بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين
هذا الموضوع عنوان فصل في كتاب حديث حول الجبر و التفويض لسماحة اية الله السيد عبدالله المحرقي
الكتاب مطبوع سنة 1986 ميلادية الموافق 1406
..........................
من هم القائلون بالجبر
القائلون بالجبر ونفي الاختيار والارادة عن الانسان من المسلمين ثلاثة فرق
الفرقة الاولى : الاشاعرة
وهم اتباع علي بن اسماعيل المعروف بابي الحسن الاشعري وهو الذي وضع اصول هذا المذهب في سنة 300 تقريبا بعد ان انفصل عن استاذه محمد بن عبد الوهاب الجبائي وناصر المحدثين في اكثر ارائهم في اصول العقائد وينسب المذهب اليه لانه سلك طريقا وسطا بين المحدثين الذين يعتمدون على النصوص و لا يرون للعقل سلطانا في مقابل النصوص وظواهر الايات والاحاديث وبين المعتزلة الذين اعتمدوا على العقل واعتبروا الوحي مقررا لاحكام العقل , ولما جاء الاشعري لم يعتمد على العقل مستقلا ولا وقف مع النصوص والتزم بها وان خالفت العقل و حاول ان يجمع بين الامرين .
و قد جاء في ترجمته انه ولد في البصرة سنة 260 , وتوفى سنة 333 , وينتهي نسبه الى ابي موسى الاشعري وقد نشأ ببغداد وتوفى بها واخفى اصحابه قبره خوفا من ان تنبشه الحنابلة لانهم حكموا بكفره واباحوا دمه وحينما توجه لدارسة العلم اتصل بالمعتزلة فلازم الجبائي وبقي معه حوالي اربعين سنة وكان من ألصق الناس به واشدهم ايمانا بأرائه واحصاء لاقواله وجرت بينهما مناظرات في مختلف المواضيع أدت الى انفصاله عنه ووقوفه بجانب الاخصام الاشداء على المعتزلة وقد سأله يوما عن حقيقة الطاعة فقال الجبائي هي موافقة الارادة فقال له : هذا يوجب ان يكون الله مطيعا لعبده اذا اعطاه مراده فالتزم الجبائي بذلك .
وقال الشهرستاني في الملل والنحل : ومن غريب الاتفاق ان ابا موسى الاشعري كان يقرر رأي حفيده الاشعري في القدر وقد جرت بينه وبين عمرو بن العاص مناظرة في القدر فقال عمرو بن العاص لو اجد احدا خاصم اليه ربي قال ابوموسى انا ذلك الشخص قال عمرو بن العاص : يقدر علي شيئا ثم يعذبني عليه ؟ قال نعم قال عمرو بن العاص ولم قال : لانه لا يظلمك .
ويبدو ان ابا الحسن الاشعري بعد ان نضج واحاط بأراء المعتزلة ونظرياتهم كان يقف لاستاذه موقف الخصم العنيد في اكثر الاحيان . ويروى كتاب الفرق والمذاهب ان الخصومة بينهما بلغت اشدها في مسألة وجوب الاصلح على الله سبحانه وكان لا يرى ذلك ابوالحسن الاشعري فقال له ما قولك في ثلاثة : مؤمن وكافر وصبي ؟
قال الجبائي : المؤمن من أهل الدرجات والكافر من أهل الدركات والصبي من اهل النجاة .
قال الاشعري : فان اراد الصبي ان يرقى الى اهل الدرجات بعد موته صبيا هل يمكن ذلك ام لا ؟
قال الجبائي : لا يمكن ذلك لان المؤمن انما نال هذه الدرجات بالطاعة وليس للطفل مثلها .
قال ابو الحسن الاشعري : للطفل ان يقول له : ان التقصير ليس مني فلو احييتني كنت اعمل الطاعات كعمل المؤمن
فرد عليه الجبائي ان الله يقول له :كنت اعلم انك لو بقيت لعصيت فراعيت مصلحتك وامتك قبل ان تنتهي الى سن التكليف
فقال الاشعري : فللكافر اذن ان يقول له لقد علمت حالي كما علمت حال الطفل فهل راعيت مصلحتي مثله وامتني قبل سن التكليف كي لا اقع في معصيتك التي نلت بها العقاب .
وعندما وصل النزاع بينهما الى هذا الحد رأى الجبائي نفسه عاجزا فأعرض عنه .
وقد اورد نظير هذه المحاورة بينهما الاسفرايني في معرض النقض على المعتزلة القائلين بوجوب الاصلح على الله سبحانه ويؤكد جماعة من كتاب الفرق الاسلامية ان الاشعري بعد هذه المناظرات التي جرت بينه وبين استاذه الجبائي قد اعتكف في بيته مدة طويلة انقطع فيها من جميع الناس وتفرغ للمقارنة بين اراء المحدثين واراء المعتزلة .
وبعد دراسة واسعة لاراء الفريقين وقف على جوانب النقص فيها وكون لنفسه رأيا وخرج على الناس ودعاهم الى الاجتماع في مسجد البصرة وبعد الصلاة وقف خطيبا بتلك الجماهير المحتشدة ثم قال : ايها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فانا اعرفه بنفسي انا علي بن اسماعيل بن اسحاق الاشعري كنت اقول بخلق القران وان الله تعالى لا يرى بالابصار وان افعال الشر انا افعلها وانا تائب مقلع عما كنت اقول ومتصد للرد على المعتزلة ومخرج لفضائحهم وقد تغيبت عنكم هذه المدة ونظرت في الادلة فتكافأت عندي ولم يترجح عندي شئ فاستهديت الله سبحانه وتعالى فأهداني الى اعتقاد ما اودعته كتبي هذه وانخلعت من جميع ما كنت اعتقد كما انخلعت من ثوبي هذا .
ثم انخلع من ثوب كان عليه وابرز للناس ما كتبه في المدة التي احتجب فيها عن الناس وقد كان قد ألف كتابه (الابانة) الذي اورد فيه المذهب الذي أتخذه لنفسه , كما ألف في الموضوع نفسه كتابين اخرين وهما الموجز والمقالات ومما جاء في كتبه التي ابرزها للناس بالاضافة الى ما تقدم ان ديانتنا التي ندين بها هي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله وما روى عن الصحابة والتابعين وائمة الحديث واستطرد يقول : ونحن بذلك معتصمون ولما عليه احمد بن حنبل متبعون ولمن خالف قوله مجانبون لانه الامام الفاضل والرئيس الكامل الذي ابان به الله الحق عند ظهور الضلال واوضح به المنهاج وقمع به بدع المبدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين ومن ذلك يتبين ان الاشعري بعد ان اعتكف في بيته خرج على الناس مناصرا لاراء المحدثين وعلى الاخص احمد بن حنبل الخصم العنيد لمذهب الاعتزال ومع ذلك فقد لقي من الحنابلة في حياته وبعد وفاته عنتا وتحاملا عليه وعلى اتباعه ومؤيدي افكاره وارائه وقد بلغ بهم الحال انهم حاولوا ان يمنعوا الخطيب البغدادي المتوفي سنة 463 من دخول المسجد الجامع ببغداد لانه كان يرى رأي الاشعري في الاصول الاسلامية كما اضطهدوا اكابر الاشاعرة في ذلك القرن ونفوهم من بلادهم .
ووقع بينهم وبين الاشاعرة قتال في شوراع بغداد , كان منشأ تحاملهم على رجل من شيوخ الاشاعرة يدعي القشيري فأضطر الى الخروج من بغداد وهجرها وكانت اللعنات تنهال على ابي الحسن الاشعري ونسبوا اليه بعض الاراء الشاذة ليوجهوا الرأي العام ضدهم , ومن ذلك ان الرسول كانت نبوته في حال حياته اما بعد وفاته فقد انتهت نبوته ويفرد بعض الكتاب والمترجمين هذا الصراع العنيف الذي حدث بين الاشاعرة والمحدثين الحنابلة الى ان الاشعري وان تجاهر بالدعوة لمذهبهم وثانية لاراء الامام احمد شيخ الحنابلة الاول وخطب بذلك على منابر بغداد الا ان دراسته الطويلة على المعتزلة وانطباعاته بناهجهم واتباعه لطريقتهم نحوا من ثلاثين عاما او اكثر , هذه المدة الطويلة قد اثرت على تفكيره تأثيرا عميقا وعلى جميع اتجاهاته فلم يستطع ان يتحرر منها ولذا فأنه في جميع ابحاثه لم يتعبد بالحديث وحده و لا بالعقل وحده بل حاول ان يوفق بينهما .
ويبدو ذلك واضحا من ارائه في المسائل التي كانت محلا للخلاف بين المعتزلة والمحدثين . ومن امثلة ذلك افعال الانسان , فالمعتزلة قد ذهبوا الى ان الانسان موجد لافعاله , قال الغزالي في كتابه الاربعين " ان المعتزلة اثبتوا لانفسهم الاختيار الكلي ونسبوا اليه العجز في ضمن ذلك ".
والمحدثون يدعون ان الأفعال مخلوقة لله سبحانه و لا اثر للعبد في ذلك اما الاشعري فقد ذهب الى ان الله قد خلق الاختيار في العبد بنحو الكسب , والفعل المخلوق لله سبحانه مقارن لاختيارالعبد من غير ان يكون للعبد قدرة مؤثرة في ذلك الاختيار و في مقارنة الفعل له . فهو مع قوله بأن افعال الانسان من صنع الله سبحانه يقول بالكسب بهذا النحو ليصحح الثواب و العقاب فقد وافق المحدثين الذين التزموا بظاهر بعض النصوص القرآنية وخالفهم في القول بخلق الاختيار و ان لم يكن مؤثرا في ايجاد الافعال .
الفرقة الثانية : المرجئة
لقد غلب لفظ المرجئة على فئة من الناس وقفوا من الخوارج والمعتزلة موقف وسطا فقال الخوارج ان العصاة كفار وقال المعتزلة انهم مخلدون في النار وقال غيرهما انهم مؤمنون ولم يحكموا عليهم بالعذاب ولفظ الارجاء يستعمل في معنيين :
الاول -التأخير ومن ذلك قولهم ارجأت الامر اي اخرته وبهذا المعنى ورد في الاية (ارجه واخاه وابعث في المدائن حاشرين).
المعنى الثاني -اعطاء الرجاء والفرقة التي شاع تسميتها بالمرجئة يمكن ان يكون تسميتها بهذا الاسم بلحاظ المعنى الاول حيث انها لم تقل بمقالة الخوارج الذين حكموا بكفر العصاة و لا بمقالة القائلين بأن لا نحكم عليهم بالكفر و لا بالايمان ومع ذلك فهم مخلدون في النار بل قالوا : بأنهم مؤمنون لان الايمان عقد القلب والعمل ليس جزءا منه و لا شرطا في تحققه فأرتكاب المعاصي لا يسلب العبد صفة الايمان.
ويمكن ان يكون تسميتهم بذلك بلحاظ المعنى الثاني لان المعروف عنهم انهم يقولون لا تضر مع الايمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة ولازم ذلك اعطاء الرجاء للعصاة ما دامت المعاصي لا تسلبهم صفة الايمان .
ويمكن ان يكون تسميتهم بذلك بلحاظ المعنى الثاني , لان المعروف عنهم انهم يقولون لا تضر مع الايمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة. ولازم ذلك اعطاء الرجاء للعصاة ما دامت المعاصي لا تسلبهم صفة الايمان .
والناس عندهم فريقان : فريق في الجنة وفريق في السعير وهم الكفار لا غير او لانهم يؤخرون الحكم على مرتكبي الكبائر و لا يحكمون عليهم في الدنيا باستحقاق العقاب.
ويرجع الدكتور احمد امين في فجر الاسلام ان الارجاء بمعنى الامهال والتأخير و ان هذا الاسم اصبح علما على الذين يرجئون امر الفريقين الذين سفكوا الدماء الى يوم القيامة لا يقضون بحكم على هؤلاء و لا على هؤلاء والذي يؤيد هذا المعنى منها هو كلمة المرجئة لم تعرف قبل العصر الاموي ولم تستعمل إلا بعد ان علم من حال الخوارج انهم يكفرون العصاة سواء كانوا من الحكام ام من غيرهم . وفي مقابل هؤلاء ذهب المعتزلة ولم يحكموا بالكفر و لا بالعقاب في الدنيا وتركوه الى اليوم الاخر .
وفي التعليقة على مقالات الاسلاميين للاشعري ان المرجئة الذين يسمون بهذا الاسم يجزمون بأنه لا عقاب على مرتكب الكبيرة لانه لا يضر مع الايمان ذنب .
وفي ذلك دلالة على ان الارجاء قد اطلق على فئة من الناس كانت تخالف الخوارج والمعتزلة في حكم مرتكب الكبيرة وان كان له اكثر من معنى بحسب اللغة .
ومهما كان المراد من هذه الكلمة فالذين خالفوا المعتزلة والخوارج في حكم العصاة كان لهم شأن في النزاع القائم بين علماء المسلمين في العصرين الاموي والعباسي وانهم وصفوا بالارجاء لانهم خالفوا الفريقين المعتزلة والخوارج وجميع المسلمين اذا صح انهم يدعون ان الايمان لا تضر معه المعاصي كما لا تنفع مع الكفر الطاعات واصبحوا في مقابل غيرهم من المسلمين على اختلاف نزعاتهم وعقائدهم .
ومما لا شك فيه ان الارجاء بأي معنى اريد منه قد ظهر في القرن الاول الهجري اما تحديد الزمان الذي ظهر فيه فقد اختلفت اراء الكتاب فيه , فذهب بعضهم الى انه ظهر في عصر الصحابة حينما اختلف المسلمون في عهد عثمان بن عفان واحتجوا لذلك بما رواه ابوبكر عن الرسول صل الله عليه واله انه قال ستكون بعدي فتنة القاعد فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي اليها , الا فاذا نزلت فمن كان له ابل فليلحق بأبله ومن كان له غنم فاليلحق بغنمه ومن كانت له ارض فليلحق بارضه فقال له رجل يا رسول الله من لم تكن له ابل و لا غنم و لا ارض ؟ فقال :يعمد الى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج ان استطاع النجاة , وعملا بهذا الحديث وقف جماعة من المسلمين موقفا حياديا من النزاع الذي نشب بين عثمان وخصومه وبين علي عليه السلام والخارجين عليه ولم يحكموا على الجميع بخير او شر فكان هذا الموقف منهم البذرة الاولى لفكرة الارجاء . ولما اشتد النزاع بين الخوارج والمعتزلة في حكم مرتكب الكبيرة وحكم الحكام الامويين وقف جماعة في مقابل الفريقين وقالوا ان الجميع مؤمنون وامرهم في الاخرة يعود الى الله ان شاء عذبهم وان شاء عفى عنهم .
والانصاف ان موقف الذين اعتزلوا النزاع القائم بين عثمان و جمهور المسلمين , والنزاع الذي احدثه الخارجون على خلافة علي عليه السلام لا ينطبق على الارجاء بكلا معنييه لان المسلمين كلهم قد اتفقوا على ان عثمان قد اخطأ في سياسته وتخطى الحدود التي وضعها الاسلام للحاكم ولم يتوقفوا في الحكم عليه بالخطأ و الانحراف .
ولذا وقفوا من النزاع موقفا حياديا وتركوا الامر الى الثوار كما وان الذين اعتزلوا عليا عليه السلام في مواقفه مع اخصامه في البصرة و صفين و النهروان لم يشتبه عليهم الحال و لاسيما وان عليا عليه السلام هو القائم على امور المسلمين ولكن موقفهم منه كان لمرض في نفوسهم ولانهم يعلمون جيدا ان عليا عليه السلام سيواسي بينهم وبين سائر الناس ويؤيد ذلك ما اورده جماعة من المؤرخين من اقوال المتخلفين وارائهم في معاوية وعثمان وكان طلحة والزبير وعائشة من اشد الناس على عثمان واكثرهم تحريضا عليه وجاء عن السيدة عائشة انها كانت تقول : ايها الناس هذا جلباب رسول الله ولم يبل وقد ابلى عثمان سنته ولما استنصرها مروان ليدفع الثائرين اجابت : لعلك ترى اني في شك من صاحبك اما والله لوددت انه مقطع في غريزة من غرائزي واني طيق حمله فاطرحه في البحر .
وكانت تعبر عن رأي عامة المسلمين في موقفها من عثمان و الاحداث التي ادت الى قتله لان النقمة عليه كانت عامة حتى من الذين ناصروه على الوصول الى الحكم و لا سيما بعد ان فسح المجال لبني امية وولاهم جميع المراكز الحساسة في الدولة .
ولو فرضنا ان الفتنة التي اعتزلت القتال الذي نشب بين علي عليه السلام من جهة وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية من جهة ثانية , لو افترضنا ان الرشد لم يتضح لها في اي الجانبين وان تلك الفئة قد اعتزلت القتال لهذه الغاية لا حسدا ولا كرها لعلي عليه السلام و لا تهربا من عدله فهو لا يتفق مع الارجاء بجميع معانيه سواء فسرناه بعدم الحكم على العصاة بأستحقاق العقاب وتركهم الى الله ليصنع بهم ما يشاء . او فسرناه باعطاء الرجاء الذي يتفق مع قولهم لا تضر مع الايمان معصية , كما لا تنفع لا تنفع الكفر طاعة , لان المتخلفين لم يتضح لهم عصيان احد الفريقين على حد زعمهم .
ومهما كان الحال فمما لا شك فيه ان المرجئة قد ظهروا في الاوساط الاسلامية وناصرهم الحكام الامويون على اشاعتهم وانتشارها لانها تثبت ايمانهم وهم في امس الحاجة الى هذه الصفة , و لا سيما في تلك الظروف التي كان الخوارج ينادون بكفر الامويين وجميع الصحابة , والمعتزلة يرون ان الاسلام عقيدة وعمل بالفرائض وبكل ما جاء به الاسلام فمن لم يعمل يستحق الخلود في جهنم ولو كان معتقدا بكل اركان الاسلام .
فالامويون اما كفار كما يدعي الخوارج او مخلدون في جهنم كما يدعي المعتزلة . اما عند المرجئة فهم مؤمنون لم يخرجوا عن الايمان بالرغم من اسرافهم في المنكرات والمعاصي بل ذهب بعضهم الى ان الايمان لا يعتبر فيه اكثر من الاعتقاد بالله ورسوله وان اعلن الكفر بلسانه وعبد الاوثان ولازم اليهودية والنصرانية في دار الاسلام . واضافوا الى ذلك انه في هذه الحالة يكون من اولياء الله ومن اهل الجنة .
ومن الطبيعي ان تجد لهذه الفكرة انصارا و مؤيدين من الحكام لانهم لا يجدون فرقة من فرق الاسلام تمنحهم هذه الصفات التي تؤكد لهم شرعية ملكهم وتسلطهم على رقاب المسلمين مهما اسرفوا في المعاصي واستهتروا بتعاليم الاسلام ومقدماته , و من الغريب ان يكون الحكام انفسهم هم ابطال هذه الفكرة في العصر الذي احتدم فيه الصراع الفكري في العقائد وشاعت فيه اراء الخوارج والمعتزلة في العصاة ومرتكبي الكبائر ومن السهل عليهم شراء الانصار والدعاة لها من العلماء وغيرهم في ذلك العصر الذي ظهر فيه من يحكم عليهم بالكفر والخلود في نار جهنم اما الزمان الذي حدثت فيه هذه الفكرة على التحقيق فليس في المصادر التي تبحث عن الفرق وتاريخها ما يؤكد زمان نشأتها على الدقة ويؤيد ذلك ما جاء عن بعض المستشرقين : ان البحث عن المرجئة وبدء تكوينها وتاريخها محاط بشئ من الغموض والسبب في ذلك يرجع الى ان الدولة العباسية قضت عليهم وافنت اصحاب هذه المقالة لانهم كانوا يناصرون الامويين وجاء في التعليقة على كتاب التبصير في الدين ان اول من سمي من اهل السنة والجماعة بالمرجئة هو نافع بن الازرق الخارجي احد زعماء الخوارج في العصر الاموي . وعندما شاع بينهم ان الايمان هو التصديق بما جاء به النبي تفصيلا واجمالا و لا يحتمل الزيادة والنقصان لان الجزم الذي ينعقد القلب عليه ان نقص اصبح جهلا اوشكا او وهما وبذلك يخرج عن حقيقة الايمان اما العمل فهو خارج عن حقيقته .
وهذا النوع من الارجاء قد نسب الى ابي حنيفة كما في التعليقة على مقالات الاسلاميين للاشعري وقد خالفه فيه بعض الفقهاء والمحدثين واعتبروه مؤلفا من ثلاثة اركان : تصديق بالجنان واقرار باللسان وعمل بالاركان .
وتبين مما جاء في التعليقة على التبصير في الدين ان اسم المرجئة لم يكن قبل العصر الاموي وان اول من وصف الجمهور به هو نافع بن الازرق الخارجي المعاصر لابي حنيفة ومعلوم ان الخوارج يكفرون في الغالب جميع مخالفيهم فضلا عن مرتكبي الكبائر و الجمهور لا يقولون بمقالة الخوارج و لا بمقالة المعتزلة وانما يذهبون الى ان الايمان هو التصديق بما جاء به الرسول و لا يحكمون على مرتكب الكبيرة بالعقاب ويتركونه الى الله ان شاء عذبه وان شاء عفى عنه فيكون الارجاء المنسوب اليهم وسطا بين رأي المعتزلة والخوارج وهذ بخلاف الارجاء عند من يقول بان الايمان لا تضر معه المعاصي كما لا تنفع مع الكفر الطاعات فان الارجاء بهذا المعنى يقابل رأي المعتزلة والخوارج وجميع الفرق الاسلامية .
وقد انهى الحسن الاشعري المرجئة الى اثني عشر فرقة وكلها تتفق على ان الايمان اعتقاد ويقين والعمل خارج عن حيقيقته , ولم يخالف في ذلك الا الكرامية اتباع محمد بن كرام فقد ذهبوا الى ان الايمان هو الاقرار باللسان دون القلب ورتبوا على ذلك ان المنافقين الذين كانوا على عهد الرسول صل الله عليه واله مع انهم لم يؤمنوا بقلوبهم كانوا مؤمنين حقيقة كما و ان الكفر هو الجحود والانكار باللسان .
وفي كتاب التبصير للاسفرائيني ان القائلين بالارجاء قد افترقوا الى خمس فرق وعد منهم اليونسية اتباع يونس بن عون القائلون ان الايمان بالقلب واللسان وحقيقته معرفة الله سبحانه ومحبته والتصديق برسله وكتبه .
والغسانية اتباع غسان المرجئي القائل بأن الايمان هو الاقرار بالله والمحبة له ولكن يقبل الزيادة والنقصان .
والثنوية اتباع ابي معاذ القائل بأن الايمان ما وقاك من الكفر .
والثوبانية اصحاب ابي ثوبان المرجئي وهؤالاء قد اضافوا الى الاقرار بالله ورسله الواجبات العقلية واعتبروا بصحة كل ما يراه العقل من اركان الايمان .
والمرسية اتباع بشير المريسي الذي اضاف الى اقوال من ذكرانهم القول بخلق القران ويبدوا من ذلك ان المرجئة متفقون على ان العمل ليس من اركان الايمان وانهم بذلك يحاولون تحديد معنى الايمان في مقابل الخوارج الذين وقفوا في جانب والمسلمون بأجمعهم في جانب اخر وكفروا كل من يخالفهم فضلا عن مرتكبي الكبائر كما وقفوا في مقابل المعتزلة الذين اعتبروا العمل من اركان الايمان واثبتوا للعصاة الخلود في جهنم وبعد ظهر رأيهم في الايمان في مقابل الخوارج الذين احتكروا الايمان لانفسهم والمعتزلة الذين اضافوا الى التصديق العمل بالاركان واصبح من جملة الاراء المنتشرة في ذلك العصر , تطور كغيره من الاراء التي تبرز في بدايتها كفكرة ثم تتسع كلما اتسع البحث فيها وطال بها الزمن و لا سيما والفكرة من اساسها تخدم مصلحة الحكام كما ذكرنا و لابد و ان يساعدوا على انتشارها وتداولها وتحويرها لصالحهم ولذلك فقد ادعى بعضهم ان الانسان مهما فعل من الذنوب و ارتكب من المنكرات لا يعذب في النار ما دام مؤمنا بالله ورسله بقلبه ولسانه و اسرف اخرون فذهبوا الى انه اقرار باللسان ولو لم يكن معتقدا بما يقول .
وجاء في فجر الاسلام وقد اشتهر من شعراء بن امية بالقول بالارجاء ثابت بن قطنة وكان من اصحاب يزيد بن المهلب واعوانه وله قصيدة توضح مذهبه في الارجاء ويستفاد منها انه لا يحكم على احد بالكفر مهما ارتكب من الذنوب و ان المسلمين اذا اختلفوا وكفرت كل طائفة منهم الاخرى تركناهم الى الله يحكم عليهم يوم القيامة بما يستحقون و الى ذلك يشير بقوله :
و لا ارى ان ذنبا بالغ احد من الناس شركا اذا ما وحدوا الصمدا
يجزي عليا وعثمانا بسعيهما ولست ادري بحق آية وردا
الله يعلم ماذا يحضران به وكل عبد سيلقى الله منفردا
والارجاء الذي يدين به صاحب هذه الابيات هو الارجاء الذي يقول به جمهور الفقهاء وهو من اقرب المرجئة الى الواقع لانه لا ينفي العذاب عن العصاة و لا يقطع بعقوبتهم ويترك الحكم عليها الى الله وحده .
ومجمل القول ان الارجاء الذي شاع القول به في العصرين الاموي والعباسي واصبح مذهبا لفريق من الناس في مقابل غيرهم من ااصحاب المذاهب لا يقول به الامامية لان المرجئة لا يحكمون على العصاة بأي حكم من الاحكام وبعضهم يدعي بأنهم مؤمنون منعمون في الجنة والامامية مجمعون على انهم فساق معذبون بذنوبهم وجاء عن الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام ان النبي صل الله عليه واله قال : صنفان من امتي ليس لهم في الاخرة نصيب المرجئة والقدرية .
وجاء عن زيد بن علي بن الحسين عليه السلام انه قال : لعن الله المرجئة لانهم اطمعوا الفساق في عفو الله
الفرقة الثالثة : الجهمية
وهم جهم بن صفوان واتباعه حيث ذهبوا الى ان الفعل من الله سبحانه بلا تأثير و لا ارادة للعبد وقدرته فيه و لا كسب بل لا صلة لا فرق عندهم بين مشي زيد وحركة المرتعش و لا بين الصاعد الى السطح و الساقط منه .
و بالجملة ان هذه الفرقة والفرقتين المتقدم ذكرهما يقولون بالجبر ونفي الاختيار و القدرة عن الانسان ولهم على ذلك ادلة من طريق العقل و النقل سوف نوردها وندلل على بطلانها وفي نفس الوقت نأتي بأدلة الشيعة الامامية والمعتزلة المؤيدة لبطلان ما ذهب اليه الفرق الثلاثة من القول بالجبر ونفي الاختيار عن الانسان
هذا الموضوع عنوان فصل في كتاب حديث حول الجبر و التفويض لسماحة اية الله السيد عبدالله المحرقي
الكتاب مطبوع سنة 1986 ميلادية الموافق 1406
..........................
من هم القائلون بالجبر
القائلون بالجبر ونفي الاختيار والارادة عن الانسان من المسلمين ثلاثة فرق
الفرقة الاولى : الاشاعرة
وهم اتباع علي بن اسماعيل المعروف بابي الحسن الاشعري وهو الذي وضع اصول هذا المذهب في سنة 300 تقريبا بعد ان انفصل عن استاذه محمد بن عبد الوهاب الجبائي وناصر المحدثين في اكثر ارائهم في اصول العقائد وينسب المذهب اليه لانه سلك طريقا وسطا بين المحدثين الذين يعتمدون على النصوص و لا يرون للعقل سلطانا في مقابل النصوص وظواهر الايات والاحاديث وبين المعتزلة الذين اعتمدوا على العقل واعتبروا الوحي مقررا لاحكام العقل , ولما جاء الاشعري لم يعتمد على العقل مستقلا ولا وقف مع النصوص والتزم بها وان خالفت العقل و حاول ان يجمع بين الامرين .
و قد جاء في ترجمته انه ولد في البصرة سنة 260 , وتوفى سنة 333 , وينتهي نسبه الى ابي موسى الاشعري وقد نشأ ببغداد وتوفى بها واخفى اصحابه قبره خوفا من ان تنبشه الحنابلة لانهم حكموا بكفره واباحوا دمه وحينما توجه لدارسة العلم اتصل بالمعتزلة فلازم الجبائي وبقي معه حوالي اربعين سنة وكان من ألصق الناس به واشدهم ايمانا بأرائه واحصاء لاقواله وجرت بينهما مناظرات في مختلف المواضيع أدت الى انفصاله عنه ووقوفه بجانب الاخصام الاشداء على المعتزلة وقد سأله يوما عن حقيقة الطاعة فقال الجبائي هي موافقة الارادة فقال له : هذا يوجب ان يكون الله مطيعا لعبده اذا اعطاه مراده فالتزم الجبائي بذلك .
وقال الشهرستاني في الملل والنحل : ومن غريب الاتفاق ان ابا موسى الاشعري كان يقرر رأي حفيده الاشعري في القدر وقد جرت بينه وبين عمرو بن العاص مناظرة في القدر فقال عمرو بن العاص لو اجد احدا خاصم اليه ربي قال ابوموسى انا ذلك الشخص قال عمرو بن العاص : يقدر علي شيئا ثم يعذبني عليه ؟ قال نعم قال عمرو بن العاص ولم قال : لانه لا يظلمك .
ويبدو ان ابا الحسن الاشعري بعد ان نضج واحاط بأراء المعتزلة ونظرياتهم كان يقف لاستاذه موقف الخصم العنيد في اكثر الاحيان . ويروى كتاب الفرق والمذاهب ان الخصومة بينهما بلغت اشدها في مسألة وجوب الاصلح على الله سبحانه وكان لا يرى ذلك ابوالحسن الاشعري فقال له ما قولك في ثلاثة : مؤمن وكافر وصبي ؟
قال الجبائي : المؤمن من أهل الدرجات والكافر من أهل الدركات والصبي من اهل النجاة .
قال الاشعري : فان اراد الصبي ان يرقى الى اهل الدرجات بعد موته صبيا هل يمكن ذلك ام لا ؟
قال الجبائي : لا يمكن ذلك لان المؤمن انما نال هذه الدرجات بالطاعة وليس للطفل مثلها .
قال ابو الحسن الاشعري : للطفل ان يقول له : ان التقصير ليس مني فلو احييتني كنت اعمل الطاعات كعمل المؤمن
فرد عليه الجبائي ان الله يقول له :كنت اعلم انك لو بقيت لعصيت فراعيت مصلحتك وامتك قبل ان تنتهي الى سن التكليف
فقال الاشعري : فللكافر اذن ان يقول له لقد علمت حالي كما علمت حال الطفل فهل راعيت مصلحتي مثله وامتني قبل سن التكليف كي لا اقع في معصيتك التي نلت بها العقاب .
وعندما وصل النزاع بينهما الى هذا الحد رأى الجبائي نفسه عاجزا فأعرض عنه .
وقد اورد نظير هذه المحاورة بينهما الاسفرايني في معرض النقض على المعتزلة القائلين بوجوب الاصلح على الله سبحانه ويؤكد جماعة من كتاب الفرق الاسلامية ان الاشعري بعد هذه المناظرات التي جرت بينه وبين استاذه الجبائي قد اعتكف في بيته مدة طويلة انقطع فيها من جميع الناس وتفرغ للمقارنة بين اراء المحدثين واراء المعتزلة .
وبعد دراسة واسعة لاراء الفريقين وقف على جوانب النقص فيها وكون لنفسه رأيا وخرج على الناس ودعاهم الى الاجتماع في مسجد البصرة وبعد الصلاة وقف خطيبا بتلك الجماهير المحتشدة ثم قال : ايها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فانا اعرفه بنفسي انا علي بن اسماعيل بن اسحاق الاشعري كنت اقول بخلق القران وان الله تعالى لا يرى بالابصار وان افعال الشر انا افعلها وانا تائب مقلع عما كنت اقول ومتصد للرد على المعتزلة ومخرج لفضائحهم وقد تغيبت عنكم هذه المدة ونظرت في الادلة فتكافأت عندي ولم يترجح عندي شئ فاستهديت الله سبحانه وتعالى فأهداني الى اعتقاد ما اودعته كتبي هذه وانخلعت من جميع ما كنت اعتقد كما انخلعت من ثوبي هذا .
ثم انخلع من ثوب كان عليه وابرز للناس ما كتبه في المدة التي احتجب فيها عن الناس وقد كان قد ألف كتابه (الابانة) الذي اورد فيه المذهب الذي أتخذه لنفسه , كما ألف في الموضوع نفسه كتابين اخرين وهما الموجز والمقالات ومما جاء في كتبه التي ابرزها للناس بالاضافة الى ما تقدم ان ديانتنا التي ندين بها هي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله وما روى عن الصحابة والتابعين وائمة الحديث واستطرد يقول : ونحن بذلك معتصمون ولما عليه احمد بن حنبل متبعون ولمن خالف قوله مجانبون لانه الامام الفاضل والرئيس الكامل الذي ابان به الله الحق عند ظهور الضلال واوضح به المنهاج وقمع به بدع المبدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين ومن ذلك يتبين ان الاشعري بعد ان اعتكف في بيته خرج على الناس مناصرا لاراء المحدثين وعلى الاخص احمد بن حنبل الخصم العنيد لمذهب الاعتزال ومع ذلك فقد لقي من الحنابلة في حياته وبعد وفاته عنتا وتحاملا عليه وعلى اتباعه ومؤيدي افكاره وارائه وقد بلغ بهم الحال انهم حاولوا ان يمنعوا الخطيب البغدادي المتوفي سنة 463 من دخول المسجد الجامع ببغداد لانه كان يرى رأي الاشعري في الاصول الاسلامية كما اضطهدوا اكابر الاشاعرة في ذلك القرن ونفوهم من بلادهم .
ووقع بينهم وبين الاشاعرة قتال في شوراع بغداد , كان منشأ تحاملهم على رجل من شيوخ الاشاعرة يدعي القشيري فأضطر الى الخروج من بغداد وهجرها وكانت اللعنات تنهال على ابي الحسن الاشعري ونسبوا اليه بعض الاراء الشاذة ليوجهوا الرأي العام ضدهم , ومن ذلك ان الرسول كانت نبوته في حال حياته اما بعد وفاته فقد انتهت نبوته ويفرد بعض الكتاب والمترجمين هذا الصراع العنيف الذي حدث بين الاشاعرة والمحدثين الحنابلة الى ان الاشعري وان تجاهر بالدعوة لمذهبهم وثانية لاراء الامام احمد شيخ الحنابلة الاول وخطب بذلك على منابر بغداد الا ان دراسته الطويلة على المعتزلة وانطباعاته بناهجهم واتباعه لطريقتهم نحوا من ثلاثين عاما او اكثر , هذه المدة الطويلة قد اثرت على تفكيره تأثيرا عميقا وعلى جميع اتجاهاته فلم يستطع ان يتحرر منها ولذا فأنه في جميع ابحاثه لم يتعبد بالحديث وحده و لا بالعقل وحده بل حاول ان يوفق بينهما .
ويبدو ذلك واضحا من ارائه في المسائل التي كانت محلا للخلاف بين المعتزلة والمحدثين . ومن امثلة ذلك افعال الانسان , فالمعتزلة قد ذهبوا الى ان الانسان موجد لافعاله , قال الغزالي في كتابه الاربعين " ان المعتزلة اثبتوا لانفسهم الاختيار الكلي ونسبوا اليه العجز في ضمن ذلك ".
والمحدثون يدعون ان الأفعال مخلوقة لله سبحانه و لا اثر للعبد في ذلك اما الاشعري فقد ذهب الى ان الله قد خلق الاختيار في العبد بنحو الكسب , والفعل المخلوق لله سبحانه مقارن لاختيارالعبد من غير ان يكون للعبد قدرة مؤثرة في ذلك الاختيار و في مقارنة الفعل له . فهو مع قوله بأن افعال الانسان من صنع الله سبحانه يقول بالكسب بهذا النحو ليصحح الثواب و العقاب فقد وافق المحدثين الذين التزموا بظاهر بعض النصوص القرآنية وخالفهم في القول بخلق الاختيار و ان لم يكن مؤثرا في ايجاد الافعال .
الفرقة الثانية : المرجئة
لقد غلب لفظ المرجئة على فئة من الناس وقفوا من الخوارج والمعتزلة موقف وسطا فقال الخوارج ان العصاة كفار وقال المعتزلة انهم مخلدون في النار وقال غيرهما انهم مؤمنون ولم يحكموا عليهم بالعذاب ولفظ الارجاء يستعمل في معنيين :
الاول -التأخير ومن ذلك قولهم ارجأت الامر اي اخرته وبهذا المعنى ورد في الاية (ارجه واخاه وابعث في المدائن حاشرين).
المعنى الثاني -اعطاء الرجاء والفرقة التي شاع تسميتها بالمرجئة يمكن ان يكون تسميتها بهذا الاسم بلحاظ المعنى الاول حيث انها لم تقل بمقالة الخوارج الذين حكموا بكفر العصاة و لا بمقالة القائلين بأن لا نحكم عليهم بالكفر و لا بالايمان ومع ذلك فهم مخلدون في النار بل قالوا : بأنهم مؤمنون لان الايمان عقد القلب والعمل ليس جزءا منه و لا شرطا في تحققه فأرتكاب المعاصي لا يسلب العبد صفة الايمان.
ويمكن ان يكون تسميتهم بذلك بلحاظ المعنى الثاني لان المعروف عنهم انهم يقولون لا تضر مع الايمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة ولازم ذلك اعطاء الرجاء للعصاة ما دامت المعاصي لا تسلبهم صفة الايمان .
ويمكن ان يكون تسميتهم بذلك بلحاظ المعنى الثاني , لان المعروف عنهم انهم يقولون لا تضر مع الايمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة. ولازم ذلك اعطاء الرجاء للعصاة ما دامت المعاصي لا تسلبهم صفة الايمان .
والناس عندهم فريقان : فريق في الجنة وفريق في السعير وهم الكفار لا غير او لانهم يؤخرون الحكم على مرتكبي الكبائر و لا يحكمون عليهم في الدنيا باستحقاق العقاب.
ويرجع الدكتور احمد امين في فجر الاسلام ان الارجاء بمعنى الامهال والتأخير و ان هذا الاسم اصبح علما على الذين يرجئون امر الفريقين الذين سفكوا الدماء الى يوم القيامة لا يقضون بحكم على هؤلاء و لا على هؤلاء والذي يؤيد هذا المعنى منها هو كلمة المرجئة لم تعرف قبل العصر الاموي ولم تستعمل إلا بعد ان علم من حال الخوارج انهم يكفرون العصاة سواء كانوا من الحكام ام من غيرهم . وفي مقابل هؤلاء ذهب المعتزلة ولم يحكموا بالكفر و لا بالعقاب في الدنيا وتركوه الى اليوم الاخر .
وفي التعليقة على مقالات الاسلاميين للاشعري ان المرجئة الذين يسمون بهذا الاسم يجزمون بأنه لا عقاب على مرتكب الكبيرة لانه لا يضر مع الايمان ذنب .
وفي ذلك دلالة على ان الارجاء قد اطلق على فئة من الناس كانت تخالف الخوارج والمعتزلة في حكم مرتكب الكبيرة وان كان له اكثر من معنى بحسب اللغة .
ومهما كان المراد من هذه الكلمة فالذين خالفوا المعتزلة والخوارج في حكم العصاة كان لهم شأن في النزاع القائم بين علماء المسلمين في العصرين الاموي والعباسي وانهم وصفوا بالارجاء لانهم خالفوا الفريقين المعتزلة والخوارج وجميع المسلمين اذا صح انهم يدعون ان الايمان لا تضر معه المعاصي كما لا تنفع مع الكفر الطاعات واصبحوا في مقابل غيرهم من المسلمين على اختلاف نزعاتهم وعقائدهم .
ومما لا شك فيه ان الارجاء بأي معنى اريد منه قد ظهر في القرن الاول الهجري اما تحديد الزمان الذي ظهر فيه فقد اختلفت اراء الكتاب فيه , فذهب بعضهم الى انه ظهر في عصر الصحابة حينما اختلف المسلمون في عهد عثمان بن عفان واحتجوا لذلك بما رواه ابوبكر عن الرسول صل الله عليه واله انه قال ستكون بعدي فتنة القاعد فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي اليها , الا فاذا نزلت فمن كان له ابل فليلحق بأبله ومن كان له غنم فاليلحق بغنمه ومن كانت له ارض فليلحق بارضه فقال له رجل يا رسول الله من لم تكن له ابل و لا غنم و لا ارض ؟ فقال :يعمد الى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج ان استطاع النجاة , وعملا بهذا الحديث وقف جماعة من المسلمين موقفا حياديا من النزاع الذي نشب بين عثمان وخصومه وبين علي عليه السلام والخارجين عليه ولم يحكموا على الجميع بخير او شر فكان هذا الموقف منهم البذرة الاولى لفكرة الارجاء . ولما اشتد النزاع بين الخوارج والمعتزلة في حكم مرتكب الكبيرة وحكم الحكام الامويين وقف جماعة في مقابل الفريقين وقالوا ان الجميع مؤمنون وامرهم في الاخرة يعود الى الله ان شاء عذبهم وان شاء عفى عنهم .
والانصاف ان موقف الذين اعتزلوا النزاع القائم بين عثمان و جمهور المسلمين , والنزاع الذي احدثه الخارجون على خلافة علي عليه السلام لا ينطبق على الارجاء بكلا معنييه لان المسلمين كلهم قد اتفقوا على ان عثمان قد اخطأ في سياسته وتخطى الحدود التي وضعها الاسلام للحاكم ولم يتوقفوا في الحكم عليه بالخطأ و الانحراف .
ولذا وقفوا من النزاع موقفا حياديا وتركوا الامر الى الثوار كما وان الذين اعتزلوا عليا عليه السلام في مواقفه مع اخصامه في البصرة و صفين و النهروان لم يشتبه عليهم الحال و لاسيما وان عليا عليه السلام هو القائم على امور المسلمين ولكن موقفهم منه كان لمرض في نفوسهم ولانهم يعلمون جيدا ان عليا عليه السلام سيواسي بينهم وبين سائر الناس ويؤيد ذلك ما اورده جماعة من المؤرخين من اقوال المتخلفين وارائهم في معاوية وعثمان وكان طلحة والزبير وعائشة من اشد الناس على عثمان واكثرهم تحريضا عليه وجاء عن السيدة عائشة انها كانت تقول : ايها الناس هذا جلباب رسول الله ولم يبل وقد ابلى عثمان سنته ولما استنصرها مروان ليدفع الثائرين اجابت : لعلك ترى اني في شك من صاحبك اما والله لوددت انه مقطع في غريزة من غرائزي واني طيق حمله فاطرحه في البحر .
وكانت تعبر عن رأي عامة المسلمين في موقفها من عثمان و الاحداث التي ادت الى قتله لان النقمة عليه كانت عامة حتى من الذين ناصروه على الوصول الى الحكم و لا سيما بعد ان فسح المجال لبني امية وولاهم جميع المراكز الحساسة في الدولة .
ولو فرضنا ان الفتنة التي اعتزلت القتال الذي نشب بين علي عليه السلام من جهة وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية من جهة ثانية , لو افترضنا ان الرشد لم يتضح لها في اي الجانبين وان تلك الفئة قد اعتزلت القتال لهذه الغاية لا حسدا ولا كرها لعلي عليه السلام و لا تهربا من عدله فهو لا يتفق مع الارجاء بجميع معانيه سواء فسرناه بعدم الحكم على العصاة بأستحقاق العقاب وتركهم الى الله ليصنع بهم ما يشاء . او فسرناه باعطاء الرجاء الذي يتفق مع قولهم لا تضر مع الايمان معصية , كما لا تنفع لا تنفع الكفر طاعة , لان المتخلفين لم يتضح لهم عصيان احد الفريقين على حد زعمهم .
ومهما كان الحال فمما لا شك فيه ان المرجئة قد ظهروا في الاوساط الاسلامية وناصرهم الحكام الامويون على اشاعتهم وانتشارها لانها تثبت ايمانهم وهم في امس الحاجة الى هذه الصفة , و لا سيما في تلك الظروف التي كان الخوارج ينادون بكفر الامويين وجميع الصحابة , والمعتزلة يرون ان الاسلام عقيدة وعمل بالفرائض وبكل ما جاء به الاسلام فمن لم يعمل يستحق الخلود في جهنم ولو كان معتقدا بكل اركان الاسلام .
فالامويون اما كفار كما يدعي الخوارج او مخلدون في جهنم كما يدعي المعتزلة . اما عند المرجئة فهم مؤمنون لم يخرجوا عن الايمان بالرغم من اسرافهم في المنكرات والمعاصي بل ذهب بعضهم الى ان الايمان لا يعتبر فيه اكثر من الاعتقاد بالله ورسوله وان اعلن الكفر بلسانه وعبد الاوثان ولازم اليهودية والنصرانية في دار الاسلام . واضافوا الى ذلك انه في هذه الحالة يكون من اولياء الله ومن اهل الجنة .
ومن الطبيعي ان تجد لهذه الفكرة انصارا و مؤيدين من الحكام لانهم لا يجدون فرقة من فرق الاسلام تمنحهم هذه الصفات التي تؤكد لهم شرعية ملكهم وتسلطهم على رقاب المسلمين مهما اسرفوا في المعاصي واستهتروا بتعاليم الاسلام ومقدماته , و من الغريب ان يكون الحكام انفسهم هم ابطال هذه الفكرة في العصر الذي احتدم فيه الصراع الفكري في العقائد وشاعت فيه اراء الخوارج والمعتزلة في العصاة ومرتكبي الكبائر ومن السهل عليهم شراء الانصار والدعاة لها من العلماء وغيرهم في ذلك العصر الذي ظهر فيه من يحكم عليهم بالكفر والخلود في نار جهنم اما الزمان الذي حدثت فيه هذه الفكرة على التحقيق فليس في المصادر التي تبحث عن الفرق وتاريخها ما يؤكد زمان نشأتها على الدقة ويؤيد ذلك ما جاء عن بعض المستشرقين : ان البحث عن المرجئة وبدء تكوينها وتاريخها محاط بشئ من الغموض والسبب في ذلك يرجع الى ان الدولة العباسية قضت عليهم وافنت اصحاب هذه المقالة لانهم كانوا يناصرون الامويين وجاء في التعليقة على كتاب التبصير في الدين ان اول من سمي من اهل السنة والجماعة بالمرجئة هو نافع بن الازرق الخارجي احد زعماء الخوارج في العصر الاموي . وعندما شاع بينهم ان الايمان هو التصديق بما جاء به النبي تفصيلا واجمالا و لا يحتمل الزيادة والنقصان لان الجزم الذي ينعقد القلب عليه ان نقص اصبح جهلا اوشكا او وهما وبذلك يخرج عن حقيقة الايمان اما العمل فهو خارج عن حقيقته .
وهذا النوع من الارجاء قد نسب الى ابي حنيفة كما في التعليقة على مقالات الاسلاميين للاشعري وقد خالفه فيه بعض الفقهاء والمحدثين واعتبروه مؤلفا من ثلاثة اركان : تصديق بالجنان واقرار باللسان وعمل بالاركان .
وتبين مما جاء في التعليقة على التبصير في الدين ان اسم المرجئة لم يكن قبل العصر الاموي وان اول من وصف الجمهور به هو نافع بن الازرق الخارجي المعاصر لابي حنيفة ومعلوم ان الخوارج يكفرون في الغالب جميع مخالفيهم فضلا عن مرتكبي الكبائر و الجمهور لا يقولون بمقالة الخوارج و لا بمقالة المعتزلة وانما يذهبون الى ان الايمان هو التصديق بما جاء به الرسول و لا يحكمون على مرتكب الكبيرة بالعقاب ويتركونه الى الله ان شاء عذبه وان شاء عفى عنه فيكون الارجاء المنسوب اليهم وسطا بين رأي المعتزلة والخوارج وهذ بخلاف الارجاء عند من يقول بان الايمان لا تضر معه المعاصي كما لا تنفع مع الكفر الطاعات فان الارجاء بهذا المعنى يقابل رأي المعتزلة والخوارج وجميع الفرق الاسلامية .
وقد انهى الحسن الاشعري المرجئة الى اثني عشر فرقة وكلها تتفق على ان الايمان اعتقاد ويقين والعمل خارج عن حيقيقته , ولم يخالف في ذلك الا الكرامية اتباع محمد بن كرام فقد ذهبوا الى ان الايمان هو الاقرار باللسان دون القلب ورتبوا على ذلك ان المنافقين الذين كانوا على عهد الرسول صل الله عليه واله مع انهم لم يؤمنوا بقلوبهم كانوا مؤمنين حقيقة كما و ان الكفر هو الجحود والانكار باللسان .
وفي كتاب التبصير للاسفرائيني ان القائلين بالارجاء قد افترقوا الى خمس فرق وعد منهم اليونسية اتباع يونس بن عون القائلون ان الايمان بالقلب واللسان وحقيقته معرفة الله سبحانه ومحبته والتصديق برسله وكتبه .
والغسانية اتباع غسان المرجئي القائل بأن الايمان هو الاقرار بالله والمحبة له ولكن يقبل الزيادة والنقصان .
والثنوية اتباع ابي معاذ القائل بأن الايمان ما وقاك من الكفر .
والثوبانية اصحاب ابي ثوبان المرجئي وهؤالاء قد اضافوا الى الاقرار بالله ورسله الواجبات العقلية واعتبروا بصحة كل ما يراه العقل من اركان الايمان .
والمرسية اتباع بشير المريسي الذي اضاف الى اقوال من ذكرانهم القول بخلق القران ويبدوا من ذلك ان المرجئة متفقون على ان العمل ليس من اركان الايمان وانهم بذلك يحاولون تحديد معنى الايمان في مقابل الخوارج الذين وقفوا في جانب والمسلمون بأجمعهم في جانب اخر وكفروا كل من يخالفهم فضلا عن مرتكبي الكبائر كما وقفوا في مقابل المعتزلة الذين اعتبروا العمل من اركان الايمان واثبتوا للعصاة الخلود في جهنم وبعد ظهر رأيهم في الايمان في مقابل الخوارج الذين احتكروا الايمان لانفسهم والمعتزلة الذين اضافوا الى التصديق العمل بالاركان واصبح من جملة الاراء المنتشرة في ذلك العصر , تطور كغيره من الاراء التي تبرز في بدايتها كفكرة ثم تتسع كلما اتسع البحث فيها وطال بها الزمن و لا سيما والفكرة من اساسها تخدم مصلحة الحكام كما ذكرنا و لابد و ان يساعدوا على انتشارها وتداولها وتحويرها لصالحهم ولذلك فقد ادعى بعضهم ان الانسان مهما فعل من الذنوب و ارتكب من المنكرات لا يعذب في النار ما دام مؤمنا بالله ورسله بقلبه ولسانه و اسرف اخرون فذهبوا الى انه اقرار باللسان ولو لم يكن معتقدا بما يقول .
وجاء في فجر الاسلام وقد اشتهر من شعراء بن امية بالقول بالارجاء ثابت بن قطنة وكان من اصحاب يزيد بن المهلب واعوانه وله قصيدة توضح مذهبه في الارجاء ويستفاد منها انه لا يحكم على احد بالكفر مهما ارتكب من الذنوب و ان المسلمين اذا اختلفوا وكفرت كل طائفة منهم الاخرى تركناهم الى الله يحكم عليهم يوم القيامة بما يستحقون و الى ذلك يشير بقوله :
و لا ارى ان ذنبا بالغ احد من الناس شركا اذا ما وحدوا الصمدا
يجزي عليا وعثمانا بسعيهما ولست ادري بحق آية وردا
الله يعلم ماذا يحضران به وكل عبد سيلقى الله منفردا
والارجاء الذي يدين به صاحب هذه الابيات هو الارجاء الذي يقول به جمهور الفقهاء وهو من اقرب المرجئة الى الواقع لانه لا ينفي العذاب عن العصاة و لا يقطع بعقوبتهم ويترك الحكم عليها الى الله وحده .
ومجمل القول ان الارجاء الذي شاع القول به في العصرين الاموي والعباسي واصبح مذهبا لفريق من الناس في مقابل غيرهم من ااصحاب المذاهب لا يقول به الامامية لان المرجئة لا يحكمون على العصاة بأي حكم من الاحكام وبعضهم يدعي بأنهم مؤمنون منعمون في الجنة والامامية مجمعون على انهم فساق معذبون بذنوبهم وجاء عن الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام ان النبي صل الله عليه واله قال : صنفان من امتي ليس لهم في الاخرة نصيب المرجئة والقدرية .
وجاء عن زيد بن علي بن الحسين عليه السلام انه قال : لعن الله المرجئة لانهم اطمعوا الفساق في عفو الله
الفرقة الثالثة : الجهمية
وهم جهم بن صفوان واتباعه حيث ذهبوا الى ان الفعل من الله سبحانه بلا تأثير و لا ارادة للعبد وقدرته فيه و لا كسب بل لا صلة لا فرق عندهم بين مشي زيد وحركة المرتعش و لا بين الصاعد الى السطح و الساقط منه .
و بالجملة ان هذه الفرقة والفرقتين المتقدم ذكرهما يقولون بالجبر ونفي الاختيار و القدرة عن الانسان ولهم على ذلك ادلة من طريق العقل و النقل سوف نوردها وندلل على بطلانها وفي نفس الوقت نأتي بأدلة الشيعة الامامية والمعتزلة المؤيدة لبطلان ما ذهب اليه الفرق الثلاثة من القول بالجبر ونفي الاختيار عن الانسان
تعليق