7/5/2014
مبــروك لمصـــر زواجهـــا ..

أحمد الشرقاوي
بانوراما الشرق الاوسط
منذ عهد السادات، وتحديدا، منذ “فعْــل” الخيانة الشنيع الذي اقترفه الرئيس “المؤمن” ‘أنور السادات’ بقبوله النوم في فراش ‘مناحيم بيغن’ والتوقيع في 17 سبتمبر 1978 على زواج عرفي بين مصر “أم الدنيا” و الكيان المسمى “إسرائيل”، ضدا في سنة الله ورسوله ومذهب الإمام أبي حنيفة النعمان وميثاق العرب.. ومصر في تراجع خطير على كل المستويات، من فقدان للدور العربي والنفوذ الأفريقي، إلى فقدان للمنبر الإعلامي والثقافي والتعاطف الشعبي العربي والإسلامي.
وقد بدأت تجليات هذا السقوط واضحة للعيان منذ قرار ضرب العراق سنة 1991 وصولا إلى الحالة السورية اليوم وما بينهما من أحداث ومواقف.
واقعة الخيانة هذه، مْهّد لها بحرب أكتوبر 1973، التي اعتبرتها مصر إنتصارا، فيما كانت خديعة انتهت إلى هزيمة مذلة، أرادتها أمريكا أن تكون حرب تحريك لا حرب تحرير لفك إرتباط مصر بسورية، فكان فعل الخيانة الثانية بترك دمشق لقدرها وحيدة في مواجهة إسرائيل، ما اضطر سورية لإستدراك الموقف، وسلوك إستراتيجية الممانعة بدل المواجهة، والتي تعني رفض السلام مع إسرائيل دون مواجهة عسكرية مباشرة في غياب الموقف والدعم العربي، والإستعاضة عنها بحروب استنزاف بالوكالة تقوم بها حركات المقاومة الإسلامية في لبنان وغزة، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
أما على المستوى السياسي، فبعد أن أصبحت مصر محمية أمريكية منزوعة الأسنان والكرامة، لم يجد الساسة فيها ما يقدمونه للشعب المصري الجائع والفقير غير ازدواجية الخطاب من خلال تقمّص دور الحرباء التي تْبدّل لونها حسب الحاجة، ليتناسب مع الأحداث والمواقف من خلال قول الشيىء والإتيان بعكسه.
وأذكر أني زرت القاهرة بعد دخول الإتفاقية حيز التنفيذ، وبداية عهد ما سمّي في حينه بـ”الإنفتاح”. وفي الطريق من المطار إلى الفندق، سألت سائق التاكسي: “ما الذي سيستفيده الشعب المصري من إتفاقية السلام مع إسرائيل؟.. فكان جوابه: “لقد عانى الشعب المصري كثيرا من ويلات الحروب مع الصهاينة، وتخلى عنه العرب ولم يمدوه بالدعم والمساعدات اللازمة لتحقيق إنتصار حقيقي على ‘اسرائيل’، وسائت أوضاع البلاد الإقتصادية وأحوال العباد المعيشة، فلم يجد الرئيس ‘المؤمن’ من حل سوى ركوب قطار السلام لرفع المعاناة عن الشعب المصري والشعب الفلسطيني معا”.
الرجل لم يأتي بجديد من عنده، بل اكتفى بترديد ما قاله ‘السادات’ حرفيا بعد عودته من واشنطن إلى مصر عبر المغرب، حيث ألقى خطابا وصف بـ”التاريخي” من مدينة طنجة في اقصة شمال المملكة، شرح فيه ذات الخلفية التي دفعته لسلوك طريق “السلام” مع إسرائيل، وشكر بالمناسبة العاهل المغربي المقبور ‘الحسن الثاني’ على دوره في هذا الإنجاز الكبير الذي كان بمثابة كسر للحاجز النفسي الوهمي القائم بين العرب وإسرائيل، وهو ما استوعبه الرئيس الراحل ‘ياسر عرفات’ بعمق بعد ذلك، واستمد منه غطاءا للخيانة تحت مسمى “سلام الشجعان” باعتماده لخيار أوسلو سنة 1993، والذي قال عنه سفير منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة ‘سعيد كمال’ لتلفزيون ‘روسيا اليوم’ أواخر شهر مارس/أذار الماضي، أنه كان خياراً قديماً بدأ التحضير له باندلاع الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، حيث رفع السلاح في وجه الجيش العربي السوري سنة 1976.
وإذا كان لإتفاقية ‘كامب ديفد’ من نتائج تذكر، فقد جعلت من مصر دولة منزوعة الأسنان والقرار، بلا سيادة ولا كرامة، وكان على الدولة العميقة في المحروسة أن تحاول الخروج من هذا المأزق التاريخي والوجودي من خلال اعتماد ازدواجية في الخطاب السياسي، خطاب للشعب يُسوّق للبطولات والأوهام ويعد بالمنّ والسّلوى بديلا عن فومها وعدسها وبصلها.. وخطاب للغرب يبيع ما تبقى من شرف لدى حكام المحروسة لنيل رضى الأمريكي.
ألم يقل السادات أن 99% من أوراق اللعبة في المنطقة هي بيد أمريكا؟ وبالتالي فالمدخل الطبيعي الوحيد المتاح لمن أراد كسب ود أمريكا هو المرور من بوابة ‘تل أبيب’.
بعدها ببضع سنين، استفاقت الشعوب العربية على كارثة انتشار عدوى الخيانة، حين تبيّن أن كل الأنظمة العربية، إلا من رحم الله وعلى رأسهم سوريا، تقيم علاقة زواج سري مع إسرائيل، من دون مأذون ولا طبول ولا شهود.
لقد فهم أخيرا الحكام العرب، أن أمن العروش لا تضمنه الشعوب بل أمريكا سيدة العالم آنذاك، وللوصول مباشرة إلى قلب هذه الأم الحنون يلزم المرور من “إسرائيل” والحصول على تزكية بحسن الأخلاق والسلوك قبل أن تفتح أبواب واشنطن ويفرش السجاد الأحمر للزائر الكبير.
صاحب هذه النظرية الذي سوّق لها طويلا بين أقرانه الحكام العرب (الحسن الثاني)، يرقد اليوم في مزبلة التاريخ رغم أنف إسرائيل التي وضعت له معالم ومآثر تحمل إسمه في ‘تل أبيب’ حتى يتذكّره اليهود الصهاينة كأحد خْدّام إسرائيل الكبار، لأنه لعب دور عرّاب السلام بين مصر وتل أبيب في سرّيّة تامّة إلى أن نضج الإتفاق وتحقق الوفاق وتعانق الأعداء – الأصدقاء في ‘كامب ديفد’ عناق الأشواق، في مشهد يجسد قمة الذل والخسة والعار والنفاق.
لذلك، لم يكن مستغربا تصريح وزير خارجية مصر السيد ‘نبيل فهمي’ الذي أدلى به خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، لإذاعة أمريكية محلية، معتقدا أن المصريين لن يصلهم فحوى الكلام.. فكانت الفضيحة التي هزت الشارع مع انطلاق حملة السيسي الإنتخابية، حيث قال السيد الوزير من دون أن يرف له جفن ما مفاده، أن مصر تعتبر العلاقة مع أمريكا علاقة زواج مثالية، قائمة على المحبة والوفاء والطاعة.. حتى لو كان هذا الزواج مذلا، لأنه يضع هاجر المصرية في مرتبة “الأمة” في حين يعتبر ‘سارة’ الإسرائيلية هي أم الصبي المختار.
هذا ليس بالأمر الجديد وإن بدى غريبا، فذات الإستراتيجية التي وضعها السادات واستمرت في عهد مبارك، ها هي تنتقل كالعدوى إلى ‘السيسي’ وحكومته، وهو يتحضر لخوض غمار الإنتخابات الرئاسية، من خلال اللعب على ورقتين: الأولى، ورقة “الزعامة القومية” من خلال إستدعاء روح الراحل ‘جمال عبد الناصر’ من قبره، واستغلال تاريخه لسرقة الرصيد الشعبي الذي كان لهذا الزعيم الكبير في قلوب المصريين والعرب.
والثانية، ورقة محاربة الإرهاب، بعد أن حوّل معارضة الإخوان السياسية العنيفة للإنقلاب العسكر إلى إرهاب. لكنه وبرغم التفويض الشعبي الكبير الذي ناله من خلال كوميديا النزول إلى الشوارع، إلا أنه فشل في حربه على الإرهاب بعد أن دخلت القاعدة إلى جانب الإخوان، وبدأ المرتزقة الذين سافروا للقتال في سورية يعودون إلى مصر ميدان الجهاد الجديد بعد سورية، ففتحت خزائن السلاح في ليبيا لما يسمى بالجيش المصري الحر الذي تقف خلفه الدوحة، ودخلت تركيا وقطر نيابة عن أمريكا الذي قال ‘نبيل فهمي’ أنها تجمعها علاقة جواز مثالية مع مصر.
هذا المشهد السوريالي العبثي، يجسد بالفعل لعبة الظلال والمرايا، ويؤكد وجود دولة عميقة لم تسقط بثورة 25 يناير، بل أصبحت أكثر قوة ونفوذا، فعادت لتدير اللعبة من الباطن وترسم السياسات والتحالفات بل وتملي على المسؤولين السياسيين تصريحاتهم.
وبالتالي، فقد جانب الصواب من اعتبر أن إعلان وزير خارجية السيسي في واشنطن هو فضيحة وانقلاب على إرادة الشعب وأهداف الثورة، خصوصا بعد أن أوهم ‘السيسي’ المصريين، بأنه رجل قوي لا يلين، وزعيم قومي لا يردخ لمشيئة واشنطن، وأن هدفه هو تحرير مصر من وصاية وهيمنة أمريكا والإتجاه صوب المارد الصاعد روسيا الإتحادية.
وكنا قد استبشرنا خيرا بهذا التوجه الجديد في البداية، واعتقدنا أن هذا العسكري القادم من دهاليز المخابرات، وإن كان لا يتقن فن السياسية بقدر ما يتقن فن “البصبصة” حيث كان العرب قديما يْسمّون رجل الإستخبارات بـ”البصّاص” تيمنا بوفاء الكلب في حراسته لسيده من خلال “البصبصة” التي تعني فتح العينين وهز الأدنين، إلا أننا استفقنا من دوختنا عندما سقط الحلم، وتبين أن السعودية هي من قامت بالإنقلاب في مصر، فحرّكت بأموال الزيت الشارع عبر حركة “تمرد”، فدخلت إسرائيل على خط التبديل من خلال عميلها المخلص ورجل الأعمال الكبير ‘نجيب ساويرس’.
ثم تأكدت هواجسنا عندما قال وزير السيسي للشؤون الخارجية السيد “نبيل فهمي” أن “أمن الخليج من أمن مصر” (؟؟؟). نفس الشعار رفعه ‘حمدين صباحي’ قبل الإنتخابات، في محاولة لتسويق نفسه للسعودية باعتباره قومي عروبي ناصري حريص على أمن واستقرار مملكة ومشيخات الخيانة والزيت في الخليج، معتقدا من غبائه، أنه بهذه العقيدة الجديدة سيكسب دعم الرياض التي حاربت جمال عبد الناصر وتكره الناصريين. كما وأنه باعتباره مدنيا، اعتقد أن واشنطن ستدعمه ما دامت قد أبدت معارضة قوية لعودة ديكتاتورية العسكر لحكم مصر من خلال حملة “السيسي رئيسي” لمعرفتها بفسادهم واستحواذهم على 40% من اقتصاد البلاد، فيما 60% الباقية موزعة بين شركات صهيونية وأجنبية.
لكن، من يهدد السعودية ومشيخات الخليج في المنطقة؟.. إنها قطعا ليست إسرائيل وفق العقيدة المصرية الجديدة، بل ‘إيران’ حسب ما أكده جنرال مصري كبير خلال المناورات الأضخم التي جرت هذا الأسبوع في السعودية بمشاركة عسكر المحروسة، حيث قال بالفم المليان ودون حياء أو خجل: “هذه المناورة الأضخم في تاريخ المملكة، هي رسالة موجهة لإيران، مفادها أن أمن الخليج من أمن مصر”.
هنا اتضح المعنى بعد أن تجلى ضباب الغموض، وبدل أن يقوم العسكر الذين يحكمون مصر من الباطن بإعادة العلاقات التي كان قد قطعها الإخونجي مرسي مع سورية، وفتح صفحة جديدة مع إيران وحزب الله وفصائل المقاومة، وتعليق إتفاقية الذل والعار لغاية أن يقرر الشعب المصري من خلال ممثليه في مجلس الشعب المقبل ما يجب عمله بشأنها، والتوجه يصدق وعمق روسيا.. جاء الرد واضحا صريحا قاطعا وحاسما: “من يْؤمّن للمصريين رغيف العيش، يملك قرارهم ويمسك بناصيتهم”.
ففوّضنا الأمر لله ولم نعد نْصدّق لا ما يقوله الساسة ولا ما يطبل ويزمر له الإعلام المصري صباح مساء من أن الرئيس ‘الأسد’ “ديكتاتور يقتل شعبه بالسكود والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا، وأن السيسي وجيشه يحاربون الإرهاب”.
وإذا كان العداء لسورية قد يكون مبررا من وجهة نظر انتهازية بحكم أن الذي يتحكم في القرار السيادي المصري اليوم هي السعودية، فإن ما شكّل صدمة هزّت الشارع العربي من الماء إلى الماء، هو تصريح ‘السيسي’ الأخير الخارج عن النسق والسياق والبعيد عن اللياقة واللباقة الدبلوماسية والأخلاق،، والذي قال فيه مْتبجّحا: “إن مصر بإمكانها اجتياح الجزائر في ظرف 3 أيام فقط”.. فما الدافع وما المناسبة؟.
حسب علمنا، لا تعتبر الدجزائر مصر عدوا والعكس صحيح ايضا، لكن إذا كان ‘السيسي’ أراد بهكذا مثال بعث رسالة لمن يهمهم الأمر مؤداهان أن لمصر جيش يعتبر هو القوى في المنطقة، فليسمح لها الإخوة في مصر بالقول أن الجيش المصري هو افشل جيش في المنطقة، بسبب أنه لم يخض حروبا منذ عقود، ولا يتدرب إلا على جمع البيض في مزارع الدجاج، وتجميع الحليب في مزارع الأبقار التي يملها جنرالات الجيش المصري، أما المتفوقون من ضباط الصف، فيشتغلون في معامل تركيب الثلاجات والغسالات وأفران الغاز ذات الجودة السيئة والمفروضة على الشعب بسبب إحتكار العسكر لهذه الصناعات وغيرها في غياب المنافسة.. وبالتالي، فهل هذا هو الجيش الذي سيهجم الجيش الجزائري الأحسن تسليحا اليوم في شمال إفريقيا؟.
ومهما يكن من أمر، فمثل هذا التصريح العدائي والمجاني، مسيىء جدا للشعب الجزائري الشقيق، وينم عن قمة غباء السيسي، ويؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الرجل هو أجهل مما كنا نتصور، وأنه استلم قيادة مركب مصر في بحر هائج ليلاعب الأمواج والعواصف بذكاء وحجم وشجاعة، لكنه وفق ما تبيّن اليوم، سييجد نفسه حتما بعد حين محطما على صخور الفشل والخيبة، فتعود الثورة من جديد، لكن هذه المرة لتقطع الأيادي التي ستقود البلاد إلى الإفلاس بسبب سياسات العسكر الغبية.
مبــروك لمصـــر زواجهـــا ..

أحمد الشرقاوي
بانوراما الشرق الاوسط
منذ عهد السادات، وتحديدا، منذ “فعْــل” الخيانة الشنيع الذي اقترفه الرئيس “المؤمن” ‘أنور السادات’ بقبوله النوم في فراش ‘مناحيم بيغن’ والتوقيع في 17 سبتمبر 1978 على زواج عرفي بين مصر “أم الدنيا” و الكيان المسمى “إسرائيل”، ضدا في سنة الله ورسوله ومذهب الإمام أبي حنيفة النعمان وميثاق العرب.. ومصر في تراجع خطير على كل المستويات، من فقدان للدور العربي والنفوذ الأفريقي، إلى فقدان للمنبر الإعلامي والثقافي والتعاطف الشعبي العربي والإسلامي.
وقد بدأت تجليات هذا السقوط واضحة للعيان منذ قرار ضرب العراق سنة 1991 وصولا إلى الحالة السورية اليوم وما بينهما من أحداث ومواقف.
واقعة الخيانة هذه، مْهّد لها بحرب أكتوبر 1973، التي اعتبرتها مصر إنتصارا، فيما كانت خديعة انتهت إلى هزيمة مذلة، أرادتها أمريكا أن تكون حرب تحريك لا حرب تحرير لفك إرتباط مصر بسورية، فكان فعل الخيانة الثانية بترك دمشق لقدرها وحيدة في مواجهة إسرائيل، ما اضطر سورية لإستدراك الموقف، وسلوك إستراتيجية الممانعة بدل المواجهة، والتي تعني رفض السلام مع إسرائيل دون مواجهة عسكرية مباشرة في غياب الموقف والدعم العربي، والإستعاضة عنها بحروب استنزاف بالوكالة تقوم بها حركات المقاومة الإسلامية في لبنان وغزة، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
أما على المستوى السياسي، فبعد أن أصبحت مصر محمية أمريكية منزوعة الأسنان والكرامة، لم يجد الساسة فيها ما يقدمونه للشعب المصري الجائع والفقير غير ازدواجية الخطاب من خلال تقمّص دور الحرباء التي تْبدّل لونها حسب الحاجة، ليتناسب مع الأحداث والمواقف من خلال قول الشيىء والإتيان بعكسه.
وأذكر أني زرت القاهرة بعد دخول الإتفاقية حيز التنفيذ، وبداية عهد ما سمّي في حينه بـ”الإنفتاح”. وفي الطريق من المطار إلى الفندق، سألت سائق التاكسي: “ما الذي سيستفيده الشعب المصري من إتفاقية السلام مع إسرائيل؟.. فكان جوابه: “لقد عانى الشعب المصري كثيرا من ويلات الحروب مع الصهاينة، وتخلى عنه العرب ولم يمدوه بالدعم والمساعدات اللازمة لتحقيق إنتصار حقيقي على ‘اسرائيل’، وسائت أوضاع البلاد الإقتصادية وأحوال العباد المعيشة، فلم يجد الرئيس ‘المؤمن’ من حل سوى ركوب قطار السلام لرفع المعاناة عن الشعب المصري والشعب الفلسطيني معا”.
الرجل لم يأتي بجديد من عنده، بل اكتفى بترديد ما قاله ‘السادات’ حرفيا بعد عودته من واشنطن إلى مصر عبر المغرب، حيث ألقى خطابا وصف بـ”التاريخي” من مدينة طنجة في اقصة شمال المملكة، شرح فيه ذات الخلفية التي دفعته لسلوك طريق “السلام” مع إسرائيل، وشكر بالمناسبة العاهل المغربي المقبور ‘الحسن الثاني’ على دوره في هذا الإنجاز الكبير الذي كان بمثابة كسر للحاجز النفسي الوهمي القائم بين العرب وإسرائيل، وهو ما استوعبه الرئيس الراحل ‘ياسر عرفات’ بعمق بعد ذلك، واستمد منه غطاءا للخيانة تحت مسمى “سلام الشجعان” باعتماده لخيار أوسلو سنة 1993، والذي قال عنه سفير منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة ‘سعيد كمال’ لتلفزيون ‘روسيا اليوم’ أواخر شهر مارس/أذار الماضي، أنه كان خياراً قديماً بدأ التحضير له باندلاع الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، حيث رفع السلاح في وجه الجيش العربي السوري سنة 1976.
وإذا كان لإتفاقية ‘كامب ديفد’ من نتائج تذكر، فقد جعلت من مصر دولة منزوعة الأسنان والقرار، بلا سيادة ولا كرامة، وكان على الدولة العميقة في المحروسة أن تحاول الخروج من هذا المأزق التاريخي والوجودي من خلال اعتماد ازدواجية في الخطاب السياسي، خطاب للشعب يُسوّق للبطولات والأوهام ويعد بالمنّ والسّلوى بديلا عن فومها وعدسها وبصلها.. وخطاب للغرب يبيع ما تبقى من شرف لدى حكام المحروسة لنيل رضى الأمريكي.
ألم يقل السادات أن 99% من أوراق اللعبة في المنطقة هي بيد أمريكا؟ وبالتالي فالمدخل الطبيعي الوحيد المتاح لمن أراد كسب ود أمريكا هو المرور من بوابة ‘تل أبيب’.
بعدها ببضع سنين، استفاقت الشعوب العربية على كارثة انتشار عدوى الخيانة، حين تبيّن أن كل الأنظمة العربية، إلا من رحم الله وعلى رأسهم سوريا، تقيم علاقة زواج سري مع إسرائيل، من دون مأذون ولا طبول ولا شهود.
لقد فهم أخيرا الحكام العرب، أن أمن العروش لا تضمنه الشعوب بل أمريكا سيدة العالم آنذاك، وللوصول مباشرة إلى قلب هذه الأم الحنون يلزم المرور من “إسرائيل” والحصول على تزكية بحسن الأخلاق والسلوك قبل أن تفتح أبواب واشنطن ويفرش السجاد الأحمر للزائر الكبير.
صاحب هذه النظرية الذي سوّق لها طويلا بين أقرانه الحكام العرب (الحسن الثاني)، يرقد اليوم في مزبلة التاريخ رغم أنف إسرائيل التي وضعت له معالم ومآثر تحمل إسمه في ‘تل أبيب’ حتى يتذكّره اليهود الصهاينة كأحد خْدّام إسرائيل الكبار، لأنه لعب دور عرّاب السلام بين مصر وتل أبيب في سرّيّة تامّة إلى أن نضج الإتفاق وتحقق الوفاق وتعانق الأعداء – الأصدقاء في ‘كامب ديفد’ عناق الأشواق، في مشهد يجسد قمة الذل والخسة والعار والنفاق.
لذلك، لم يكن مستغربا تصريح وزير خارجية مصر السيد ‘نبيل فهمي’ الذي أدلى به خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، لإذاعة أمريكية محلية، معتقدا أن المصريين لن يصلهم فحوى الكلام.. فكانت الفضيحة التي هزت الشارع مع انطلاق حملة السيسي الإنتخابية، حيث قال السيد الوزير من دون أن يرف له جفن ما مفاده، أن مصر تعتبر العلاقة مع أمريكا علاقة زواج مثالية، قائمة على المحبة والوفاء والطاعة.. حتى لو كان هذا الزواج مذلا، لأنه يضع هاجر المصرية في مرتبة “الأمة” في حين يعتبر ‘سارة’ الإسرائيلية هي أم الصبي المختار.
هذا ليس بالأمر الجديد وإن بدى غريبا، فذات الإستراتيجية التي وضعها السادات واستمرت في عهد مبارك، ها هي تنتقل كالعدوى إلى ‘السيسي’ وحكومته، وهو يتحضر لخوض غمار الإنتخابات الرئاسية، من خلال اللعب على ورقتين: الأولى، ورقة “الزعامة القومية” من خلال إستدعاء روح الراحل ‘جمال عبد الناصر’ من قبره، واستغلال تاريخه لسرقة الرصيد الشعبي الذي كان لهذا الزعيم الكبير في قلوب المصريين والعرب.
والثانية، ورقة محاربة الإرهاب، بعد أن حوّل معارضة الإخوان السياسية العنيفة للإنقلاب العسكر إلى إرهاب. لكنه وبرغم التفويض الشعبي الكبير الذي ناله من خلال كوميديا النزول إلى الشوارع، إلا أنه فشل في حربه على الإرهاب بعد أن دخلت القاعدة إلى جانب الإخوان، وبدأ المرتزقة الذين سافروا للقتال في سورية يعودون إلى مصر ميدان الجهاد الجديد بعد سورية، ففتحت خزائن السلاح في ليبيا لما يسمى بالجيش المصري الحر الذي تقف خلفه الدوحة، ودخلت تركيا وقطر نيابة عن أمريكا الذي قال ‘نبيل فهمي’ أنها تجمعها علاقة جواز مثالية مع مصر.
هذا المشهد السوريالي العبثي، يجسد بالفعل لعبة الظلال والمرايا، ويؤكد وجود دولة عميقة لم تسقط بثورة 25 يناير، بل أصبحت أكثر قوة ونفوذا، فعادت لتدير اللعبة من الباطن وترسم السياسات والتحالفات بل وتملي على المسؤولين السياسيين تصريحاتهم.
وبالتالي، فقد جانب الصواب من اعتبر أن إعلان وزير خارجية السيسي في واشنطن هو فضيحة وانقلاب على إرادة الشعب وأهداف الثورة، خصوصا بعد أن أوهم ‘السيسي’ المصريين، بأنه رجل قوي لا يلين، وزعيم قومي لا يردخ لمشيئة واشنطن، وأن هدفه هو تحرير مصر من وصاية وهيمنة أمريكا والإتجاه صوب المارد الصاعد روسيا الإتحادية.
وكنا قد استبشرنا خيرا بهذا التوجه الجديد في البداية، واعتقدنا أن هذا العسكري القادم من دهاليز المخابرات، وإن كان لا يتقن فن السياسية بقدر ما يتقن فن “البصبصة” حيث كان العرب قديما يْسمّون رجل الإستخبارات بـ”البصّاص” تيمنا بوفاء الكلب في حراسته لسيده من خلال “البصبصة” التي تعني فتح العينين وهز الأدنين، إلا أننا استفقنا من دوختنا عندما سقط الحلم، وتبين أن السعودية هي من قامت بالإنقلاب في مصر، فحرّكت بأموال الزيت الشارع عبر حركة “تمرد”، فدخلت إسرائيل على خط التبديل من خلال عميلها المخلص ورجل الأعمال الكبير ‘نجيب ساويرس’.
ثم تأكدت هواجسنا عندما قال وزير السيسي للشؤون الخارجية السيد “نبيل فهمي” أن “أمن الخليج من أمن مصر” (؟؟؟). نفس الشعار رفعه ‘حمدين صباحي’ قبل الإنتخابات، في محاولة لتسويق نفسه للسعودية باعتباره قومي عروبي ناصري حريص على أمن واستقرار مملكة ومشيخات الخيانة والزيت في الخليج، معتقدا من غبائه، أنه بهذه العقيدة الجديدة سيكسب دعم الرياض التي حاربت جمال عبد الناصر وتكره الناصريين. كما وأنه باعتباره مدنيا، اعتقد أن واشنطن ستدعمه ما دامت قد أبدت معارضة قوية لعودة ديكتاتورية العسكر لحكم مصر من خلال حملة “السيسي رئيسي” لمعرفتها بفسادهم واستحواذهم على 40% من اقتصاد البلاد، فيما 60% الباقية موزعة بين شركات صهيونية وأجنبية.
لكن، من يهدد السعودية ومشيخات الخليج في المنطقة؟.. إنها قطعا ليست إسرائيل وفق العقيدة المصرية الجديدة، بل ‘إيران’ حسب ما أكده جنرال مصري كبير خلال المناورات الأضخم التي جرت هذا الأسبوع في السعودية بمشاركة عسكر المحروسة، حيث قال بالفم المليان ودون حياء أو خجل: “هذه المناورة الأضخم في تاريخ المملكة، هي رسالة موجهة لإيران، مفادها أن أمن الخليج من أمن مصر”.
هنا اتضح المعنى بعد أن تجلى ضباب الغموض، وبدل أن يقوم العسكر الذين يحكمون مصر من الباطن بإعادة العلاقات التي كان قد قطعها الإخونجي مرسي مع سورية، وفتح صفحة جديدة مع إيران وحزب الله وفصائل المقاومة، وتعليق إتفاقية الذل والعار لغاية أن يقرر الشعب المصري من خلال ممثليه في مجلس الشعب المقبل ما يجب عمله بشأنها، والتوجه يصدق وعمق روسيا.. جاء الرد واضحا صريحا قاطعا وحاسما: “من يْؤمّن للمصريين رغيف العيش، يملك قرارهم ويمسك بناصيتهم”.
ففوّضنا الأمر لله ولم نعد نْصدّق لا ما يقوله الساسة ولا ما يطبل ويزمر له الإعلام المصري صباح مساء من أن الرئيس ‘الأسد’ “ديكتاتور يقتل شعبه بالسكود والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا، وأن السيسي وجيشه يحاربون الإرهاب”.
وإذا كان العداء لسورية قد يكون مبررا من وجهة نظر انتهازية بحكم أن الذي يتحكم في القرار السيادي المصري اليوم هي السعودية، فإن ما شكّل صدمة هزّت الشارع العربي من الماء إلى الماء، هو تصريح ‘السيسي’ الأخير الخارج عن النسق والسياق والبعيد عن اللياقة واللباقة الدبلوماسية والأخلاق،، والذي قال فيه مْتبجّحا: “إن مصر بإمكانها اجتياح الجزائر في ظرف 3 أيام فقط”.. فما الدافع وما المناسبة؟.
حسب علمنا، لا تعتبر الدجزائر مصر عدوا والعكس صحيح ايضا، لكن إذا كان ‘السيسي’ أراد بهكذا مثال بعث رسالة لمن يهمهم الأمر مؤداهان أن لمصر جيش يعتبر هو القوى في المنطقة، فليسمح لها الإخوة في مصر بالقول أن الجيش المصري هو افشل جيش في المنطقة، بسبب أنه لم يخض حروبا منذ عقود، ولا يتدرب إلا على جمع البيض في مزارع الدجاج، وتجميع الحليب في مزارع الأبقار التي يملها جنرالات الجيش المصري، أما المتفوقون من ضباط الصف، فيشتغلون في معامل تركيب الثلاجات والغسالات وأفران الغاز ذات الجودة السيئة والمفروضة على الشعب بسبب إحتكار العسكر لهذه الصناعات وغيرها في غياب المنافسة.. وبالتالي، فهل هذا هو الجيش الذي سيهجم الجيش الجزائري الأحسن تسليحا اليوم في شمال إفريقيا؟.
ومهما يكن من أمر، فمثل هذا التصريح العدائي والمجاني، مسيىء جدا للشعب الجزائري الشقيق، وينم عن قمة غباء السيسي، ويؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الرجل هو أجهل مما كنا نتصور، وأنه استلم قيادة مركب مصر في بحر هائج ليلاعب الأمواج والعواصف بذكاء وحجم وشجاعة، لكنه وفق ما تبيّن اليوم، سييجد نفسه حتما بعد حين محطما على صخور الفشل والخيبة، فتعود الثورة من جديد، لكن هذه المرة لتقطع الأيادي التي ستقود البلاد إلى الإفلاس بسبب سياسات العسكر الغبية.
تعليق