الخضر(ع) و حركة الإصلاح الإجتماعي
حسينأحمد سليم
قراءة الآيات القرآنيّة بتفكّر مُعمّق, و وعي وعرفان و علم, هو المدخل الصّحيح و القويم لفهم الحقائق و جلاء أسرارها في سياقات السّورالقرآنيّة المباركة... و ولوج آيات سورة الكهف في كتاب الله تعالى على هذه القاعدةمن الوعي و العرفان و التّفسير و التّأويل المنطقي, هو المدخل الصّحيح لحركة فهمحقائق الحياة النّموذجيّة, حيث تتجلّى واضحة من خلال ما تكتنز به كهوف و أسرارالآيات، التي إختلف فيها عِلم الأرض الجليّ في معالم الظّاهر عن علم السّماء المكنونبأسرار و حجب الباطن...
حركة فعل الإبحار في ظاهر الآيات وصولا لباطنهابالتّفكّر و التّحليل العقلي المتّزن, يكشف للعاقل عمليّة التّباين بين علم الأرض المبنيّعلى قراءة الظّواهر للأشياء و الأفعال, و علم السّماء المبني على سبر خصائص وأسرار الأشياء و النّتائج, بحيث يظهرجليًّا ما تقدّمنا به, و واضحا في رحلة العبد الصّالح الموسوم بالخضِر (ع) مع النّبيموسى (ع) حيث كان الخضر (ع) رمزًا لعِلم السّماء الذي كان مكشوفا للخضر (ع)، والنّبي موسى (ع) الذي كان رمزًا لعلم الأرض المبني على ظواهر الأشياء...
نستطيع من خلال قراءتنا للآيات القرآنيّة فيسورة الكهف, التي تروي لنا قصّة العبد الصّالح الخضر (ع) و لقائه بالنّبي موسى(ع), بحيث نستنتج جملة المشاهد في ثنايا القصّة القرآنيّة و التي تتلخّص بعناوينرئيسيّة ثلاثيّة هي: السّفينة و الغلام و الجدار، و قد جاء العبد الصّالح الخضر(ع) بأمر الله تعالى, ليكشف الحقائق و جلائها و هو ينطلق في سبر حركة الحياة فيالمجتمعات، كاشفا عن خفاياها و فاضحا أسرار ما يعتورها من إنحرافات و مظالم, و معهالنّبي موسى (ع) يرى و يراقب و يشاهد، و يبني على الظّواهر, فكان يستغرب و يستهجنو يعترض و يعاتِب، و لا يستطيع مع أفعال العبد الصّالح الخضر (ع) صبرًا، بل كان (ع)يعترض وَفْقًا للعلم الظّاهر الذي يحمل كنبي مرسل لقومه, خفِي عليه العلم الباطنالذي شاءه الله تعالى للعبد الصّالح الخضر (ع)، و تتجلّى رحمة الله بما أرسل به اللهسبحانه العبد الصّالح الخضر (ع) للنّبي موسى (ع), و ما هي إلاّ معجزات مكنونةالأسرار ليكشف له عن أسرار و كهوف و خفايا الحياة، و ما ينطوي فيها من خفايا أسرارالأسرار و طوياها الدّفينة، لا يعرفها إلاّ من لا تدركه الأبصار سبحانه و تعالى...
المعجزة الأولى التي بهرت النّي موسى (ع) وأثارته مستغربا و معترضا, هو حادث خرق السّفينة في الظّاهر الفعلي من قبل الخضر(ع), بحيث كشف حادث خرق السّفينة عن نموذج مثال لفساد الملِك أو الحاكم ليس فقط فيذلك الزّمن، بل في كلّ حقب التّاريخ... و في المعجزة الثّانية للخضر (ع) أمامالنّبي موسى (ع), كشف حادثُ قتل الغلام عن حركة فساد النَّشء أو الأسرة في المجتمعالذي لا يلتزم قوانين السّماء... لتأتي المعجزة الثّالثة على يديّ الخضر (ع)، وتميط اللثام عن السّرّ الدّفين للجدار, بحيث كشف حادث الجدارِ عن فساد المجتمعككلّ أو إنحراف الرّعية عن مسارات الإستقامة التي أمر بها الله تعالى...
و بناء لما تقدّم مستنبطا و مُفسّرا من حقائققصّة الآيات القرآنيّة في سورة الكهف فيما يخصّ قصّة العبد الصّالح الخضر (ع) ولقائه النّبي موسى (ع), بحيث نستطيع أن نختصر القصّة, بثلاثيّة ترميزيّة متكاملةهي: السّفينة و الغلام و الجدار, بحيث كانت رموزًا إكتنزت بها الآيات القرآنيّة,دلالة على فساد و خلل و إنحراف عمَّ المجتمع و طمَّ أفعاله... فكان العبد الصّالحالخضر (ع) رجمة سمائيّة شاءها الله تعالى، ليُصلح هذا الفساد في المجتمع و أيّمجتمع آخر على شاكلته، بحيث إذا تعمّقنا في سياقات الرّوايات التّاريخيّةللمجتمعات السّالفة, نستطيع أن نستقريء ما كان قد تعوُّدوا عليه أهل الأرض في تلكالمجتمعات و حسبوا أنّه وضعٌ طبيعي، فألِفوه و تآلفوا معه و تفاعلوا مع حركاتأفهال تلك الحياة القاهرة دون أن ينبثوا بكلمة رافضة أو يحرِّكوا ساكنًا في وجهالحاكم المنحرف الفاسد, و هو ما نعيشه اليوم في شتّى بقاع الأرض, سيّما ما حلّبفلسطيننا المغتصبة من زمر الصّهاينة, و ما يسود وطننا العربيّ من فساد و إنحرافلبعض الحكّام الذين نصّبوا أنفسهم قادة للنّاس و هم لا صلاح لهم ما لم يُصلحواأنفسهم بداية...
فالسّفينة كانت لقوم فقراء ضعفاء شرفاء، يكدّونليلا و نهارا بالعمل في البحر ليُحصّلوا قوتهم و قوت أشقّائهم الذين لا يستطيعونعلى العمل بسبب عاهاتهم... و كذلك الغلام الكافر الفاسد المنحرف الذي سيرهق أبواه,الذين كانا من الأتقياء و من أولئك الضّعفاء الفقراء الشّرفاء، الذين سيصطدمونيومًا مُقدّرا مع عُتاة من الجبّارين أقوياء مستكبرين، هم أولئك الذين يُشكّلونمجتمع بيئة أهل القرية البخلاء الذين رفضوا إقراء ضيوفهم, العبد الصّالح الخضر (ع)و رفيقه النّبي موسى (ع)...
و بالعودة إلى تفسير سياقات الآيات القرآنيّة فيسورة الكهف و الخاصّة بقصّة العبد الصّالح الخضر (ع) و النّبي موسى (ع), يتبيّنلنا أنّ الغلام الذي قتله الخضِر (ع) كان يحمل في طبيعته خُبثَ فئةِ الظّالمينالأقوياء, المستكبرين في الأرض، كحال ذلك الملك الظّالم: الرّمز الأكبر لكلّ جبّارعنيد مستكبر و كافر... فكانت الثّلاثيّة إصطدامًا بين فئتين: فئة ضعيفة مسكينة، و فئةقويّة متجبِّرة، و جاء العبد الصّالح الخضر (ع) رحمة من الله تعالى, ليكشف سرّالله إلى الأرض بضرورة عدم السّكوت على كلّ ظالم مستكبر و متسلّط قاهر بغير حقّ، والضّرب بيد من حديد على كلّ متكبّر و ظالم جبّار, و الثّورة على كلّ حاكم و حكم لايعمل بما أمر الله و أتى به الأنبياء و الخلفاء و الأئمّة و الصّالحين من العباد...
و نحن نستقريء الآيات القرآنيّة المباركة يُمكنناأن نستجلي أهمّ دعائم قيام صروح المجتمعات هو: إنّ معالم الإصلاح الإجتماعي فيحياة البشر, و الذي قدَّمه لنا العبد الصّالح الخضر (ع)، هو مشيئة الخالق عدالة ورحمة في خلقه, و هو مراد حكمة الله في الأرض، و هو ما قد ختم القرآن القصّة بها, وأوضح الهدف النّهائي في أنّ كلّ شيء, قام به العبد الصّالح الخضر (ع) برفقة النّبيموسى (ع), كان جرى و تمَّ بمراد الله و مشيئته و وحيه للعبد الصّالح الخضر (ع)...
و نحن نشرف على الإنتهاء من حركة فعل الإستقراءلقصّة العبد الصّالح الخضر (ع) و لقائه بالنّبي موسى (ع) عند مجمع البحرين, نستطيعأن نؤكّد على بعض الوسائل الهامّة التي يُمكن أن تساعد على قيام و نجاح أيّ مشروعإصلاحي إجتماعي...
فالهدف المنشود من الإصلاح الإجتماعي, يجب أنيكون مشروعًا أوّلاً, قبل اللجوء إلى حركة فعل حسن التّدبير و فعاليّة حسنالسّياسة النّافعة التي تُعنى بشؤون النّاس, و إن بإعتماد فنون الحيلة أو إستعمال مطاويالدّهاء أو اللجوء إلى فعل الكيد، و الكيد هو التّدبير في السّرّ و الخفاءٍ، ونعرف بما أتانا في القرآن الكريم على لسان سيّد الأنبياء و المرسلين (ص) إنّ كيدالشّيطان ضعيفا, و كيد الله فوق كل كيد...
و ما كان كيد العبد الصّالح الخضر (ع) و تدبيرهالخفيّ إعتمادا على ما أتاه وحيا من الله تعالى, و إستخدامه الحيلة في عمليّة خرقالسّفينة ليجعل فيها عيبا ما, إلاّ ليفرَّ هؤلاء النّفر الأخوة المساكين الفقراء,الذين يعملون في البحر من ذلك الملِك الجبّار المُتسلّط و المستكبر, الذي كان يُمارسالحكم ظلما و يأخذ كلّ سفينة غصبًا عن أصحابها...
و من يتأمّل بتفكّر و عمق و هدوء, يعرف بأنّ هذاالكيد الذي تمّ تنفيذه, و الذي هو من تدبير الله في مُجمل القّصة كلِّها, مشابهًالمرحلة مبكّرة في قصّة النّبي موسى (ع) في أيّام طفولته، و الذي غفل عن إدراكالمغزى بطبيعته البشريّة مع العبد الصّالح الخضر (ع) عندما قام بخرق السّفينة...
ففي مرحلة الطّفولة من عمر النّبي موسى (ع) لجأتأمّه إلى فعل الكيد و إستعمال حركة التّدبير بوحي من الله, بحيث قذفته في التّابوتفي اليمّ ليأخذه و يلقيه بالسّاحل ليأخذه عدوّ الله و عدوّه و يلقي الله سبحانهعليه محبّته و يُصنع تحت رقابته و عينيه...
الوضع الذي ساق النّبي موسى (ع) للتّعلّم منالعبد الصّالح الخضر (ع) و ركوبه البحر في السّفينة, مشابه تماما و النّبي موسى (ع)و هو طفل, حيث كان في عرض البحر ضعيفًا كهؤلاء المساكين الذين يعملون في البحر، و قدألقته أمّه كيدًا في البحر خوفًا من الفرعون الظالم، و كذلك قام العبد الصّالح الخضر(ع) بخرق السّفينة لينجو المساكين من الملك الظّالم، و كلّ ذلك كان يجري و يحدث بكيدمن لدن الله، و علم من ذات الله، و تقدير من حكمة الله... و حتّى يشرح العبدالصّالح الخضر (ع) للنّبي موسى (ع) في سياقات القصّة الثّلاثيّة المعجزات, الفرقالشّاسع بين علم الأرض الظّاهر و علم الكون الباطن الدّفين و المكتنز بالأسرارالمحجوبة عن الأبصار...
و الخلاصة, ما هي إلاّ الأسباب الظّاهرة المُقدّرةللغاية المضمرة في الباطن، و السّتار الذي تراه العيون البصيرة لليد السّحريّة,التي لا تراها الأنظار و لا تدركها الأبصار، إنّما تتحسّسها البصائر في العقولالمُتفكّرة, هي يدُ الله تعالى المدبِّر المهيمن العزيز الجبّار القويّ الغفّار...
و بالإنتقال إلى القصّة الثّانية للعبد الصّالحالخضر (ع) مع النّبي موسى (ع), تنجلي فيها أفعال المفسدة لذلك الغلام, الذي كانأبواه مؤمنين فخشينا أن يُرهقهما طغيانا و كفرا... تلك حكمة الله تعالى التي فسّرهاالعبد الصّالح الخضر (ع) بأنّ الله سيعوّض الأبوين ولدًا آخر خيرا منه زكاة و قربرحما...
و في هذا الوضع المشابه لوضع النّبي موسى (ع) عندمادخل مدينة في مصر غفلة من أهلها, و سارت القصّة و إنتهت بقتل النّبي موسى (ع) و احدًامن أهل مصر، ليأتي النّاصح الأمين, الذي يطلب من النّبي موسى (ع) الخروج من مصر,لأنّ الملأ يأتمرون على قتله, و خرج النّبي موسى (ع), ليبدأ مرحلة جديدة في حياتهفي أهل مدين، و عوَّضه الله خيرًا على خير في المكان الجديد الذي أقام فيه، و أنعمالله عليه فى زمن آخر جديد أفضل...
إنّ النّبي موسى (ع) لم يستطع صبرًا أمام حادثةقتل الغلام من قبل العبد الصّالح الخضر (ع)، لأنّه ببساطة و حسب العلم الظّاهر,فإنّ العبد الصّالح الخضر (ع) قتلَ نفسًا زكيّة بغير نفس، و لكن في العلم الباطنفإنّ في رؤى العبد الصّالح الخضر (ع) أنّ هناك تدبيرًا خفيًّا من الله سبحانه وتعالى، و درء المفسدة المتمثّلة في كفر الغلام و إنحرافه, و ما هو إلاّ إصلاحٌ إجتماعيّلحال الأبوين... و في هذه الحالة تبرز الحقيقة مجلوّة بعد هذا الفعل الظّاهر, الذيهو فوق مستوى التفكّر الإعتيادي, و الذي لا يفهمه البشر في صورة خفيّة أخرى, كتعويضإلهي بغلام آخر صالح و مؤمن, يخفض لأبويه جناح الذّلّ من الرّحمة, و تحقيقا تربوياو إجتماعيا أبعد لحركة فاعلة في تغيّر حال النّشء و الأسرة فيما يعقب, بتدبير من اللهتعال وفق ما هو مطلوب لإستمرار المجتمع كما أمر و يأمر الله, تنفيذا لما أتى بهالرّسل و الأنبياء...
و بالإنتقال إلى رحاب المعجزة الثّالثة و التيتُعنى في حركة الإصلاح الإجتماعي، و خلاصتها أنّ العمل الصّالح لا يذهب و لا يضيع،ففي القرية التي إستطعم النّبي موسى (ع) و العبد الصّالح الخضِرُ (ع) أهلَها, و أبواأن يضيفوهما, كان الإثنان بمثابة غريبين دخلا إلى قرية، و هما في حالة جوع شديد، وأبسط الأشياء أنَّ القوم يتمثّلون الكرم في أنفسهم و طبيعتهم، إذا دخل غريب القريةأطعموه و لو لم يكن جائعًا، أو على الأقل عرَضوا عليه الطّعام، فإذا كان جائعًاوجب عليهم إطعامه، و لكنّ أهل هذه القرية التي دخلها النّبي موسى (ع) و العبد الصّالحالخضر (ع) قابلوهما بلُؤْم و نَذالة... ذلك أنّ النّبي موسى (ع) و العبد الصّالحالخضر (ع) كانا جائعين و غريبين طلبا الطّعام من أهل القرية، و لو لُقمة تقيمأَوْدَهما، و تسكِت جوعهما، فرفضوا و أبوا أن يطعموهما حتّى اللُّقمة الصّغيرة...
و بينما كانا يتجوّلان في القرية, إذا بالعبدالصّالح الخضر (ع) يجد جدارًا متهدّمًا في القرية, فيبنيه و يجمِّله و يجدّده، وهنا ثارة ثائرة النّبي موسى (ع) و لم يُطِقْ صبرًا، قائلا للعبد الصّالح الخضر(ع): هؤلاء النّاس رفضوا إعطاءنا لقمة و نحن جائعان، و أنت تقوم بهذا العمل لهم مجّانًاتقدّم لهم خدمة، تبني لهم جدارًا متهدّمًا جزاءً على هذا اللؤم، و هذه النّذالة...و هنا تأتي الحقيقة المستورة في العلم الباطن, لتبيّن للنّبي موسى (ع) الحكمة فيبناء الجدار, فهذا الجدار لم يكن خيرًا لأهل القرية الذين تخلَّوْا عن مبادئ الشّهامة،بل كان خيرًا لأبناء رجل صالح يُخشى عليهم من أهل القرية الذين لا يرعَوْن عهدًا ولا يصدقون وعدا، و لا يطعمون جائعًا... و لأنّ أهل القرية يفعلون ذلك, لا يطعمونالجائع، و لا ينفقون شيئًا في سبيل الله، فقد منع الله سبحانه و تعالى عنهم الخير،و أبقاه لأولاد رجل كان صالحًا و توفّاه الله, ذلك أنّ العمل الصّالح للأبِ يبقىلأولاده في الدّنيا و ينفعهم...
إذا تأمّلنا تفكّرا ببعض تفاصيل حياة النّبيموسى (ع) السّابقة, يتبيّن لنا موقفٌ مشابهٌ قدّم فيه عمل الخير، و جلَب المصلحةللنّاس، و لم يفكّر في الأجر الذي عاتب عليه العبد الصّالح الخضر (ع) عندما بنىالجدار و لم يتّخذ عليه أجرًا، لقد رفع النّبي موسى (ع) و كان معروفًا بالقوّة و المنَعة,الحجَرَ عن بئر مدين، و سقى الغنم لإبنتي العبد الصّالح النّبي شعيب (ع)...
و إتّضحفيما بعد من سياقات الآيات القرآنيّة في قصّة النّبي موسى (ع) و النّبي شعيب (ع), أنَّفي عمل الخير العميم للنّبي موسى (ع), حيث تقاضى أجره الذي لم يطلبه من تقرير كلامالنّبي شعيب (ع) بالزّواج من إحدى إبنتيه على أن يأجره ثماني حججٍ، فسبحان الله مقدِّرالأقدار، و عالم ما تنطوي عليه الأنفس من الأسرار...
و ما نحن كبشر و مخلوقات عاقلة من بداع صنع اللهتعالى, إلاّ كالواقفين وراء الحجب و الأستار، لا يُكشف لنا عمّا وراءها من الخفاياو الأسرار إلاّ بمقدار ممّا الله شاء، و كأنَّنا في هدأتنا بعد معرفتنا لمثل هذهالقصص القرآنيّة, إلاّ أن نُردِّد ما قاله النّبي المختار (ص): لو صبَر أخيموسى....لو صبر لعلّمنا الكثير ممّا تُخفيه كهوف الحياة و أسرارها و التي تحجب و تواريالحقائق عنّا و عن علمنا الظّاهر...
و خلاصة ما تعلّمناه من قصّة العبد الصّالحالخضر (ع) و لقائه النّبي موسى ع): أنّ على الإنسان ألاّ يأخذه الغرور فيما يعلم ولا يغترَّ بظواهر الأشياء، و أن يعلم أنّ هناك حقائق مخفيّة شاءها الله لحكمة وتدبير، و ليعلم كلّ إنسان أنَّ كلَّ قدر قد يقع عليه, ليس له فيه إختيار, فيه حكمةجليلة من رحمة الله...
و الحكمة في التّقديرات الإلهيّة, ليست دائمًاظاهرة للعيان من بني البشر و هم الضّعفاء و الفقراء لله تعالى... و لقد حاول العبد الصّالح، الخضر (ع) القيام بالإصلاحالسّياسي و الإجتماعي و الإنساني, وَفْقَ علم الله وتقديره, حسب ما ورد على لسانهفي سياق القصّة: و ما فعلته عن أمري....
وما قام به العبد الصّالح الخضر (ع), ما هو إلاّ قانون سماوي لإرساء قواعد ثورة لاتبقي و لا تذر على الفساد الخلقي و الإنحراف السّياسي في المجتمع و رفض للحاكمالمستكبر الظّالم و حرب لا هوادة فيها على كلّ معتد زنيم أثيم و محتلّ غادر لئيم...
حسينأحمد سليم
قراءة الآيات القرآنيّة بتفكّر مُعمّق, و وعي وعرفان و علم, هو المدخل الصّحيح و القويم لفهم الحقائق و جلاء أسرارها في سياقات السّورالقرآنيّة المباركة... و ولوج آيات سورة الكهف في كتاب الله تعالى على هذه القاعدةمن الوعي و العرفان و التّفسير و التّأويل المنطقي, هو المدخل الصّحيح لحركة فهمحقائق الحياة النّموذجيّة, حيث تتجلّى واضحة من خلال ما تكتنز به كهوف و أسرارالآيات، التي إختلف فيها عِلم الأرض الجليّ في معالم الظّاهر عن علم السّماء المكنونبأسرار و حجب الباطن...
حركة فعل الإبحار في ظاهر الآيات وصولا لباطنهابالتّفكّر و التّحليل العقلي المتّزن, يكشف للعاقل عمليّة التّباين بين علم الأرض المبنيّعلى قراءة الظّواهر للأشياء و الأفعال, و علم السّماء المبني على سبر خصائص وأسرار الأشياء و النّتائج, بحيث يظهرجليًّا ما تقدّمنا به, و واضحا في رحلة العبد الصّالح الموسوم بالخضِر (ع) مع النّبيموسى (ع) حيث كان الخضر (ع) رمزًا لعِلم السّماء الذي كان مكشوفا للخضر (ع)، والنّبي موسى (ع) الذي كان رمزًا لعلم الأرض المبني على ظواهر الأشياء...
نستطيع من خلال قراءتنا للآيات القرآنيّة فيسورة الكهف, التي تروي لنا قصّة العبد الصّالح الخضر (ع) و لقائه بالنّبي موسى(ع), بحيث نستنتج جملة المشاهد في ثنايا القصّة القرآنيّة و التي تتلخّص بعناوينرئيسيّة ثلاثيّة هي: السّفينة و الغلام و الجدار، و قد جاء العبد الصّالح الخضر(ع) بأمر الله تعالى, ليكشف الحقائق و جلائها و هو ينطلق في سبر حركة الحياة فيالمجتمعات، كاشفا عن خفاياها و فاضحا أسرار ما يعتورها من إنحرافات و مظالم, و معهالنّبي موسى (ع) يرى و يراقب و يشاهد، و يبني على الظّواهر, فكان يستغرب و يستهجنو يعترض و يعاتِب، و لا يستطيع مع أفعال العبد الصّالح الخضر (ع) صبرًا، بل كان (ع)يعترض وَفْقًا للعلم الظّاهر الذي يحمل كنبي مرسل لقومه, خفِي عليه العلم الباطنالذي شاءه الله تعالى للعبد الصّالح الخضر (ع)، و تتجلّى رحمة الله بما أرسل به اللهسبحانه العبد الصّالح الخضر (ع) للنّبي موسى (ع), و ما هي إلاّ معجزات مكنونةالأسرار ليكشف له عن أسرار و كهوف و خفايا الحياة، و ما ينطوي فيها من خفايا أسرارالأسرار و طوياها الدّفينة، لا يعرفها إلاّ من لا تدركه الأبصار سبحانه و تعالى...
المعجزة الأولى التي بهرت النّي موسى (ع) وأثارته مستغربا و معترضا, هو حادث خرق السّفينة في الظّاهر الفعلي من قبل الخضر(ع), بحيث كشف حادث خرق السّفينة عن نموذج مثال لفساد الملِك أو الحاكم ليس فقط فيذلك الزّمن، بل في كلّ حقب التّاريخ... و في المعجزة الثّانية للخضر (ع) أمامالنّبي موسى (ع), كشف حادثُ قتل الغلام عن حركة فساد النَّشء أو الأسرة في المجتمعالذي لا يلتزم قوانين السّماء... لتأتي المعجزة الثّالثة على يديّ الخضر (ع)، وتميط اللثام عن السّرّ الدّفين للجدار, بحيث كشف حادث الجدارِ عن فساد المجتمعككلّ أو إنحراف الرّعية عن مسارات الإستقامة التي أمر بها الله تعالى...
و بناء لما تقدّم مستنبطا و مُفسّرا من حقائققصّة الآيات القرآنيّة في سورة الكهف فيما يخصّ قصّة العبد الصّالح الخضر (ع) ولقائه النّبي موسى (ع), بحيث نستطيع أن نختصر القصّة, بثلاثيّة ترميزيّة متكاملةهي: السّفينة و الغلام و الجدار, بحيث كانت رموزًا إكتنزت بها الآيات القرآنيّة,دلالة على فساد و خلل و إنحراف عمَّ المجتمع و طمَّ أفعاله... فكان العبد الصّالحالخضر (ع) رجمة سمائيّة شاءها الله تعالى، ليُصلح هذا الفساد في المجتمع و أيّمجتمع آخر على شاكلته، بحيث إذا تعمّقنا في سياقات الرّوايات التّاريخيّةللمجتمعات السّالفة, نستطيع أن نستقريء ما كان قد تعوُّدوا عليه أهل الأرض في تلكالمجتمعات و حسبوا أنّه وضعٌ طبيعي، فألِفوه و تآلفوا معه و تفاعلوا مع حركاتأفهال تلك الحياة القاهرة دون أن ينبثوا بكلمة رافضة أو يحرِّكوا ساكنًا في وجهالحاكم المنحرف الفاسد, و هو ما نعيشه اليوم في شتّى بقاع الأرض, سيّما ما حلّبفلسطيننا المغتصبة من زمر الصّهاينة, و ما يسود وطننا العربيّ من فساد و إنحرافلبعض الحكّام الذين نصّبوا أنفسهم قادة للنّاس و هم لا صلاح لهم ما لم يُصلحواأنفسهم بداية...
فالسّفينة كانت لقوم فقراء ضعفاء شرفاء، يكدّونليلا و نهارا بالعمل في البحر ليُحصّلوا قوتهم و قوت أشقّائهم الذين لا يستطيعونعلى العمل بسبب عاهاتهم... و كذلك الغلام الكافر الفاسد المنحرف الذي سيرهق أبواه,الذين كانا من الأتقياء و من أولئك الضّعفاء الفقراء الشّرفاء، الذين سيصطدمونيومًا مُقدّرا مع عُتاة من الجبّارين أقوياء مستكبرين، هم أولئك الذين يُشكّلونمجتمع بيئة أهل القرية البخلاء الذين رفضوا إقراء ضيوفهم, العبد الصّالح الخضر (ع)و رفيقه النّبي موسى (ع)...
و بالعودة إلى تفسير سياقات الآيات القرآنيّة فيسورة الكهف و الخاصّة بقصّة العبد الصّالح الخضر (ع) و النّبي موسى (ع), يتبيّنلنا أنّ الغلام الذي قتله الخضِر (ع) كان يحمل في طبيعته خُبثَ فئةِ الظّالمينالأقوياء, المستكبرين في الأرض، كحال ذلك الملك الظّالم: الرّمز الأكبر لكلّ جبّارعنيد مستكبر و كافر... فكانت الثّلاثيّة إصطدامًا بين فئتين: فئة ضعيفة مسكينة، و فئةقويّة متجبِّرة، و جاء العبد الصّالح الخضر (ع) رحمة من الله تعالى, ليكشف سرّالله إلى الأرض بضرورة عدم السّكوت على كلّ ظالم مستكبر و متسلّط قاهر بغير حقّ، والضّرب بيد من حديد على كلّ متكبّر و ظالم جبّار, و الثّورة على كلّ حاكم و حكم لايعمل بما أمر الله و أتى به الأنبياء و الخلفاء و الأئمّة و الصّالحين من العباد...
و نحن نستقريء الآيات القرآنيّة المباركة يُمكنناأن نستجلي أهمّ دعائم قيام صروح المجتمعات هو: إنّ معالم الإصلاح الإجتماعي فيحياة البشر, و الذي قدَّمه لنا العبد الصّالح الخضر (ع)، هو مشيئة الخالق عدالة ورحمة في خلقه, و هو مراد حكمة الله في الأرض، و هو ما قد ختم القرآن القصّة بها, وأوضح الهدف النّهائي في أنّ كلّ شيء, قام به العبد الصّالح الخضر (ع) برفقة النّبيموسى (ع), كان جرى و تمَّ بمراد الله و مشيئته و وحيه للعبد الصّالح الخضر (ع)...
و نحن نشرف على الإنتهاء من حركة فعل الإستقراءلقصّة العبد الصّالح الخضر (ع) و لقائه بالنّبي موسى (ع) عند مجمع البحرين, نستطيعأن نؤكّد على بعض الوسائل الهامّة التي يُمكن أن تساعد على قيام و نجاح أيّ مشروعإصلاحي إجتماعي...
فالهدف المنشود من الإصلاح الإجتماعي, يجب أنيكون مشروعًا أوّلاً, قبل اللجوء إلى حركة فعل حسن التّدبير و فعاليّة حسنالسّياسة النّافعة التي تُعنى بشؤون النّاس, و إن بإعتماد فنون الحيلة أو إستعمال مطاويالدّهاء أو اللجوء إلى فعل الكيد، و الكيد هو التّدبير في السّرّ و الخفاءٍ، ونعرف بما أتانا في القرآن الكريم على لسان سيّد الأنبياء و المرسلين (ص) إنّ كيدالشّيطان ضعيفا, و كيد الله فوق كل كيد...
و ما كان كيد العبد الصّالح الخضر (ع) و تدبيرهالخفيّ إعتمادا على ما أتاه وحيا من الله تعالى, و إستخدامه الحيلة في عمليّة خرقالسّفينة ليجعل فيها عيبا ما, إلاّ ليفرَّ هؤلاء النّفر الأخوة المساكين الفقراء,الذين يعملون في البحر من ذلك الملِك الجبّار المُتسلّط و المستكبر, الذي كان يُمارسالحكم ظلما و يأخذ كلّ سفينة غصبًا عن أصحابها...
و من يتأمّل بتفكّر و عمق و هدوء, يعرف بأنّ هذاالكيد الذي تمّ تنفيذه, و الذي هو من تدبير الله في مُجمل القّصة كلِّها, مشابهًالمرحلة مبكّرة في قصّة النّبي موسى (ع) في أيّام طفولته، و الذي غفل عن إدراكالمغزى بطبيعته البشريّة مع العبد الصّالح الخضر (ع) عندما قام بخرق السّفينة...
ففي مرحلة الطّفولة من عمر النّبي موسى (ع) لجأتأمّه إلى فعل الكيد و إستعمال حركة التّدبير بوحي من الله, بحيث قذفته في التّابوتفي اليمّ ليأخذه و يلقيه بالسّاحل ليأخذه عدوّ الله و عدوّه و يلقي الله سبحانهعليه محبّته و يُصنع تحت رقابته و عينيه...
الوضع الذي ساق النّبي موسى (ع) للتّعلّم منالعبد الصّالح الخضر (ع) و ركوبه البحر في السّفينة, مشابه تماما و النّبي موسى (ع)و هو طفل, حيث كان في عرض البحر ضعيفًا كهؤلاء المساكين الذين يعملون في البحر، و قدألقته أمّه كيدًا في البحر خوفًا من الفرعون الظالم، و كذلك قام العبد الصّالح الخضر(ع) بخرق السّفينة لينجو المساكين من الملك الظّالم، و كلّ ذلك كان يجري و يحدث بكيدمن لدن الله، و علم من ذات الله، و تقدير من حكمة الله... و حتّى يشرح العبدالصّالح الخضر (ع) للنّبي موسى (ع) في سياقات القصّة الثّلاثيّة المعجزات, الفرقالشّاسع بين علم الأرض الظّاهر و علم الكون الباطن الدّفين و المكتنز بالأسرارالمحجوبة عن الأبصار...
و الخلاصة, ما هي إلاّ الأسباب الظّاهرة المُقدّرةللغاية المضمرة في الباطن، و السّتار الذي تراه العيون البصيرة لليد السّحريّة,التي لا تراها الأنظار و لا تدركها الأبصار، إنّما تتحسّسها البصائر في العقولالمُتفكّرة, هي يدُ الله تعالى المدبِّر المهيمن العزيز الجبّار القويّ الغفّار...
و بالإنتقال إلى القصّة الثّانية للعبد الصّالحالخضر (ع) مع النّبي موسى (ع), تنجلي فيها أفعال المفسدة لذلك الغلام, الذي كانأبواه مؤمنين فخشينا أن يُرهقهما طغيانا و كفرا... تلك حكمة الله تعالى التي فسّرهاالعبد الصّالح الخضر (ع) بأنّ الله سيعوّض الأبوين ولدًا آخر خيرا منه زكاة و قربرحما...
و في هذا الوضع المشابه لوضع النّبي موسى (ع) عندمادخل مدينة في مصر غفلة من أهلها, و سارت القصّة و إنتهت بقتل النّبي موسى (ع) و احدًامن أهل مصر، ليأتي النّاصح الأمين, الذي يطلب من النّبي موسى (ع) الخروج من مصر,لأنّ الملأ يأتمرون على قتله, و خرج النّبي موسى (ع), ليبدأ مرحلة جديدة في حياتهفي أهل مدين، و عوَّضه الله خيرًا على خير في المكان الجديد الذي أقام فيه، و أنعمالله عليه فى زمن آخر جديد أفضل...
إنّ النّبي موسى (ع) لم يستطع صبرًا أمام حادثةقتل الغلام من قبل العبد الصّالح الخضر (ع)، لأنّه ببساطة و حسب العلم الظّاهر,فإنّ العبد الصّالح الخضر (ع) قتلَ نفسًا زكيّة بغير نفس، و لكن في العلم الباطنفإنّ في رؤى العبد الصّالح الخضر (ع) أنّ هناك تدبيرًا خفيًّا من الله سبحانه وتعالى، و درء المفسدة المتمثّلة في كفر الغلام و إنحرافه, و ما هو إلاّ إصلاحٌ إجتماعيّلحال الأبوين... و في هذه الحالة تبرز الحقيقة مجلوّة بعد هذا الفعل الظّاهر, الذيهو فوق مستوى التفكّر الإعتيادي, و الذي لا يفهمه البشر في صورة خفيّة أخرى, كتعويضإلهي بغلام آخر صالح و مؤمن, يخفض لأبويه جناح الذّلّ من الرّحمة, و تحقيقا تربوياو إجتماعيا أبعد لحركة فاعلة في تغيّر حال النّشء و الأسرة فيما يعقب, بتدبير من اللهتعال وفق ما هو مطلوب لإستمرار المجتمع كما أمر و يأمر الله, تنفيذا لما أتى بهالرّسل و الأنبياء...
و بالإنتقال إلى رحاب المعجزة الثّالثة و التيتُعنى في حركة الإصلاح الإجتماعي، و خلاصتها أنّ العمل الصّالح لا يذهب و لا يضيع،ففي القرية التي إستطعم النّبي موسى (ع) و العبد الصّالح الخضِرُ (ع) أهلَها, و أبواأن يضيفوهما, كان الإثنان بمثابة غريبين دخلا إلى قرية، و هما في حالة جوع شديد، وأبسط الأشياء أنَّ القوم يتمثّلون الكرم في أنفسهم و طبيعتهم، إذا دخل غريب القريةأطعموه و لو لم يكن جائعًا، أو على الأقل عرَضوا عليه الطّعام، فإذا كان جائعًاوجب عليهم إطعامه، و لكنّ أهل هذه القرية التي دخلها النّبي موسى (ع) و العبد الصّالحالخضر (ع) قابلوهما بلُؤْم و نَذالة... ذلك أنّ النّبي موسى (ع) و العبد الصّالحالخضر (ع) كانا جائعين و غريبين طلبا الطّعام من أهل القرية، و لو لُقمة تقيمأَوْدَهما، و تسكِت جوعهما، فرفضوا و أبوا أن يطعموهما حتّى اللُّقمة الصّغيرة...
و بينما كانا يتجوّلان في القرية, إذا بالعبدالصّالح الخضر (ع) يجد جدارًا متهدّمًا في القرية, فيبنيه و يجمِّله و يجدّده، وهنا ثارة ثائرة النّبي موسى (ع) و لم يُطِقْ صبرًا، قائلا للعبد الصّالح الخضر(ع): هؤلاء النّاس رفضوا إعطاءنا لقمة و نحن جائعان، و أنت تقوم بهذا العمل لهم مجّانًاتقدّم لهم خدمة، تبني لهم جدارًا متهدّمًا جزاءً على هذا اللؤم، و هذه النّذالة...و هنا تأتي الحقيقة المستورة في العلم الباطن, لتبيّن للنّبي موسى (ع) الحكمة فيبناء الجدار, فهذا الجدار لم يكن خيرًا لأهل القرية الذين تخلَّوْا عن مبادئ الشّهامة،بل كان خيرًا لأبناء رجل صالح يُخشى عليهم من أهل القرية الذين لا يرعَوْن عهدًا ولا يصدقون وعدا، و لا يطعمون جائعًا... و لأنّ أهل القرية يفعلون ذلك, لا يطعمونالجائع، و لا ينفقون شيئًا في سبيل الله، فقد منع الله سبحانه و تعالى عنهم الخير،و أبقاه لأولاد رجل كان صالحًا و توفّاه الله, ذلك أنّ العمل الصّالح للأبِ يبقىلأولاده في الدّنيا و ينفعهم...
إذا تأمّلنا تفكّرا ببعض تفاصيل حياة النّبيموسى (ع) السّابقة, يتبيّن لنا موقفٌ مشابهٌ قدّم فيه عمل الخير، و جلَب المصلحةللنّاس، و لم يفكّر في الأجر الذي عاتب عليه العبد الصّالح الخضر (ع) عندما بنىالجدار و لم يتّخذ عليه أجرًا، لقد رفع النّبي موسى (ع) و كان معروفًا بالقوّة و المنَعة,الحجَرَ عن بئر مدين، و سقى الغنم لإبنتي العبد الصّالح النّبي شعيب (ع)...
و إتّضحفيما بعد من سياقات الآيات القرآنيّة في قصّة النّبي موسى (ع) و النّبي شعيب (ع), أنَّفي عمل الخير العميم للنّبي موسى (ع), حيث تقاضى أجره الذي لم يطلبه من تقرير كلامالنّبي شعيب (ع) بالزّواج من إحدى إبنتيه على أن يأجره ثماني حججٍ، فسبحان الله مقدِّرالأقدار، و عالم ما تنطوي عليه الأنفس من الأسرار...
و ما نحن كبشر و مخلوقات عاقلة من بداع صنع اللهتعالى, إلاّ كالواقفين وراء الحجب و الأستار، لا يُكشف لنا عمّا وراءها من الخفاياو الأسرار إلاّ بمقدار ممّا الله شاء، و كأنَّنا في هدأتنا بعد معرفتنا لمثل هذهالقصص القرآنيّة, إلاّ أن نُردِّد ما قاله النّبي المختار (ص): لو صبَر أخيموسى....لو صبر لعلّمنا الكثير ممّا تُخفيه كهوف الحياة و أسرارها و التي تحجب و تواريالحقائق عنّا و عن علمنا الظّاهر...
و خلاصة ما تعلّمناه من قصّة العبد الصّالحالخضر (ع) و لقائه النّبي موسى ع): أنّ على الإنسان ألاّ يأخذه الغرور فيما يعلم ولا يغترَّ بظواهر الأشياء، و أن يعلم أنّ هناك حقائق مخفيّة شاءها الله لحكمة وتدبير، و ليعلم كلّ إنسان أنَّ كلَّ قدر قد يقع عليه, ليس له فيه إختيار, فيه حكمةجليلة من رحمة الله...
و الحكمة في التّقديرات الإلهيّة, ليست دائمًاظاهرة للعيان من بني البشر و هم الضّعفاء و الفقراء لله تعالى... و لقد حاول العبد الصّالح، الخضر (ع) القيام بالإصلاحالسّياسي و الإجتماعي و الإنساني, وَفْقَ علم الله وتقديره, حسب ما ورد على لسانهفي سياق القصّة: و ما فعلته عن أمري....
وما قام به العبد الصّالح الخضر (ع), ما هو إلاّ قانون سماوي لإرساء قواعد ثورة لاتبقي و لا تذر على الفساد الخلقي و الإنحراف السّياسي في المجتمع و رفض للحاكمالمستكبر الظّالم و حرب لا هوادة فيها على كلّ معتد زنيم أثيم و محتلّ غادر لئيم...