إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني، للأستاذ بناهيان

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 8-1

    إليك ملخص الجلسة الثامنة من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ بناهيان في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» حيث ألقاها في ليالي شهر رمضان المبارك عام 1434هـ. في مسجد الإمام الصادق(ع) في مدينة طهران.






    مرور على ما سبق/نحن بصدد كشف برنامج لحياة وعبادة أفضل


    نحن بصدد كشف برنامج لحياة وعبادة أفضل. ولابدّ لهذا البرنامج أن يكون كفوء كما لابدّ أن يكون عمليّا وأن يكون مؤثرا ومفيدا في نفس الوقت، وبالإضافة إلى ذلك ينبغي أن يتصف بشمولية وأن يكون شاملا لجميع الناس، لا المؤمنين فقط دون غيرهم. فإن كان البرنامج برنامجا عمليا صحيحا لتحقيق حياة وعبادة أفضل، لابدّ أن يكون مشتركا بين الصالحين وغير الصالحين من الناس. ونحن نصبو إلى كشف برنامج جادّ وعميق وصائب ليحسّن حياتنا لا عبادتنا فقط، فإنّ تحسين الحياة مقدمة لتحسين العبادة.

    ما هي مواصفات البرنامج الجيد

    ما هي مواصفات البرنامج الجيد؟ من مواصفاته هي أن يكون ذا محور واحد. فإن البرنامج التي يجعل الإنسان أمام مئة محور وعمل لا يؤدي إلى نتيجة؛ من قبيل ما لو كان البرنامج عبارة عن مجموعة من الأعمال والوصايا المتناثرة في ضرورة الصبر ووجوب الصدق وحسن التواضع وكراهية البخل وقبح الحسد وحرمة الحرص وأهمية العبادة وضرورة صلة الرحم وحرمة أكل الحرام إلى غيرها من الحسنات والسيئات. فإن هذا ليس ببرنامج، بل مجموعة من الأوامر والنواهي غير المنتظمة وغير المبرمجة. بيد أن هذه الوصايا لها نظام وهيكلية لابد من كشفها وإعطائها للناس، لكي تكون حياتهم على أساس برنامج منتظم.
    من مواصفاته الأخرى هي أن يكون مستوحى من القرآن والروايات، وأن يكون منسجما مع أحاديث أهل البيت(ع)، فلا يمكن أن نبدع برنامجا من جيبنا. و من جانب آخر يجب أن يكون متناسبا مع وجود الإنسان، وحقائق حياة الإنسان. فلا يمكن أن يكون البرنامج بلا علاقة مع ما تحدثنا عنه في تعريف الإنسان وهويته وماهيته.

    لقد خلق الإنسان من أجل جهاد داخلي روحي، أي مجاهدة الأميال والرغائب

    على رأس الخصائص التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في تعريف الإنسان هي: «أن الإنسان قد خلق بأميال ونزعات مختلفة ومتضاربة، وبمقتضى هذه النزعات المختلفة غالبا ما يقف أمام طريقين أو أكثر في مراحل حياته، ولهذا قد منح الإنسان حقّ الاختيار وأصبحت اختياراته الصائبة ذات قيمة». وأما باقي خصائص الإنسان من قبيل قدرته على تحصيل العلم فهي قد منحت له لكي تمكنه من الاختيار الصائب.
    فعندما يقف الإنسان في مقام اختيار إحدى رغباته من بين مختلف الرغائب، لابدّ له من أن يضحّي ببعض هذه الرغبات في سبيل بعض أخر. ومن هنا يبدأ موضوع جهاد النفس. ولهذا ندّعي أنّ عنصر «جهاد النفس» يمثل أحد عناصر تعريف الإنسان. يعني أن الإنسان هو كائن خلق من أجل جهاد داخلي وروحي، أي مجاهدة رغائبه. وقد قامت هذه المعركة بسبب وجود نزعات وأميال مختلفة في داخل الإنسان، ولو لا هذا الاختلاف والتعارض لكان الإنسان مَلَكا أو حيوانا.

    لقد أودع الله في قلب الإنسان نوعين من الرغائب: 1. الرغائب السطحية والرخيصة، ولكنها جليّة 2. الرغائب العميقة والقيّمة ولكنها خفيّة

    وفي سبيل أن يتحقق جهاد الإنسان لأهوائه بشكل صحيح، قد أودع الله في قلب الإنسان نوعين من الرغائب: إحداها هي الرغائب العميقة والقيمة ولكنها خفيّة، والأخرى هي الرغائب السطحيّة والرخيصة ولكنها جليّة. إن هذين النوعين من الرغائب ليست سواء، بل إن الرغائب الجيدة والقيّمة أقوى من الرغائب الرخيصة أو التي لا قيمة لها، ولكن بسبب خفائها لابدّ للإنسان أن يعبر من رغباته السطحية والرخيصة ويضحي بها في سبيل الوصول إلى الرغائب العميقة والقيّمة.
    فلو كانت الرغائب الجيّدة والعميقة ظاهرة في داخل الإنسان، لكان الناس جميعهم قد اختاروا هذا النوع من الرغائب لقوتها في قلب الإنسان، ولما حصل جهاد النفس قط. ولهذا فقد أخفى الله هذه الرغائب الشديدة في أعماق قلب الإنسان، وأظهر الرغائب الضعيفة لكي تتوفر أرضية جهاد النفس.
    في السنين السبع الأولى من عمر الإنسان تتبلور الرغبات السطحيّة، وتلك المرحلة هي وقت تجربة هذه الرغائب، فقد أوصانا الإسلام أن نجعل الطفل أميرا في البيت وندعه وشأنه يفعل ما يشاء، لتتبلور رغباته السطحية، فلابدّ أن يجرّب هذه الرغبات ويذوق طعمها قدر المستطاع ليعرف الطعم الحلو ويذوق الراحة ويأنس بالمحبة والحنان. كما تتبلور في وجوده الأنانية ويظهر في السنة الثالثة من عمره الحسد أيضا. ثم بعد سنتين يحاول أن يقلّد الكبار ويلبس ملابسهم لتكون علامة على بوادر حبّ العظمة وحبّ الكِبَر وحب المقام.

    يزعم البعض أن رغباتهم الرخيصة والسطحيّة أشدّ من غيرها وإن مخالفتها صعب جدا

    إن هذه الرغبات التي يتعرف عليها الطفل في السنين السبع الأولى من حياته، ليست برغبات سامية بل هي رغائب سطحية يميل إليها الإنسان كما يميل إليها الحيوان وجميع الحيوانات يدركون هذه الرغبات ويتحركون على أساسها وليس لهم شأن سواها ولا يفهمون شيئا وراءها. إن هذه الرغائب السطحية تظهر نفسها كرغائب شديدة، ولكنها ليست بشديدة. فإن هذه الرغائب السطحية التي تجربها وتعيشها لا تقدر على إمتاعك كثيرا إذ أنها سطحيّة ولم تمتدّ بجذورها إلى أعماق قلبك.
    يزعم البعض أن رغباتهم الرخيصة والسطحية أشدّ من غيرها في وجودهم وإن مخالفة هذه الرغائب عمل عسير جدا. بينما إن يبدأوا بجهاد هذه الرغائب، سوف يلتذون بهذا الجهاد شيئا فشيئا وسوف لا يعيرون قيمة لهذه الرغبات السيئة والسطحية. لقد خفي تحت محيط وجود الإنسان سلسلة جبال مرتفعة جدا ولكنها غير ظاهرة، فهناك محلّ استقرار رغباتك الثقيلة جدا ولا سبيل لكشفها إلا بالغوص والغور في أعماق هذا المحيط.
    ما هو الطريق للوصول إلى الرغبات الأعمق؟ هل الطريق هو أن يعمد الإنسان إلى عشق الله في أول خطوة؟! كلا. الخطوة الأولى هي أن تذبح رغباتك السطحية. فحاول أحيانا أن لا تأكل الطعام المحبذ لك، بل كل خبزا مع لبن. فابدأ بمنازعة نفسك ومخالفتها في رغباتها السطحيّة. تمرّن على جهاد النفس حتى تموت سبعين مرة في اليوم من شدة الجهاد. ولا تنطق بكل ما رماه هواك إلى لسانك، فكف عن الكلام بكثير مما يحلو لك التحدّث به، حتى إن كان ظاهر الكلام جيدا أو كان بصيغة نصح الآخرين أو إرشادهم، إذ أحيانا نلبّي شهوتنا في الكلام عبر ما يسمى بالكلام اللطيف والنصائح النافعة.

    يتبع إن شاء الله...

    تعليق


    • #32
      الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 8-2

      إن أهل جهاد النفس يجدون لذة في حياتهم لا يجدها أهل الفسق والفجور

      إن مخالفة النفس أمر صعب في الظاهر، إذ تريد أن تخالف رغبة ونزعة ظاهرة، ولأنّها ظاهرة تشعر بأنّها رغبة شديدة، وهذا ما يجعلك تعتبر مخالفة هذه الأهواء أمرا عسيرا. ولكن هذه المخالفة في الواقع هي من أجل الوصول إلى الرغائب الخفيّة التي هي أعمق وأمتع وألصق بالفؤاد. ولهذا عندما نبدأ في هذا الجهاد ونخطو بعض الخطوات إلى الإمام ونذوق شيئا من رغائبنا العميقة، عند ذلك ندرك أن هذه المخالفة ليست بصعبة أبدا.
      إن ماهيّة العسر والألم هو أن يكون الشيء مخالفا لهوانا وإنّ ماهيّة اللذة والسرور هو أن يكون الشيء موافقا لهوانا. إذن فعندما يقوم أحد بمخالفة أهوائه السيئة ويصحّي رغباته الجيّدة ويلبّي نزعاته العميقة والقيّمة، يشعر بلذّة لم يذقها أهل الفسق والعصيان في حياتهم قط.
      إن عبادة الله يمثّل نزعة عميقة وممتعة جدا في وجود الإنسان. وإنه أقوى وأمتع بكثير من الميل إلى الشهوات، ولكنه أخفى من حبّ الشهوات. فمن هذا المنطلق إن من يلبي رغبته في عبادة الله ويرضي ربّه، يتمتع بلذة لن يجدها من يقوم بإرضاء هوى نفسه أبدا. فعلى سبيل المثال، من الذي يشعر بلذّة أقوى؛ هذا الذي يسبّ ويشتم إرضاء لهواه، أم الذي يسيطر على لسانه إرضاء لربّه؟ فلا شك في أن لا قياس باللذة التي يجدها الثاني تجاه لذّة الأوّل. وأيّهما أشدّ لذة؛ من يقابل السوء بالسوء والانتقام إرضاء لهوى نفسه، أم من يعفو عن الناس إرضاء لربّه؟

      كل من تزداد لذته بعلاقته بالله، يزداد بالمقابل أجرا من الله

      واللطيف هو أن الذي يحظى بمزيد من اللذة وأقواها بسبب إرضاء الله في حياته، يُفترَض أن يزداد دَيْنا لله بسبب زيادة اللذة التي عاشها في حياته، ولكنّ الله يزيده أجرا ويرفع درجاته في الجنان. إنّ من لطف الله وكرمه هو أن كلما ازداد الإنسان انتفاعا من الله، يزداد نصيبه من الله في الجنة. يعني كل من عاش لذة أشد وأقوى في ظلّ علاقته مع الله في هذه الدنيا، يزداد أجرا منه سبحانه وتعالى. غيّر رؤيتك عن الله، فإن الله لم يرد منك أن تضحّي برغباتك ولذاتك في سبيله، بل أراد أن تضحي بلذاتك السطحية والقليلة في سبيل لذاتك العميقة والشديدة!
      عندما تطبخ أمّ لولدها طعاما، كلّما التذّ الولد بطعام والدته وأكل من الطعام أكثر، تزداد الأمّ فرحا. ولا شكّ في أن الله الذي خلق الأمّهات، هو أرحم بعباده منهنّ جميعا.

      الإنسان الذي يجاهد نفسه لم ينجز شيئا

      لا ينبغي للإنسان الذي يجاهد نفسه، أن يعتبر نفسه قد أنجز شيئا خارقا وقام بعمل شاقّ، إذ أن اللذة التي يجدها في خضمّ جهاد نفسه، لن يجدها الفسقة وشرابو الخمر أبدا. فهو لم يكن يطلب اللهَ شيئا بهذا الجهاد، بل يزداد دَينا له، إذ قد لبّى رغبات قلبه العميقة وحظى بمزيد من اللّذة، وقد نال ما يميل إليه ويرغب فيه واقعا، وبعد كل هذا سيثيبه الله بالجنة لكونه قد لبّى رغباته الحقيقية! وهذا من لطف الله، فلا ينبغي أن نتوهم بأننا قد أنجزنا شيئا كبيرا.

      إن الذين يجاهدون أنفسهم يلتذون في حياتهم أكثر من أهل الفسوق والفجور/ إن مخالفة النفس إرضاء للنفس في الواقع

      إن أهل الفسق والفجور لا يعيشون لذة أولئك الذين يقومون بتلبية رغباتهم العميقة والفطرية والخفية ولا يشعرون بسرورهم، إذ أن مخالفة النفس هي إرضاء للنفس في الواقع، وهي عبارة عن العبور من أميال النفس السطحية لتلبية الرغائب العميقة والجيّدة في النفس.
      سألني أحد الإخوة وقال: «ألا يتعقّد الإنسان نفسيّا فيما إذا جاهد نفسه ليل نهار وحرمها عن لذّاتها؟». قلت له: بالتأكيد! فإن أدمن الإنسان على مخالفة نفسه وهواه يتعقّد نفسيا ويبتلى بمرض في أعصابه وتضعف قواه وقد يحقد على الناس ويصاب بستين مرض آخر! ولكن إنّ مخالفة النفس، ليست مخالفة جميع أبعاد النفس، بل إنما هي مخالفة الجانب السطحي والرخيص منها، وفي نفس الوقت الذي تجاهد فيه هذا البعد من النفس، تلبّي رغبة رائعة وعميقة جدا في نفسك.
      يقول الرسول الأكرم(ص): «النَّظَرُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ فَمَنْ تَرَكَهَا خَوْفاً مِنَ اللَّهِ أَعْطَاهُ إِيمَاناً يَجِدُ حَلَاوَتَهُ‏ فِي‏ قَلْبِهِ‏»[جامع الأخبار/ص145]. وقال (ص): «النظر إلى محاسن‏ النّساء سهم من سهام إبليس فمن تركه أذاقه الله طعم عبادة تسرّه»[مستدرك الوسائل/ج14/ص271]. فإن غضّ أحد النظر وترك اللذة ولم يجد تلك اللذة العميقة وطعم العبادة فليعلم أن لم يكن غضّه البصر في سبيل الله وإلا لوجد هذه اللذة.

      في سبيل كشف رغائبنا العميقة والكامنة ولا سيما رغبتنا في عبادة الله، لابدّ لنا أن نضحي بأهوائنا ورغائبنا السطحية

      في سبيل أن نكشف رغبتنا العميقة والكامنة المتمثلة بحب عبادة الله، لابد أن نجاهد رغائبنا السطحية والتافهة وأن نضحّي بها في سبيل الرغائب العميقة، أي لابدّ أن نقف أمام شهواتنا وأهوائنا. وعليه فلابد أن نخاطب ربنا في سجّادة الصلاة ونقول له: «إلهي! أنا الآن أسير بيد رغباتي السطحيّة ولا أدرك لذة عبادتك، ولكني سمعت أن هناك حقائق وراء هذه الظواهر فصدقت نبيّك، وأنا الآن أصلّي بين يديك بلا أن أشعر بلذة الصلاة...»
      أساسا إن الصلاة تمثّل جهادا للنفس، إذ ليس فيها جذابيّة في بداية الأمر، وعادة ما نحاول أن نصلّي ونتمّ الصلاة تأدية للواجب وحسب، ولكن من أجل أن نرغم أنف نفسنا ونحارب أهواءنا، ينبغي أن نصلي باطمئنان وهدوء وبدون استعجال. فكلما أردت أن تستعجل في صلاتك وتكملها بسرعة، أبطئ في صلاتك وكرّر أذكارك لتلوي عنق نفسك وتقعدها في مكانها.
      أتذكر في زمن كنّا نصلي خلف آية الله الشيخ الأراكي(رضوان الله عليه) حيث كان يصلّي في مسجد صغير جدا في جوار ضريح السيدة المعصومة(ع)، ولكن كانت صلاته طويلة جدّا ولا تقاس بصلاة الشيخ بهجت من حيث طولها. فكانت صلاته ترغم أنف النفس. فمن كان يريد أن يلوي عنق نفسه، كان يصلي خلفه. فإذا وجدتم إماما يصلي صلاة طويلة، اقصدوه بعض الأيام وصلّوا خلفه لتخالفوا بتلك الصلاة نفوسكم وترغموا أنفها.

      يتبع إن شاء الله...

      تعليق


      • #33
        الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 8-3


        أحيانا يصبح جهاد النفس في سبيل النفس


        ليكن بعلمك أخي أن بعض الناس يجاهدون أنفسهم من أجل النفس، فلا تخرّب جهادك. من قبيل من يمسك نفسه عن السبّ والشتم حفاظا على سمعته، أو من يترك حب الغضب تلبية لحبّ المقام في نفسه. فعلامة هذا الإنسان هي أنه مهما تأدب وحسّن أخلاقه وجاهد نفسه، لا يرغب في الصلاة، إذ لم يكن جهاد نفسه في سبيل الله.
        إن جهاد النفس هو مراعاة النفس في الواقع، ومخالفة اللذّات هو نيل اللذات في الواقع، ولكن لذة عميقة وغزيرة

        عندما يتجه الإنسان نحو الحسنات ورغباته العميقة، ويجاهد أهواءه السطحية في هذا المسار، سيذوق لذة هذا الجهاد بلا ريب، وإن الله يذيقنا هذه اللذة بسرعة. أساسا إن جهاد النفس هو مراعاة النفس في الواقع، ومخالفة اللذات هو نيل اللذات في الواقع، ولكن لذة عميقة وغزيرة لا سطحية وقليلة. ولهذا إن بعض الناس يحرصون على العبادة، فتراهم يجلسون في المسجد منتظرين وقت الصلاة، فهم يجاهدون أنفسهم ويعيشون لذة حقيقية في حياتهم.

        إن حقيقة حياة الإنسان هي اختيار خير الرغائب مما هي أدنى عن طريق «العقل»/ العقل
        قوة لاختيار خير الرغائب



        إذن هكذا يمكن أن نعرّف حياة الإنسان: «اختيار الرغائب الأفضل من الرغائب الأدنى»، ويتم هذا الاختيار عبر قوة في وجود الإنسان باسم العقل. لمّا خلق الله العقل أعطاه زمام الإنسان إذ به يُعبَد. «الْعَقْلُ‏ مَا عُبِدَ بِهِ‏ الرَّحْمَنُ‏ وَ اکْتُسِبَ بِهِ الْجِنَان»[هدایه الأمة/ج1/ص4].

        يختلف العقل عن العلم، ولهذا عندما يسيء الإنسان في اختيار رغائبه ويختار الخيار الأدنى يقال له: أنت عديم العقل، وعندما يصيب الاختيار ويختار الخيار الأفضل يقال له: أنت إنسان عاقل.

        لقد خلق الإنسان ليختار من مجموع الخيارات، ولولا ذلك لما استطاع أن ينتج قيمة مضافة. ولابدّ للاختيار أن يكون من بين نوعين من الرغائب؛ رغبة أشدّ ولكنها كامنة، ورغبة أضعف ولكنها ظاهرة. وإن الرغائب الضعيفة والظاهرة يعني هذه الأهواء والشهوات هي التي تحجز الإنسان عن كشف رغباته العميقة والكامنة. لذلك ينبغي للإنسان أنّ يدمن على محاربة أهوائه النفسانية ورغائبه السطحية والواضحة ويضحّي بها ليصل إلى رغباته العميقة والفطريّة. وإنّما يستطيع الإنسان أن ينجز هذا الإنجاز بالعقل. العقل هو الذي يحذرنا من الاغترار بالرغبات الظاهرية، وهو الذي يشجعنا على الاهتمام بالرغبات العميقة فإنها أكثر لذة. ويقول لنا: دع هذه النزعات السطحية لتكشف رغباتك العميقة.

        لماذا لا يتضرع المذنبون إلى الله؟



        لماذا لا يتضرع المذنبون إلى الله؟ لأنهم يخافون من الله بشدّة، ويتصورون أن الله بصدد الانتقام منهم. إنهم قد تنكروا لله وظنوا أن الله قد تنكر لهم أيضا.

        ما هو انطباعكم عن الله وأنتم تتوبون إليه من ذنوبكم وتخافون منه؟ لماذا يضيق صدركم وتتوبون من ذنوبكم؟ هل تعتذرون إلى الله لأنكم لم تمتثلوا كلامه والآن تخافون أن يعاقبكم عقابا عسيرا؟ وهل أنكم تتوبون إليه مخافة سوطه؟ وهل تنظرون إلى الله كخصم قوي لا يمكن منافسته؟ في حين أن الله قد أراد أن تلتذوا أكثر في حياتكم، وأراد أن تفعّلوا رغباتكم الفطرية، ولهذا ولأنكم قد أضررتم بأنفسكم وحرمتم أنفسكم من مزيد اللذة، لم يرض منكم وغضب علیکم، فإنه لم يرض منا لشدّة حبه لنا. والآن فهو لا يريد أن يضربكم بل يريد أن ترجعوا إليه.

        يقول الإمام الباقر(ع): «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَکَ وَ تَعَالَى أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ وَ زَادَهُ فِی لَیْلَةٍ ظَلْمَاءَ فَوَجَدَهَا فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ ذَلِکَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ حِینَ وَجَدَهَا». [الكافي/ج2/ص435] فلابدّ أن نرجع ونعيد بناءنا المعرفي بالله وبالإنسان والحياة من جديد.

        إلهنا سبحانك أن تكون محتاجا إلينا فلماذا تفرح بهذه الشدة عند توبتنا؟! إلهنا أنت الذي قال في وصفك الإمام السجاد(ع): «الحمد لله الذي تحبب إلي وهو غني عني» فلماذا تفرح بتوبتنا إلى هذا الحد؟ إنه أراد أن نزداد لذة في الدنيا لنزداد قابلية للتنعم في يوم القيامة وعند لقاء الله. إنه أراد بهذه الأحكام أن نتعطش إلى اختيار الخيار الأفضل ولتكون الدنيا مقدمة للتمتع والالتذاذ بلقاء الله بعد الموت وفي يوم القيامة وفي جنات الخلد. فكان البرنامج الإلهي لنا هو أن ننتعش بذكر الله وجمال الله في الدنيا، ثم يدعونا إليه، لنتمتع باللذة الكاملة عند لقائه.

        صلى الله عليك يا أبا عبد الله



        إن جهاد النفس يتخذ منحى آخر في مراحله المتقدمة، فكلما كان يشتدّ الأمر بالحسين(ع) ويقدم الأضحية واحدا بعد الآخر كان يشرق لونه وتهدأ جوارحه وتسكن نفسه، فيقف الإنسان حائرا أمام قلب الحسين(ع) عاجزا عن فهمه ووصفه.

        أنا أريد أن أخاطب الحسين(ع) وأقول له: يا أبا عبد الله! عندما ودّعت علي الأكبر، أما قدّمته أضحية لله سبحانه؟ ونحن نعلم كم أنت تحب أن تقدم ضحايا في سبيل الله. فما هذا البكاء عليه أمام الأعداء حتى أوشكت بالموت حين وضعت خدك على خده؟!

        اسمحوا لي أن أجيب بكلمة واحدة. ألا تحترق أكبادكم إذا جاء أحد ومزّق أمامكم صورة النبي الأكرم(ص)؟! كان علي الأكبر أشبه الناس خلقا وخلقا ومنطقا برسول الله(ص)، وإذا به رآه مقطعا بسيوف القوم...


        ألا لعنة الله على القوم الظالمين


        تعليق


        • #34
          الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 9-1


          إليك ملخص الجلسة التاسعة من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ بناهيان في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» حيث ألقاها في ليالي شهر رمضان المبارك عام 1434هـ. في مسجد الإمام الصادق(ع) في مدينة طهران.

          بودّي في هذه الجلسة أن ألخّص مجمل ما ذكرناه في الجلسات السابقة وأستعرض ما خرجنا به من نتائج، لكي يطّلع عليه الإخوة الذين لم يرافقونا من الأول، وكذلك يحصل الإخوة الذين تابعونا من بداية الأبحاث على صورة واضحة عن مجمل ما طرحناه في الليالي الماضية. لابدّ لنا في هذا البحث أن نطوي ثلاثة مراحل، ونحن لم نطوِ عبر الجلسات الماضية إلا المرحلة الأولى منه.

          1ـ نحن بحاجة إلى برنامج واحد للحياة والعبادة

          نحن ومن أجل أن نحظى بحياة وعبادة أفضل، بحاجة إلى برنامج جيّد. وأساسا نعتقد أن البرنامج الذي يحسّن حياتنا من شأنه أن يحسّن عبادتنا أيضا. وبالعكس، إن البرنامج الذي يحسّن عبادتنا يحسّن حياتنا أيضا.

          لابدّ أن يكون هذا البرنامج نافعا لجميع الناس بلا فرق بين المتديّن وغيره، فإذا لم يكن الإنسان متدينا، ينبغي لهذا البرنامج أن يعينه على تحسين حياته، وإن كان متديّنا يعينه على عبادته. ولهذا فمثل هذا البرنامج يهيّئ الأرضيّة لتحاور المتديّنين مع غير المتدينين، كما أن كثيرا من رواياتنا قد اتخذت هذا الخطاب في أسلوبها، يعني أنها قد أشارت إلى أساليب وآداب في الحياة بغض النظر عن الدّين والإيمان، حتى إذا لم يرد أحد أن يعمل بمفادها بدافع ديني، يعمل بها بدافع تطوير حياته.



          2ـ يجب أن يكون البرنامج متناسبا مع «تركيبة وجود الإنسان» و «ظروف الحياة الطبيعية»


          يجب أن يكون البرنامج متناسبا مع «تركيبة وجود الإنسان» و «ظروف الحياة الطبيعية». فلا ينبغي أن يكون البرنامج خياليّا وبلا علاقة مع هويتنا الإنسانيّة وتركيبتنا الوجودية. وبالإضافة إلى ذلك لابدّ لهذا البرنامج أن يكون منسجما مع خصائص حياة الإنسان والسنن التي تتحكم في عالم الوجود.

          فعلى سبيل المثال إحدى خصائص الحياة الدنيا هي أنها كلّما تعطي الإنسان شيئا تسترجعه منه، فإن أعطته الشباب أو الصحّة لا تبقيه على حاله بل تعود إليه وتسلبه ما منحته في الماضي. هذه من طباع الدنيا. وكذلك الدنيا لا تخلو من مشاكل ومنغّصات، فلابدّ أن يؤذيك أحد في حياتك، إما زوجك وإمّا جارك وإما أن تلتقي بعابر مارّ يؤذيك. إن درب الحياة الدنيا لا يخلو من الأشواك ولا فائدة لعقد آمال القلب وأمانيه بعيش خالٍ من المشاكل والمنغّصات. إذن لابدّ أن يكون البرنامج على أساس هذه الميزة في الحياة الدنيا.

          مع الأسف إن أكثر مناهجنا الدينية المدوّنة قد تم تنظيمها بغض النظر عن خصائص الحياة. وأساسا أحد المواضيع التي نعاني من الضعف فيها هو معرفة الحياة. بينما هناك قسم كبير من آيات القرآن قد تصدت لتبيين خصائص الحياة.

          3ـ أهم رأسمال الإنسان قلبه، أي موطن أمياله/إن أميال الإنسان تمثل الطاقة المحركة لنشاطه

          أهم رأسمال الإنسان قلبه الذي هو موطن أمياله ونزعاته. ففي الواقع إن أميالنا ونزعاتنا تمثل أهم رأسمالنا. فإن نزعاتنا هي التي تربط علاقتنا بالحياة وتدفعنا بالطاقة للحركة والنشاط، ففي الواقع إن أميال الإنسان تمثّل الطاقة المحرّكة في وجوده. إن سلطان روح الإنسان قلبه والقلب هو مقرّ الأوامر والإيعازات وهو الذي يأمر الإنسان بالتحرك والنشاط في سبيل سدّ احتياجاته.

          4ـ من أهم خصائص الإنسان هو تعارض نزعاته/هناك تضارب في ذات الإنسان

          من أهمّ خصائص قلب الإنسان أي مقرّ نزعاته هي أنه ينطوي على أميال ورغائب متضاربة، وليس للإنسان بدّ سوى أن يختار بعض هذه الأميال ويكفّ عن بعض أخر، وبطبيعة الحال سوف يواجه متاعب ومصاعب ومحن في هذا المسار. نحن لم نولد برغبة واحدة بل قد ولدنا برغبات مختلفة ومتنوّعة، فإن اتجهنا لأيّ من هذه الرغبات سوف نقعد عن الأخرى. فمن هذا المنطلق هناك نزاع وتضارب دائم في ذات الإنسان بين مختلف نزعاته المتعارضة.

          ينطوي الإنسان على أهواء مختلفة وإن بعضها متضادة ومتعارضة مع بعض وهناك عداء في ما بينهم. ولهذا فإن في ذات الإنسان تضاربا ونزاعا وعليه فدائما هناك ضحايا في ذات الإنسان، إذ لا سبيل له سوى أن يضحّي ببعض رغباته في سبيل بعض أخر.

          إن هذا التضارب يبعث في ذات الإنسان حيرة لا مناص منها، إذ هو يحبّ جميع «رغباته»، ولكن ليس بوسعه أن ينال جميعها، فيضطر إلى أن يختار بعضا منها دون الباقي. ثم إن عمليّة الاختيار تحتاج إلى تضحية، وهي بمعنى العبور من إحدى الرغبات في سبيل الوصول إلى رغبة أخرى، إذ لا مجال للحصول على جميع الرغائب معا. إذن لا يخلو ذات الإنسان من الحلاوة والمرارة معا.

          5ـ هناك نوعان من الرغبات في وجود الإنسان: 1ـ الرغبات السطحيّة والظاهرة وهي بالفعل و2ـ الرغبات العميقة والخفيّة وهي بالقوّة

          هناك رغبتان عامّتان في وجود الإنسان؛ 1ـ الرغبات السطحية والظاهرة وهي بالفعل 2ـ الرغبات العميقة والخفية وهي بالقوّة. وعادة ما تسمى الفئة الأولى بالرغبات الغريزية وتسمّى الثانية بالرغبات الفطريّة. وإن النزاع القائم في وجود الإنسان هو بين هذين النوعين من الرغبات.

          وإن تبدو الرغبات السطحية أشدّ وأقوى في بادئ الأمر ولكن النزعات والأميال العميقة هي الأقوى. إن اللذة التي يعيشها الإنسان بعد ما يلبّي رغباته العميقة والكامنة كثيرة جدا ولا تقاس باللذة القليلة والمحدودة الحاصلة بعد تلبية الرغبات السطحية.

          6ـ يبدأ الإنسان بتجربة الرغبات السطحية ولكن لا يقف عندها

          يبدأ الإنسان بتجربة الرغبات السطحية ولكنه لا يشبع بها، فلا يشعر إنسان بالرضا بعد تمتعه بالرغبات السطحية بل لا يزال حائرا ويبحث عن لذة من نمط آخر تشبع روحه.

          في الواقع لا يقنع إنسان بتلبية رغباته السطحية ومهما تمادى في التمتع بهذه الرغبات يزداد إصرارا وولعا بتجربة المزيد من اللذة إذ لم تستقر روحه ولم يشعر بالرضا. وذلك لأنه لم يلتفت إلى رغباته الحقيقية والعميقة التي لا تقنع النفس إلا بها.

          يتبع إن شاء الله...


          تعليق


          • #35
            الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 9-2



            7ـإن غاية الرغبات العميقة والفطريّة في الإنسان هي طلب الله والشوق إلى لقائه


            إن غاية الرغبات العميقة والفطريّة في الإنسان هي طلب اللهوعشق التقرب منه والشوق إلى لقائه. إنّ العشق المحوري الكامن في قلب الإنسان هو حبالله ولم يكن الإنسان بطالب شيئا كحب الله، ولكنه حبّ محجوب في القلب وغالبا ماتخفيه الرغبات السطحية وتمنع الإنسان من كشفها ونيلها. إن محور الإيمان ليس «وجود الله» إذ أن الإيمان بوجود الله مقدمة الإيمان، بل محور الإيمان هو «حب لقاءالله».


            8ـ «الطريق الوحيد» هو غضّالطرف عن الرغبات الظاهرية، للوصول إلى الرغبات العميقة


            «الطريقالوحيد» للحصول على حياة طيّبة وعبادة جيّدة هو أن نغض الطرف عن رغباتنا الظاهريةوما هي بالفعل لنصل إلى الرغبات العميقة والتي هي بالقوة. لابدّ أن نضحّي برغباتناالسطحيّة وهذه النقطة هي مبدأ انطلاقنا في جهاد النفس. وإن مفعول جميع المفاهيمالدينية كالإيمان والتقوى والقيامة ونار جهنّم والجنّة هي أن تأخذ بأيدينا في هذاالطريق. وكذلك لابدّ أن نفهم أثر أولياء الله وحبهم في هذا الإطار، وبالتأكيد إندور أبي عبد الله الحسين(ع) في هذا المسار دور خاصّ.


            إن حب الحسين(ع) هو النزعة الفطرية والخفية الوحيدة التييمكن كشفها بسهولة


            إن الإمام الحسين(ع) يمثل أروع فرصة للإنسان لكشف فطرته. إنحب الحسين(ع) هو تلك النزعة الفطرية والخفية الوحيدة التي يقدر الإنسان على كشفهافي قلبه بسهولة، وحتى بإمكان الناس العاديّين الذين لم يطووا مدارج التقوى أنيجدوا هذا الحب في قلبهم.

            من أجل كشف حب الله، لابد أن تستأصل حب الدنيا من قلبكتماما، ولكن لا يشترط ذلك في حبّ الحسين(ع)، إذ يمكن للقلب المحب للدنيا أن يحبّالحسين(ع) ويذوق حلاوة حبّه بسهولة. فإذا أراد الإنسان أن يعيش تجربة حبّ اللهويعرف جنس هذا الحبّ، بإمكانه أن يعرف ذلك عبر الشعور بلذة حب الحسين(ع).


            9ـ من أهم قدرات الإنسان هو قدرته علىتحديد الأولويات بين مختلف أمياله، أي «التعقل»


            بعد ما عرفنا هذه الحقيقة وعدم إمكان تلبية جميع الرغباتمعا، وأن لابدّ من اختيار بعضها دون الأخرى، فلابدّ أن نرى بأيّ وسيلة يجب أن نقومبهذا الاختيار. من أهمّ قدرات الإنسان هو قدرته على تحديد الأولويّات وهو ما يسمّىبالتعقّل. إذن يمكن أن نقول: أهمّ «رأسمال» الإنسان هو أمياله ونزعاته و أهم «قدرة» في وجود الإنسان هي العقل.

            العقل يفتينا بأن العشق الخالد واللذة الباقية أفضل بلاريب. وهناك حرب قائمة بين العقل وهوى النفس، إذ أن العقل يختار النزعات الأفضلوالأعمق والأبقى أما هوى النفس فيميل إلى النزعات الأقل قيمة والأكثر سطحيةوظهورا.

            وعلى أساس ما روي عن رسول الله(ص)، كلّما يفضّل الإنسان رأيهوى نفسه على عقله، ينقص من إمكانيات عقله شيء لا يرجع أبدا؛ «مَن قارَفَ ذَنباً فارَقَهُعَقلٌ لا یَرجِعُ إلَیهِ أبداً» [میزان الحکمة/ الحدیث6751].


            10ـإن في الاهتمام بالأميال السطحيّة مشكلتين: 1ـ لن يطمئن قلب الإنسان مهما نال منها 2ـ لنيقدر على نيل جميعها أبدا


            إذا تمحّض الإنسان في تلبية نزعاته الغريزيّة والظاهريّةسيواجه مشكلتين: 1ـ لن يطمئن قلب الإنسان مهما نال منها 2ـ لن يقدر على تلبية جميعهذه الأميال السطحية. وبعبارة أخرى سواء ألبّى رغباته أم لم يلبّها فهو يشعربالخيبة.


            11ـإن تلبية الرغبات العميقة تواجه مشكلتين: 1ـ لا يمكن تجربتها في بادئ الأمر 2ـلابدّ وفي سبيل نيلها من غض البصر عن اللذات السطحيّة


            ماذا يواجه الإنسان في ما إذا عمد إلى تلبية رغباتهالعميقة؟ إن تلبية الرغبات العميقة أيضا لا تخلو من مشكلتين:

            الأولى هي أن لا يمكن تجربتها في بادئ الأمر؛ يعني عادة مالا يذوق الإنسان طعم نزعاته الفطريّة العميقة في البداية، إلا القليل أو بعضالنزعات العميقة الخاصة من قبيل حب الحسين(ع).

            المشكلة الثانية التي تواجهنا هي أنّ نيل هذه الرغبات يقتضيغضّ النظر عن بعض اللذائذ والأميال السطحيّة والتضحية بها. ولهذا فأوّل ما يبدأ الإنسان بالعبور عن هذه النزعات السطحيّةيواجه صعوبة، خاصة وأنه لم يذق طعم النزعات العميقة بعد، وقد تخلّى عن أهوائهالغريزيّة. فعليه أن يصبر في هذه المرحلة لينال غايته بالتدريج. ولكن ما يمنعالإنسان من التوفيق هو خوفه من «الحرمان من تلك، والفشل في هذه»، فلابدّ من الغلبة على هذا الخوف الكاذب، فقد بُعِثالأنبياء جميعا ليطمئنونا على أن هناك حقائق وبشارات، فاسعوا لها سعيها.


            يتبع إن شاء الله...

            تعليق


            • #36
              الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 9-3

              12ـ إن مخالفة الأميال السطحية بحاجة إلى «برنامج» والدين هو المرجع لإعطاء البرنامج/ لماذا لا يمكن جهاد النفس بلا برنامج؟

              إن مخالفة الأميال السطحيّة بحاجة إلى برنامج والدين يمنح الإنسان هذا البرنامج الجهادي. إن مجمل البرنامج الديني بشكل عام وفلسفة جميع الأحكام الدينية وحتى العبادات هو جهاد النفس.
              لماذا لا يمكن جهاد النفس بلا برنامج؟ إذ أن جهاد النفس ومخالفة الأهواء لا يعني رمي جميع النزعات الظاهرية والقضاء عليها! بل لا ينبغي ذبح هذه النزعات واستئصالها كما يجب تلبية بعضها أحيانا. فعلى سبيل المثال إن جعنا يجب أن نأكل، وإن بلغنا ورغبنا في الزواج علينا أن نتزوّج.
              فلو كان القرار أن نقضي على نزعاتنا السطحيّة والظاهرية جملة واحدة وأن نضحّي بجميع احتياجاتنا الابتدائية كالمرتاضين، لما كنا بحاجة إلى برنامج. وأساسا من صعوبات هذا البرنامج وتعقيداته هو أن لابدّ من تلبية بعض هذه الرغبات السطحيّة.

              13ـ من أهم خصائص حياة الإنسان هو العناء لا اللذة

              إن من أهمّ خصائص حياة الإنسان هو العناء لا اللذّة. يعني أن الأصل والأساس في حياتنا هو العسر والعناء؛ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فی‏ کَبَد)[البلد/4] وبالتأكيد إن هذا العناء لا يخلو من راحة ويسر؛ (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ یُسْرا)[الإنشراح/6] ولكن الأساس هو العسر. لم تكن الدنيا مهيأة لتجربة حياة ملؤها اللذة والهناء والراحة وأن لا مشكلة في هذا البين إلا أن نمرّ من احتياجاتنا السطحيّة مرور الكرام وثم نحصل على حياة ممتعة في هذه الدنيا، كلا! إذ قد عجنت ذات حياة الدنيا بالعسر والحرمان.
              يمكن تقسيم آلام الدنيا إلى قسمين؛ ثابتة ومتغيّرة. إن بعض الآلام ثابتة للجميع ولا مناص منها تقريبا. فعلى سبيل المثال قد فرضت طبيعة هذا العالم ألم المخاض على جميع النساء وهذا واقع لا مفرّ منه.

              يحاول الكثير من الناس أن يفرّوا بأوهامهم عن هذا الواقع وهو «أننا مضطرون إلى تحمل العسر والعناء»

              مع الأسف إن كثيرا من الناس غير مستعدين لاستماع وقبول حقيقة أن حياة الإنسان لا تخلو من العسر والعناء، كما لم يقتنع الكثير من الناس بحقيقة «أننا مضطرون إلى تحمل العسر والعناء». بما أننا لا نرغب في تحمل العسر والعناء، نؤمّل أنفسنا أن لا عسر إن شاء الله في حياتنا، في حين أنّ هذا الأمل وهمٌ محض. وقد بلغ امتداد هذه الأوهام إلى حدّ أننا أصبحنا لا نجرأ على ذكر قائمة الآلام والمحن الثابتة والمتغيرة في هذه الدنيا خوفا من طلّاب الراحة والدعة.
              إذن أصبح تعريف حياة الإنسان هو «العسر والجهاد» إذ قد انطوت ذات حياة الدنيا على العسر ولابدّ في هذا الخضمّ من مخالفة أهواء النفس وأميالها، فهذان عنصران متلازمان في تعريف الحياة.

              إن الآمال والأمانيّ النفسيّة تعمي الإنسان عن مشاهدة عسر الحياة ومشاهدة «الموت»

              يخدع كثير من الناس أنفسهم ويكذبون على أنفسهم ولا يريدون أن يشاهدوا حقائق الحياة. وكما قال أمير المؤمنين(ع): «الْأَمَانِيّ‏ تُعْمِي‏ عُیُونَ‏ الْبَصَائِرِ»[غررالحکم/الحديث1417].
              أحد أهم محاور مرارة الدنيا هو الموت. إن الالتفات إلى قضية الموت تفهّم الإنسان أن الحياة مرّة واقعا ولا تسمح لحلاوة الدنيا أن تأخذ مأخذها من قلب الإنسان. ولكن الأميال النفسانية والآمال الطويلة تعمي الإنسان عن مشاهدة عسر الحياة ومشاهدة الموت. لقد قال أمير المؤمنين(ع): «الْأَمَلُ‏ حِجَابُ‏ الْأَجَل»[عیون الحکم/ص43] وكذلك قال(ع): «الْأَمَلُ‏ سُلْطَانُ‏ الشَّیَاطِینِ عَلَى قُلُوبِ الْغَافِلِین»‏ّ[غررالحکم/الحديث1853]
              وقد قال رسول الله(ص): «إنّ آدمَ قَبْلَ أن یُصیبَ الذَّنْبَ کانَ أجلُهُ بینَ عَیْنَیْهِ و أملُهُ خَلْفَهُ، فلمّا أصابَ الذَّنْبَ جَعَلَ الله ُ أملَهُ بینَ عَیْنَیْهِ وأجلَهُ خَلْفَهُ، فلا یَزالُ یُؤَمِّلُ حتّی یَمُوتَ»[میزان الحکمة/الحديث756]

              14ـ مجمل حياة الإنسان عبارة عن: عسر + جهاد/ فلابد أن: 1ـ نعترف بمرارة الدنيا 2ـ نضيف إلى مرارتها مرارة جهاد النفس

              إن الأجل يمثل أحد أهم عناصر مرارة الدنيا، وهو ينغّص كل حلاوة الدنيا ولذائذها، فسلّم لهذه الحقيقة ولا تحاول مصارعتها. هذه هي حقيقة الدنيا فلا تخدع نفسك. ليس بإمكانك أن تخدع الدنيا فاعبر منها فإنك إن خضت في الدنيا وآمالها، تصطدم بأشواكها وسوف لا تجني منها إلا الخيبة والحسرة. فالحل هو أن تعبر من الدنيا فهيا تمتّع بهذا الطريق.
              الخطوة الأولى للالتذاذ والتمتع في الحياة الدنيا هو أن تعترف بأن الدنيا مرّة. بعد ذلك وبعد الاعتراف بمعاناة الحياة، لابدّ أن تخوض في معمعة أخرى وتوطن نفسك على مرارتها وهي ساحة جهاد النفس، فإن فعلت ذلك سوف تذوق حلاوة الحياة في هذه الدنيا قبل الآخرة. بهذا الأسلوب سوف تأتي الدنيا في قبضتك ويتسنّى لك أن تركب جَمَلها وتمسك بزمامها، لا أن تستحوذ عليك آمال الدنيا وأمانيها.
              إن تركنا الدنيا وأسقطناها من عيننا لما فيها من مرارات ومعاناة وجاهدنا أنفسنا، سوف يصل بنا الأمر إلى أن تأتينا الدنيا بنفسها وتعطينا زمام أمرها.
              فحصيلة الكلام هو هذا التعريف الموجز للحياة الدنيا، فهي عبارة عن: عسر وجهاد؛ العسر الذي تفرضه علينا الدنيا والجهاد الذي لابدّ لكل امرئ أن يمارسه مع أهوائه ونزعاته السطحيّة.

              والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

              تعليق


              • #37
                الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 10-1

                إليك ملخص الجلسة العاشرة من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ بناهيان في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» حيث ألقاها في ليالي شهر رمضان المبارك عام 1434هـ. في مسجد الإمام الصادق(ع) في مدينة طهران.

                لقد حاولنا في الجلسات الماضية أن نصل إلى برنامج لرشدنا وارتقائنا على أساس «واقع وجود الإنسان» يعني كيفية وجود الإنسان والغرض من خلقته، وكذلك على أساس «واقع الحياة الدنيا» وكيفية تصميمها. وقلنا إن المحور الرئيس في حركة وجود الإنسان هو «مخالفة أهواء النفس». فلابدّ للإنسان أن يتدرب على التضحية من البداية. لقد انطوى وجود الإنسان على رغبات مختلفة لا يمكن أن ينالها جميعا. وكذلك دنيانا هذه قد ملئت بالآلام والمحن وكثيرا ما تنغص حياة الإنسان. وحتى عندما تعطي الإنسان شيئا وتلبي رغبته في مورد ما، فإنما ذلك مقدمة لسلب ذاك الشيء وإذاقة مرارة الحرمان للإنسان.
                لم تصمّم الدنيا بهذا الشكل، بسبب زيادة قيمة المرارة على الحلا. ومن جانب آخر لا يلتذّ الله سبحانه بمعاناتنا، بل إن هذه المحن والمعاناة قد فرضت من أجل إنتاج القيمة المضافة وإحداث التغيير. إذ لابدّ ومن أجل إنتاج القيمة المضافة وإحداث التغيير أن ندع بعض ما نهواه ونشتهيه، وإلا فإن اتجهنا إلى ما نرغب، فلا أحدثنا تغييرا ولا أنتجنا قيمة مضافة.

                لماذا يجب التأكيد على العناء في هذا الدرب؟

                إذا أردنا أن نزداد ثمنا وتكون حركتنا ذا قيمة وثمن على خلاف النباتات والحيوانات والملائكة، لابدّ أن تجذبنا رغبة إلى ما هو عكس اتجاه الله من جانب، وتجذبنا رغبة أخرى إلى الله من جانب آخر.
                كلما نخالف أهواءنا السطحية، فقد خطونا خطوة قيّمة إلى الله سبحانه. وبما أن هذه المخالفة سوف تحدث دائما في حياتنا، ولابدّ أن تحدث فإذن نحن في معاناة مستمرة في هذه الحياة الدنيا وفي حركتنا إلى الله سبحانه.
                لماذا يجب أن نؤكد على العناء في هذا الدرب؟ لأن الإنسان ولشدّة حبّه للراحة والدعة واللذة، يزعم أنه سوف يصل إليها في هذه الدنيا، فيؤدي به هذا التوهّم إلى غير صواب. فمن أجل أن لا يقع الإنسان في هذا الفخّ، لابدّ أن يدخل عنصر العناء والألم في تفكيره ومنظومته الفكريّة. فلا يجب أن نتحدث عن فوائد الالتفات إلى موضوع العناء والتسليم للعناء وقبوله وحسب، بل لابد أن نأخذ بعين الاعتبار أضرار إهمال هذا الموضوع أيضا.

                ما هي أخطار عدم توطين النفس على المعاناة؟ 1. القعود عن درب الحق الحافل بالمعاناة في المراحل النهائية

                إن لم يحلّ أحد لنفسه قضية المعاناة في الدنيا، ولم ينطلق في حركته من موضوع العناء ولم يصحبه في الطريق، فإنه حتى وإن كان إنسانا صالحا، يحتمل أن يكون صلاحه ظاهريا وحتى قد يصبح إنسانا خطرا. إن بعض المتدينين قد تحملوا العناء في ديانتهم وفي أداء طقوسهم الدينية، ولكنهم لم يوطّنوا أنفسهم على أصل العناء في الحياة الدنيا، فأصبحوا يتربّصون الأيّام ليحصلوا على الراحة في الدنيا ولو عن طريق الدين.
                لماذا وقف الخوارج أمام أمير المؤمنين(ع) مع أنهم كانوا قد قضوا حياتهم في تحمل عناء الزهد والعبادة؟! لأنهم لم يوطنوا أنفسهم على قبول أصل العناء، فما إن فرضت عليهم محنة جديدة من قبل أمير المؤمنين(ع)، لم يطيقوها وشهروا السلاح على أمير المؤمنين(ع). فإن لم يوطّن الإنسان نفسه على تحمل الصعاب والمعاناة في الدنيا بشكل عام، قد يعجز عن مواصلة الطريق في المراحل المتقدّمة.
                وكذلك نجد للمعاناة موقعا خاصّا في حياة النبيّ إبراهيم(ع)، فإنه قد عانا ما عانا من المحن والآلام حتى نال مقام النبوّة، وحتى بعد نبوّته لم يسلم من المحن والآلام. ثم تحمّل العناء والألم سنين حتى رزقه الله ولدا، ثم عانا في تربية ولده وبناء الكعبة مع ولده. ثم بعد كل هذا العناء الطويل، أمره الله أن يقدم ولده قربانا! فيا ترى إلى أين يصل الإنسان في تحمل العناء؟! فمن لم يوطّن نفسه على تحمل «أصل العناء» في الدنيا، يعيى عن المواصلة ويقعد عن الطريق في أواخر المطاف.

                يتبع إن شاء الله...

                تعليق


                • #38
                  الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 10-2

                  لابدّ أن نعلم أن العناء مستمر معنا إلى آخر العمر

                  لماذا كل هذا التأكيد في الروايات على حسن العاقبة؟ إذ بقدر ما يعاني الإنسان من أجل الدين والعبادة يزداد خطر سقوطه. من اتقى ونهى نفسه عمرا طويلا، فإن لم يكن قد حلّ قضية المعاناة لنفسه، فهو في معرض الخطر أكثر من غيره، إذ يصبح مدّعيا ويشعر بأنه دائن وطالب بما قدمه من عناء، فإذا أراد الله أن يضيف إلى معاناته محنة أخرى، لم يعد يطيق ويعيى عن مواصلة الطريق. وما أكثر الذين قعدوا عن الطريق وارتدوا عن درب المعاناة في سبيل الله.
                  إن بعض الناس وبعد مدة من المعاناة في سبيل الله يسأم من العناء. فمن هذا المنطلق، أحد أسباب ضرورة الاهتمام بموضوع المعاناة، هو أن لا تملّ من المعاناة لطولها واستمرارها، فإنك إن لم توطّن نفسك على استمرار المعاناة في الدنيا قد تعجز عن المداومة وترجع عن الطريق.
                  لقد قال الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَ مِنْهُم مَّن یَنتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِیلًا)[الأحزاب/23]. فتدلّ هذه الآية على أن منتظري الشهادة هم في مرتبة الشهداء، إذ قد استقاموا على نهج الشهداء إلى آخر حياتهم. فالمهمّ هو الاستقامة حتى الموت، إذ أن القيمة التي قد أعطاها الله لفئة من المؤمنين ليست بسبب استشهادهم، بل بسبب بقائهم على العهد؛ فمنهم من قضى نحبه أي استشهد ومنهم من ينتظر.
                  لماذا أفرز الله هؤلاء المؤمنين عن غيرهم في هذه الآية؟ لأن ليس كل المؤمنين مستقيمين على طريقهم وليس كلهم يطيقون معاناة هذا الدرب حتى نهايته. حتى أن كثيرا من المجاهدين في صدر الإسلام قد انحرفوا عن الطريق بعد طول جهادهم بين يدي رسول الله(ص)، إذ قد يسأم الإنسان المعاناة في سبيل الله بعد مدة، ولعله يشعر بالطلب من الله. فيقول: «إلى متى نعاني من المحن والمشاكل؟ فهل عملنا قبيحا إذ اتقينا الله وسلكنا سبيل دينه وجاهدنا في سبيله؟ ثم بعد كل ذلك لابدّ أن نعاني مرة أخرى؟!»
                  بعد أن عانا الإنسان من محنة، لابدّ أن يجرّب محنة على مستوى أعلى. إن عالم المعاناة والمحن في هذه الدنيا يشبه مراحل العلاج الطبيعي، إذ أن العلاج الطبيعي لا يؤلم كثيرا في بادئ الأمر، وتظهر آلامه الشديدة في المراحل النهائية. وهكذا سبيل الدين، إذ لا يعاني الإنسان كثيرا في أوائل الطريق.
                  إذا أراد الله سبحانه أن يحصي المسلّمين لقضائه لا ينظر إلى الناس ليرى من المسلّم، بل يمتحن الناس على الدوام ويبتليهم بأنواع الشدائد والمحن ليرى هل قد سلّموا واقعا أم لا؟ حتى أن الإمام الحسين(ع) في آخر لحظات حياته وفي حفرة المذبح ناجى ربه وعبر أنه ما زال مسلّما: «إلهي... تسليما لأمرك»، ويا ترى هل بقيت مصيبة لم ينزلها الله على الإمام الحسين(ع)؟

                  ما هي أخطار عدم توطين النفس على المعاناة؟ 2. عدم القفز من الموانع والمرور من جنبها طلبا للراحة

                  الدليل الثاني على ضرورة توطين النفس على المعاناة، هو أنه إن لم يوطن الإنسان نفسه على تحمل المعاناة، عند ذلك بدلا من أن يقفز من الموانع، يمرّ من جنبها بلا مغامرة ومن وحي طلب الرّاحة. إن بعض المسلمين قد عاشوا تحت ظل الإسلام عمرا طويلا ولكنّهم عملوا بالإسلام بدهاء وشيطنة، إذ كلما اقتضى دينهم شيئا من المحنة والمعاناة، التفّوا حولها ومرّوا منها كراما. يعني أنهم قد انتقوا من الدين ما طاب لهم ولم يصطدم براحتهم، أما إن أراد الله منهم أن يجاهدوا أنفسهم ليعانوا في هذا الدرب، تركوا ما أراد الله ومرّوا منه. فإننا إن نمرّ من جانب الموانع بلا معاناة بدلا من أن نقفز عليها، لكي نريح أنفسنا من عناء جهاد النفس، فقد أعدمنا فرص رشدنا في الواقع.

                  إن بعض الناس يلتزم بالدين ما لم يطالبه بمخاطرة أو مغامرة

                  إن بعض الناس غير مستعدين على المخاطرة والمغامرة في الدين، ولهذا فإنهم لا يتخذون موقفا يلامون أو يهانون به، وبعبارة أخرى إنهم مواظبون على أن لا يواجهون مشكلة أو مصيبة في ديانتهم. طبعا لابد أن نعلم أن الله يبتلي الناس ويمتحنهم بحسب قابليتهم. وعلى أي حال إذا كان الإنسان قد وطن نفسه على تحمل العناء في الحياة الدنيا لن يتورط بهذا النمط من التديّن.
                  كان محمد بن مسلم إنسانا محترما وثريّا. ذات يوم قال الإمام الباقر له: تواضع، فقبل هذا الرجل نصيحة الإمام. لعله بدأ يفكر ويبحث عن ثغرات دينه التي جعلت الإمام يشير عليه بالتواضع. ولعلّه خرج بنتيجة أنه ما زال لم يقلع الكبر من قلبه، وأن لابدّ من وجود مانع وإلا لكان المفترض أن تصلح صلاته كلّ الشيء. رجع إلى الكوفة وأخذ سلة من تمر وميزانا وجلس على باب المسجد وبدأ يبيع التمر بصوت عال. فجاءه قومه وأبناء عشيرته وقالوا له: لقد أخزيتنا وشوّهت سمعتنا، فما هذا العمل؟... عن أبی النَّصرِ: «سَألتُ عبدَ الله ِ بنَ محمّدِ بنِ خالدٍ عَن محمّدِ بنِ مُسلمٍ فقالَ : کانَ رجُلاً شَریفا مُوسِرا ، فقالَ لَهُ أبو جعفرٍ علیه السلام : تَواضَعْ یا مُحمّدُ، فلَمّا انصَرَفَ إلَى الکوفَةِ أخَذَ قَوصَرَةً مِن تَمرٍ مَع المِیزانِ ، و جَلَسَ على بابِ مَسجِدِ الجامِعِ و صارَ یُنادی علَیهِ، فأتاهُ قَومُهُ فقالوا لَهُ : فَضَحتَنا! فقالَ : إنّ مَولای أمَرَنی بأمرٍ فلَن اُخالِفَهُ ، و لَن أبرَحَ حتّى أفرَغَ مِن بَیعِ ما فی هذهِ القَوصَرةِ . فقالَ لَهُ قَومُهُ : إذا أبَیتَ إلاّ أن تَشتَغِلَ بِبَیعٍ و شِراءٍ فاقعُدْ فی الطَّحّانِینَ ، فهَیّأَ رَحىً و جَمَلاً و جَعلَ یَطحَنُ» [الاختصاص/51].

                  يتبع إن شاء الله...

                  تعليق


                  • #39
                    الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 10-3

                    إن ديانة الإنسان الفارّ من المعاناة ديانة بلا فائدة

                    إنّك إن لم تحل قضية المعاناة لنفسك، قد تكون متديّنا ولكن يفرغ دينك من مضمونه وأثره في ترقيتك. فيا ترى ما كنا نفعل لو كنا في مقام محمد بن مسلم وكنّا قد واجهنا الإمام بهذه النصيحة؟ لعلنا كنا نقول: نعم، لابدّ من التواضع. وحسبنا من التواضع هو هذه الابتسامة التي نوزعها على الناس. وهذا يعني المرور من جانب المانع وعدم القفز منه.
                    طبعا وبالتأكيد ليس طريق التواضع هو ممارسة الأعمال الرديئة دائما ولا أريد أن أنصحكم بممارسة هذه الأعمال، إذ يختلف دواء الناس باختلاف دائهم فكلٌ بحسبه. ولكن حاولوا أن لا تفروا من المحن والابتلاءات التي يقدرها الله لكم ولا تلتفوا حول ابتلاءاتكم. إن الله يمتحن مختلف الناس بمختلف الابتلاءات والمصائب فلابدّ أن توطّن نفسك على البلاء والعناء. وكذلك لابد أن توطّن نفسك على معاناة سحق الهوى والشهوات.
                    رضوان الله على الشهيد شمران إذ كان قد وعى حقيقة المعاناة بكل وجوده ورحب صدره لأنواع البلاء. لقد جاء في كتاباته: «أنا أعتقد أن الله العظيم يثيب الإنسان بقدر المعاناة التي عاشها في سبيله، وأن قيمة كل إنسان بقدر ما تجرعه من ألم وعناء في هذا السبيل وأرى أن أولياء الله قد ابتلوا بالبلاء والألم والمحنة في حياتهم أكثر من أي أحد». ثم كتب هذا الشهيد العظيم مخاطبا ربه: «إلهي أشكرك إذ عرفتني على الفقر لكي أعيش ألم الجائعين وأشعر بمحنة المحتاجين. إلهي أشكرك إذ قد صببت عليّ أمطار التهم والشتم والافتراءات لكي أغرق في عواصف الظلم والجهل والتهمة الموحشة، وينمحي صوتي المنادي بالحق أمام زئير طوفان الأعداء وعواصفهم، فيحتضنني الألم والبلاء ويفتح عليّ نوافذ فطرتي حتى أشعر بمعاناة عليّ(ع) بأعماق روحي».

                    أحد الآلام التي يفرضها الله عل الناس هو الموت

                    أحد الآلام التي فرضها الله علينا هو الموت. فيا ترى لماذا قد أحاط الله الموت بهالة من الشدّة والوحشة والدهشة بحيث يهدم ذكره جميع اللذات؟! لأنه أراد أن تعيش مع ذكر الموت في حياتك كلّها ولا تنساه. لقد قدّم الله تعالى الموت على الحياة وقال: (الَّذي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياة)[الملك/2] فكأن الله قد خلق الموت قبل خلق الحياة، وكأنه قد قدّر للناس الموت قبل أن يقدّر لهم الحياة.
                    إن ذكر الموت يمثّل أحد أهم الأساليب التربويّة في الإسلام كما قال رسول الله(ص): «کفَی بِالمَوتِ واعِظاً»[الكافي/ج2/ص275] فلا تنسوا الموت وتجرعوا مرارة ذكره، فإن كثيرا من الروايات قد دعتنا إلى هذا الأسلوب التربوي وهو هدم اللذات عبر ذكر الموت وتجرع مرارة ذكره. فهل قد رأيت من يلاقي حتفه أمامك؟ وكم قد شيعت من إخوانك وأنزلت جسدهم في القبر؟ ويا ترى لماذا كل هذا التأكيد على ذكر الموت في رواياتنا؟ وكم له من تأثير إيجابي على النفوس؟ ولماذا جاء هذا التأثير؟
                    استمعوا هذه الرواية الرائعة المروية عن الإمام الصادق(ع) وتأملوا فيها. قال(ع): «ذِکْرُ الْمَوْتِ‏ یُمِیتُ‏ الشَّهَوَاتِ فِی النَّفْسِ وَ یَقْطَعُ مَنَابِتَ الْغَفْلَةِ وَ یُقَوِّی الْقَلْبَ بِمَوَاعِدِ اللَّهِ تَعَالَى وَ یُرِقُّ الطَّبْعَ وَ یَکْسِرُ أَعْلَامَ الْهَوَى وَ یُطْفِئُ نَارَ الْحِرْصِ وَ یُحَقِّرُ الدُّنْیَا وَ هُوَ مَعْنَى مَا قَالَ النَّبِیُّ ص فِکْرُ سَاعَةٍ خَیْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ وَ ذَلِكَ عِنْدَ مَا تَحُلُّ أَطْنَابَ خِیَامِ الدُّنْیَا وَ تَشُدُّهَا بِالْآخِرَةِ وَ لَا یَسْکُنُ نُزُولُ الرَّحْمَةِ عِنْدَ ذِکْرِ الْمَوْتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَ مَنْ لَا یَعْتَبِرُ بِالْمَوْتِ وَ قِلَّةِ حِیلَتِهِ وَ کَثْرَةِ عَجْزِهِ وَ طُولِ مُقَامِهِ فِی الْقَبْرِ وَ تَحَیُّرِهِ فِی الْقِیَامَةِ فَلَا خَیْرَ فِیهِ»[مصباح الشريعة/171].

                    من آثار ذكر الموت رقة الطبع/نصيحة للفنّانين

                    إن الفنانين معروفين برقّة الطبع، وقد أعطت هذه الرواية وصفة لرقة الطبع وهي ذكر الموت. فإذا أراد فنان أن يزداد طبعه رقّة عليه أن يكثر من ذكر الموت ويقضي بعض وقته في المقابر! هذه نصيحة صادقة وصريحة جدّا للفنانين. كان المجاهدون في الجبهة يذكرون الموت كثيرا، حتى كانوا يحفرون قبرا لهم في الصحراء ويتعبدون فيه في جوف الليل، كانوا يسجدون فيه وينامون فيه ويبكون فيه. ثم كانوا يرجعون من قبرهم وكأنهم وردة من شدة لطافتهم ورقّتهم. فإذا سالتني: من أين حصل على هذه الرقة واللطافة، أقول: قد أخذها من ذلك القبر الذي بات فيه يبكي إلى الصباح. إن كنت ترى أحدهم لرأيته رؤوفا بالجميع ومتفائل بالخير وله جميع الصفات والحسنات التي تبحث عنها أنت. لقد حظى بجميع تلك الخصال الرائعة حتى بلغ درجة تصدير الصفات والتأثير على غيره. وقد نال كل ذلك بذكر الموت وتجسيم الموت. فانظر إلى أثر ذكر الموت التربوي على النفوس وهو أحد مصاديق الألم والعناء في هذه الدنيا. فإن أردت أن تطوّر نفسك بمعزل عن هذا المنهج تضيع في متاهات.

                    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                    تعليق


                    • #40
                      الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 11-1

                      إليك ملخص الجلسة الحادية عشر من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ بناهيان في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» حيث ألقاها في ليالي شهر رمضان المبارك عام 1434هـ. في مسجد الإمام الصادق(ع) في مدينة طهران.

                      لا أصالة للعناء ولكنه ضروري لجهاد النفس وإنتاج القيمة المضافة

                      إن طريق حركتنا الرئيس على أساس خصائص الإنسان والحياة، هو جهاد النفس. فإنّكم عندما تسيرون في درب الدين والكمال والأعمال الصالحة، طريقكم الرئيس هو مخالفة الأهواء بطبيعة حال الحياة وبمقتضى خصائص الإنسان. إن مخالفة الأهواء والرغبات سواء أكانت عبر الأوامر والتكليف أم كانت عبر الفرض والتقدير فهي ما نسميه بالعناء. وهو ما لا تخلو حياتنا منه وإن لم تخل من النّعم واليسر أيضا. إن طريقنا هو طريق جهاد النفس ولا أصالة للعناء، ولكنّه أمر لابدّ منه في عمليّة جهاد النفس. لا يخفى أن العناء الذي يحصل عبر جهاد النفس من خلال البرنامج الإلهي يختلف عن كثير من المعاناة الأخرى، وبودّي أن أسلّط الضوء في هذه الجلسة على هذا الموضوع.
                      لا أصالة للعناء، ولكنّنا قد خلقنا من أجل إنتاج القيمة المضافة وهذا ما يحتاج إلى جهاد النفس، وجهاد النفس لا ينفك عن العناء.

                      عادة ما يصطدم الإنسان بمشاكله دون نعمه، فلابد أن يحدّد موقفه تجاه العناء

                      من بين التكاليف الإلهية قد ينسجم هوانا مع بعض الأوامر والنواهي ولكن الأساس في الأوامر والأعمال الصالحة التي لها دور رئيس في رشدنا هي تلك الأعمال التي لا تنسجم مع هوانا. كما أن العامل الحاسم في تعيين مقامنا من الله سبحانه وتعالى هو الصبر والرضا في المعاناة التي نعيشها في حياتنا، وليس ساعات الراحة واللذة في حياتنا. طبعا لا شك في أن المسرات واللذات طبيعية ولا تخلو منها الحياة ويجب أداء شكرها في المقابل، ولكن أساس العمل الصالح هو المعاناة في سبيل الله. لماذا؟
                      من جانب يقول الإمام الصادق(ع): «جُبِلَتِ الْقُلُوبُ ‏عَلَى ‏حُبِّ‏ مَنْ ‏یَنْفَعُهَا وَ بُغْضِ مَنْ أَضَرَّ بِهَا»[الكافي/ج8/ص152]. ومن جانب آخر، من طبائع الإنسان هي أنه ينسى مئات النعم، ولكنه يجعل الألم الصغير وقصير الأمد نصب عينيه. وعليه فإذا منّ الله على الإنسان بمئات النعم ووسائل اليسر، ويبتلى معها بعلّة واحدة، يلتفت عن كل نعمه ومسراته إلى تلك العلّة الواحدة. ولهذا فإن خلي الإنسان مع ربّه ليصارحه عن ما في قلبه، قد يضع كل نعمه ودواعي يسره إلى جانب ويعاتب الله لعلة واحدة أو مصيبة واحدة أصابه بها في حياته!
                      بعبارة أخرى، عادة ما يصطدم الإنسان بمصائبه ويلتفت إليها دون النّعم، ولهذا ومن أجل أن يقدر على السير في هذا الدرب بنجاح، لابدّ في بداية الأمر أن يحدّد موقفه تجاه العناء. فإن كانت نفسك تبحث عن مفرّ من العناء في هذه الدنيا، فهذا وهم باطل وإنك مخطئ في حساباتك. فلابدّ أن نخاطب نفسنا الفارة من العناء ونقول لها بصراحة: إن الحياة غير منفكة عن المعاناة، وإن السّلوك نحو الله سبحانه وتعالى هو صعود وتسلّق عبر طريق مرتفع صعب، وليس بطريق معبد منحدر.

                      لا نفرّ من الدين بغية الفرار من معاناة التكليف والتقدير فلا فائدة منه

                      إن طريقنا الرئيس هو جهاد النفس، وأهم قضية تواجهنا في مسار هذا الجهاد هو العناء. فلابدّ أن نحدد موقفنا تجاه العناء ونقبل بوجود أصل العناء ونوطن أنفسنا على مواجهة مختلف المعاناة ولا نفرّ من الدين بغية الفرار من المعاناة إذ لا فائدة منه.
                      ولابد أن نعلم أن جميع الناس يعانون من مشاكل. فإن وجدنا أحدا يبتسم ولم تبد على ملامحه غبار المصائب فليس ذلك لقلّة معاناته، بل بسبب أنه أكثر صبرا ولعله يسعى لحفظ الظاهر أو أنه إنسان عاقل وفاهم. على أي حال لابدّ لنا أن نحدّد موقفنا تجاه العناء.
                      لا ينبغي أن ننسى الآلام والمعاناة بل يجب أن نشاهدها بعين مفتوحة، وإلا تخرب عمليّة جهاد النفس ونتهرّب عن المعاناة التكليفية والتقديرية. ثم إن هذا التهرّب لا يرتبط في أكثر الأحيان بقلّة الإيمان. فعندما يواجه الإنسان بعض الناس ممن لم يلتزم بالدين جيدا، قد يقول له: «كن مؤمنا» في حين أنه مؤمن بالفعل ولكنه ليس من أهل تحمّل العناء. إنه مؤمن ولكن قد أخبروه بخبر كاذب فتوّهم أن يوجد مجال في هذه الدنيا لا عناء فيه وهناك طريق مفرّ منه.

                      إن لم نتعامل مع العناء بالشكل الصحيح، تزدد معاناتنا في الحياة

                      إن لم نتعامل مع العناء بشكل صحيح، تزدد معاناتنا في الحياة. وقد أشارت روايات كثيرة إلى هذه الحقيقة. روي عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: الجَزَعُ أتْعَبُ مِن الصَّبرِ[غرر الحکم/5620] وقال(ع): «الجَزَعُ عندَ المُصیبَةِ یَزیدُها، و الصّبرُ علَیها یُبیدُها»[غررالحکم/2043] وقال(ع) في رواية أخرى: «لا تَجْزَعوا مِن قلیلِ ما أکْرَهَکُم، فیُوقِعَکُم ذلکَ فی کثیرٍ مِمّا تَکْرَهونَ»[غررالحکم/5638] وكذلك روي عن الإمام الكاظم(ع) أنه قال: «المُصیبَةُ للصّابرِ واحدَةٌ ، و للجازعِ اثْنَتانِ»[تحف العقول/414].

                      يتبع إن شاء الله...

                      تعليق


                      • #41
                        الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 11-2

                        إن لم نتعامل مع العناء بشكل صحيح، لم نشكر النعم

                        إن لم نتعامل مع العناء بشكل صحيح، تتبلور مشكلة أخرى وهي أننا سوف لا نشكر النعم. إن الله سبحانه يعلم أننا أناس نسلّط الضوء على مصيبة واحدة وننشغل بها عن مشاهدة آلاف النعم، ولكنه مع ذلك يستنكر علينا هذا السلوك أن لماذا لا تلتفتون إلى النّعم! (أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً)[اللقمان/20]
                        ولكن لا يقدر أحد على مشاهدة النعم جيدا إلا أن يكون قد وطّن نفسه على المعاناة في الحياة الدنيا، فمثل هذا يقدر على مشاهدة النعم. وإلا فما إن نبّهت أحدا على نعمة من أنعم الله، يلتفت عنها إلى إحدى مصائبه، فتعمى عينه عن مشاهدة أنعم الله. فمثل هذا الإنسان عاجز عن مشاهدة نعمة الله ورأفته ورحمته وكرمه.
                        أخي العزيز! أكرّر مرة أخرى أن العناء الذي نتحدث عنه لا أصالة له ولكنه أمر لابدّ منه لإنتاج القيمة المضافة التي لا تتمّ إلا عبر جهاد النفس، وجهاد النفس مصحوب بالعناء غير منفكّ عنه. فاقبل هذه الحقيقة لتصبح الدنيا جنة لك. فإنك إن رأيت إلى المعاناة كقاعدة لابدّ منها في هذه الحياة عندئذ تقف حائرا من جمال الدنيا ومغتبطا من كثرة الفرص التي يعطيها الله لعباده ومدى رأفته وكثرة نعمائه.
                        إنك ما لم توطّن نفسك على المعاناة وما لم تحل لنفسك قضية العناء وما لم تعجن هذه المسألة لنفسك لن ترى أنعم الله سبحانه. فانظر كم قد أراحك الله في الدنيا من آلامها وأعطاك الفرص فيها. صحيح أن العسر من قواعد هذه الدنيا ولكن بتأكيد مؤكّد يقول الله لكم: (فإنَّ معَ العُسرِ یُسراً * إنَّ معَ العُسر یسراً)[الانشراح/5ـ6]. تمرّنوا أيها الإخوة على مشاهدة النعم الإلهية وعلى رؤية الفرص والمُهَل وعلى مشاهدة رأفة الله وتنازله عن فرض كثير من المحن. إنه إله عظيم وهو الذي يكشف عنا السوء والبلاء على رغم قواعد هذه الدنيا، فكأنه يرقّ قلبه علينا فلا يسمح للبلايا والمصائب أن تنهال علينا بتمامها.

                        متى يمتلئ قلبنا بمشاعر الشكر لله؟

                        لعلكم تقولون: لقد أرعبتنا في الليالي الماضية بحديثك عن المعاناة، وإذا بك الآن تقول: إن الله لا يرضى بفرض كثير من العناء علينا! فأقول لكم: إن تعجنوا قضية العناء في قلوبكم جيدا، سوف تمتلئ أدعيتكم ومناجاتكم بشعور الشكر لله. وسوف لا ترون سوى لطف الله عليكم ورأفته بكم. فإن تنظروا إلى هذه الأبحاث جيّدا، تجدوا أنها تفتح علينا خير أبواب الجنان. إنّ فهم الشكر منوط بفهم قاعدة العناء والمحن في هذه الدنيا وأن القرار هو أن نُبتلى بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ثم نجد أن حياتنا لم تكن بهذه الصعوبة والعناء، وقد منّ الله علينا بأنعم جمّة وأنه قد صحب العسر بكثير من اليسر. وهذه المشاهدة تملأ قلوبنا شعورا بالشكر والامتنان لله عز وجل.

                        لقد خفف الله علينا المعاناة «التقديرية» و«التكليفية»

                        إن مقتضى قاعدة الدنيا هي أن نصاب فيها بآلام ومحن كثيرة، ولكن الله قد خفف علينا المعاناة في كلا النوعين منها:
                        1ـ في ما يرتبط بعالم التكوين والتقدير، قال الله سبحانه وتعالى: (فإنَّ معَ العُسرِ یُسراً) فقد صحب الله العسر المقدَّر لنا باليسر.
                        2ـ وكذلك في التكاليف أيضا لا يريد الله أن يشقّ علينا بل أراد أن يخفّف علينا عناء التكليف. ولهذا بعد ما يأمرنا بتكليف صيام شهر رمضان، يُعفي من كان مريضا أو على سفر ثم يقول: (یُرِیدُ اللَّهُ بِکمُ الْیُسرَ وَ لا یُرِیدُ بِکمُ الْعُسرَ)[البقرة/185]يعني يريد الله أن يتساهل معكم، لا أن يشقّ عليكم ومن هذا المنطلق قد أعفا المسافر عن الصيام. فقد عبّر الله عن سبب الإعفاء كقاعدة عامّة، ولم يكن في مقام التوجيه أو استغلال الفرصة للدعاية! فإن لم ير أحد هذا اللطف والإحسان من قبل الله، فذلك بسبب أنه لم يحلّ قضية العناء لنفسه ولم يوطّن نفسه على تحمل العناء.
                        وفي مقام آخر، بعد ما يأمر الله بالوضوء قبل الصلاة، يخفف على من تعذر أو صعب عليه الوضوء فيقول: (وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‏ أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيِّبا)[المائدة/6] بعد ذلك يعلل هذا التساهل ويقول: (ما یُریدُ اللَّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لکِنْ یُریدُ لِیُطَهِّرَکُمْ وَ لِیُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَیْکُمْ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ) [المائدة/6]

                        إن ضجرتُ من المعاناة ولم أشكر النعم فإنني أعبد هواي ولا أعبد الله

                        من لم يكن من متحملي الصعاب والمعاناة، فإنه في الواقع إنسان أنانيّ، ولم يعبد الله بعد. لابدّ أن يبتلینا الله بمختلف المصائب ويفرض علينا المعاناة لتزول نزعة «الأنا» من قلوبنا ویحل محلها «الله». ما هي رؤيتنا عن عبادة الله؟ وأي شعور هي؟ لا يمكن أن يكون الإنسان موحّدا ومشركا في نفس الوقت، بحيث يعبد الله ويعبد نفسه. لابدّ أن تموت «أنا» الإنسان لتحلّ محلها عبادة الله. وإنّ هذا الشرك الذي نتحدث عنه هو الشرك الخفي الذي لا يرى بسهولة كما روي عن رسول الله(ص): «الشِّرْكُ فِي أُمَّتِي أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ‏ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاء»[عوالي اللئالئ/ج2/ص74]. فإن ضجرتُ من المعاناة ولم أشكر النعم فإنني أعبد هواي ولا أعبد الله.

                        إن لم تكن أنانيّا ووطنت نفسك على العناء، سوف ترى رحمة الله ورأفته خلف المحن التي فرضها عليك

                        إن لم تكن قد وطّنت نفسك على المعاناة، لا ترى رحمة الله ورأفته، وكذلك لا ترى إمهالاته ونعمه. هل قد رأيتم دموع عين الأمّ عندما يحقن الطبيب طفلها؟ صحيح أن الطفل يتألم بالإبرة ولكنها نافعة له. ومع أن الأم تعلم مدى ضرورة هذه الإبرة لعلاج طفلها ولكنها لا تتحمل صراخ الطفل وتبكي لبكاء طفلها. فإن لم ير الطفل سوى وجعه ولم ير دموع أمه، قد لا يشعر بحنان أمّه وحتى قد يتهجّم عليها إذ قد ألقته بيد الطبيب.
                        فإن لم تكن أنانيّا ترى رأفة الله وشفقته الخاصة خلف المحن التي فرضها عليك. كذلك ترى رحمة الله في ذروة جوعك وعطشك أثناء الصيّام. فما روي أنه: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْیَبُ عِنْدِی مِنْ رِیحِ الْمِسْک»[من لا یحضره الفقیه/ج2/ص76]‏ فهو في الواقع يحكي عن رأفة الله وشفقته. فإن استطعت أن تنظر إلى عين الله المشفقة أثناء معاناة صومك، عند ذلك تودّ لو كان شهر رمضان في الصيف كلّ عام.

                        يتبع إن شاء الله...

                        تعليق


                        • #42
                          الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 11-3

                          إن طريق «إدراك رأفة الله» هو أن تعرف أنك قد جئت إلى الدنيا للعناء، ولكن الله قد خفف عليك

                          إسألوا الله في ليالي شهر رمضان أن تصبحوا شاكرين. إن الله رؤوف رحيم، أما طريق إدراك رحمة الله، هو نفس الطريق الذي ذكرناه في مجال إدراك الصعاب والمعاناة. وهو أن يعرف الإنسان بأنه قد جاء إلى الدنيا لتحمل العناء ولكن الله قد خفّف عليه. یقول الله سبحانه وتعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) فاسأله وقل: «أين هذا الكبد يا رب؟! وأين هذا العناء الشديد الذي تحدثت عنه؟! إذ قد أحطت حياتنا بالنعم والخيرات.» وإنك لا تستطيع أن تخاطب ربك بهذه الكلمات إلا بعد أن عجنت قضية العناء لنفسك.

                          كيف نكسب الأجر في المحن والصعاب؟

                          بإمكاننا أن نكسب الأجر بأدنى عناء نتحمله في هذه الدنيا. فعلى سبيل المثال نحن نحب الكد والسعي في سبيل الله، ولكننا نتعب ونحتاج إلى النوم، وهذا ما يؤلم الإنسان ولهذا يعوّض الله عنه. فمن هذا المنطلق من ينظر إلى النوم كمانع بينه وبين العمل في سبيل الله ويتألم منه يؤجر ويثاب.
                          وقد ذكرت روايات عديدة أن الحمى والمرض كفارة الذنوب. فعلى سبيل المثال يقول الإمام الصادق(ع): «حُمَّى لَیْلَةٍ کَفَّارَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَ لِمَا بَعْدَهَا»[ثواب الأعمال/ص193] وقال رسول الله(ص): «السُّقْمُ یَمْحُو الذُّنُوبَ»[مستدرک الوسائل/ج2/ص65].
                          انظروا إلى رأفة الله إذ كم يعطينا من الثواب بأدنى ألم ومرض. إنه رؤوف رحيم فإن قدر لنا بعض المعاناة في هذه الدنيا، يعوض عنها بمختلف الأساليب. وأحيانا يقدر الله بلاء لينزل على عبده، ولكنه يبحث عن ذريعة لصرف البلاء عنه. ولهذا ما إن تدعو الله أو تعمل عملا صالحا يصرف عنك البلاء. كما روي عن الإمام الصادق(ع): «مَنْ قَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ سَبْعِينَ مَرَّةً صَرَفَ‏ عَنْهُ‏ سَبْعِينَ نَوْعاً مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاء»[الكافي/ج2/ص521] وروي عن رسول الله(ص) أنه قال: «مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ مِنْ شَعْبَانَ صُرِفَ‏ عَنْهُ‏ سَبْعُونَ لَوْناً مِنَ الْبَلَاء»[أمالي الصدوق/ص23]

                          إن محن الدنيا كالمعاناة في الحلم، فلا تبال بها كثيرا

                          إن الابتلاءات والمعاناة التي نقاسيها في هذه الدنيا عابرة وسرعان ما تنتهي. فإياكم أن تضجروا منها فإنها تمرّ كلحظة العين. إن هذه المعاناة التي تعيشونها في حياتكم هي أشبه شيء بالمحن التي ترونها في الحلم. فإن شاهدتم في منامكم حلما مرعبا، بمجرد أن تستيقظوا من منامكم، تبتسمون وتتنفسون الصعداء، إذ كل تلك المحن كانت حلما. وكذلك عندما تفارقون الدنيا سوف تقولون: «لقد مرت عليّ محن الدنيا وآلامها كالحلم، ولكن كم كنت أحملها على محمل الجدّ». لقد روي عن أمير المؤمنين(ع) حيث قال: «النَّاسُ‏ نِيَامٌ‏ فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا»[عیون الحکم والمواعظ/ص66]

                          اخضع للعناء لكي لا تراه/ اخضع للعناء لكي ترى الرخاء

                          اخضع للعناء لكي لا تراه. اخضع للعناء لكي ترى الرخاء والسراء. إن جمال خلق الإنسان مرهون بمعاناته، فاخضع لهذه القاعدة واقبل بأنك قد خلقت للعناء، عند ذلك سوف ترى أن المحن والابتلاءات تزول من أمام عينك بالرغم من وجودها. فإن تبدّل زاوية رؤيتك سوف تقول: «کانت حياتي كلّها هناء وسعادة، فلماذا لم أكن راضيا عنها!» فاخضع لقاعدة العناء لكي لا تعميك المصائب. وارضَ بالبلايا واستعدّ لها.

                          انظر إلى من هو أشدّ حالا منك

                          إن أحد أساليب التعامل مع المعاناة هو أن تنظر إلى من هو أشدّ معاناة منك، وترى ظروفه الصعبة. ثم خاطب ربك وقل: «إلهي اغفر لي أنانيّتي». فإن من يعبد أهواءه ليس بإنسان متعادل وكثيرا ما يفرط في سلوكه. (أَفَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ)[الجاثية/23]
                          من يتبع أهواءه يصبح إنانيا وينجر إلى الإفراط. فعندما يمنع الله سبحانه النبيَّ عن اتباع من يتبع هواه يشير إلى إفراطه؛(وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِکْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ کانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)[الکهف/28]
                          ما معنى عبادة الله؟ وما هو الشعور الذي تصحبه عبادة الله؟ وما معنى كلمة «أعبدك»؟ إن معنى عبارة «أعبدك» أقوى وأشدّ من معنى عبارات من قبيل «أفديك بنفسي» أو «أحبك» أو «أعشقك». هل تعلمون من الذي يعبد الله؟ كان النبي الأعظم(ص) يعبد الله إذ لم يكن يرى نفسه. أما من يرى نفسه ويهوى نفسه فإنه يعبد نفسه دون الله. فتمرّن أخي العزيز لتصل إلى درجة عبادة الله وتمتّع بعد ذلك بأحلى وأمتع لذات العالم. وسرّ ذلك والخطوة الأولى في حلّ هذه المسألة هو الخضوع للعناء. فإن أردت أن تشعر بالعبادة إقلع «الأنا» من قلبك.

                          إن خضعت للعناء، تقلّ، وإن هربت منها تتفاقم

                          إن خضعت للعناء، تقلّ معاناتك. وإن هربت منها تتفاقم آلامك. فإنك إن ترضَ بالمعاناة، يغيّر الله قوانينه ومقدراته، ويرسل مخففات المحن إليك من كل حدب وصوب. ويرسل جميع ملائكته إليك ليعتذروا منك. فارض بالعناء واخضع للمصائب لتقلّ وتخفّ، كما إن فعلت ذلك سوف تزداد شكرا.
                          وهل تعلم إلى أين تصل في رضاك؟ إلى أن تستقل معاناتك جميعا، فتخاطب الله وتقول له يا إلهي! أنا راض عن كل ما قدرته لي فلا تحزن لمعاناتي فإني راض عن حياتي ومغتبط بها.
                          سلام الله على أبي عبد الله الحسين(ع) إذ بعد ما جرعه الله أشد أنواع البلاء، وأثناء ما كان ساقطا في حفرة المقتل أخذ يخاطب ربه ويقول له: إلهي رضا بقضائك. فلعله أراد أن يقول لله: إلهي لا تتصور أنا منزعج مما قدرت لي فأنا راض عن كل شيء. إنكم لو تعلمون ماذا يحدث في السماء وما يكتب الله لكم من أجر عند مصائبكم ومعاناتكم وعطشكم وجوعكم في سبيل الله، لناجيتم الله كل حين وكل يوم لتعبّروا عن رضاكم عن كل ما يقدّره لكم.
                          ولهذا بعد ما تجرعت العقيلة زينب أشدّ المصائب في يوم العاشر من المحرّم، أرادت أن تعبّر عن رضاها عما جرى عليها من قبل الله، فباشرت بصلاة الليل كعادتها في كل ليلة، وكأن لم يحدث شيء، فبدت تستغفر ربها وتقول: «العفو العفو العفو» وتطلب من الله أن يغفر لها كما هو الحال في كل ليلة.

                          ألا لعنة الله على القوم الظالمين

                          تعليق


                          • #43
                            الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 12-1

                            إليك ملخص الجلسة النانية عشر من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ بناهيان في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» حيث ألقاها في ليالي شهر رمضان المبارك عام 1434هـ. في مسجد الإمام الصادق(ع) في مدينة طهران.

                            ما هي فوائد الالتفات إلى العناء في حياة الإنسان

                            نحن في الجلسات الثمان الأولى، سلّطنا الضوء على بعض الأصول التي أخذت بإيدينا إلى طريق جهاد النفس بصفته «الطريق الوحيد». وهي تلك الأدلّة والكلام الذي أقنعنا على ضرورة التحدث عن العناء وجهاد النفس، إذ أنه يطابق طبيعة حياتنا وينسجم مع طبيعة نفسنا.
                            أما في الجلسات الثلاث الأخيرة فقد تحدثنا عن أسباب الاهتمام بموضوع العناء والتحدث عنه. فبالإضافة إلى تلك الأدلة التي أوصلتنا إلى هذا الحديث، هناك فوائد وضرورات أخرى تقتضي التحدّث عن العناء وجهاد النفس. فقد تحدثنا في الجلسة السابقة عن بعض فوائد الالتفات إلى هذا الموضوع وضرورته. وأما في هذه الجلسة بودي أن نتحدث عن أهمية العناء وفوائده من جانب آخر.

                            الالتفات إلى العناء يمنع الإنسان من التوهّم

                            أحد فوائد الالتفات إلى العناء هو أن يقلّل الآمال التي تحجب الأجل. فمن طبيعة الإنسان هي أنه إذا أحب شيئا يعقد أمله عليه، ثم يتوهمه ويحلم به ويتعامل معه كأنه أمر واقع أو سوف يقع عن قريب، فهو يزعم أنه يقدر على تحقيق أحلامه. وأحيانا تبلغ مشتهيات الإنسان من الأهمية بمكان بحيث تظهر نفسها واقعا. فكيف نستطيع أن نخرج هذه الآمال من قلب هذا الإنسان المتوهم والحالم الذي وقع أسيرا بيد آماله وأحلامه؟ فلابدّ أن نذكره بمعاناته ومصاعب حياته.

                            الالتفات إلى العناء يضاعف حالة الشكر والصبر لدى الإنسان

                            ومن الأدلة الأخرى التي ذكرناها هي أن هذا الالتفات يضاعف حالة الشكر لدى الإنسان، وإن هذا الشكر ينتج عن رؤية الإنسان الصحيحة تجاه موقع المعاناة في الحياة. فإن جعل الإنسان الراحة والدعة هي الأصل، سوف لا يشعر بحالة الشكر ولا يشعر بتكليف في هذا الجانب أساسا. إما إن عرف أن هذه النعم قد جاءت في عالم معجون بالعناء والصعاب، وأساسا إن الدنيا هي محل المحن والمعاناة، عند ذلك يشكر النعم التي في حياته بكل وجوده. كما أن هذا الالتفات يضاعف صبر الإنسان وطاقته على تحمل الصعاب.

                            الالتفات إلى العناء يحسّن رؤية الإنسان عن الدين والدنيا

                            إذا التفت الإنسان إلى العناء، عند ذلك ينظر إلى الدنيا كدار بلاء ومحنة، وإن هذه الرؤية تحسّن انطباعه عن الدين. فكلما نظرت إلى الدنيا باعتبارها دارا محفوفا بالبلاء، كلما شعرت بلذة الدين أكثر. وفي المقابل كلما نظرت إلى الدنيا بأحلامك وأوهامك واعتبرتها دار متعة ولذة، تبتعد عن الدين وتراه برنامجا مرّا محفوفا بالعناء. فهناك نسبة عجيبة بين هاتين الرؤيتين. فإن لم تنظر إلى معاناة الدنيا تتدهور علاقتك مع الدين، وإذا نظرت إلى الدنيا بنظرة صائبة متأثرة بكثير من آيات القرآن من قبيل قوله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ في‏ كَبَد)[البلد/4]و(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيه‏)[الانشقاق/6]و (وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْق‏)[يس/68]تحسن علاقتك مع الدين.
                            لابدّ أن نحفظ هذا التوازن بين الدين والدنيا، كما نجده في ألفاظ آيات القرآن. فعندما يتحدث الله عن الدنيا يقدم العسر على اليسر ويقول: (إنّ مَعَ العُسرِ يُسْرَى)[الانشراح/6] ولكنّه عندما يريد أن يتحدث عن الدين يقول: (یُریدُ الله بِکُمُ الیُسر وَلا یُریدُ بِکمُ العُسر)[البقرة/185]. على أي حال إن الآثار التربوية المترتبة على الحديث عن العناء ومحن الدنيا كثيرة جدا.

                            4ـ الالتفات إلى العناء يفتح باب محبة الله على الإنسان

                            ينطوي العناء على آثار وبركات كثيرة للإنسان سواء أكان من قبيل المعاناة الاختيارية والإرادية المتمثلة بجهاد النفس، وسواء أكانت غير إرادية المتمثلة بالمقدّرات الإلهية في منعطفات حياة الإنسان. فعلى سبيل المثال من أجل إدراك محبة الله وألطافه عليك، لابدّ أن تعرف علاقتك مع المعاناة وتدرك قاعدة الدنيا وأنها صبّت على البلايا والمحن، ولكن الله قد رزقك بأنواع النعم وأسباب الراحة في هذه الدنيا التي هي دار بلاء.
                            يقول أمير المؤمنين(ع) لله سبحانه في المناجاة الشعبانية: (إِلَهِي لَمْ يَكُنْ لِي حَوْلٌ فَأَنْتَقِلَ بِهِ عَنْ مَعْصِيَتِكَ إِلَّا فِي وَقْتٍ أَيْقَظْتَنِي‏ لِمَحَبَّتِك)[إقبال الأعمال/ج2/ص686] وأنتم تعرفون أن هذه العبارة متناسبة مع أضعف الناس دينا. فقد جاء أمير المؤمنين(ع) وتحدث عن لسانهم بكل صراحة. فهي متناسبة مع حالهم على خلاف بعض العبارات الأخرى في الأدعية التي هي مختصة بمقام أهل البيت(ع) أو مقام الأولياء ولا تناسب حالنا، ولكن هذه العبارة متناسبة مع الجميع وتحكي عن الجميع. في هذه العبارة نقول يا إلهي أنا لا أستطيع أن أترك الذنوب والمعاصي إلا أن توقظني بمحبتك لا بعقوبتك.
                            طيب، كيف يوقظك الله بمحبته؟! فإذا أردت أن تشعر بمحبّة الله، يجب عليك أن لا تمرّ من موضوع العناء مرور الكرام. وإذا أردت أن تشاهد محبة الله إليك لابدّ أن تنظر إلى الألم والعناء بكل جدّ. هذا هو الطريق ولا مفرّ منه.

                            یتبع إن شاء الله...

                            تعليق


                            • #44
                              الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 12-2

                              دور الأمّهات في توطين الأولاد على العناء والألم

                              إن توطين النفس على العناء ينطوي على آثار تربوية كثيرة ومختلفة. طبعا في مقام تربية الأطفال وتلقينهم مفهومَ العناء لابدّ من التصرف برأفة ورحمة. كالطبيب الذي يداوي مريضه بأعمال مؤلمة وفي نفس الوقت يقوّي معنويّاته بالكلام الطيّب وإظهار الشفقة. إنّ للأمهات دورا بارزا جدّا في تلقين أولادهنّ مفهوم العناء وضرورة المعاناة في الحياة الدنيا. فإن الطفل يواجه الألم والعناء من أول سنين حياته، ولكن على الأمّ أن تتعامل بحكمة مع أوجاع وآلام طفلها وتربّيه بحنانها وفكرها حتى يعلم أنّ الألم والعناء من قواعد الحياة الدنيا. فبحسن تعامل الأم تحسن رؤية الولد تجاه أوجاعه ومعاناته ولا يفرّ منها بعدئذ. طبعا ينبغي للأم أن لا تزيد مرارة آلام ولدها ولا تشمت به إذا هوى على الأرض أو ضربه أحد زملائه، بل تتعامل مع هذه الأحداث كأحداث طبيعية جدا ومطابقة لقواعد الحياة، وفي نفس الوقت تشفق عليه وتواسيه وتلطف به كي تمزج ألمه بحلاوة حنانها.

                              الالتفات إلى العناء يبعد الإنسان عن طلب الراحة/ إن مشكلة شبابنا الرئيسة في مسار جهاد النفس هي حب الراحة

                              الإنسان يطلب الراحة، وحب الراحة تمثّل أول مرض وأول مظهر من مظاهر حب الدنيا التي يصاب بها الإنسان. أغلب الشباب ليسوا طلّاب المال وليسوا طلاب الجاه كما أنهم ليسوا مرائين ويحظون بكثير من النزعات الإيجابية من قبيل حب العدالة والعرفان والمثل، كما أنهم براء من كثير من الصفات السيئة، ولكنهم مبتلون بحب الراحة وإن هذا الحب يكاد أن يدمّر حياتهم ومستقبلهم. أول ما يشعر به الإنسان هو طلب الراحة، وبعد ذلك يأتي طلب اللذة.
                              المشكلة الأولى هي أن الشابّ يتعاجز عن الحركة والقيام بأي أمر، ويخالف أي شيء يزعج راحته. وحتى قد يتعاجز عن ترتيب ملابسه. في حين أن أحد زملاء الإمام الخميني(ره) في أيام شبابه ينقل عن الإمام أنه كان ملبسه مرتبا دائما، فلم نره بلباس غير مرتب حتى في حجرته ومحل استراحته.

                              إن حبّ الراحة ينسينا العناء ويمنعنا عن الحركة

                              إن حب الراحة هو أول مانع يقف في وجه الإنسان في درب المعاناة وتحمّل العناء. إن حبّ الراحة يدخل الإنسان في عالم الخيال والأحلام فيزعم بإمكان وجود حياة بلا تعب، غير أنّه إذا استفحلت هذه النزعة في روح الإنسان تتدهور كل حياته. إن حب الراحة ينسينا العناء ويمنع استراتيجية المعاناة من أداء دورها. إنه يعيقنا عن الحركة ويمنعنا من حسن التعامل مع الدين.
                              يقول أمير المؤمنين: «ثَوَابُ ‏الْعَمَلِ ‏عَلَى ‏قَدْرِ الْمَشَقَّةِ فِیهِ»[غرر الحکم/ص333/الحديث5]. إن بعض الشباب يشكرون ربهم على نزاهتهم من حبّ الدنيا، في حين أنهم غير ملتفتين إلى أن حبّ الراحة هي إحدى شعب حب الدنيا. وفي الواقع إن حب الراحة هي أول مظهر من مظاهر حب الدنيا.

                              لابدّ أن تكون في الدنيا مثل القوّات الخاصة

                              في أيام الدفاع المقدّس عندما كان يأخذ الشباب إجازة ويرجعون إلى أهاليهم، لم يكن يطاوع قلبهم على أن يناموا على الفراش، فكانت الأم تفرش الفراش عند الليل، بيد أن هذا الشاب المجاهد كان يأبى أن ينام على الفراش ويقول لها: يضيق صدري بالنوم على الفراش، فاسمحي لي أن أنام بلا فراش فإنه أروح لي!
                              ولم يكن هذا المجاهد متظاهرا في هذا الموقف، ولم ينم على الأرض طمعا بالثواب، إذ لم يقل له أحد باستحباب النوم على الأرض. حتى لم يكن بصدد مواساة المجاهدين أو يعيش أجواء الجبهة والقتال حيث كان ينام فيها على التراب والصخور أو ينام جالسا. بل كان يشعر بضيق صدره واحتصاره في حالة الراحة.





                              أتذكر عندما كنا في كتيبة التدمير نتدرّب حيث كنا مستقرين في خندق وخيمة لمدة شهر قبل عمليات «والفجر واحد»، كنا نتذاكر بمثل هذه الأبحاث آنذاك مع أننا لم نكن قد تجاوزنا مرحلة الثانوية. ويشهد الله أن الأبحاث كانت تطرح بشكل تلقائي وجماعي، بلا أن يأتينا أستاذ في الأخلاق أو يدرسنا معلّم لیحثّنا على اتخاذ بعض القرارات، كلا، بل كانت الأجواء تقتضي مثل هذه الأبحاث والقرارات. فبالإضافة إلى الحرب الليلية والإزعاج الليلي والبرامج الصباحية والاستعراضات والهرولة التي كانت متعبة جدا، بحيث كانت تدمع عيون بعض الشباب من شدة التمارين وقساوتها، بالإضافة إلى كل هذه التمارين الشاقّة قرر الشباب على حفر أرض الخيمة وتستطيحها! فكأنه لم تكفهم كل هذه التمارين فأرادوا أن يشقّوا على أنفسهم ويتعبوها أكثر، حتى يحظوا بالروحية المعنوية المترتبة على هذا التعب. كانوا قد شعروا بسلبية العطالة، وكراهيّة الكسل والخمول.
                              ثم قررنا في الخيمة على أن لا يستعين أحد بصاحبه في المائدة ليناوله الملح أو الخبز أو الماء مثلا، فإذا أراد أحد شيئا من المائدة يجب عليه أن يقوم ويمشي إليه ليستخدمه. فكان إذا يأتينا ضيف يستغرب من سلوكنا ولكن الجميع في تلك الخيمة كانوا يمارسون هذا الأسلوب بكل رغبة، إذ كانوا قد عرفوا أن التعاجز والكسل مرض يهلك الإنسان، شأنه شأن الغاز السام الذي يتسرّب في الغرفة المغلقة، فإنه ينوّم الإنسان في بداية الأمر ثم يقضي عليه.

                              يتبع إن شاء الله...

                              تعليق


                              • #45
                                الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 12-3

                                يترعرع حب الشهوات في حضن حب الراحة

                                قبل أن يغترّ الإنسان بالشهوات، يبتلى بحب الراحة والأولى أن تمنع الإنسان عن حب الراحة قبل أن تمنعه من اللهو بالشهوات. إن اللهو بالشهوات ولا سيما الشهوات الجنسية هي أشبه شيء بحركة السيارة بسرعة عالية في منعطف خطر جدا، فإذا وصلت السيارة إلى المنعطف لا فائدة للتنبيه بعد، ولا داعي لأمر السائق بتخفيض السرعة. لابد أن يكون التنبيه قبل الوصول إلى هذا المنعطف الخطر. وهكذا في موضوعنا فيفترض أن تنصح الشابّ وتنبهه عندما تظهر على سلوكه بوادر علائم حب الراحة لتقف أمام حركته نحو فساده وهلاكه، وذلك لأن حبّ الشهوات ينمو في حضن حب الراحة.

                                تسلق الجبال مفيد لمكافحة حب الراحة/ ما الفرق بين تسلق الجبال وكرة القدم

                                إن استفحلت نزعة حب الراحة في وجود الإنسان يبتعد عن إنسانيته كثيرا، فلا تسمحوا لأولادكم أن يتربّوا على حبّ الراحة ولا تعودوهم على الراحة والابتعاد عن التعب والنصب.
                                أحد النشاطات المؤثرة في مكافحة حب الراحة لدى الشباب هو تسلق الجبال الجماعي وإن تأثيره أكثر من لعب كرة القدم فلا تخدع نفسك بكرة القدم بدلا من تسلق الجبال، لأنك في كرة القدم تركض وتسعى وأنت متحمس للتهديف، بيد أن تسلق الجبال خال من هذا الحماس والتنافس، فالعناء فيه أوقع في قلبك وأقوى تأثيرا. كما إذا ذهبت إلى تسلق الجبال مع أصدقائك لا تقدر على الاستراحة والتوقف متى ما شئت لئلا تتأخر عنهم. ثم سوف تعرف قدر وقتك في التسلق الجماعي، لأنك إن تأخّرت عن جماعتك بقدر ما تفتح قيطان حذائك وتشدّه، قد لا تستطيع أن تجبر هذا التأخّر إلى آخر الرحلة. أما في المدينة فلا يعرف الإنسان قدر كثير ما يضيّعه من وقته تلبية لحبّ الراحة. إن تسلّق الجبال يزيدك تمتعا بالنعم الإلهية ويحفظ صحتك. فمن تعوّد على أن يجلس على القنفة الفخمة دائما، يشعر بالوجع وعدم الارتياح بأقل تغيير في جلسته، أما الذي يتسلق الجبال وعوّد نفسه على تحمل الصعاب، فإنه يلتذ ويشعر بالراحة حتى إن جلس على الصخرة الصمّاء ويعيش حياة صحيّة.





                                لا تقوم التقوى على أركان حب الراحة

                                إن لم نحذر من حب الراحة، تؤثر على نظرتنا العامة تجاه الحياة. فابدأوا، أيها الشباب من أنفسكم واقلعوا جذور حب الراحة من قلوبكم قبل أن تفرض عليكم الحياة ذلك. ولابدّ للآباء أن يبدأوا مع أولادهم بترك الراحة بعد إنهاء السنة السابعة من عمرهم، فأقيموا احتفالا لهم قبل احتفال التكليف وسمّوه باحتفال الأدب. طبعا لا ينبغي أن تشقّوا عليهم وتسودوا لهم الحياة من ذلك العمر، ولكن لابدّ أن تبدأوا معهم شيئا فشيئا وتذيقونهم بعض الصعاب وشيئا من التعب، فعلى سبيل المثال طالبوهم بغسل جواريبهم في بعض الأيام، ثم صعدوا مستوى المطالبات برأفة وحنان. فللأسف قد بلغ بعض الشباب الثماني عشرة من عمرهم ولم يغسلوا شيئا من ملابسهم قط! فلا يُدرى متى يريدون أن يفعّلوا طاقاتهم الإنسانيّة! ويا ترى هل وجود الغسّالات المتطورة دليل على تربية الأولاد على الدلال وعدم التعب؟!

                                حب النصب مؤشّر لحبّ الله

                                لماذا يجب علينا أن نتحدث عن العناء والمشقة بشكل صريح، ولماذا يجب أن نأخذ هذه الاستراتيجية بعين الاعتبار وأن نتحرك ونسير على أساس هذه الرؤية؟ إنما نفعل ذلك من أجل أن نصل إلى عشق الله.
                                أيها الإخوة الأعزاء! بودّي أن ألفت أنظاركم إلى حقيقة عن طريق نقل رواية رائعة لكم. يقول أمير المؤمنين(ع): «الْقَلْبُ‏ الْمُحِبُ‏ لِلَّهِ‏ يُحِبُّ كَثِيراً النَّصَبَ لِلَّهِ وَ الْقَلْبُ اللَّاهِي عَنِ اللَّهِ يُحِبُّ الرَّاحَةَ فَلَا تَظُنَّ يَا ابْنَ آدَمَ أَنَّكَ تُدْرِكُ رِفْعَةَ الْبِرِّ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ فَإِنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ مُرٌّ وَ الْبَاطِلَ خَفِيفٌ حُلْو»[مجموعة ورام/ج2/ص87] أنا لا أعرف لماذا يحب العاشق لله أن يتحمل النصب والتعب لربّه، فهل أنتم تعرفون ما العلاقة بين العشق والنصب؟ كم من حجة قد حجّها الإمام السجاد مشيا على الأقدام، مع أن في ذلك الزمان لم يكن فرق كثير بين الذهاب مشيا والذهاب ركوبا على الفرس أو الجمل. هل تعلمون أنّ من أفضل العبادات هو المشي لزيارة بيت الله الحرام وزيارة أبي عبد الله الحسين(ع)؟! لقد روي عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: «مَنْ‏ خَرَجَ‏ مِنْ‏ مَنْزِلِهِ‏ يُرِيدُ زِيَارَةَ قَبْرِ الْحُسَيْنِ‏ بْنِ عَلِيٍّ ص إِنْ كَانَ مَاشِياً كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةً وَ مَحَى عَنْهُ سَيِّئَةً حَتَّى إِذَا صَارَ فِي الْحَائِرِ كَتَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْمُصْلِحِينَ الْمُنْتَجَبِينَ [الْمُفْلِحينَ الْمُنْجِحِينَ‏] حَتَّى إِذَا قَضَى مَنَاسِكَهُ كَتَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْفَائِزِينَ حَتَّى إِذَا أَرَادَ الِانْصِرَافَ أَتَاهُ مَلَكٌ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص يُقْرِؤُكَ السَّلَامَ وَ يَقُولُ لَكَ اسْتَأْنِفِ الْعَمَلَ فَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى»[کامل الزيارات/ص132]
                                لماذا هذا الثواب ولماذا هذا التأكيد على المشي وتحمّل العناء في سبيل الزيارة؟ سمعت أحد المساكين كان يستهزئ بالمشي ويقول: أفهل نترك السيارات بعد ذلك ونرجع إلى القرون الماضية؟ كأنّ الإمام عندما تحدّث عن ثواب المشي في ذلك الزمان، أراد أن يحرّم الخيل والجمال!
                                أنا لا أعرف علاقة النصب ومحبة الله جيدا، ولكن يبدو من خلال هذه القرائن أن الإنسان المحبّ للراحة لا يبلغ محبة الله، أليس كذلك؟ لا أدري لماذا أصبحت علامة محبّة الله هو حب النصب له. فهل هذا راجع إلى تركيبة الحبّ؟ فما حقيقة الحبّ حتى صار النصب علامة له؟ وما الفرق بين محبة الله وباقي أنواع الحبّ حتى أصبح يعرف بحب النصب والتعب من دون باقي أنواع الحبّ؟
                                كلما ازداد الإنسان حبّا وعشقا لله، يزداد حبّا للعناء والنصب من أجله، فهو لا يطيق أن يبقى مرتاحا بلا تعب. إذا وفقك الله وزرت إمام العصر(عج) في فسطاطه، فإذا لم يعطك الإمام أي عمل ومسؤولية، بل يوزع المهامّ الصعبة والمتعبة على باقي أصحابه، ماذا تفعل؟! لعلك تخاطب الإمام وتقول له سيدي! مرني بشيء، فتصوّر أن الإمام يمتنع عن إعطاء مهمة لك ويقول: استرح ولا تتعب نفسك! ماذا يحلّ بك إن عاملك الإمام بهذا الأسلوب؟ من المؤكد أنك سوف تكاد أن تموت ألما وحسرة بعد ما ترى أن الإمام لم يعبأ بك ولم ينظر إليك. أما إذا حمّلك أنواع المهامّ والمسؤوليات وشقّ عليك بأنواع المسؤوليات الصعبة والمتعبة تشعر بوجود علاقة الحب بينك وبين الإمام.
                                إن العناء وحبّ النصب مؤشّر العشق. فإن حذفت استراتيجية المعاناة لم يبق لك حبّ الله ولا حبّ أولياء الله. ولعلّه لهذا السبب تجد أن الله قد جعل برنامج أنس العبد مع ربّه المتمثل بصلاة الليل في جوف الليل! لماذا جعل وقت صلاة الليل في ذلك الوقت؟ مع أنه لو كان قد جعل وقته في وسط النهار، لما تركنا هذه الصلاة ولازداد المصلون حتى أننا قد نبكي ونصليها بحضور أكثر ونشاط أكثر، أما في ذلك الوقت يستيقظ الإنسان وهو يتأرجح يمينا وشمالا من شدة النعس، ثم لا يفهم من صلاته شيء.
                                فإذا سألتم ربّكم أن لماذا جعلت موعدك مع عشاقك في ذلك الوقت، يقول: إنني أردت أن ألطف بعشاقي، إذ أنهم يودّون النصب من أجلي، ومن جانب لا يحبّون تعب المرتاضين، بل يريدون أن يتحملوا عناء أنا أشرت عليهم به، وإلا فلا يتهنأون بهذا العناء. فتفضلت على عبادي وأمرتهم بالصلاة في السحر، فبهذا الأمر لبيت رغبتهم في تحمل التعب والنصب من أجلي.
                                رضوان الله تعالى على إمامنا الخميني، إذ كان قد عوّد نفسه على القيام في الليل عدّة مرات، فلم يصلّ صلاة الليل في دفعة واحدة، بل كان يقسمها في طول الليل، طلبا لمزيد من العناء والنصب في حبّ الله. فيا ترى أيّ عناء يودّ المحبّ أن يتحمله من أجل معشوقه؟!
                                طبعا أنتم أعرف مني بأن العناء لابدّ أن يكون ضمن برنامج وأصول وهو الإسلام. كما أن الله لا يأمر عبده بعناء إلا ويصحب هذا التعب والعناء بلذة عالية جدّا.

                                صلى الله عليك يا أبا عبد الله

                                بإمكانكم أن تعرفوا مدى عشق شهداء كربلاء من خلال جراحات أجسادهم. فاذهبوا إلى كربلاء وانظروا أيّهم قد قُطّعوا إربا إربا؟ لقد قطّع أعداء الحسين(ع) رجلين من الشهداء إربا إربا؛ الأول علي الأكبر، والثاني أبو الفضل العباس. لماذا علي الأكبر؟ لأنه كان أشبه الناس برسول الله(ص) فأثار أحقادهم الكامنة. والأهم من ذلك هو أن كان اسمه عليّا، وكانوا قد أشربوا غضبا لأمير المؤمنين(ع)، فانهالوا عليه وما أبقوا له جسدا.
                                والثاني هو جسد قمر بني هاشم أبي الفضل العباس(ع)، وفي الواقع إنهم قد مثّلوا بجسمه، وهجموا عليه بكل ما لديهم. فما إن سقط العباس على الأرض ظهرت شجاعة القوم، فلما رأوه قطيع اليدين هجموا عليه بأعمدتهم.
                                بودي هذه الليلة أن أنقل لكم موقفا من مواقف العباس التي لم تسمعوها كثيرا. عندما أراد العباس وإخوته أن يستأذنوا للميدان، قال لهم العباس وكانوا أصغر منه سنّا: «تقدّموا لأحتسبكم عند الله تعالى». إنّ هذا الموقف مجهول وقليل ممن يعرف عظمته. إن أولياء الله كمّل في جميع مشاعرهم وهم أشدّ الناس حظا من المشاعر والعواطف تجاه الإخوة والأحبّة، وأما حبّهم لإخوتهم من أمهم وأبيهم فمما لا يوصف، وهو أمر خاصّ بهم لا تدركه عقولنا. فأراد العباس بهذا الموقف أن يكون أكثر إخوته حظا من بلاء فقد الإخوة والأعزة. ولا أدري فلعلّه أراد بهذا الموقف أن يواسي الحسين(ع) عندما يسقط هو على الأرض ويأتيه الحسين(ع)، ويا لها من لوعة على قلب الحسين(ع). ولهذا لمّا جاء الحسين(ع) إلى أخيه العبّاس(ع) أعلن عن إفلاسه. فكأني به قال: أخي عباس! مهما قتل الأعداء من أولادي وأصحابي لم أنكسر، أما الآن فقد انكسر ظهري وقلت حيلتي.

                                ألا لعنة الله على القوم الظالمين


                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                x

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة

                                اقرأ في منتديات يا حسين

                                تقليص

                                لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                                يعمل...
                                X