ أسرِارِ الهُدى ومَوضِعَا
                    وكَان مأوى المُرتَجي والمُلتَجى فَـما أعـزَّ شَـأنهُ وأرفَعَا
                    وبسيف صاحب هذا البيت المنيع انجلت غواشي الإلحاد ، وببيانه تقشّعت غيومُ الشُّبَهِ والأوهام .
                    إذن ، فطبع الحال يدلّنا على أنّ سيّد الأوصياء عليه السّلام لم يبغِ بابنه بدلاً في حُسن التربية الإلهيّة ، ولا أنّ شظية الخلافة يروقه غير اقتصاص أثر أبيه الأقدس ، فلك هاهنا أنْ تُحدّث عن بقيّة أمير المؤمنين عليه السّلام في أيّ ناحية من نواحي الفضيلة ، ولا حرج .
                    لم تكنْ كُلُّ البصائر في أبي الفضل عليه السّلام اكتسابيّة ، بل كان مُجتبلاً من طينة القداسة التي مزيجُها النّور الإلهي حتّى تكوَّنت في صُلب مَن هو مثال الحقِّ ، ذلك الذي لو كُشف عنه الغطاء ما ازداد يقيناً ، فلم يصل أبو الفضل عليه السّلام إلى عالم الوجود إلاّ وهو معدن الذكاء والفطنة ، واُذنٌ واعيةٌ للمعارف الإلهيّة ، ومادةٌ قابلة لصور الفضائل كُلّها ، فاحتضنه حِجرُ العلم والعمل ، حجرُ اليقين والإيمان ، وعادت أرومته الطيّبة هيكلاً للتوحيد ، يُغذّيه أبوه بالمعرفة ، فتشرق عليه أنوار الملكوت وأسرار اللاهوت ، وتهب عليه نَسماتُ الغيب ، فيستنشق منها الحقائق .
                    دعاه أبوه عليه السّلام في عهد الصبا وأجلسه في حجره ، وقال له : قُلْ واحد . فقال : واحد . فقال له : قُلْ اثنين . قال : استحي أنْ أقولَ باللّسان الذي قُلتُ واحداً ، اثنان .
                    وإذا أمعنّا النّظر في هذه الكلمة ـ وهو على عهد نعومةٍ من أظفاره ، في حين أنّ نظراءه في السّنِّ لا يبلغون إلى ما هو دون ذلك الشأو البعيد ـ فلا نجد بُدّاً من البخوع بأنّها من أشعَّة تلك
                    الإشراقات الإلهيّة ، فما ظنّك إذن حينما يلتقي مع المبادئ الفيّاضة من أبيه سيّد الوصيين عليه السّلام ، وأخويه الإمامين عليهما السّلام سيّدي شباب أهل الجنّة ، فلا يقتني من خزائن معارفهم إلاّ كُلَّ دُرٍّ ثمين ، ودُرّيٍّ لامع ؟!
                    وغير خفيٍّ ما أراده سيّدنا العبّاس عليه السّلام ، فإنّه أشار إلى أنّ الوحدانيّة لا تليق إلاّ بفاطر السّماوات والأرضين ، ويجلّ مثله المتفرّع من دوح الإمامة أنْ يجري على لسانه النّاطق بالوحدانيّة لباري الأشياء صفة تنزَّه عنها سبحانه وتعالى ، وعنها ينطق كتابه المجيد : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا.
                    وممّا زاد في سرور أبيه أمير المؤمنين عليه السّلام أنّ زينب العقيلة كانت حاضرة حينذاك ، وهي صغيرة ، فقالت لأبيها : أتحبّنا ؟ قال : بلى . فقالت : لا يجتمع حُبّان في قلب مؤمن : حبُّ اللّه ، وحبُّ الأولاد ، وإنْ كان ولا بُدّ فالحبّ للّه تعالى والشفقة للأولاد . فأعجبه كلامها وزاد في حُبّه وعطفه عليهما أمّا العلم ، فهو رضيع لبانه ، وناهيك في حِجر أبيه مدرسة يتخرّج منها مثل أبي الفضل عليه السّلام ! وما ظنّك بهذا التلميذ المُصاغ من جوهر الاستعداد ، وذلك الاُستاذ الذي هو عيبة العلم الإلهي ، وعلبة أسرار النّبوّة ، وهو المُقيّض لنشر المعارف الربوبيّة ، وتعلّم الأخلاق الفاضلة ، ونشر أحكام الإسلام ، ودحض الأوهام والوساوس ؟!
                    وإذا كان الإمام عليه السّلام يُربّي البُعداء الأجانب بتلك التربية الصحيحة المأثورة حتّى استفادوا منه أسرار التكوين ، ووقفوا على غامض ما في النّشأتين ، وكان عندهم بواسطة تلك التربية علم المنايا والبلايا ، كحبيب بن مظاهر وميثمِ التمّار ، ورشيد الهجري وكميل بن زياد ، وأمثالهم؛ فهل من المعقول أنْ يذر قرّة عينه ، وفلذة كبده خلوّاً مِن أي علم ؟! أو أنّ قابلية المحلِّ تربى باُولئك الأفراد دون سيّدنا العبّاس عليه السّلام ؟
                    لا واللّه ، ما كان سيّد الأوصياء عليه السّلام يضنّ بشيء من علومه ، لا سيّما على قطعة فؤاده ، ولا أنّ غيره ممّن انضوى إلى أبيه علم الهداية يشقّ له غباراً في القابلية والاستعداد . فهنالك التقى مبدأٌ فيّاض ، ومحلٌّ قابل للإفاضة ، وقد ارتفعت عامّة الموانع ؛ فذلك برهان على أنّ ( عبّاس اليقين ) من أوعية العلم ، ومن الراسخين فيه .
                    ثُمَّ هلمّ معي إلى جامعتين للعلوم الإلهيّة ، ملازمتين للجامعة الاُولى في نشر المعارف ، وتقيّضهما لإفاضة التعاليم الحقَّة لكُلِّ تلميذ ، والرُّقي به إلى أوج العظمة في العلم والعمل ، ألا وهما ( كُلّيتا ) السّبطين الحسن والحسين عليهما السّلام . وانظر إلى ملازمته لأخويه بعد أبيه سيّد الأوصياء عليهم السّلام ، ملازمة الظلِّ لذيه ، فهناك يتجلّى لكَ أنّ سماءَ عِلمِهما لم تهطل وبالاً إلاّ وعاد لؤلؤاً رَطباً في نفسه ، ولا أنفقا شيئاً من ذلك الكنز الخالد إلاّ واتّخذه ثروة علميّة لا تنفد .
                    أضف إلى ذلك ما كان يرويه عن عقيلة بيت الوحي ، زينب الكبرى ، وهي العالمة غير المُعلَّمة بنصّ الإمام زين العابدين عليه السلام وبعد هذا كُلِّه ، فقد حوى أبو الفضل من صفاء النّفس والجبلّة الطيّبة ، والعنصر الزاكي والإخلاص في العمل ، والدّؤوب على العبادة ; ما يفتح له أبواباً من العلم ، ويُوقفه على كنوز المعرفة ، فيتفرّع من كُلِّ أصلٍ فرعٌ ، وتنحلّ عنده المشكلات .
                    وإذا كان الحديث ينصّ على أنّ مَن أخلص للّه أربعين صباحاً انفجرت ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه ؛ إذنْ فما ظَنّك بمَن أخلص للّه سبحانه طيلة عُمره ، وهو مُتخلٍّ عن كُلِّ رذيلة ، ومُتحلٍّ بكُلِّ فضيلة ، فهل يبقى إلاّ أنْ تكون ذاته المُقدّسة متجلّية بأنوار العلوم والفضائل ، وإلاّ أنْ يكون علمه تحقّقاً لا تعلّقاً ؟! وبعد ذلك فما أوشك أنْ يكون علمه وجدانيّاً وإنْ برع في البرهنة وتنسيق القياس ، ومن هنا جاء المأثور عن المعصومين عليهم السّلام : إنّ العبّاس بن علي زُقَّ العِلمُ زقّاً.
                    وهذا من أبدع التشبيه والاستعارة ؛ فإنّ الزقَّ يُستعمل في تغذية الطائر فرخه حين لم يقوَ على الغذاء بنفسه ، وحيث استعمل الإمام عليه السّلام ـ وهو العارف بأساليب الكلام ـ هذه اللفظة هنا ، نعرف أنّ أبا الفضل عليه السّلام كان محلَّ القابليّة لتلقِّي العلوم والمعارف مُنذ كان طفلاً ورضيعاً ، كما هو كذلك بلا ريب .
                    فلم يكن أبو الفضل بِدْعَاً من أهل هذا البيت الطّاهر الذي حوى العلم المُتدفّق مُنذ الصغر ، كما شهد بذلك أعداؤهم ، ففي الحديث عن الصادق عليه السّلام :
                    قال الصدوق بعد الخبر : معنى ( فُطموا العلم ) : أي قطعوه عن غيرهم وجمعوه لأنفسهم.
                    وجاء في الأثر ، أنّ يزيد بن معاوية قال في حقّ السّجاد عليه السّلام : إنّه منْ أهلِ بيتٍ زُقُّوا العلم زقّا .1
                    ====
                    1-الخصائص العبّاسيّة / محمّد إبراهيم الكلباسي النجفي ص 220_223.

                    ومع السلامة.

                    تعليق

                    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                    حفظ-تلقائي
                    x

                    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                    صورة التسجيل تحديث الصورة

                    اقرأ في منتديات يا حسين

                    تقليص

                    لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                    يعمل...
                    X