إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

لا تثقوا بالغرب ولا بالولايات المتحدة

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    لا تثقوا بالولايات المتحدة (12):


    دولة تطلب من العراق أن لا يعدم الإرهابيين وهي تعدم الأطفال رسميّاً

    ينبغي عليّ أوّلاً أن أشير إلى أن واحداً من الأهداف الكبرى لهذه السلسلة هي فضح الروح الشيطانية والمنافقة التي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية قيادة العالم بها . لقد شوّهت كل شيء في حياة البشر وفي مقدمّة ما شوّهته هو "المصداقية" في كل شىء . فقد سحقت كل القيم وفي مقدمتها قيم الصدق والوضوح والشفافية في التعامل بين الناس حتى صار علينا أن لا نصدّق بالأهداف المباشرة المعلنة لأي سلوك أمريكي مهما كان بسيطا وأن نبحث ونفتّش عن الأهداف المستترة التي تخفي عادة الكذب والتآمر الموصل إلى أرباح ومصلحة رأس المال .

    دولة "المعيار الأوحد": المبدأ الخسيس:
    وقد وقع أغلبية الباحثين والمفكرين، بل حتى الجمهور العام في كل مكان، في مصيدة التشوّش حين بدأ وصف الولايات المتحدة منذ بداية التسعينات بأنها دولة تعتمد ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين . فالولايات المتحدة لا يوجد لديها سوى معيار واحد حسب الوصف الدقيق للمفكر "نعوم تشومسكي" . إنّ الولايات المتحدة – كما يقول - هي دولة (المعيار الأوحد، الصريح والواضح ؛ المعيار الذي أسماه آدم سميث: "المبدأ الخسيس الذي يحكم سلوكيات أسياد البشرية .. كلّ شيء لأنفسنا، ولا شيء لغيرنا " . أشياء كثيرة قد تغيّرت منذ أيامه، إلّا أن "المبدأ الخسيس" إيّاه ما انفك يشهد ازدهاراً) .

    أكثر دولة تنفيذاً للإعدام تطالب العالم بوقف عقوبة الإعدام !!:
    هذا المبدأ الخسيس - كما يصفه تشومسكي - يقوم على أساس تحقيق المصالح بأي طريق مهما كان كلبيّاً . لنأخذ الحالة التي حملها عنوان هذه الحلقة كمثال صارخ . فبين وقت وآخر ترتفع الأصوات "الإنسانية" من داخل الولايات المتحدة تطالب الحكومة العراقية بإيقاف عقوبة الإعدام، كما تدعو بعض الأصوات إلى إلغاء هذه العقوبة نهائيّاً بدافع التحضّر والإنسانية . القاعدة – كما قلتُ مراراً - هي أن أي مسؤول أمريكي يأتيك ويتحدّث عن الخير والإنسانية فعليك أن تحذر وتنتبه بقوة لأن هذا المسؤول – حتماً – يريد تمرير الشر والمصالح الأنانية والرأسمالية القذرة تحت أغطية الخير والإنسانية . ولهذا صُدمتُ حقّاً وأنا أستمع إلى تقرير من إذاعة الـ BBC عن أكثر الدول التي نفّذت عقوبة الإعدام في عام 2014، وإذا بالولايات المتحدة تأتي في المرتبة الرابعة في العالم !! معقول ؟! .. دولة تحتل المرتبة الرابعة بين دول العالم في تنفيذ عقوبة الإعدام بالمجرمين المتهمين بجرائم مدنية تطلب من العراق، الدولة المبتلاة بالإرهاب ونهر الدماء الذي لا ينقطع منذ سنين، والذي سبّبته أمريكا نفسها، أن توقف إعدام المتهمين لديها وهم إرهابيون كلاب مسعورون قتلوا الآلاف من أبناء الشعب العراقي المدنيين الأبرياء .
    هل يعقل أي قارىء مثل هذا السلوك ؟
    لكن، يا أخي القارىء، هذا هو سلوك الولايات المتحدة منذ تأسيسها المشوّه الذي قام على أساس اقتراف جريمة القتل والإحتلال والإبادة . دولة وقحة تأتيك وتقول لك لا تعدم باسم الإنسانية وهي تمارس عقوبة الإعدام يومياً وباستمرار.

    الولايات المتحدة تعدم الأطفال!!:
    وسأقدّم إليك أخي القارىء صدمة جديدة من الصعب عليك استيعابها . الولايات المتحدة لا تكتفي بإعدام المتّهمين الكبار البالغين، ولكنها تقوم بإعدام الأطفال أيضاً !! هل تصدّق ذلك ؟؟
    يتساءل الفيلسوف الفرنسي الراحل (روجيه غارودي) في كتابه (الولايات المتحدة طليعة الإنحطاط) قائلاً:
    (إلى متى سيقبل العالم هيمنة بلد [= هو الولايات المتحدة] تبلغ نسبة الجريمة فيه أعلى مستوى في العالم، والذي تقرّر فيه المحكمة العليا (في حزيران 1989) جواز الحكم بالإعدام على الأطفال دون سن السادسة عشرة من العمر، وتنفيذ هذه الأحكام، ويُطبق هذا القانون في (24) ولاية نُفّذ فيها منذ عام 1972 أحكام باعدام (182) شخصا بواسطة الكرسي الكهربائي أو الشنق أو غرف الغاز، وينتظر (2500) محكوم بالإعدام في زنزاناتهم تنفيذ حكم الإعدام فيهم) .
    لقد أصبح تطبيق عقوبة الإعدام على المجرمين (الأحداث) – أي المجرمين الذين تقل أعمارهم عن 18 عامًا عند ارتكاب الجريمة - أمرًا نادر الحدوث بشكل كبير في العالم . لكن منذ عام 1990 نفّذت تسع دول حكم الإعدام على مجرمين من أجل جرائم ارتكبوها وهم في عمر الأحداث (أي أطفال في الحقيقة)، ومن بين هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية .
    الأغرب من ذلك أنّ هناك اتفاقية أصدرتها الأمم المتحدة اسمها (اتفاقية حقوق الطفل) تمنع تطبيق عقوبة الإعدام على الأحداث تحت الفقرة (37) وقّعت وصدّقت عليها كل دول العالم عدا دولتين هما: الولايات المتحدة والصومال (والصومال لا تمتلك حكومة) !!! هل هذا معقول ؟!

    دولة لم توقّع على اتفاقية حظر استخدام عقوبة الإعدام!!:
    فوق ذلك هناك عدد من الاتفاقيات على المستوى الإقليمي يحظر استخدام عقوبة الإعدام، من بينها البروتوكول السادس (الذي يحظر استخدام هذه العقوبة في وقت السلم)، والبروتوكول الثالث عشر (الذي يحظر استخدامها في جميع الأوقات) من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان. كما أن البروتوكول الثاني من الاتفاقية الأمريكية لحماية حقوق الإنسان قد حظر اللجوء إلى هذا النوع من العقوبات. في مقدّمة الدول التي لم تصدّق على هذه الإتفاقيات دولة: الولايات المتحدة الأمريكية. أي أنّها ترفض إلغاء عقوبة الإعدام وترفض التوقّف عن تنفيذها، لكنها تطلب من العراق المُبتلى بالإرهاب الدموي عدم تنفيذها أو تعليقها أو إلغائها .
    أعلى دولة في العالم الغربي في تنفيذ الإعدام

    وتطلب من مصر إيقاف عقوبة الإعدام !!:
    إن الولايات المتحدة - وباعتراف منظمة العفو الدولية - هى الأعلى في العالم الغربي فى تنفيذ عقوبة الإعدام، وإن القضاء الأمريكى يظل من أكثر الأنظمة التى تتعامل مع عقوبة الإعدام باعتبارها الرادع الوحيد أمام جرائم القتل المروّعة. لكن الحكومة الأمريكية طلبت من الحكومة المصرية في العام الماضي - ولأكثر من مرة - أن توقف عقوبة الإعدام لديها !!! .

    تشومسكي: سجناء في الولايات المتحدة لا يزيد عمرهم على العشر سنوات:
    يقول المؤرّخ والمفكّر "نعوم تشومسكي" في كتابه "الدول الفاشلة":
    (لقد انكسفت الولايات المتحدة عن الخريطة من نواحٍ أخرى كذلك. وأحد الأمثلة المعروفة جيّداً في هذا الصدد، هو الزيادة المثيرة في معدلات السجن والإحتجاز خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية. بدأت الولايات المتحدة بمعدلٍ للسجن والإحتجاز يُشبه نظيره في أوروبا وانتهت بمعدلٍ أكبر بخمس إلى عشر مرّات، مستهدفاً المواطنين السود بالدرجة الأولى، ومستقلاً عن معدلات الجريمة التي تبقى غالباً عند المستويات الأوروبية. إن عدد نزلاء السجون في الولايات المتحدة هو الأعلى في العالم، وأعلى بكثير مما هو في الصين أو روسيا . وقد تضاعف مجدّداً في عام 2004، ولاسيما بين النساء. ونصف المودعين في السجون الفدرالية نزلاء فيها لجرائم تتعلق بالمخدرات. هذا ولا تخفى حقيقة أن الولايات المتحدة هي الوحيدة عملياً في العالم الصناعي من حيث منح الدولة سلطة قتل السجناء – الغريب في الأمر أن هذا يُسمّى موقفاً "محافظاً"، بينما هو في الواقع موقف دَوْلاني جذري. لقد أفادت منظمتا "آمنستي إنترناشونال" و"هيومان رايتس ووتش" بأن الولايات المتحدة هي البلد الوحيد في العالم الذي يُحتجز فيه الأحداث من دون أية إمكانية لإخلاء سبيل مشروط . يبلغ عدد هؤلاء الأحداث 2225 في الولايات المتحدة، في حين لا يزيد عددهم عن العشرات في باقي دول العالم مجتمعة، وهي جنوب أفريقيا و"إسرائيل" وتنزانيا حصراً . هذا وتجيز بعض الولايات في أميركا إصدار مثل هذه الأحكام على أطفال لا يتعدون العشر سنوات. وأصغر نزيل سجن حالياً يبلغ الثالثة عشرة من عمره. وفي العديد من الحالات كانت التهمة الموجهة للطفل هي التواجد في مسرح الجريمة أثناء عملية السطو . وقد ارتفع عدد الأطفال المحكوم عليهم بالسجن المؤبّد ارتفاعا حاداً في غضون السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، وحتى بمعدل أسرع مما هو بالنسبة للمجرمين الراشدين. وتشكل هذه الممارسة انتهاكاً لاتفاقية الأمم المتحدة حول حقوق الطفل التي أقرّتها كل دولة عضو في الأمم المتحدة، ما عدا الولايات المتحدة والصومال - والصومال ليست لها حكومة فاعلة كما هو معروف- ) .
    أعلى عدد من السجناء في العالم !!

    وأعلى عدد من المعدومين في العالم الغربي !!:
    والولايات المتحدة الأمريكية من أشدّ المطالبين بالعدالة وتحسين ظروف السجون واحترام المتهمين وتطبيق حقوق الإنسان، وهذا شىء جميل وإنساني، ولكن عليك أن تشك فيه – كالعادة - إذا طرحه أمامك أي مسؤول أمريكي . لماذا ؟ لأنّهم كذّابون، ودعونا نقرأ هذه الحقائق:
    وفقا لتقرير منظمة (هيومن رايتس واتش - Human Rights Watch) الصادر عام 2014، فإن الولايات المتحدة هى أكثر دول العالم تطبيقا لعقوبات السجن، ناهيك عن الممارسات المُنتهِكة لحقوق الإنسان التى اتبعتها فى عمليات احتجاز بشر دون اتهام فى القاعدة العسكرية "جوانتانامو" فى إطار مكافحة الإرهاب، مع إجراءات التقاضى أمام هيئات عسكرية وليست مدنية كما ينص القانون الدولي. وكثيرا ما تشير تقارير منظمات حقوق الإنسان إلى استمرار الكثير من التفاوت العنصرى فى نظام العدالة الجنائية الأمريكي (كما سنرى بعد قليل) .
    هذا العام (2014) حكم على (19) سجينا بالإعدام فى الولايات المتحدة، سبعة منهم فى ولاية تكساس، ومعظمهم من أصول افريقية أو لاتينية، وبهذا فان الولايات المتحدة التى نصّبت نفسها زعيمة العالم الحر، هى أعلى دول الغرب تنفيذا لعقوبة الإعدام. ومن المنتظر أن يتم إعدام (14) آخرين الذين إذا أُعدموا سيكون العدد الإجمالي للمعدومين هو (33) وهو أقل من عام 1999 (عام الذروة) حيث أُعدم (98) مواطناً أمريكياً .
    فى عام 2013 أصدرت هيئة المحلفين الأمريكية (80) حكما بالإعدام، وذلك بزيادة طفيفة عن العام السابق . ووفقا لتقرير نشرته مجلة (الإكونوميست) مؤخرا، فإنه اعتبارا من أكتوبر 2013 كان أكثر من (3088) ثلاثة ألاف وثمانية وثمانون متهما أمريكيا فى انتظار حكم الإعدام. والولايات المتحدة تمتاز بوجود مدة زمنية طويلة جداً بين إصدار قرار عقوبة الإعدام وتنفيذه .
    حتى عام 2010 كانت الولايات المتحدة الأولى عالميًا من حيث عدد المساجين الذي بـلغ (1.6) مليون، والأولى عالميًا من حيث معدل السجناء بنسبة قدرت بـ 500 سجين لكل مائة ألف ساكن للأراضي الأمريكية.

    دولة ترفض التوقيع على اتفاقية منع التعذيب:
    ويأتي سؤال مهم جدا هنا:
    لماذا تحفّظت الولايات المتحدة على المادة (7) من الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية ؟
    لنقرأ أوّلاً ماذا تقول هذه المادة:
    (لا أحد يجب أن يتم إخضاعه للتعذيب، أو لمعاملة، أو عقوبة، قاسية، وغير إنسانية، أو مُذلّة )
    ألا تتفق هذه المادة مع إدعاءات الولايات المتحدة الإنسانية في الظاهر؟ إذن لماذا تتحفّظ عليها ؟
    سبب ذلك – كما يقول تشومسكي – هو أن الأوضاع في السجون الأمريكية تنتهك هذه الشروط، كما تنتهك أيضاً، بشكل خطير، شروط المادة (10) حول المعاملة الإنسانية للسجناء، وحول (حق الإصلاح وإعادة التأهيل الإجتماعية) الذي ترفضه الولايات المتحدة !

    دولة تعدم حتى المعوّقين !!:
    ويتعلق تحفّظ أمريكي آخر بعقوبة الإعدام، والتي لا تُستخدم بشكل أكثر حرّية من المعتاد فحسب وإنّما "تُطبق بطريقة تتسم بالتمييز العنصري" كما يقول تقرير منظمة العفو الدولية، ونقابة الحريات المدنية الأمريكية .
    فضلاً عن ذلك افادت منظمة هيومان رايتس ووتش (أن عدد الجانحين الأحداث، الذين يجلسون في صف الإعدام، هو أعلى من أي عدد في أية دولة في العالم) .
    ووجد تحقيق في حقوق الإنسان أجرته الأمم المتحدة أن الولايات المتحدة تنتهك الميثاق المتعلّق بإعدام الأحداث (الذين ارتكبوا جرائم قبل أن يبلغوا الثامنة عشر من العمر) . إن الإعدامات نادرة في البلدان الصناعية، وتتناقص في جميع أنحاء العالم، لكنها تزداد في الولايات المتحدة حتى بين الأحداث، وأصحاب الإحتياجات الخاصة (المعوّقين أو المُعاقين)، والنساء، كما يقول تقرير الأمم المتحدة .
    وقد فرض مجلس الشيوخ الأمريكي قيوداً جزئية على قبول الولايات المتحدة ميثاق الأمم المتحدة ضد التعذيب وأشكال أخرى من المعاملة أو العقاب القاسي واللاإنساني أو المُحط من كرامة الإنسان، وذلك كي يحمي (مجلس الشيوخ) حكماً للمحكمة العليا يسمح بالعقاب الجسدي في المدارس .
    وقد ارتفعت الجرائم المرتبطة بالمخدرات مستهدفة بشكل رئيسي الأمريكيين الأفارقة، يُقبض على الأمريكيين من أصل أفريقي في جرائم المخدرات – وتشمل الحيازة – بواقع ثلاثة أضعاف ما يتعرض له الرجال البيض. وكانت وسيلة للسيطرة على "الطبقات الخطيرة" اليوم التي يطرحها النموذج الاجتماعي والاقتصادي المُصمّم لعولمة النموذج البنيوي للعالم الثالث المقسوم بحدّة إلى طبقتين . وكما لوحظ أيضاً إن "الحرب الأخيرة ضد المخدرات" كانت موقتة كي تستهدف، بشكل رئيسي، الذكور السود . لقد كانت نظيراً "للتطهير الاجتماعي": إزالة أو استئصال "السكان الفائضين" والذي قامت به قوات الدولة الإرهابية في كولومبيا، ودول إرهابية أخرى . وهي تخيف أيضاً بقية السكان، وهذه أداة عادية لفرض الطاعة . وطبقاً لمكتب إحصاءات وزارة العدل فإن نحو 3.1 في المائة من الرجال الأمريكيين من أصل أفريقي، و1.3 في المائة من اللاتينيين، و0.5 في المائة من البيض، يقبعون وراء القضبان.

    أمريكا: جريمة كل ثلاث دقائق !!:
    ويهمني أن أختم بهذه الإحصائية الرسمية الموثّقة عن مظاهر العنف في مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال الأحصائيات التي قدّمها مكتب التحقيقات الفدرالي ((Federal Bureau of Investigation)) حول الجريمة المنظمة، وذلك لعام 1995 فقط، وفيه يتضح الجانب الإجرامي في مجتمع متحضّر يقوم على العلم والتحضّر كما يُقال. يقول تقرير المكتب:
    (أنّ (1,800,00) جريمة عنف (قتل، إغتصاب، سطو مسلّح، ...) إرتكبت في الولايات المتحدة (أي بمعدل (5000) جريمة يوميّاً، أي حوالي (208) جرائم في الساعة، أي (3) جرائم في الدقيقة الواحدة) ومن بين الـ (1,8) مليون جريمة عنف هذه كانت هناك (97,464) جريمة أغتصاب، و(21,597) جريمة قتل إرتكب أكثر من (70%) فيها باستخدام البنادق. وفي الولايات المتحدة يُعتبر القتل السبب الرئيسي الثاني للموت بين الاشخاص الذين تتراوح اعمارهم بين 15- 25 سنة . وبالاضافة الى ذلك فان احتمال تعرّض الشخص الأسود للقتل يفوق الشخص الأبيض بـ (8) مرّات). وقد أظهرت دراسة أجريت على طلبة إحدى المدارس العليا أنّ (25%) من الأولاد و(7%) من البنات دخلو في شجار جسدي في الشهر السابق. وأنّ (35%) منهم قد أصيبوا بجروح تطلبت معالجة طبّية.

    مجتمع تعذيب الأطفال:
    إنّ من أفضل الأوصاف للمجتمع الأمريكي المتحضّر والمتطّور هو أنه (مجتمع العنف) بلا منازع برغم كل التنزويقات والتخريجات الأعلامية والدعائية، ولعلّ خير ما يثبت ذلك اضافة الى ما قدمناه هي الأحصائيات المتعلّقة بالعنف العائلي ضد الأطفال والزوجات. فحسب اللجنة الوطنية للوقاية من سوء معاملة الأطفال هناك (3) ملايين حالة من حالات تعذيب الأطفال أو أهمالهم قدّمت الى مكاتب الخدمة الأجتماعية في الولايات المتحدة في عام 1994. وفي كل سنة يسبب تعذيب الأطفال وإهمالهم (2000 – 4000) حالة وفاة، وفي كل سنة تضاف (150,000 – 200,000) حالة جديدة من سوء المعاملة الجنسية للأطفال. وكما قدّر فأن واحدة من كل أربع بنات، وواحد من كلّ سبعة أولاد يُساء إليهم جنسياً قبل سن الثامنة عشرة، والأرقام الحقيقية أكبر من ذلك لأنّ العديد من الحالات لا يتم تشخيصها أو يتواطأ الأهل بشأنها او يتردّد الطفل في الأفصاح عن السبب الحقيقي. ومن بين الأطفال الذين تُساء معاملتهم جسدياً هناك 32% أعمارهم أقل من (5) سنوات و(27%) بين (5 - 9) سنوات، و(27%) بين (10- 14) سنة، و(14%) بين (15- 18) سنة).
    (وقد زادت مؤخراً الهجمات الجنسّية على الأطفال من قبل أطفال آخرين. فمن بين (1500) طفل قاموا بالاعتداءات الجنسيّة على أطفال آخرين بدأ أكثر من (25%) منهم هذا الأنحراف قبل السنة الثانية عشرة من عمرهم، ويعتدى قادة الجماعات بعضهم على البعض الآخر في حين يخضع الأطفال التابعون لضغط الأقران والمجتمع يبارك العنف ويربط العنف بالجنس) .

    مجتمع ضرب الزوجات:
    (أمّا بالنسبة لضرب الزوجات فيُعتقد أنه يحصل في (2 - 12) مليون عائلة أمريكية. وقدّرت إحدى الدراسات وجود (1,8) مليون زوجة يتم ضربها في الولايات المتحدة وذلك بمعزل عن النساء المطلقات والنساء اللائي يتعرضن للضرب في المواعيد الغرامية. وتتعرّض (15 - 25%) من النساء الحوامل للضرب أثناء الحمل وينتج عن ذلك تشوّهات ولادية. وقد يكون الضرب عنيفاً بحيث يؤدي الى كسر الأطراف والأضلاع والنزف الداخلي وضرر الدماغ).

    مصدر هذه الإحصائيات هو:
    Harold l.kaplan, Benjamin J.sadock –synopsis of psychiatry – 8th edition – Mass publiching Compang – Egypt – 1998.

    تعليق


    • #17
      لا تثقوا بالولايات المتحدة (13):

      كيف دعمت الولايات المتحدة هتلر وموسوليني قبل الحرب الثانية، وأعادت الفاشية، واحتضنت الضباط النازيين بعدها؟

      تمهيد ضروري:
      لن يستطيع السادة القرّاء استيعاب سلسلة هذه الحقائق عن الأدوار القذرة والإنتهازية المدمّرة للولايات المتحدة الأمريكية إذا كانوا يصدّقون مزاعم الإدارة الأمريكية الإعلامية عن إيمانها بالحرية والديمقراطية، وستصدمهم هذه المعلومات التي تثبت أن هذه الإدارة يقوم سلوكها على أساس الجشع والإستيلاء على الثروات عن أي طريق مهما كان شيطانيا ومهما كان مخالفاً للمبادىء الإنسانية ولمفاهيم الحق والعدالة . الشيء الآخر هو أن التفوّق الإعلامي الهائل والمخيف للماكنة الإعلامية الأمريكية نجح في جعلها تتلاعب بحقائق التاريخ، حيث تطوي وتمزّق صفحات التأريخ التي تدينها وتثبت عدوانيتها، لتبدأ بتأريخ "جديد" يضلّل عقول البشر خصوصاً من الأجيال الجديدة معتمدة على تفوق ساحق لحضارة الصورة المذهلة الساحرة على حساب حضارة الكلمة التي تتطلب التأمّل والهدوء العقلي الذي لم يعد مُتاحا في ظل انفجار تقنيات الإتصالات والدعاية . هل سيصدّق السادة القرّاء أن الولايات المتحدة كانت من أوّل مناصري هتلر والنازية والمدافعين عن موسوليني والفاشية قبل الحرب العالمية الثانية؟ هل يصدّقون أنها أعادت الفاشية إلى الواجهة بعد الحرب وحطّمت المنظمات اليسارية الداعية إلى الحرية والمساواة في أوروبا؟ ثم هل سيستوعبون هذه المعلومات التي تؤكّد أن الولايات المتحدة كانت الراعي الأكبر للضباط النازيين والمستعيدة لنشاطاتهم الإجرامية بعد الحرب؟ .. كونوا معنا .

      الرئيس الأمريكي روزفلت: "موسوليني هذا النبيل الإيطالي الرائع"!:
      استدعى صعود الفاشية في فترة ما بين الحربين قلق الشعوب ومخاوفها، إلا إنه اعتُبر على العموم شيئا مؤاتيا من جانب الحكومتين الأميركية والبريطانية، ومن قطاع المال والأعمال، وكذلك من شطر لا يُستهان به من أوساط النخبة . وتفسير ذلك أن النسخة الفاشية من القومية المتطرفة سمحت باختراق اقتصادي غربي واسع النطاق، وحطّمت الحركات العمالية مثار الخوف الشديد، والقوى اليسارية ومعها الديمقراطية التي كانت تسمح لها بحرية الحركة . الدعم المُعطى لموسوليني كان قوياً وفيّاضا . فقد دأب هذا "النبيل الإيطالي الرائع" كما وصفه الرئيس الأمريكي “روزفلت” عام 1933، يحظى بقدر وافر من الاحترام بين طيف واسع من شتى الآراء إلى حين اندلاع الحرب العالمية الثانية . كما حظيت ألمانيا الهتلرية بتأييد مماثل هي الأخرى .
      والتأييد للفاشية بدأ من غير إبطاء . فقد أشاد السفير الأمريكي في إيطاليا "هنري فلتشر" باستيلاء الفاشية على مقاليد الحكم في إيطاليا عام 1928، التي سرعان ما قضت على النظام البرلماني وقمعت بعنف المعارضة العمالية والسياسية، وحدّد بوضوح الاعتبارات السياسية الموجهة للسياسة الأمريكية تجاه ايطاليا وغيرها من البلدان في السنوات القادمة، وكتب إلى وزير الخارجية يقول إن إيطاليا أمام خيارين شديدي الوضوح ؛ إما "موسوليني والفاشية" وإما "غيوليتي والاشتراكية" (غيوليتي رئيس وزراء إيطالي مخضرم يساري وليس اشتراكي، كان يحبذ العمل النقابي والاصلاحات الاجتماعية وعارض مشاركة ايطاليا في الحرب الأولى، كما كان مناهضا شرسا للفاشية، وكان وجها بارزا من وجوه الليبرالية الإيطالية) .

      الولايات المتحدة تقول إن الفاشيين أناس ديمقراطيون حقيقيون وموسوليني إنسان عظيم !:
      وبعد مرور عقد من الزمن، تحديداً في عام 1937، استمرت وزارة الخارجية الأمريكية في النظر إلى الفاشية الأوروبية على أنها قوى معتدلة يجب "أن تنجح، وإلّا فإن الجماهير، مُعزّزة هذه المرة بالطبقات الوسطى المُحبطة، سوف تتجه مجدّدا نحو اليسار " . في ذلك العام كان سفير الولايات المتحدة إلى إيطاليا "وليام فيليبس" "شديد الإعجاب بجهود موسوليني لتحسين ظروف معيشة الجماهير"، وقد عثر على "أدلة كثيرة" تشهد لصالح نظرة الفاشيين باعتبارهم "أناسا يمثلون ديمقراطية حقيقية بقدر ما أن رفاهية الشعب هي غايتهم الرئيسية" . لقد اعتبر انجازات موسوليني "رائعة، وتبعث على الذهول الدائم"، واشاد على نحو حماسي "بمزاياه الإنسانية العظيمة" . وافقته وزارة الخارجية الرأي بشدة، وأطرت كذلك مآثر موسولني "الجبّارة" في أثيوبيا، وحيّت الفاشية على "إحلالها النظام محل الفوضى، والإنضباط بدل التسيّب، والثراء عوض الإفلاس" . وحتى عام 1939 كان الرئيس "فرانكلين روزفلت" ما فتىء يرى أن الفاشية الإيطالية "ذات أهمية كبرى بالنسبة إلى العالم، وإن كانت بعد في مرحلتها التجريبية" .

      الولايات المتحدة تقول: النازيون يريدون سعادة البشر !:
      في العام 1938 صادق الرئيس روزفلت وصديقه الحميم "سامنر ويليس" على تسوية ميونيخ الهتلرية التي قطّعت أوصال تشيكوسلوفاكيا . وكان "ويليس" يشعر بأنها "تمثل الفرصة السانحة لأن تقيم شعوب العالم نظاما عالميا جديدا مبنيا على العدالة والقانون" يلعب فيه النازيون المعتدلون دورا بارزاً . وفي نيسان عام 1941 كتب جورج كينان من مركزه القنصلي في برلين أن القادة الألمان لا يرغبون في "رؤية الشعوب الأخرى تعاني تحت الحكم الألماني" و "هم أشد ما يكونون توقا إلى أن ينعم رعاياهم الجُدد بالسعادة في ظل عنايتهم" ولا يترددون في تقديم "تنازلات مهمّة" لضمان هذه النتيجة الحميدة .

      فتّش عن المال:
      وعالم المال والأعمال بدوره، كان جيّاشاً بالحماسة للفاشية الأوروبية . فقد ازدهرت الاستثمارات في ايطاليا الفاشية، ورأينا مجلة "فورتشون" تعلن عام 1934 على الملأ: "ها هم "الوبيون" يطهّرون أنفسهم من رجس الوبية" ( WOP تسمية مُهينة جدا تُطلق على الإيطالي في أمريكا) . كذلك ازدهرت الاستثمارات في ألمانيا بعد صعود هتلر للأسباب عينها: فقد أشيع مناخ مستقر من أجل العمليات التجارية، و"خطر" الجماهير تم احتواؤه. وحتى اندلاع الحرب عام 1939 كانت بريطانيا أشد ما تكون دعما وتأييدا لهتلر لأسباب تتجذر عميقا في العلاقات الصناعية والتجارية والمالية القائمة بين بريطانيا وألمانيا، وبوحي من "سياسة حفظ الرأس التي تتبعها المؤسسة البريطانية في وجه الضغوطات الديمقراطية والشعبية الصاعدة" .
      وفي ذات الوقت كان اللورد "هاليفاكس"، المبعوث البريطاني الخاص إلى ألمانيا، يزف المديح إلى هتلر "لوقوفه في وجه انتشار الشيوعية، وهي جهود قربت بريطانيا من تفهّم الدور الكبير الذي يقوم به هتلر" . وكانت كلمات هاليفاكس تُقدّم إلى هتلر بينما كان الأخير يقوم بأعماله الاجرامية المرعبة .
      لقد كان تجّار السياسة الأمريكية مغمضي الأعين ومرتاحي البال لما يجري في ألمانيا . كما كانت ايطاليا الفاشية خيارا رائعا للمستثمرين، وبالمثل كانت المانيا لأصحاب الشركات الأمريكية الذين انخرطوا في الانتاج الحربي النازي، وحققوا ثروات وأرباح بالمشاركة في عمليات نهب ثروات اليهود في ظل برنامج هتلر الآري . وبحسب "كريستوفر سيمبسون" في دراسة حديثة فإن استثمارات الولايات المتحدة قد تزايدت في ألمانيا بشكل ملحوظ مع وصول هتلر للحكم، حيث ارتفعت بمعدل 48,5% في ما بين 1929 و1940، بينما تدهورت بشكل حاد في بقية أقطار القارة الأوروبية خلال نفس الفترة، وظلت دون تغيير في بريطانيا .

      في ظل الحرب بدأ تفكيك المقاومة المناهضة للفاشية:
      هذا وقد ظلت المواقف عرضة للتجاذبات، حتى بعد دخول الولايات المتحدة الحرب . واعتبارا من عام 1943 شرعت الولايات المتحدة وبريطانيا ببذل الجهود – التي تكثفت بعد انتهاء الحرب – لتفكيك المقاومة الناهضة للفاشية على نطاق العالم كلّه، واستعادة ما يشبه النظام التقليدي، لا بل ومكافأة بعضٍ من أسوأ مجرمي الحروب بإسناد أدوار بارزة إليهم . ويشير المؤرخ "شميتز" لدى مراجعته هذا السجل الى ان "المرتكزات الايديولوجية والاعتبارات الجوهرية للسياسة الاميركية بقيت ثابتة على نحو لافت" في السنوات المتبقية من القرن العشرين . صحيح أن الحرب الباردة "استلزمت مقاربات وتكتيكات جديدة"، لكنها من ناحية تركت أولويات حقبة ما بين الحربين على حالها دونما تغيير" .
      كانت وزارة خارجية الرئيس ويلسون تعتبر الإيطاليين "أولاداً يجب أن يُقادوا من أيديهم، وتُسدى المساعدة إليهم أكثر من أي شعب آخر" لذا كان صنيعا صائبا ومناسبا أن لا يضن خلفاؤه بأوجه الدعم الحماسي على "الثورة الفتية الرائعة" لفاشية موسوليني التي حطّمت خطر الديمقراطية بين الإيطالييين "المتعطشين إلى قيادة حازمة، والمستمتعين بكونهم يُحكمون بصورة مثيرة" . بقي المفهوم في نصابه طوال عقد الثلاثينات، وأعيد إحياؤه بعيد الحرب مباشرة. وقد عمدت الولايات المتحدة عام 1948 إلى تهديم الديمقراطية الإيطالية بمنعها وصول الأغذية إلى الناس المتضوّرين جوعا، وبترميمها الشرطة الفاشية وتهديدها بما هو أسوأ من ذلك بعد . كما أوضح رئيس دائرة إيطاليا في وزارة الخارجية أن تلك السياسة يجب أن تكون مُعدّة بحيث "يشعر حتى أغبى وُب بالتغيير الحاصل"
      والمخاوف عينها كانت وراء استمرار "الإطار التحليلي الذي طوّره صنّاع السياسة الأميركيون واستخدموه خلال سنوات ما بين الحربين في العلاقة مع الديكتاتوريات اليمينية" التابعة للفاشية الأوروبية وصولا إلى حقبة ما بعد الحرب. وكان القصد منه السيطرة على "خطر الشيوعية" الذي فُهم ليس على أنه خطر عسكري، بل بالأحرى في ضوء الاعتبارات آنفة الذكر (وهو التحويل الاقتصادي في البلدان الشيوعية بطريقة تقلل من ميلها وقابليتها للتكامل مع الاقتصاديات الصناعية للغرب، وهذا منذ عام 1917. هذا ويستحق "الإطار التحليلي" للعلاقات مع الدول الفاشية عودة ضافية بالذاكرة إليه، لا لسبب إلّا لظهوره المتكرر بتلك الدرجة من الثبات والاتساقية حتى يومنا الحاضر.
      و"الإطار التحليلي" الذي بيّن المؤرّخ "شميتز" معالمه بالتفصيل، استمر حتى يومنا هذا، مخلفا وراءه مآس ضخمة وخرابا هائلا . كتب "آلن توفلسون" يقول إنه على طول الخط، ظلت تواجه صنّاع السياسة الأميركيين تلك "المشكلة المؤرّقة": كيف السبيل إلى التوفيق بين الالتزام الرسمي بالديمقراطية والحرية، وبين الحقيقة الطاغية وهي أن "الولايات المتحدة كثيرا ما تضطر إلى اقتراف أعمال رهيبة للحصول على ما تريده" . وما كانت الولايات المتحدة تريده هو: "سياسة اقتصادية من شأنها تمكين مشاريع الأعمال الأمريكية من العمل بحُرّية قدر الإمكان، وفي أحيان كثيرة من العمل بشكل احتكاري قدر المستطاع، وكل ذلك بهدف خلق اقتصاد عالمي رأسمالي متكامل تهيمن عليه الولايات المتحدة " .

      تعريف أمريكي للشيوعية يعزّز دور الفاشية والنازية:
      كانت الفكرة عن الشيوعية شاملة جدا . ففي عام 1955، توصلت "مؤسسة وودرو ولسون" بالاشتراك مع جمعية التخطيط القومي إلى تعريف للشيوعية أكثر ما يكون دقة وهو "يأتي الخطر الشيوعي من التحول الاقتصادي لبلد ما بشكل يُضعف رغبته وقدرته في أن يكون مُتمما لاقتصاد الغرب الصناعي" ولكي يتصدى القادة الأمريكان لمثل هذا التهديد لم يترددوا - غداة الحرب العالمية الثانية - في حمل جنرالات النازية الجديدة إلى السلطة والتحالف معهم .
      وكانت هذه السياسة التي طُبقت بعد الحرب العالمية الثانية في كل أمريكا اللاتينية، قد طبقت سابقا بعد الحرب العالمية الأولى في أوروبا . ففي عام 1922 وصف السفير الأمريكي في روما مستذكرا ذكرى مسيرة موسوليني إلى روما التي وضعت نهاية للديمقراطية في إيطاليا، وصفها "بالثورة الشابة والجميلة"، وأوضح لماذا يرى "أن الفاشيست ربما يكونون العامل الأقوى في كبح البلشفية" .
      وحظيت إيطاليا الفاشية منذ ذلك الحين بتعامل طيب من قبل الولايات المتحدة، وذلك عندما سُوّيت مسألة ديون الحرب . ثم تدفقت الاستثمارات الأمريكية إلى أيطاليا . وفي عام 1933 تحدث تيودور روزفلت عن موسوليني واصفا إيّاه "بالسيّد الإيطالي الذي يثير الإعجاب" كما قلنا سابقا. وفي 1937 قيّمت وزارة الخارجية الأمريكية الحركة الفاشية بأنها "أصبحت روح إيطاليا التي فرضت النظام في قلب الفوضى والمبادىء في وجه التجاوزات، وحلت مشكلة الإفلاسات" .
      وفي 1937 اعتبرت وزارة الخارجية الأمريكية الفاشية تتوافق مع المصالح الاقتصادية وبمعنى ما مع المفهوم الامريكي للديمقراطية.
      وحدث الأمر نفسه مع هتلر، في عام 1933 كتب القائم بالأعمال الأمريكي في برلين إلى واشنطن قائلاً: "إن الأمل المعقود على ألمانيا، إنما يعلّق على الجناح المعتدل في الحزب الذي يقوده هتلر الذي وجّه دعوة تعاون إلى كل الناس المتمدنين والعقلاء" .
      ولأن دول "المحور" لم تهاجم الولايات المتحدة بعد "بيرل هاربر"، فقد استمر الموقف الامريكي الإيجابي من الفاشية على حاله لم يتغير .

      موقف أمريكي وبريطاني انتهازي خلال الحرب:
      كان الدعم الأمريكي الكبير المُقدّم لموسوليني منذ "الزحف على روما" 1922 والدعم اللاحق المقدم لهتلر، مؤسّسين على المبدأ القائل إن النازية والفاشية كانتا رغم تطرفهما أحيانا ردا مقبولا على التهديد البلشفي الأشد خطرا بكثير لأن الشيوعيين حسب "جون فويتر دالاس" وزير الخارجية الأميركي آنذاك أفضل منّا في تحفيز الفقراء لنهب الأثرياء ...
      عندما كانت روسيا تمتص ضربات النازية الكبرى صار ستالين حليفا، وعم الإعجاب بـ "العم جو" . كانت استراتيجية روزفلت في زمن الحرب، كما أسرّ لابنه مرة، هي ابقاء الولايات المتحدة "كاحتياطي في انتظار أن يستنزف الروس قواهم في صراعهم مع النازية قبل أن تتحرك الولايات المتحدة للإجهاز عليها" . إن دعم الإتحاد السوفيتي صار أولوية عند الرئيس على أساس ان انتصارات الجيش الأحمر ستسمح للرئيس بابقاء الجنود الأمريكيين خارج الحرب البرية في أوروبا . وقد قال الرئيس الأمريكي "ترومان":
      (إنْ رأيْنَا أن المانيا في سبيلها إلى الفوز فعلينا أن نساعد روسيا، أما إن ربحت روسيا فعلينا مساعدة ألمانيا، وبهذه الطريقة نجعلهم يقتلون أكبر عدد ممكن منهم) .
      نجحت حركات العمال والفلاحين الإيطاليين في الانتصار على ست فرق ألمانية وتحرير شمال إيطاليا . وعندما تقدمت الجيوش الأمريكية داخل إيطاليا شتّتت تلك الحركات المعادية للفاشية، وأعادت الهيكل الرئيسي الفاشي لنظام ما قبل الحرب .
      وفي مراجعة حديثة للسجل البريطالني خلص "لويد جاردينر" إلى أنه "بالنسبة للبريطانيين كانت المشكلة الأساسية هي روسيا وليس ألمانيا، وذلك خلال الفترة التي اتفق فيها هتلر وستالين (حتى يونيو 1941 م) . فلم يكن يقلق البريطانييين تقسيم بولندا وحصول المانيا على نصف أراضيها، لقد أقلقها أكثر اتفاق هتلر وستالين، وهو ما جعل الحرب ضرورة"، وذلك حسب تصريح مسئولين رفيعي المستوى في الحكومة البريطانية آنذاك.

      مساندة الفاشية وإعادتها إلى حكم إيطاليا بعد الحرب:
      وبعد الحرب، تتابعت السياسة نفسها، ولكن بلبوس جديد . ففي عام 1943 شهد الجنوب الإيطالي تقدّماً لقوات الدوتشي بناء على إيحاءات تشرشل مدفوعاً بالخوف من شبح حصار بلشفي . وقامت الولايات المتحدة بدعم ملك إيطاليا الذي تعاون مع النظام الفاشي . وفرضت ديكتاتورية المارشال "بادرغليو"، تماما كما فعل روزفلت عندما نصّب عام 1942 الأميرال "دارلان" - لا الجنرال ديغول - على الجزائر كما سنرى.
      كان الهدف منع المقاومة ضد الفاشية من الوصول الى السلطة، وكان الشيوعيون قد لعبوا دوراً حاسما في صفوف هذه المقاومة . يقول "ديفيد ماك ميشيل" في كتابه "أكاذيب عصرنا": "منذ أن تسرب التقرير المعروف باسم تقرير بايك عام 1976 إلى الكونغرس، بات معروفا مدى تدخل الولايات المتحدة في الحياة السياسية في ايطاليا . وكان الأمر يتعلق بمبلغ 65 مليون دولار، قُدمت كمساعدات مالية لأحزاب سياسية مرضيٍّ عنها، وإلى شركاء لها، وذلك بين عام 1948 وبداية السبعينات . وفي عام 1976 سقطت حكومة "ألدو مورو" في إيطاليا، بعد ما كُشف أن وكالة المخابرات المركزية أنفقت ستة ملايين دولار لدعم المرشحين المعادين للشيوعية" .
      بحلول 1943 بدأت الولايات المتحدة بإعادة المتعاونين مع الفاشية والمتعاطفين معها في ايطاليا الى مواقعهم السابقة، وهو النمط الذي انتشر عبر العالم مع تحرير مختلف البلدان من النازية، وذلك بهدف استخدام التسامح مع الفاشيين كحاجز في وجه التغيّر الاجتماعي الذي تنادي به القوى اليسارية.
      أدرك مخططو ما بعد الحرب الثانية أنّه يجب استعادة النظام اليميني التقليدي وسيادة أصحاب الأعمال مع تقسيم وإضعاف التكتلات العمالية، وتتحمل الطبقة العاملة والفقراء أعباء إعادة البناء . وقفت مقاومة الفاشية كعقبة رئيسية أمام ذلك، في جميع أنحاء العالم . وكثيرا ما تمّ استخدام المتعاونين مع الفاشية والنازية . احتاجت المسألة إلى استخدام العنف البالغ في بعض الأحيان، ونجحت في الأحيان الأخرى اساليب أكثر نعومة، مثل التلاعب في الإنتخابات، ومنع وصول القوت الضروري .
      وقد أرسى روزفلت عام 1942 النموذج الذي يُحتذى عندما عين الأدميرال "جان دارلان" – كما قلنا - حاكما عاما على شمال أفريقيا الفرنسي . كان "دارلان" أحد أركان التعاون مع النازيين، وقد وضع قوانين معاداة السامية التي عمّمتها حكومة فيشي (الحكومة الفرنسية الألعوبة في يد النازيين) . في إيطاليا فَرَضتْ الولايات المتحدة بناء على نصيحة تشرشل حكومة يمينية استبدادية على رأسها الماريشال الفاشي "بادجليو" والملك "فيكتور عمانوئيل الثالث" المتعاون مع الفاشيين . أدرك مخططو السياسة أنّ ما يهدّد أوروبا ليس عدوانا من الاتحاد السوفيتي، ولكن الحركات والأفكار الديمقراطية المعادية للفاشية عند العمال والفلاحين ..
      احتاطت المخابرات الأمريكية من أن يفوز الشيوعيون بانتخابات عام 1948 الحاسمة في إيطاليا، واتخذت اجراءات عديدة منها: إعادة الشرطة الفاشية، وتحطيم اتحادات العمال، وعرقلة امدادات الطعام، ومع هذا، لم يكن هناك ما يضمن هزيمة الشيوعيين .
      حددت مذكرة الأمن القومي الأولى عام 1948 (NSC 1) عدة اجراءات تُتخذ في حالة فوز الشيوعيين بالانتخابات تضمنت احداها التدخل العسكري لمساعدة الحركات العسكرية السرية (الفاشية) في إيطاليا .
      تحمّس البعض – خصوصا جورج كينان – للعمل العسكري قبل الانتخابات، فهو لم يرد السماح بأي قدر من المخاطرة، ولكن أقنعه الآخرون بأنه يمكن تدارك الانتخابات بالتلاعب الأمر الذي ثبتت فاعليته .

      160000 قتيل في اليونان بسبب إعادة أمريكا للفاشية إلى الحكم:
      أما اليونان فقد دخلت إليها القوات البريطانية بعد خروج النازية، وفرضت نظام حكم فاسد، مما اثار مقاومة جديدة لم تستطع بريطانيا الآفلة مساندته، فتدخلت الولايات المتحدة عام 1947 ودعمت حربا وحشية أسفرت عن 160000 قتيل من اليونانيين. اكتملت تلك الحرب بالتعذيب ونفي عشرات الألوف من اليونانيين، ودخول عشرات الألوف الآخرين في "معسكرات إعادة التعليم"، وتدمير النقابات وأيّة امكانيات للاستقلال السياسي .
      مكّنت تلك الحرب قبضة المستثمرين الأمريكيين ورجال الأعمال المحليين من أن تُطبِق على اليونان، بينما اضطر كثير من اليونانيين للهجرة طلبا للأمن وللقوت . شملت قائمة المستفيدين أولئك المتعاونين مع النازي، بينما شملت قائمة الضحايا أولئك الذين قاوموا النازي من العمال والفلاحين .

      100000 قتيل في كوريا بسبب إعادة أمريكا للفاشية إلى الحكم:
      عندما دخلت قوّات الولايات المتحدة كوريا في عام 1945، عزلت حكومة ذات شعبية معادية للفاشية قاومت الاحتلال الياباني، وأشعلت حربا ضروسا، واستعانت بعناصر من الشرطة اليابانية الفاشية والكوريين المتعاونين معهم خلال الاحتلال الياباني لكوريا . سقط في كوريا 100000 قتيل على أيدي الحكم الفاشي، وذلك قبل نشوب ما سُمّي بالحرب الكورية – وفي إقليم واحد صغير هو "جزيرة شيخو" سقط 30000 – 40000 قتيل في اثناء ثورة الفلاحين بسبب بطش الفاشيين الذين قامت الولايات المتحدة بإعادتهم إلى الحكم .

      بعد الحرب كشفت القيم الأمريكية عن وجهها القبيح:
      لقد كشفت القيم التي تحكم السياسة الأمريكية والبريطانية عن وجهها القبيح في شمال إيطاليا، والتي كانت تحت سيطرة المقاومة المناهضة للنازية، وذلك حينما وصلت جيوش التحالف لتجد نظاما اجتماعيا فعّالاً وقاعدة اقتصادية قوية . لقد تم وقف عملية طرد العمال، وأقيمت مجالس للإدارة العمالية، وانتُخب ممثلون عن العمال، وهي إنجازات لم تكن ترضى عنها بريطانيا، وكان من الواجب تدميرها، بحسب نصيحة "برين" الملحق التجاري البريطاني لحكومته . لقد اعترف بأن مشكلة إيطاليا الأخطر تكمن في كيفية استعادة قوات التحالف لنظام العمل التقليدي قبل قيام التنظيمات المناهضة للنازية . لقد جعلت قوات التحالف من أولوياتها الفعالة حماية الملكية ونزع سلاح المقاومين وإخضاع لجنة التحرير القومي "للسيطرة" . لقد صارت حركة المقاومة بعد الحرب مصدرا لقوة مستقلة ومن ثم وجب كبحها، وبالمثل كان على الحكومة العسكرية أن تولي اهتماما لعملية "تنوير عقول الشعب الإيطالي نحو طريقة للحياة الديمقراطية"، بحسب ما أعلنه رئيس قوات التحالف الأدميرال "إليري ستون" في تقرير أثنت عليه وزارة الخارجية الأمريكية واعتبرته "رائعاً" .
      لقد أبدت حكومة التحالف العسكرية مخاوفها من إعادة البناء الإجتماعي في إيطاليا بما قد يؤدي إلى اضطراب شعبي يتجه نحو المطالبة بملكية عامة لوسائل الإنتاج الصناعي، وترتيب البناء الهرمي للمجتمع الإيطالي في غير صالح أصحاب المشروعات الصناعية الكبرى . وللحيلولة دون ظهور أية توجهات مضادة للفاشية تقوم على أساس طبقي، قامت حكومة التحالف العسكرية في إيطاليا بتفتيت الاتحادات العمالية وتهميشها، وتمت استعادة البناء الهرمي في الصناعة الإيطالية . هكذا كانت قوة حكومة التحالف قادرة على "كبح جماح الطبقة العاملة والحفاظ على الامتيازات لكبار المقاولين من الرأسماليين" .
      لقد كان العمال دوما مشكلة لأنهم كانوا "مؤثّرين للغاية" عبر الاتحادات العمالية بما يهدد استقرار النظام، ولذلك كان من الواجب تعليمهم نموذج اتحاد العمال الأمريكي البعيد عن ممارسة السياسة . ويقوم هذا النمط على مثال "اتحاد العمال الأمريكي – AFL" المؤلف من "دائرة صغيرة من موظفي الإتحاد" الذين لا ينخرطون في السياسة إلا بمقدار ما يُسمح لهم بالموافقة والتصديق، ويحافظون على علاقاتهم الوثيقة بكل من المخابرات الأمريكية ووزارة الخارجية، ويركزون على العمليات ذات "الأهداف الإستراتيجية" . لقد فجر الشيوعيون مشكلة أنهم يحظون بثقة الشعب بفضل اتحادهم على المستوى الشخصي وبفضل سجلهم المناهض للفاشية، وذلك كما يقول الملحق التجاري الأمريكي "جون آدامس" . لقد بُنيت شعبية الحزب الشيوعي بين العمال الإيطاليين على حقيقة دفاعه عن حقوق العمال، ولهذا (والكلام لآدامس) لا بُدّ من تقويض الاتحاد العمالي من أجل مصالح "الإعتدال" و"الديمقراطية" . لقد أوضحت الولايات المتحدة بشكل قاطع أنه سيتم قطع المساعدات، وأن إيطاليا ستُترك وحيدة بلا عون إذا لم يلتزم الناخبون بتعهداتهم، وهو ما جعلهم يقومون بعملية انتخابية يسمونها "ديمقراطية تحت الإكراه". وتم التخطيط لوسائل أكثر قمعية تحسّبا لما قد لا تحقّقه "العملية الديمقراطية" .

      الجيش الأمريكي يعتمد كرّاسات الجيش النازي والفاشي:
      لقد صاغت الولايات المتحدة حين دخلت جيوشها الدول الأوروبية بعد اندحار دول المحور، مبادىء مقاومة الإنتفاضات الشعبية التي قاومت النازية والفاشية على هدي انجازات وممارسات فاشية من الحرب العالمية الثانية، مع أن النموذج النازي كان هو النموذج المفضل . ويلاحظ بعض المحللين "التشابه المفزع بين النظرة النازية للعالم والنهج الأمريكي في الحرب الباردة" . تعترف الكراسات نفسها - أي كراسات الجيش الأمريكي في الخمسينات - بالشبه الشديد بين المهام التي وضعها هتلر لنفسه والمهام التي اضطلعت بها الولايات المتحدة على نطاق عالمي بمجرد توليها الصراع ضد المقاومة المعادية للفاشية وغير ذلك من المجرمين (الذين تُلصق بهم تسميات من قبيل "شيوعيين" و"إرهابيين") . وتتبنى كراسات الجيش الأمريكي منظومة المصطلحات النازية نفسها كأمر مُسلّم به، حيث كانوا يسمّون الأنصار بـ "الإرهابيين" بينما كان النازيون "يحمون السكان" من عنف الإرهابيين . أمّا قتل "كل من يقدّم المساعدة بشكل مباشر أو غير مباشر لهؤلاء الأنصار" أو اي شخص يخفي معلومات عنهم فهو أمر قانوني حسب اتفاقيات جنيف !! كما يقول الأمريكيون. كان الألمان والمتعاونون معهم محرّرو الشعب الروسي . وساعد قدامى ضباط الجيش الألماني النازي في إعداد كراسات الجيش الأمريكي التي اختارت دروساً مهمة مثل "الإخلاء الكامل للسكان من المناطق التي تشهد نشاطات الأنصار وتدمير كل المزارع والقرى والمباني في المنطقة بعد الإخلاء" . إنها السياسات التي أشاد بها مستشارو كندي من الحمائم . أوصت كراسات الجيش الأمريكي بتكتيك الخوف، واختطاف أو اغتيال أعضاء معارضة مختارين بعناية لتخويف كل الناس من التعاون مع حرب العصابات وهي الأساليب التي اتبعتها الولايات المتحدة في أمريكا الجنوبية . ولا يُستثنى المدنيون حين يختارون الجانب الخطأ .. (لقد نشرت مجلة التايمز مقالة تصوّر (كيف دُكّت مدينة "فينه" الفيتنامية التي تسمّى "درسدن فيتنام" – ودرسدن مدينة ألمانية دمرتها القاذفات الأمريكية تماما عام 1945 وكانت مركزا لتجمع اللاجئين الفارين أمام تقدم الجيش الروسي وقتلت بين 300000 – 500000 مدنيّاً. ومثل ذلك دمّرت الطائرات الأمريكية مدينة "فينه" الفيتنامية بقاذفات ب – 52 لأنها كانت "موقع ملعون" يحتضن المقاومين "الإرهابيين"، وسُوّيت هذه المدينة البالغ سكانها 600000 نسمة بالأرض كما أفاد مسؤولون كنديون وحولت مناطق واسعة من جوارها إلى ما يشبه سطح القمر، وهي أفعال تفوق بشاعتها بشاعة ما كان يقوم به النازي

      تعليق


      • #18
        احتضان الولايات المتحدة الضباط النازيين وتشغيلهم بعد الحرب:
        بعد الحرب العالمية الثانية سعت الولايات المتحدة إلى تدمير الاتحاد السوفيتي ونخره اقتصاديا بصورة علنية. لكنها اتبعت أيضاً وسائل سرّية في تلك المرحلة تضمنت إرسال معدات وعملاء يندسّون في صفوف جيوش الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية، والتي كانت قد صمدت أمام هتلر، ووضع إدارة أجهزة التجسس في ألمانيا الفدرالية بيد "رينهارد غيلين" الذي كان يدير أجهزة التجسس العسكرية النازية في الجبهة الشرقية، وتجنيد مجرمي الحرب النازيين للمشاركة في المشروع الأمريكي الشامل لما بعد الحرب، والذي يهدف لتحطيم المقاومة المعادية للفاشية . ولأن العملاء من أمثال هؤلاء المجرمين لا يمكن حمايتهم في أوروبا، فقد أرسلوا، كل حسب مهمته، إلى بلد من بلدان أمريكا اللاتينية .
        وفي كتاب لـ "كريستون سيمبسون" بعنوان "انفجار" صدر عام 1988:
        "قامت أجهزة التجسس الأمريكية، والأجهزة المعادية للمقاومة، بتجنيد مجرمي الحرب النازيين الكبار، مثل كلاوس باربي الذي يعتبر بدون شك، الأكثر شهرة بينهم " .
        وعمل النائب العام الأمريكي ماك كلوي على اطلاق سراح مجرم حرب نازي اسوأ حتى من باربي، وكان يطلق عليه اسم (فرانز 6) والذي كان يعمل تحت إمرة (رينهارد غلين) الذي أوكلت إليه مهمة تشكيل "جيش سري"، تحت الرعاية الأمريكية، وبالتعاون مع أعضاء قدامى في جهاز الأمن النازي واختصاصيين آخرين في جهاز قوات الدفاع الوطني النازية والذين كانوا قد قدّموا العون للقوات العسكرية الميدانية التي وضعها هتلر في بلدان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي، وساعدوا بعد انتهاء الحرب في عمليات استمرت حتى أعوام السبعينات . وكان غلين نفسه رئيسا للاستخبارات العسكرية النازية في اوروبا الشرقية، وقد عُهد إليه فيما بعد، في الدولة الألمانية الجديدة بمنصب مدير إدارة التجسس والتجسس المضاد، تحت مراقبة صارمة من المخابرات الأمريكية.
        وقد أعادت الولايات المتحدة تشغيل المئات - إن لم نقل الآلاف - من رجال المخابرات والاستخبارات النازيين في دول مختلفة، ويهمني هنا أن أقدّم نبذة عن أشهر ضابطين نازيين احتضنتهما الولايات المتحدة وأعادت تشغيلهما في مناصب وعمليات خطيرة وشهيرة جدا، وهما:
        أوّلاً: الجنرال (رينهارد غلين):
        ولد في 3/أبريل/1902، وهو جنرال ألماني كان رئيسا لوحدة الإستخبارات العسكرية النازية في الجبهة الشرقية خلال الحرب الثانية حيث ارتكب جرائم حرب حقيقية، ثم أصبح قائدا لما سمّي بـ (منظمة غلين) ثم أول رئيس لوكالة الإستخبارات الألمانية الفدرالية خلال الحرب الباردة . ويعتبر واحدا من أعظم أساطير سادة التجسس في الحرب الباردة . وقد قامت الولايات المتحدة بتجنيده خلال الحرب الباردة بعد أسره في 22 آيار 1945 في بافاريا ليقوم بتشكيل خلية تجسسية موجّهة ضد الإتحاد السوفيتي سمّيت بـ (منظمة غلين) جمع فيها العديد من الضباط الألمان النازيين السابقين من الحرس الخاص والحرس الحديدي ثم أصبح رئيسا لوكالة الإستخبارات الألمانية حتى عام 1968 .
        بعد أسره، تم التحقيق معه من قبل ضابط الاستخبارات الأمريكي (جون بوكر)، وكان قد قام بدفن أكثر من 50 صندوقا مليئة بالوثائق عن القيادة العسكرية الألمانية العليا في أماكن متفرقة، وكذلك معلومات مهمة جدّاً عن الإتحاد السوفيتي والجيش الأحمر التي افتقد إليها الحلفاء بعد اسدال الستار الحديدي في عام 1946 . عرض على المحققين الأمريكان شحنات وثائقه ومعلوماته عن الاتحاد السوفيتي وتوظيف صلاته التجسسية داخل روسيا لمصلحة الولايات المتحدة مقابل حريته وحريّة زملائه الضباط المعتقلين في معسكرات الأسر داخل الولايات المتحدة . في 20 أيلول 1945 تم نقل غلين – بمعرفة الرئيس إيزنهاور وجون دالاس وريشارد دونوفان - إلى الولايات المتحدة حيث بدأ العمل مع الأمريكان في معسكر الأسر مع زملائه . في تموز 1946 أطلق سراح غلين رسميا من الأسر ونُقل إلى ألمانيا حيث بدأ النشاط المخابراتي في 6 أيلول 1956 بتأليف منظمة من الضباط النازيين الألمان السابقين تحت تسمية تمويهية هي (منظمة التنمية الصناعية لجنوب ألمانيا) . استدعى غلين 350 ضابطا نازيا مخابراتيا للإرتباط به، ثم تصاعد العدد تدريجياً إلى 4000 عميل سري . أطلق على هذه المنظمة اسما حركيّاً هو "منظمة غلين" . كانت هذه المنظمة تحت الإشراف المباشر للجيش الأمريكي في البداية، لكن غلين نجح في إقناع الأمريكان بوضعها تحت إشراف وكالة المخابرات في عام 1947 . كانت هذه المنظمة ولسنوات طويلة عيون وآذان الوكالة في التجسس على الاتحاد السوفيتي . كل أسير ألماني عاد من الاتحاد السوفيتي بين 1948 و1955 تم استجوابه من قبل هذه المنظمة . زرعت المنظمة العديد من العملاء داخل الإتحاد السوفيتي .
        ثانياً: كلاوس باربي
        ولد في 25 تشرين أول 1913، وكان ضابطا في الحرس الخاص النازي وعضو في الغستابو، يلقب أيضا بـ "سفّاح ليون" لأنه كان يقوم بنفسه بتعذيب السجناء الفرنسيين من المقاومة الفرنسية كرئيس لدائرة الغستابو في مدينة ليون الفرنسية في أثناء احتلالها حيث كان يقوم بتكسير أطراف السجناء وصعقهم بالكهرباء رجالا ونساء وأطفالا، واغتصابهم مستخدما الكلاب أحيانا . كان باربي مسؤولا عن موت 14000 شخص !!. بعد الحرب استخدمته وكالة المخابرات الأمريكية في حربها ضد المنظمات الماركسية ونجحت في تهريبه إلى أمريكا الجنوبية . وهناك قام بالمساهمة في أخس وأشهر عمل في تاريخ الإستخبارات الأمريكية في أمريكا اللاتينية وهو ألقاء القبض على المناضل الأرجنتيني الثائر الخالد العظيم "تشي غيفارا" عام 1967 وإعدامه . وقد وضع الخطة مستخدما خبرته في الحرب المضادة لحرب العصابات . كما كان له دور في الإعداد لانقلاب عسكري في بوليفيا عام 1980 . بعد انهيار الديكتاتورية في بوليفيا لم يعد بالإمكان حمايته حيث تم تسليمه إلى الحكومة الفرنسية عام 1983 حيث أدين بجرائم حرب ومات في السجن .

        تفسير ومعلومات من المؤرّخ "نعوم تشومسكي":
        ردا على سؤال للصحفي "ديفيد بارساميان" عن كيف تم احضار أعداد كبيرة من مجرمي الحرب النازيين المعروفين وعلماء صناعة الصواريخ وحراس المخيمات وغيرهم إلى الولايات المتحدة، قال المؤرخ "نعوم تشومسكي":
        (كانت هنالك أيضا عملية شملت الفاتيكان !! ووزارة الخارجية الأمريكية والمخابرات البريطانية حيث أخذت بعض اسوأ المجرمين النازيين واستخدمتهم في أوروبا أولا . فهنالك على سبيل المثال: كلاوس باربي، جزّار مدينة ليون الفرنسية، الذي أخذته المخابرات الأمريكية وإعادته إلى العمل، وعندما تحول هذا الموضوع إلى حديث الساعة فيما بعد، لم يجد بعض المسؤولين الأمريكيين أي تفسير لتلك الجلبة . فقد دخلنا أخيرا إلى ألمانيا لكي نحل محل الألمان . كنا بحاجة إلى شخص يشن هجوما على المقاومة اليسارية وقد حصلنا على خبير في المجال . هذا ما كان يفعله بالنازيين . فهل يوجد من يقوم لنا بهذا العمل بطريقة افضل؟
        وعندما لم يعد الأمريكيون قادرين على حماية باربي، تم إرساله إلى أمريكا اللاتينية على يد مجموعة من الكهنة الكروات النازيين وأشخاص آخرين . وهناك تابع عمله، فأصبح سيد المخابرات وتاجرها الأكبر، كما شارك في تمرد عسكري في بوليفيا . وكان ذلك كله بدعم من الولايات المتحدة . إلا أن باربي كان صغيرا على القيام بهذه العمليات التي تتطلب عدداً لا بأس به من النازيين الكبار وهكذا استطعنا إرسال "والاروف" الذي ابتدع غرف الغاز، إلى تشيلي، في حين رُحّل آخرون إلى إسبانيا الفاشية .
        كان الجنرال "رينهارد غلين" رئيسا للمخابرات العسكرية الألمانية على الجبهة الشرقية، حيث كانت تنفذ جرائم الحرب الحقيقية . والآن نحن بصدد الحديث عن أوشفيتز ومخيمات موت أخرى، إذ نقل غلين وشبكته المؤلفة من جواسيس وإرهابيين إلى هناك بمساعدة المخابرات الأمريكية ليقوموا بشكل أساسي، بالأدوار ذاتها .
        عندما تلقي نظرة على المؤلفات الأدبية التي تتناول موضوع إحباط المحاولات الانقلابية (يتم تصنيف الكثير منها الآن) تلاحظ أنها تبدأ بتحليل التجربة الألمانية في أوروبا، وقد كتبت بالتعاون مع الضبط النازيين حيث يتم وصف جميع الأشياء من وجهة نظرهم . مع ذكر كل التقنيات التي أدت إلى نتيجة في السيطرة على المقاومة، والتقنيات التي لن تؤدي إلى أي نتيجة . . لقد تركت الولايات المتحدة خلفها جيوشا أسسها النازيون في أوروبا الشرقية واستمرت في دعمها . لقد تم تجنيد مجرمي الحرب النازين وإنقاذهم وهو أمر في غاية السوء ولكن تقليد نشاطاتهم هو الأسوأ .وذلك من خلال عمليات أمريكية وبريطانية خلال الحرب والتي كان الهدف منها تدمير المقاومة المناهضة للفاشية وإعادة النظام الفاشي الكلاسيكي إلى السلطة) .

        النازية إبنة الحضارة الغربية:
        ومخطيء خطأ بليغا من يعتقد أن اللحظة النازية هي لحظة انبثقت من الفراغ و أنها لحظة ألمانية صرف . إنها النتاج الطبيعي والمؤكّد للحضارة الغربية، والتعبير السلوكي عن الرؤى المركزية في الفلسفة المادية الغربية الحديثة. كان الحلفاء يشربون من معين الفلسفة المادية نفسه الذي شرب منه النازيون وكان النازيون، كما يقول المفكّر الراحل د. عبد الوهاب المسيري، يدركون تمام الإدراك أن نظامهم النازي وممارساته الإبادية إنما هي ثمرة طبيعية للتشكيل الحضاري الغربي الحديث. ولعل أكبر دليل على أن الإبادة إمكانية كامنة، تضرب بجذورها في الحضارة الغربية الحديثة، أنها لم تكن مقصورة على النازيين وإنما تشكل مرجعية فكر وسلوك الحلفاء، أعداء النازيين الذين قاموا بمحاكمتهم بعد الحرب. فإرنست همنجواي، الكاتب الأميركي المعروف، كان يطالب بـ "تعقيم" الألمان بشكل جماعي للقضاء على العنصر الألماني. وفي عام 1940 م قال تشرشل إنه ينوي تجويع ألمانيا وتدمير المدن الألمانية وحرقها وحرق الغابات الألمانية. وقد عبر "كليفتون فاديمان" محرر مجلة النيويوركر، وهي من أهم المجلات الأميركية إبان الحرب، عن حملة كراهية ضارية ضد الألمان، تشبه في كثير من الوجوه الحملة التي شنها الغرب ضد العرب في الستينيات والتي يشنها ضد المسلمين والإسلام في الوقت الحاضر، حيث قال:
        (إضرام الكراهية لا ضد القيادة النازية وحسب، وإنما ضد الألمان ككل، فالطريقة الوحيدة لأن يفهم الألمان ما نقول هو قتلهم.. فالعدوان النازي لا تقوم به عصابة صغيرة.. وإنما هو التعبير النهائي عن أعمق غرائز الشعب الألماني. فهتلر هو تجسّد لقوى أكبر منه، والهرطقة التي ينادي بها هتلر عمرها 2000 عام).
        ولنأخذ مثلاً عمليّاً موثّقاً يتعلق بأسرى الحرب . فإذا كانت النازية نظاماً عدوانياً وعنصرياً لا يتورّع عن تجويع أسرى الحرب وتعذيبهم وقتلهم، فكيف نفسّر إبادة ما يقرب من مليون أسير حرب ألماني على أيدي آسريهم الفرنسيين والأمريكيين والبريطانيين؟
        لنقرأ هذه المعلومة:
        (لقد قضى 793239 جندي ألماني نحبهم في معسكرات الإعتقال الأميركية عام 1945 م، كما قضى 167000 ألف منهم في معسكرات الاعتقال الفرنسية نتيجة للجوع والمرض والأحوال الصحية السيئة، وفي الوقت نفسه كان يوجد ( 13,5 ) مليون طرد طعام في مخازن الصليب الأحمر، تعمّدت سلطات الحلفاء عدم توزيعها عليهم لغرض إبادتهم !!).
        يقول تشومسكي: (كان الأمريكان يديرون ما سُمّي بـ "معسكرات إعادة التأهيل" لأسرى الحرب الألمان . وقد رُحّب بهذه المعسكرات باعتبارها مثالاً كبيرا للأعمال الإنسانية. وذلك لأننا كنّا نعلّم الأسرى الأساليب الديمقراطية (بمعنى آخر كنا نملي عليهم كيفية قبول مفاهيمنا) . لقد كان السجناء يعاملون بطريقة وحشية . هذا بالإضافة إلى تجويعهم . وبما أن هذه المعسكرات كانت تنتهك المواثيق الدولية انتهاكا صارخا، فقد بقيت سرّية خشية أن يعامل الألمان أسرانا بطريقة مماثلة كشكل من اشكال الإنتقام. هذا وقد استمرت تلك المعسكرات بعد الحرب لفترة لا أعرف كم طالت . لكنني أعرف أن الولايات المتحدة احتفظت بأسرى الحرب الألمان حتى منتصف عام 1946، حيث كانوا يستخدمونهم في الأشغال الشاقة ويضربونهم ويقتلونهم . وقد كان الأمر أكثر سوءا في إنكلترا . إذ احتفظوا بأسرى الحرب الألمان حتى منتصف عام 1948 . وهذا بمجمله مناف للقانون.
        عندما كنت صغيرا كان هناك معسكر لأسرى الحرب بجوار مدرستي مباشرة . فكانت تنشأ نزاعات بين الطلاب حول موضوع توبيخ السجناء، ولم يكن الطلاب قادرين على العراك معهم لأنهم كانوا خلف حاجز، لكنهم كانوا يرمونهم بالحجارة ويشتمونهم . إلا أن مجموعة قليلة من الطلاب كانت تعترض على تلك الأعمال معتبرة إياها أعمالا فظيعة) .

        تعليق


        • #19
          لا تثقوا بالولايات المتحدة (14):


          هل كانت الولايات المتحدة تستحق ضربة بيرل هاربُر؟

          المهارة الأميركية في تزوير وقائع التاريخ:
          تتمتع الولايات المتحدة الأميركية بقدرة هائلة على تزوير وقائع التاريخ والتلاعب بها وفق مصالحها، محكومة بموقف بنيوي من التاريخ أسّسته عوامل النشأة القائمة على انقطاع تاريخي كامل ومحاولة إشادة أمّة على ركائز تاريخ حديث النشأة (منذ عام 1776 رسميّاً) . هذا التلاعب بوقائع التاريخ كانت له آثار وتأثيرات واضحة في تشكيل عقول "النخبة المثقفة" في أغلب بقاع العالم وفق معطياتها، خصوصا فيما يخص الحوادث الفاصلة في التاريخ ومنها ما يرتبط بسلوكها الإستعماري العدواني الدموي في الحرب العالمية (الغربية) الثانية. وقد قمت بتجربة بسيطة عند إعداد هذه الحلقة سألت فيها مجموعة من الأصدقاء من الكتاب العراقيين عن معلوماته عن معركة "بيرل هاربر"، فأشارت غالبيتهم إلى أنها "اعتداء" اليابان على ميناء بيرل هاربر "الأمريكي" . وأين يقع ميناء بيرل هاربر؟، أجابوا: في الولايات المتحدة وهو ميناء أميركي فلا يحق لليابان الإعتداء عليه . من أين جاء هذا الميناء للولايات المتحدة؟ لا أحد يعرف !! وما هو سبب هجوم اليابان؟ لأنها حليفة ألمانيا وإيطاليا (دول المحور) في الحرب الثانية وضد اميركا . هكذا سلسلة من المغالطات عن معركة بيرل هاربر نجحت الماكنة الدعائية الرهيبة للولايات المتحدة الأميركية في ترسيخها في أذهاننا – أذهان النخبة فتصوّر - وخصوصا في ما شاهدناه من أفلام سينمائية مُحكمة عن هذه المعركة .

          تساؤلات هامّة:
          إن "عدوان" اليابان على بيرل هاربور يوم السابع من كانون الأول عام 1941 ينقصه سؤال: كيف امتلك الأمريكان قاعدة عسكرية في بيرل هاربر؟ وكيف تسنى لهم الإحتفاظ بمستعمراتهم في هاواي جملة؟
          ولنسأل أوّلاً: ما هو "بيرل هاربر "؟ وهل هو أرض أميركية أصلاً؟
          إنّه ميناء يقع في جزيرة "هاواي" .
          طيّب .. وما هي هاواي؟
          إنّ هاواي الآن ولاية تابعة للولايات المتحدة الأميركية .
          وهذه كارثة إذا اكتفينا بهذا الجواب . فكيف صارت هاواي ولاية اميركية، وماذا كانت؟
          هنا يأتي التاريخ المغيّب الذي تلاعبت به الولايات المتحدة .
          لقد كانت هاواي أيها الأخوة مملكة مستقلة فيها شعب وله دولة يحكمها ملك . ثم احتلتها الولايات المتحدة وضمّتها إلى أراضيها وصارت الولاية الخمسين، وصار ميناء بيرل هاربر (ميناء اللؤلؤ) أرضاً أمريكية بالإحتلال والإكراه وخلع الملكة وسجنها !! فكيف تمّ ذلك؟

          نبذة عن مملكة هاواي:
          هاواي تتكون من أرخبيل من الجزر في المحيط الهادي تبلغ مساحته 166,642 كم. وبحسب إحصائات السكان لعام 2000، فإن عدد سكان هاواي هو 1,211,537 نسمة. "هنولولو" هي العاصمة وأكبر المدن، تتكون هاواي من 19 جزيرة رئيسية.
          بيئيا وزراعيا، تعتبر هاواي عاصمة الأنواع المهددة بالانقراض في العالم، وهي المكان الوحيد الذي تعتبر فيه صناعة القهوة جزءا من الإنتاج الصناعي في الولايات الأمريكية المتحدة. كما أن من أهم منتجات هاواي الزراعية هي الأناناس والموز وقصب السكر وجوز الهند.
          وبيرل هاربور (بالإنجليزية: Pearl Harbor أي ميناء اللؤلؤ) ميناء يقع على جزيرة أواهو، التي ينتمي إلى جزر هاواي. ويُعتبر هذا الميناء أحد أميز المرافئ في العالم بمساحته الشاسعة وموقعه البحري ذي الحماية الطبيعية. ويتشكل من مصبّين لمجرى نهر بيرل على مسطح مائي تربو مساحته على 26 كم² صالحة للملاحة، وبه ثلاث (أشباه بحيرات) وهي بحيرات بشواطئ أرضية شبه مكتملة. واشتُق اسم الميناء من محار اللآلئ الذي كان ينمو بمياهه قديمًا.

          الوحش الأمريكي يقترب:
          في عام 1898، أعلن وزير خارجية الولايات المتحدة "جيمس بلين" – بعد أن هناك ثلاثة أمكنة مهمة تستحق الاحتلال الأولى هاواي ثم كوبا وبورتو ريكو.
          جزيرة هاواي تثير الشهية لأكثر من سبب كونها محطة عالمية في الطريق إلى الصين، إضافة إلى أنها تتمتع بمياه غنية بالأسماك. وقد تعوّدت السفن الأمريكية أن ترسو في موانئها منذ عام 1820 وفي العام ذاته عين الرئيس مونرو ممثلاً دائماً لأمريكا في هونولولو. ولم تتأخر الإرساليات البروتستانتية بإقامة مراكز دعوة لها في كل مكان من الجزيرة، وعملت هذه الإرساليات بنشاط لدعوة السكان إلى الدين المسيحي مرفقة بحملة دعائية لصالح أمريكا على المدى الطويل. في الفترة ما بين 1820 - 1840 كان أكثر من 400 مركب صيد تتردد سنوياً على مرافئ هاواي. وقامت تجارة ثلاثية الأطراف بين المرافئ الأمريكية على المحيط الهادي وهونولولو والصين، وكان خشب الصندل لجزيرة هاواي مطلوب جداً، وكذلك منتجات الشرق الأقصى التي تصدرها الإمبراطورية الوسطى. ومنذ عدة سنوات كان المستوطنون الأمريكان قد اختاروا هذا الركن من العالم وسط الأمواج العالية حيث استولوا على مزارع قصب السكر، وكان السوق الوحيد المفتوح أمامهم بالطبع هو سوق الوطن الأم. ومع مرور الزمن حيكت الأواصر الضرورية من أجل ضم الجزيرة مستقبلاً. فالإرساليات أبهرت العقول، والمستوطنون أمّنوا الإنتاج، وتم توقيع معاهدة للتبادل التجاري بين الملك كالاكاوا والرئيس غرانت عام 1875. حسب نصوص هذه المعاهدة يُسمح للمنتجات في هاواي أن تدخل بحرية إلى الولايات المتحدة، كذلك تم تأمين استعمال مرفأ بيرل هاربر أمام سفن العم سام.
          ومن جديد نحتاج لأن نقول إن "عدوان" اليابان على بيرل هاربور يوم السابع من كانون الأول عام 1941 ينقصه سؤال: كيف امتلك الأمريكان قاعدة عسكرية في بيرل هاربر؟ وكيف تسنى لهم الإحتفاظ بمستعمراتهم في هاواي جملة؟

          كيف احتلت الولايات المتحدة هاواي وسجنت ملكتها وضمّتها إلى أراضيها؟:
          والجواب كما يقول تشومسكي: (هو أننا سرقنا هاواي من شعبها، بالقوة والخداع، قبل نصف قرن تماما من ذلك التاريخ المشؤوم . وكان من دوافع ذلك الحصول على قاعدة بيرل هاربر . لقد دافعت الولايات المتحدة عن استقلال هاواي طيلة عهد قوة الرادع البريطاني . وفي عام 1842 أعلن الرئيس "جون تايلر" الرئيس العاشر للولايات المتحدة أن لا رغبة للولايات المتحدة بأية منافع خاصة في هاواي، وهي راضية كل الرضا عن وجودها المستقل . وقد اعترفت بلدان أوروبا الرئيسية وغيرها باستقلال هاواي الذي تقرّر بمعاهدات وإعلانات كثيرة) . لكن ظهر بعد قليل أن هذا الموقف موقف سافل آخر من الأمريكيين حيث انتهت هاواي لتصبح ولاية أمريكية أصيلة . كيف حصل ذلك؟ وأين وعود هذا الرئيس باحترام استقلال هاواي؟ وأين ذهبت اعترافات دول أوروبا بها كدولة؟
          بدأ المستوطنون الأمريكيون بالتغلغل شيئا فشيئا في الجزيرة، وأقاموا مصانع للسكر، وبدأ الساسة الأمريكيون بالإعلان أن أهمية الجزيرة التجارية والعسكرية لا تُقدر بثمن للإنطلاق صوب اسواق المحيط الهادي . وبدأ المستوطنون بإثارة المشاكل للسكان الأصليين وحكومة المملكة، وطلبوا المساعدة من الولايات المتحدة. فحصل أول إنزال لقوات مشاة البحرية من أجل مساندة المستوطنين عام 1873 أي بعد ثلاثين سنة من إعلان الرئيس "تايلر" المدوّي لاستقلال هاواي. وبعد فشل طغمة المزارعين المستوطنين في الوصول إلى السلطة عن طريق انتخابات عام 1886، عمدوا إلى تنظيم انقلاب عسكري نُفّذ بعد عام من ذلك بمساعدة ذراعهم العسكري "رماة هاواي"، وضَمَن الدستور الذي فُرض على الملك "كالاكوا" بقوّة الحراب، حق المواطنين الأمريكيين بالتصويت لأنهم "يملكون"، ونُزع هذا الحق عن جزء كبير من السكان الأصليين لأنهم لا "يملكون"، ومنع المهاجرين الآسيويين بوصفهم "غرباء"، كما كان من نتائج الإنقلاب تسليم مصب "نهر اللؤلؤ – Pearl River" للولايات المتحدة لتقيم قاعدة عسكرية فيه.
          ضَمَن التدخل الأمريكي العسكري المتكرّر حسن سلوك الناس. صارت السفن الحربية تحمي المصالح الأمريكية التي صارت تتضمن أربعة أخماس الأرض الصالحة للزراعة في هاواي .
          بعد وفاة الملك "كالاكوا" اّل العرش لشقيقته "ليلوكيل" التي حاولت – في كانون الثاني 1892- تغيير الدستور ليسمح للسكان الأصليين بمارسة حق الإنتخاب سواءً أكانوا يملكون أم لا يملكون، وتقليص نفوذ الأمريكيين. أدى ذلك لضغوط من المستوطنين الأمريكان على الملكة لإلغاء تلك التعديلات. ثمّ إتصل ممثل أمريكا في هاواي بالملكة وعرض عليها ربع مليون دولار كرشوة لضم هاواي لأمريكا إلا أنها رفضت. وتمّ إستدعاء الأسطول الأمريكي الذي وصل عام 1893 وأعلن الأمريكيون نهاية النظام الملكي وإقامة جمهورية. استسلمت الملكة - برغم احتجاجها - للقوة الأمريكية المتفوقة، وتنازلت عن العرش أملا بإنقاذ أنصارها من الموت. غُرّمت الملكة الأسيرة خمسة آلاف دولار وحُكم عليها بالسجن لمدة خمس سنوات مع الأشغال الشاقة بسبب جرائمها ضد النظام العام (خُفّض الحكم عام 1896).
          هكذا أُسّست الجمهورية في هاواي تحت حراب المحتل الأمريكي، ونَصّب المزارع الأمريكي "ستانفورد دول" نفسه رئيسا في الرابع من تموز 1894 (تُقدّم كل رشفة عصير الأناناس من ماركة "دول" فرصة طيبة للاحتفال بانتصار آخر من انتصارات الحضارة الغربية كما يقول تشومسكي) . وإعترف الرئيس الأمريكي "هارسون" بالنظام الجديد. وفي عام 1898 إعلن الكونغرس ضم هاواي لأمريكا !!. وبرغم ذلك، ولأن البيض كانوا أقلية، فإنها لم تُمنح وضع ولاية إلّا في عام 1959.
          أزالت قبضة الحكم الحديدية أي تدخل باقٍ من قبل "الأغلبية الجاهلة" كما سمّاهم المزارعون الأمريكيون الأغنياء مع أنهم مازالوا يشكلون 90% من السكان . وسرعان ما تم تشتيتهم وإفقارهم ومحقهم وطمس ثقافتهم وسرقة أراضيهم.
          وقد تكشّفت معلومات لاحقاً تشير إلى أن المستوطنين الذين استولوا على الحكم - ولأنهم مرتزقة وليسوا سياسيين - باعوا الجزيرة للحكومة الأمريكية مقابل 60 مليون دولار!!.
          بهذه الطريقة، صارت بيرل هاربر قاعدة عسكرية كبرى في هاواي المستعمرة الأمريكية المحتلة. وتعرّضت بعد خمسين عاماً لـ "هجوم غادر" مشين من قبل اليابانيين الوحوش كما يصفهم الساسة الأميركيون، فهل كان هجوما غادراً؟ وهل كانت الولايات المتحدة مسكينة ومظلومة في هذا العدوان؟

          دفاع رئيس وزراء اليابان قبل شنقه:
          عندما تم شنق رئيس الوزراء الياباني "هيديكي توجو" عام 1948 كمجرم حرب من الدرجة الأولى دافع بعناد عن الهجوم على بيرل هاربر بأنه كان فعلا اضطراريا. فهل يكمن في دفاعه هذا جزء مهم من الحقيقة، وما هو؟

          جذور الإستفزاز الأمريكي لليابان:
          بعد أن خاطرت الإمبريالية الأمريكية بنفسها، وذلك بالتدخل للمرة الأولى خارج منطقة نفوذها، أقحمت نفسها بالسير وراء الإنكليز عندما فتح هؤلاء الباب أمامها بإجبارهم الصينيين على توقيع معاهدة نانكين في 29 آب 1842. فقد شاركت الولايات المتحدة عام 1844 في إخضاع الإمبراطورية الوسطى، واستفادت مادياً من أرباح تجارة الأفيون.
          في عام 1854 وصل الأميركيون إلى اليابان، وتحت تهديد المدافع أجبر الكومندان ماتو غالبوث بري (1794-1858) الذي اشترك في الحرب ضد المكسيك، اليابانيين على ترك أسطوله أن يحط مرساته أمام مدينة "أدو" اليابانية، خيار "أدو" لم يكن وليد صدفة. بالنسبة لليابانيين كانت أدو مركزاً حيوياً أعلن الأمريكيون عن عزمهم على قصفه أو إغلاقه بالحصار في حالة عدم استجابة اليابان لشروطهم. وبما أنهم أُجبروا على الإذعان، فقد تنازل اليابانيون ووقّعوا الاتفاقيات التجارية الأولى مع الولايات المتحدة، ولم يسبق لليابان أن قدمت مثل هذه التنازلات إلى أجنبي. أما الولايات المتحدة التي تشجّعت فقد عمدت إلى السير قدماً فيما حصلت عليه، فمعاهدات التبادل التي تم التفاوض عليها بالابتزاز والتهديد بالحرب من قبل القنصل الأمريكي "توسن هاريس" بدت أنها مجحفة بحق اليابان. وفي عام 1864 خفضت اليابان رسوم الجمارك إلى 5% من القيمة مما أدى إلى سلب سيادتها، أما الغربيون الذين لحقوا بالأمريكيين المستفيدين الرئيسيين بذلك فقد حققوا أرباحاً كثيرة عن طريق المضاربات في التعامل بمبدأ الذهب والفضة الذي لم يكن وفق النظام ذاته في اليابان. واستفادت بشكل أساسي من ذلك الولايات المتحدة فأصبحت المورد للأسلحة وللسفن التي كانت تغذّي الصراعات الداخلية. وساهمت زيادة الأسعار الناتجة عن استبدال النسيج المحلي بالنسيج الأجنبي والمحاصيل المخيبة للآمال نتيجة التكاليف الباهظة بارتفاع البطالة وبالضياع الاجتماعي في أرخبيل اليابان. وأمام هذا الغبن لن يتأخر اليابانيون بالتعبير عن ردة فعلهم التي يبدو أنها ستتطلب استفزازات أمريكية أكثر وأكبر لكي تنفجر في صورة ردّ عنيف.

          الإستفزازت الأمريكية لليابان تستمر:
          طلب وزير الخارجية الأمريكي "كورديل هل" في مفاوضاته مع الأدميرال الياباني "نومورا" قبل الهجوم على بيرل هاربر، أن تفتح اليابان أسواقها وأسواق دول شرق وجنوب شرق آسيا، وخصوصا الصين التي تسيطر عليها، أمام حرية التجارة الأمريكية . وافق اليابانيون في 7 تشرين الثاني، ولكنهم طالبوا بمبدأ المعاملة بالمثل في مختلف أنحاء العالم .
          هل في هذا الطلب بالمعاملة بالمثل اي شيء من الغرابة؟
          نعم . فالسياسي الأمريكي يقوم سلوكه على أساس الإستهتار والبلطجة . ولهذا كان وقع الطلب الياباني شديدا على "هل"، وقد قام بتذكير محدثي النعمة الوقحين هؤلاء بوجوب اقتصار تطبيق هذا المبدأ على منطقة النفوذ الياباني وحدها فحسب. وفي سياق رفضه الطلب الوقح الذي قدمه اليابانيون أسف "هل": "لسذاجة تفكير الجنرالات اليابانيين الذين كان صعبا عليهم أن يفهموا لماذا كان على الولايات المتحدة أن تؤكد زعامتها في نصف الكرة الغربي بمبدأ مونرو من ناحية، وأن تتدخل في الزعامة اليابانية في آسيا من جهة أخرى"، مذكّراً تلاميذه المتخلفين "الصفر الصغار" أن مبدأ مونرو "بصيغته الموحدة التي نفهمها ونطبقها منذ عام 1823، لا يتضمن إلا خطوات لحماية وجودنا المادي" .

          وقفة عند "مبدأ مونرو":
          لنسأل الآن ما هو "مبدأ مونرو" الذي يتحجج به الوزير الأمريكي هذا والذي يمنع اليابان من النشاط التجاري في نصف الكرة الغربي خصوصا؟
          إنّه مبدأ أعلنه الرئيس الأمريكي "جيمس مونرو" (خامس الرؤساء الأمريكيين) في رسالة سلّمها للكونجرس الأمريكي في 2 ديسمبر 1823م. نادى مبدأ مونرو بضمان استقلال كلِّ دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأوروبي بغرض اضطهادهم، أو التّدخّل في تقرير مصيرهم. ويشير مبدأ مونرو أيضاً إلى أن الأوروبيين الأمريكييّن لايجوز اعتبارهم رعايا مستعمرات لأي قُوى أوروبية في المستقبل.
          في الظاهر سيدهشك الحرص الإنساني الأمريكي، أمّا في الباطن فقد كان هذا الإعلان (مثل حق تقرير المصير الولسوني) سبب خراب شعوب أمريكا الجنوبية حيث صار شريعة للوحش الأمريكي لاحتلالها ومصادرة ثرواتها على أساس أن أمريكا الجنوبية هي "حديقة منزلنا الخلفي" كما كان يردد المسؤولون الأمريكيون. استبدل هذا المبدأ الإستعمار الأوروبي لأمريكا اللاتينية بالإستعمار الأمريكي.
          ففي أوائل القرن العشرين، أعطى الرئيس الأمريكي "ثيودور روزفلت" حياة ومعنىً لمبدأ مونرو؛ فقد أشار إلى أن الضعف والممارسات الخاطئة في أي من الدول الأمريكية الصغيرة ربما تغري الدول الأوروبية بالتدخل، وتؤثّر على الأمن القومي الأمريكي.
          ظهر للرئيس روزفلت أنَّ الدول الأوروبية لها ما يبرِّر مُحاولتها حماية أرواح مواطنيها وممتلكاتهم أو جمع الديون المُستحَقَّه لها في أمريكا اللاتينية، لذلك أكّد على أنَّ الدّفاع عن مبدأ مونرو يتطلّب من الولايات المتحدة منع هذا التّدّخل المبرَّر؛ وذلك عن طريق التّدخّل بنفسها. وتحت هذه السياسة، سياسة العصا الغليظة أرسلتْ الولايات المتحدة جيوشها إلى جمهورية الدومنيكان في عام 1905م، وإلى نيكاراجوا عام 1912م، وهاييتي عام 1915م. تلا ذلك رفع مبدأ مونرو كشمّاعة لكل المحاولات التدميرية والإغتيالات وفرق الموت والقصف الجوي والحصارات وغيرها الكثير من الأساليب التي اتبعتها الولايات المتحدة ضد كوبا وفنزويلا وغواتيمالا والإكوادور وهندوراس والسلفادور وتشيلي وغيرها الكثير من دول أمريكا اللاتينية التي أُخرج بعضها من الحياة والتاريخ

          تعليق


          • #20
            عودة:
            الولايات المتحدة تستعد لحرق اليابان قبل بيرل هاربر:

            لا أحد يجادل بأن اليابان كانت تمارس حقها المشروع في الدفاع التحسّبي عن النفس عندما قصفت قواعد عسكرية في مستعمرتي أمريكا الفعليتين: هاواي والفيلبين، وذلك لعلم اليابانيين بأن القلاع الطائرات الأمريكية من طراز (ب – 17) كانت يومها تترى خارجة من مصانع بوينغ في الولايات المتحدة، وكان في مقدورهم أن يقرأوا في الصحافة الأمريكية أن تلك الطائرات قادرة على إحراق طوكيو تماماً، وهي "المدينة المشيّدة بيوتها بالخشب وورق الأرز". واستقبل وزير الخارجية "كوردل هل" خطة لقصف طوكيو ومدن كبيرة أخرى - في تشرين الثاني 1940 - بحماسة منقطعة النظير . في حين طرب الرئيس الأمريكي الثاني والثلاثين "فرانكلين روزفلت" (يختلف عن الرئيس السادس والعشرين "تيودور روزفلت" ويلتقي معه في الجدّ الخامس) - ببساطة - للفكرة التي شرحها على الخرائط عقلها المُدبّر جنرال سلاح الجو "كلير لي شنو" بأنها تستهدف "إحراق القلب الصناعي للإمبراطورية بإلقاء القنابل الحارقة على الأوكار الخيزرانية العاجّة بالنمل في هونشو وكيوشو"، على حدّ وصفه . ولم يحل شهر تموز1941، إلّا وكان الفيلق الجوي قد بدأ يشحن بحراً طائرات (ب – 17) إلى الشرق الأقصى استعداداً لتدمير اليابان، ناقلاً نصف مجموع عدد قاذفاته الضخمة من المسالك البحرية في المحيط الأطلسي إلى تلك النقطة، وعند الضرورة لن تتورّع عن استخدام الطائرات "لإضرام النار في مدن اليابان الورقية"، هذا ما قاله الجنرال "جورج مارشال" في إيجاز صحفي خاص أدلى به في 15 تشرين الثاني من ذلك العام، مضيفاً بأنه "لن يكون هناك أي تردّد في قصف المدنيين" . وبعدها بأربعة ايام أفاد كبير مراسلي نيويورك تايمز معتمدا على إيجاز جورج مارشال، بأن الطائرات الأمريكية ستقصف اليابان من قواعد في سيبريا والفلبين، كان سلاح الجو ينقل إليها على عجل قنابل حارقة لضرب أهداف مدنية في اليابان، وقد علمت واشنطن من برقيات استطاعت أن تفك شيفرتها أن اليابانيين كانوا على علم بشحن طائرات (ب – 17) .
            إن كل هذا يوفر مسوّغا أقوى بمراحل للدفاع التحسّبي عن النفس والحرب الوقائية من كل ما ابتدعه بوش وبلير وشركاؤهما بعد ذلك خصوصا في هجومهم على العراق وتدميره.
            وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة أعلنت الحياد في الحرب الثانية من الناحية الرسمية، إلا أنها شاركت في الحرب منذ أن بدأت بتقديمها الدعم والإمدادات إلى الدول التي كانت تواجه قوى المحور محاولة منها للحد من التوسع الياباني والألماني.
            وفي عام 1940، أوقفت الولايات المتحدة شحنات الطائرات، وقطع الغيار، والمعدات الآلية، وبنزين الطيران، استناداً لقانون الرقابة على الصادرات. الأمر الذي أعتبرته اليابان عملاً عدوانياً.
            ثم أوقفت الولايات المتحدة صادرات النفط إلى اليابان في صيف عام 1941 بسبب القيود الأميركية الجديدة التي طُبقت على الاستهلاك المحلي للنفط. نقل الرئيس الأمريكي "فرانكلين روزفلت" أسطول المحيط الهادئ إلى هاواي، وأمر بزيادة القوات العسكرية في الفلبين على أمل إحباط أي عدوان يابانى في الشرق الأقصى.
            وهنا قرّرت اليابان القيام بهجوم استباقي لحماية نفسها، بدلاً من انتظار التدمير الأمريكي الذي يكون وحشيّاً ودمويّاً عادة، فكانت ضربة "بيرل هاربر" .

            نتائج هجوم بيرل هاربر:
            نتج عن الهجوم اغراق أربع بوارج حربية من البحرية الأمريكية، كما دمَّرت أربع بارجات أخرى. أغرق اليابانيون أيضاً ثلاثة طراريد، وثلاث مدمِّرات، وزارعة ألغام واحدة، بالإضافة إلى تدمير 188 طائرة. أسفرت الهجمات عن مقتل 2,402 شخص، وجُرح 1,282 آخرين. لم تُصب الهجمات محطة توليد الطاقة، وحوض بناء السفن، ومركز الصيانة، ومحطة الوقود، ومخازن الطوربيد، فضلاً عن أرصفة الغواصات، ومقر البحرية الأمريكية ومقر قسم الاستخبارات. بينما كانت الخسائر اليابانية ضئيلة، فقد دُمِّرت 29 طائرة وأربع غواصات قزمة، وقُتل أو أُصيب 65 جندياً فقط.
            قال هتلر في كلمة ألقاها بعد هجمة بيرل هاربر:
            (الحقيقة أن الحكومة اليابانية التي ظلت تتفاوض لسنوات مع هذا الرجل "فرانكلين روزفلت"، أصبحت في النهاية تشعر بالملل من سخريته منها بهذه الطريقة الغير لائقة).
            لم تنفّذ القوات اليابانية المرحلة الثالثة من الهجوم التي كانت كفيلة بإخراج الولايات المتحدة من الحرب لأكثر من خمس سنوات، وذلك لسوء التقديرات وللخلافات داخل القيادة العسكرية اليابانية.


            تساؤل مهم جدا:
            يتساءل مؤلّف "كتاب أمريكا المستبدة" الفرنسي عن موقعة بيرل هاربر بالقول:
            (يجب أن نعترف بأن أسطولاً يابانيا بهذه الأهمية وقادراً على التوجه إلى جزر هاواي، دون أن يتمكن النظام الدفاعي الأمريكي من اكتشافه، يشكل أمراً مشبوهاً، وخاصة إذا علمنا أن إدارات مسؤولَيْن كبيرين في القيادة الأمريكية قد تم إخطارها بالتهديد الياباني، وهذان المسؤولان هما: الجنرال جورج مارشال رئيس أركان الجيش الأمريكي، والأميرال كنغ قائد أسطول الأطلسي.
            وَفَّرَ الهجومُ الياباني على بيرل هاربر العنصر الحاسم الذي جعل الولايات المتحدة تقرر دخول الحرب. لكن هل كان ذلك مفاجأة؟ ودون اللجوء إلى الإدعاء كما فعل بعض المؤرخين بأن اقتراب الأساطيل اليابانية الذي حدث قصداً من أجل أن يصبح اشتراك الولايات المتحدة في الحرب أمراً لا يمكن تحاشيه. إلا أننا بالمقابل نستطيع أن نؤكد بأن المجابهة مع اليابانيين كانت مُخططة سلفاً، وإلا كيف لنا أن نفسر الإجراءات الاقتصادية بحق اليابان في أيلول 1940 إلى تموز 1941 التي هدفت إلى حرمان هذا البلد من المنتجات الإستراتيجية خاصة البترول؟) .

            النفاق السياسي الأمريكي؛ أمريكا تغض الطرف عن جرائم اليابان في الصين، وتعيد الفاشية إلى الحكم بعد الحرب:
            قبل موقعة بيرل هاربر، كان معظم رجال الأعمال الأمريكيين وكثير من المسؤولين في الولايات المتحدة يرفضون"الفكرة الشائعة القائلة إن اليابان كانت "بلطجيا – Bully" كبيرا، وأن الصين ضحيّة تُداس بالأقدام من قبلها" .
            لماذا؟
            لأنه كانت هناك مصالح وأموال تأتي للأمريكيين من اليابان، ولذلك لم يقل قادة الولايات المتحدة أي كلمة إدانة عن جرائم اليابان التي قتلت (10 – 13) مليوناً من الصينيين حسب أقل التقديرات، خلال فترة 1937 – 1945 !!
            السفير "جوزف غرو" (وهو شخصية ذات وزن في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأقصى ) قال في كلمة ألقاها بطوكيو عام 1939: إن "العيب في النظام الياباني في آسيا هو أنه نظام اقتصاد مُغلق .. يحرم الأمريكيين من حقوقهم القديمة في الصين". لم يكن لدى "غرو" ما يقوله عن الضحايا الصينيين، ولا عن حق الصين نفسها بالإستقلال الوطني، ولا بشأن اغتصاب اليابان لـ "نانكين" - الميناء الصيني الكبير - قبيل الحرب الثانية، ولا عن احتلال اليابان لمنشوريا الصينية من 1905 – 1945 !
            احتجت الولايات المتحدة عام 1940 على هذه التصرفات أي بعد تسع سنوات على غزو منشوريا، وثلاث سنوات على التصعيد الدموي في الصين، فلماذا هذا التأخير في ردّ الفعل الأمريكي؟
            السبب هو المصالح الاقتصادية والمال.
            ولماذا لا تركز الولايات المتحدة على هذه الجرائم وتكتفي فقط بالتركيز على ضربة بيرل هاربر في الوقت الحاضر؟
            أرادت الولايات المتحدة "خلق ديمقراطية" في اليابان بعد الحرب، لكن "بعد سقوط الصين في يد الشيوعية عام 1949"، واندلاع الحرب الكورية بعد عام من ذلك . غيّرت واشنطن تفكيرها مُقرّرة مساندة حكومة محافظة – في الحقيقة "فاشيّة" - مستقرة في اليابان لتتصدى للشيوعية في آسيا سامحة أحيانا، حتى لمجرمي الحرب اليابانيين بالعودة إلى السلطة .
            لكن حدث "تغيير النهج" – في الحقيقة - قبل عام 1947، أي قبل سقوط الصين بوقت طويل (والأصح قبل الإطاحة بنظام طغياني في الصين مدعوم من الولايات المتحدة على يد حركة محلية)، وقبل ثلاث سنوات من البداية الرسمية للحرب الكورية حين كانت المرحلة ما قبل الرسمية في أوج انطلاقها، وعندما كان النظام المفروض أمريكيا ومؤيدوه الفاشيون الذين أعيدوا إلى مراكزهم على يد جيش الإحتلال الأمريكي، مشغولا بذبح حوالي مئة ألف من أعداء الفاشية وغيرهم من الملتزمين بالحركة الشعبية، التي لم يكن عملاء الولايات المتحدة قادرين على مواجهتها في حلبة المنافسة السياسية .
            استدعى "تغيير النهج" الأمريكي إيقاف التجارب الديمقراطية التي كانت تهدّد السلطة القائمة . وتحركت الولايات المتحدة على نحو حاسم لتحطيم النقابات اليابانية وإعادة إنشاء المجمّعات الصناعية – المالية التقليدية، داعمةً بذلك المتعاونين مع الفاشية، ومُقصية العناصر المعادية للفاشية، ومُعيدة حكم رجال الأعمال التقليدي المحافظ . وكما تشرح الورقة المعدة عام 1947 تحت إشراف المصمم الرئيسي لسياسة تغيير النهج، وهو "جورج كينان" – مخطِّط السياسة الأمريكية الخارجية في أواخر الأربعينات والخمسينات - كان للولايات المتحدة: (الحق الأخلاقي بالتدخل للحفاظ على الإستقرار ضد الجماعات العاملة سرّاً لمصلحة الشيوعيين، وانطلاقا من الإعتراف بأن القادة الصناعيين والتجاريين السابقين في اليابان هم أقدر القادة في البلاد، وأنهم أكثر العناصر استقراراً، وأنهم يملكون أقوى الروابط الطبيعية مع الولايات المتحدة، فلا بُدّ أن تقوم سياسة الولايات المتحدة على إزالة العوائق أمام حصولهم على مكانتهم الطبيعية في صفوف القيادة اليابانية) .
            أُنهيت حملة التطهير ضد مجرمي الحرب، واستُعيدت البنية الأساسية للنظام الفاشي. وقرّر الإحتلال الأمريكي وضع مسألة "الذنب" – ذنب اليابان في الحرب - على الرف . ولم يكن الجنرال "ماك آرثر" ليسمح بمقاضاة الإمبراطور، ولا بأن يُستخدم كشاهد في المحكمة، ولا أن يُستجوب من قبل مُحقّقي الإتهام الدوليين إبان محاكمة جرائم الحرب، وذلك برغم وفرة الأدلة على مسؤوليته المباشرة عن جرائم الحرب اليابانية . توفّرت هذه الأدلة لدى "ماك آرثر"، لكنها بقيت سرّية . وكان لهذا التبييض لصفحة الملكية نتائج ضخمة في أعادة تأسيس النظام المحافظ التقليدي، وهزيمة البديل الأكثر ديمقراطية .
            يرى بعض المحللين أن الولايات المتحدة لم تكن تعترض على السلوك الإستعماري الياباني في آسيا بأي كلمة، لأنه مماثل لسلوك الولايات المتحدة في هاييتي وهاواي ونيكاراغوا والدومينيكان وغيرها . ويرى "تشومسكي": "أنّ لا أحد من السياسيين الأمريكيين يذكّر بجرائم اليابان حتى يومنا هذا، لأنّ سلوك القادة الأمريكيين هو سلوك النازي نفسه" .

            تعليق


            • #21
              لا تثقوا بالولايات المتحدة (15)
              أمريكا قتلت (200000) مواطن في غواتيمالا من أجل تعزيز الديمقراطية
              تمهيد :
              "الولايات المتحدة قتلت مئتي ألف مواطن في غواتيمالا من أجل تعزيز الديمقراطية" ! قد يبدو هذا العنوان غريبا وصادما لذهن السادة القرّاء ، وهو غريب وصادم بالفعل .. بل مذهل ولا يُصدّق . إذ كيف تقوم دولة بقتل إنسان من أجل حرّيته التي ستكفلها له الديمقراطية ؟ في هذا تناقض واضح ، فكيف إذا كان عدد البشر الذين قتلتهم تلك الدولة هم أكثر من 200000 مواطن ؟! لكن هذا هو السلوك المألوف لدولة الموت والخراب والوحشية .. دولة الشيطان على الكرة الأرضية : الولايات المتحدة الأمريكية . لكنني أستطيع الجزم - وقد تأكدتُ من ذلك تماما – أن الغالبية المطلقة من القرّاء العراقيين لا يعرفون هذه المأساة التي اجتاحت شعب غواتيمالا ، والجريمة الكبرى التي اقترفتها الولايات المتحدة بحقه . بل أن الكثير منهم لا يعرف سوى أن غواتيمالا دولة في أمريكا الجنوبية غير مشهورة كالبرازيل مثلا ، فما هو السبب الذي يجعل الولايات المتحدة تقتل مائتي ألف مواطن منها ؟! ليس هذا فحسب بل تُخرجها من التاريخ والحياة .. وتعيدها إلى العصور الوسطى !!

              نبذة عن دولة غواتيمالا :
              غواتيمالا (بالإسبانية: Guatemala) أو جمهورية غواتيمالا ، قلب الحضارة المايانية التي ازدهرت ما يقارب الألف سنة . وهي دولة تقع في أمريكا الوسطى، تحدّها المكسيك من الشمال والغرب، والمحيط الهادي في الجنوب الغربي، وبليز من الشمال الشرقي، والبحر الكاريبي إلى الشرق، وهندوراس والسلفادور جنوب شرقي البلاد. مساحتها 108,890 كيلومتر مربع، وتعداد سكانها قدره 13,276,517 نسمة. غزاها الإسبان عام 1524 وصارت قاعدة لهم للتوسع في أمريكا الوسطى، ثم نالت استقلالها عن إسبانيا في عام 1821، وانضمت إلى الإمبراطورية المكسيكية. ثم في الأول من تموز عام 1823 استقلت عن الامبراطورية المكسيكية . بعد أن أصبحت دولة مستقلة في حد ذاتها، حكمها مجموعة من الحكام المستبدين وبمساعدة من شركة الفواكه المتحدة.
              ولأن مصيبة شعب غواتيمالا ستتحدّد بعاملين هما : الديكتاتورية وشركة يونايتد فروت ، وكلاهما تقف خلفهما الولايات المتحدة الأمريكية، فسوف نركّز على العاملين بصورة مترابطة ونكشف صلة الولايات المتحدة بالجريمة الكبرى التي سوف تقترفها أمريكا بحق هذا الشعب.

              كالعادة ، ديكتاتور غواتيمالا صديق الولايات المتحدة :
              كان الديكتاتور الجنرال "خورخي أوبيكو كاستانيدا" الصديق المفضل إلى قلب قادة الإدارة الأمريكية ، فقد كان أداة في يدها سلّمها مقدرات البلاد وثرواتها ، واشاعت سياساته الفقر والجوع والجهل والبؤس بشكل مريع . وكانت الجهة المسيطرة التي تدير سياسات البلاد هي (شركة الفاكهة المتحدة – يونايتد فروتس كومباني) التي كانت تسيطر على 42% من أراضي البلاد بعد أن طردت الفلاحين الصغار وتحوّلت إلى إمبراطورية اقتصادية تصدّر الفاكهة (خصوصا الموز) إلى أنحاء الكرة الأرضية عبر اسطول الشركة البحري !!
              لم تقتصر آثار الديكتاتورية العسكرية على قمع الحريات واحتكار الحياة السياسية فقط، بل امتدت إلى سياسات اقتصادية ساهمت في إفقار البلاد وتجريفها وبيع الأراضي للشركات العالمية وأبرزها “يونايتد فروتس” المملوكة وقتها لمجموعة من السياسيين الأمريكيين البارزين سوف نعرض للسيد القارىء من هم بعد قليل ليتعرّف على سفالة ودناءة رجال الإدارة الأمريكية في كل زمان ومكان . لقد تمتّعت الشركة بتسهيلات كبيرة ومارست عملها في ظل إعفاء ضريبي وجمركي كامل، واشترت السكك الحديدية، ثم امتلكت شركة الكهرباء والتليفون والتلغراف. وتحكّمت في الموانىء الرئيسية للبلاد. باختصار، احتكرت الشركة المتحدة للفواكه جواتيمالا كلّها، وصارت سيّداً بينما يعمل الشعب الغواتيمالي عبدًا عندها.

              وقفة : ماذا يعني مصطلح "أمريكا الوسطى" ؟ :
              تكرّر - وسوف يتكرّر - في هذه الحلقات مصطلح أمريكا الوسطى ، فماذا يعني ؟
              أمريكا الوسطى هي المنطقة الواقعة وسط الأمريكيتين. تمتد من المكسيك شمالاً إلى كولومبيا جنوباً. دول أمريكا الوسطى هي: بليز وبنما وغواتيمالا والسلفادور وكوستاريكا ونيكاراجوا وهندوراس. وحسب تعريف الأمم المتحدة فإن أمريكا الوسطى تشمل المكسيك بالإضافة إلى الدول السابقة، بينما يستثني تعريف الاتحاد الأوروبي المكسيك وبليز من المنطقة.
              في عام 1823، اتحدت غواتيمالا والسلفادور وكوستاريكا ونيكاراجوا وهندوراس فيما عُرف باسم جمهورية أمريكا الوسطى الفيدرالية، والتي لم تدم طويلاً وحُلّت عام 1840.

              ما هي شركة يونايتد فروتس ؟ :
              تأسست شركة يونايتد فروت في نهاية القرن التاسع عشر (عام 1899)، لتصبح واحدة من أقوى السلطات في أمريكا الوسطى ، وغلبت الأسبان أنفسهم باستخدام حيلهم. وسيطرت على دول ومقاطعات سُمّيت "جمهوريات الموز" مثل هندوراس وغواتيمالا وكوستاريكا وكولومبيا وغيرها. وقد امتدت احتكاراتها لتتجاوز غابات الموز ، وتشمل شركات الاتصالات والموانىء والسكك الحديدية والكهرباء وغيرها . والغريب أن الشركة كانت تمارس عملها في ظل إعفاء ضريبي وجمركي كامل كما قلنا. كانت الشركة مسؤولة عن مجازر عديدة في دول أمريكا الوسطى وأشهرها "مجزرة الموز" عام 1929 التي قُتل فيها أكثر من ألف عامل كولومبي ؛ مُتهمة بتمويل وتدريب وتسليح منظمات إرهابية في عدة دول في امريكا الوسطى . وبرغم الأدلة القاطعة يرفض القضاء الأمريكي النظر في ذلك أو تسليم مسؤوليها المتهمين بالإرهاب. كانت التسمية الشائعة بين الناس لهذه الشركة هو "الأخطبوط" لأنها تملك مساحات شاسعة من الأراضي على طول أمريكا اللاتينية، وأطرافها تمتد إلى جميع القصور الرئاسية، التي يحكمها في هذه المنطقة القادة العسكريون بدعم الولايات المتحدة الأميركية.

              الشعب يتحرّك .. الولايات المتحدة تبدأ بالتآمر :
              وكما هو منطق الحياة، لم يستطع الشعب الغواتيمالي تحمّل القهر والظلم والجوع والفقر والطاغوت ، فبدأ بالتحرك ضد الديكتاتورية ومن يساندونها ، وتصاعد هذا التحرّك والتضحيات وسفك الدماء لينتهي بإسقاط الديكتاتور صديق الولايات المتحدة خورخي أوبيكو كاستانيدا الذي اضطر إلى الاستقالة من منصبه استجابة لموجة الاحتجاجات تلك، كما أُجبِر الجنرال البديل "خوان فريدريكو بونسي فايدس" – الذي تسلم السلطة الانتقالية من خورخي – في وقت لاحق على التنحي من منصبه في 20 أكتوبر 1944.
              وفي أول انتخابات شعبية فاز أستاذ الجامعة المحترم "أريفالو برميجو" الذي أمضى 14 عاما في المنفى في الأرجنتين، بالرئاسة بنسبة 85%، فأعطى الأولوية لبناء نظام للرعاية الصحية وآخر للضمان الاجتماعي، وحقّق الكثير من المكاسب لققراء غواتيمالا. وكان أول رئيس منتخب ديمقراطياً في غواتيمالا ينهي فترة حكمه التي انتُخب لها بصورة كاملة .
              كانت هذه الفترة أيضاً هي بداية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، والتي كان لها تأثير كبير ليس على تاريخ غواتيمالا فحسب بل تاريخ أمريكا الجنوبية والعالم كلّه حيث كانت الولايات المتحدة تقود حلفاءها وتُسقط الأنظمة التي لا تواليها تحت شعار "مقاومة امبراطورية الشر ممثلة بالإتحاد السوفيتي" .
              ثم تولّى بعده - وفي انتخابات ديمقراطية حرة عام 1950 - الرئيس "جاكوبو أربينز" .. وهنا بدأت الولايات المتحدة بنسج خيوط المأساة / الجريمة . لقد قام الرئيس أربينز بإصلاحات اجتماعية وسياسية هائلة منها توسيع مجال الحريات الفردية والنقابية والحزبية حتى أنه شمل الحزب الشيوعي الغواتيمالي بحرّية تشكيل الأحزاب. وعلى الرغم من أن محاولات الولايات المتحدة لإسقاط الحكم بدأت مع تولي الرئيس برميجو الحكم وبدء مرحلة الإصلاحات لصالح الشعب ، إلّأ أنها تحوّلت إلى انسعار هائج بعد أن اتخذ الرئيس أربينز القرار الخطير وعبر الخط الأحمر وذلك حين قام بإصدار قانون الإصلاح الزراعي الذي أعاد ووزّع به الأراضي على صغار الفلاحين الفقراء (كان 3% من السكان يمتلكون 70% من الأراضي الزراعية)، وانتزع الأراضي من شركة يونايتد فروتس بعد أن منحها تعويضات مناسبة . هنا جنّ جنون مالكي هذه الشركة الكبرى المتحكمة فبدأوا التخطيط ليس لإسقاط الرئيس أربينز بل وتصفية المقاومة الجماهيرية المناصرة له بما يتضمنه هذا من قتل وإبادة وتصفيات هي أمور لازمة للسياسة الأميركية .
              رفعت الإدارة الأميركية وبتنفيذ من عملاء وكالة المخابرات المركزية الأميركية شعار "الخطر الشيوعي" الذي سوف يدمّر استقلال غواتيمالا ويُصادر الأراضي من الجميع ، ونفّذت وكالة المخابرات خطة حرب نفسية هائلة عبر راديو "صوت الحرّية" الذي كان يذيع البيانات الحماسية والمقابلات ونشر سلسلة من الشائعات لإرباك المواطنين وترويعهم من “الاختراق الأحمر” – أي الشيوعي – للبلاد، واتُهم الرئيس المنتخب أربينز بأنه يسعى لتسليم البلاد للسوفييت، خصوصًا بعد حصوله على صفقة أسلحة من تشيكوسلوفاكيا.
              وكالعادة ترفع الولايات المتحدة شعارات سياسية عامّة في الظاهر من أجل غايات شيطانية في الباطن .
              فقد كان المبدأ الأساسي الذي يحكم مواقف الولايات المتحدة هو أن تستولي على ثروات الشعوب كاملة وتمصّ دماءها عبر شركاتها ، وأن الدولة التي تقاوم هذا التوجه تصبح "فيروس" شديد الأذى سوف ينقل العدوى إلى مناطق أخرى . هذا ما يسمّيه ساسة الولايات المتحدة مبدأ "التفّاحة الفاسدة" .

              مبدأ "التفاحة الفاسدة" الأمريكي وغواتيمالا :
              حذّر المخطّطون للسياسة الأمريكية منذ وزير الخارجية "دين اتشيسون" في أواخر الأربعينات وحتى اليوم من أن تفاحة فاسدة واحدة قد تُفسد الصندوق كله . إذن فخطر الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي قد ينتشر في العالم كله . وحتى ياخذ هذا المفهوم شكلاً أكثر اقناعا لدى العامة تحولت لغة الفاكهيين إلى لغة المقاهي واطلق المخططون عليه "نظرية الدومينو" كما يقول "تشومسكي". وأضافوا إلى ذلك تخويف العامّة من إبحار هوشي منه وأقرانه بالمراكب من فيتنام ليطرقوا موانىء كاليفورنيا .
              في بعض الأحيان تم توضيح ذلك المفهوم بما لا يدع مجالا للشك . فعندما خططت الولايات المتحدة لقلب الحكومة الديمقراطية المُنتخبة في غواتيمالا عام 1954 أشار أحد المسؤولين في وزارة الخارجية إلى أن "غواتيمالا أصبحت تمثل خطرا متزايدا على استقرار هندوراس والسلفادور؛ إصلاحها الزراعي سلاح دعاية خطير، ويستميل برنامجها الواسع للرعاية الإجتماعية على حساب الطبقات العليا والمستثمرين الأجانب جيرانها في أمريكا الوسطى".
              ما يهم الولايات المتحدة هو استقرار وتأمين مصالح الطبقات العليا والمستثمرين الأجانب . وأي نجاح اجتماعي واقتصادي خارج ذلك يمثل نموذجا خطرا يجب تدميره قبل انتقال عدواه . ولهذا السبب فأصغر واضعف وأفقر دولة هي أخطر "مثل طيب" إذا حققت نجاحها المستقل، ولهذا فيجب أن تُسحق بشراسة.

              الساسة الأميركيون يبدأون التخطيط للإنقلاب :
              أعطى الرئيس الأميركي "إيزنهاور" شارة البدء بالتحضير لإسقاط الرئيس أربنيز ، وكان وزير الخارجية الأمريكي "جون فوستر دالاس" هو الرجل الذي دبّر الانقلاب، وقد عُرف بأنه مقاتل متحمّس في الحرب الباردة.
              أما الرأس المدبر للانقلاب فهو شقيقه "ألان فوستر دلاس"، مدير السي أي إيه وأحد المحاربين القدامى في العمليات السرية .
              الشخص الذي حضّر للحملة الإعلامية هو العميل "إي هاورد هانت"، الذي اشتهر لاحقا بتورطه والحكم عليه بالسجن في فضيحة واترغيت.
              وكان يجلس على قمة اليونايتد فروت "سام ساموراي"، الملقب برجل الموز، والذي بدأ أول مشروع له بتمويل انقلاب أطاح برئيس هندوراس عام 1924.
              كان هدف الجميع هو الرئيس "جاكوبو أربينز" الذي صاروا يسمونه "جاكوبو الأحمر"، والذي يعرفه العالم باسم هاكوبو أربينز، رئيس غواتيمالا المنتخب، والذي ارتكب خطأ سياسيا قاتلا، كما قلنا، حين استولى على أراضي إحدى الشركات الأمريكية، ووزعها على الفلاحين، ليشعل نيران الحرب الباردة في أمريكا اللاتينية.
              هنا، لا بُدّ أن سؤالاً سوف يثور في ذهن السيّد القاريء :
              ما الذي جمع رجال السياسة برجال المال للتآمر على هذا الرجل وإسقاطه ؟
              وسيكون الجواب مفاجئا للجميع .

              رجال سياسة أمريكا هم رجال مالها :
              ------------------------
              والجواب هو كالتالي :
              كان الرئيس الأمريكي "إيزنهاور" من المساهمين في شركة يونايتد فروتس !
              كان وزير الخارجية "جون فوستر دلاس"، وشقيقه مدير المخابرات المركزبة "ألان فوستر دلاس"، قد قاما بأعمال قانونية لصالح يونايتد فروتس !!
              كان مساعد وزير الخارجية للشؤون الأمريكية "جون مور كابوت"، يملك أسهما في اليونايتيد فروتس. وكان شقيقه "توماس مور كابوت" رئيسا للشركة عام 1948، كما أن قريبهما "هنري كابوت لودج"، السفير الأمريكي في هيئة الأمم المتحدة وقت تلك الأزمة، كان يستثمر أمواله أيضا في اليوناتيد فروتس.

              سؤال إلى السادة القرّاء :
              هناك شخص آخر من مالكي شركة يونايتد فروتس التي أسقطت التجربة الديمقراطية في غواتيمالا أكثر خطرا ووحشية من كلّ هؤلاء .. فمن هو ؟ الجواب في نهاية المقالة .

              العشاء الأخير :
              باستطاعة هانت تنفيذ العملية السرية، ولكن دالاس، يحتاج إلى شخص آخر في السفارة، يريد سفيرا مستهترا وشرساً لا يتبع القوانين. فقام بتعيين "جان بوريفوي"، وهو مقاتل آخر في الحرب الباردة. الذي لقبه رجال العصابات في غواتيمالا في آخر ظهور له، بـ "جزّار اليونان".
              كان بوريفوي رجل عصابات، ولم يكن دبلوماسيا، وقد أرسلوه تحديدا لهذا السبب، كي يحضر لانقلاب ضد أربينز.
              ولا شك أنه كان رجل عصابات، فقد كان يجول في كل مكان ومسدسه تحت سترته.
              تحولت سفارة بوريفوي في غواتيمالا إلى مركز لإدارة الانقلاب، بعد أن استولت السي أي إيه على الطابق العلوي.
              وصل بوريفوي إلى مدينة غواتيمالا في تشرين أول أكتوبر من عام 1953، فدعا الرئيس أربينز وزوجته إلى العشاء.
              ناقش في المواضيع العامة، وبأسلوب حوار هادئ، عن خطر ترك الشيوعيين يتحكمون بالأشياء.
              وفي لحظة ما، قال بوريفوي للرئيس أربينز ما يمثل خلاصة الموقف الأمريكي :
              (سيدي الرئيس، المشكلة هنا ليست في شركة يونايتيد فروت، إذ يمكن أن نجعلها تخضع لمصادرة الأراضي، إذا ما طردت الشيوعيين، وجعلتهم خارجين عن القانون) .
              دام العشاء ست ساعات. تميّز فيها الرئيس أربينز بالجرأة. كتب بوريفوي بعدها لرئيسه في واشنطن يقول أن مصير أربينز قد تحدّد.
              فحسم الأخوة دلاس أمرهما للإطاحة بأربينز. وطلب ألان من هانت أن يبحث عن بديل للرئيس أربينز، رجل يمكن الاعتماد عليه. رجل يقبل به الهنود كواحد منهم. فكان الكولونيل "كاستيلو أرماس".
              وفعلا كان أرماس هو المرشح الأفضل، فهو من عملاء وكالة المخابرات المركزية، وكان قد سبق له أن حاول الإطاحة بالحكومة الغواتيمالية الديمقراطية عام 1950، وفشل ، فألقي القبض عليه وسجن ، وبعد فراره من السجن، أقام معسكرا في هندوراس، ومن هناك أخذت المساعدات تأتيه من وكالة المخابرات ومن أعداء غواتيمالا المتضررين من إجراءات أربينز الثورية الاقتصادية والاجتماعية.

              إسقاط الحكومة الديمقراطية للحفاظ على الديمقراطية :
              غزت إذاعة "صوت الحرّية - لا فوس دي ليبيرسيون" موجات غواتيمالا الهوائية، وهي تحمل خطابا مناهضا للشيوعية ولأربينز. تتهم أربينز بالخيانة العظمى ضد البلد، وتتهم مستشاريه بالخيانة، لأنهم باعوا البلاد لأسيادهم في الاتحاد السوفيتي.
              أسقطت الطائرات الأمريكية آلافاً من هذه المنشورات فوق مدن غواتيمالا، وهي تدعو للنضال في سبيل الحرية والعدالة في البلاد، والكفاح ضد الإلحاد والاضطهاد والأكاذيب الشيوعية. وكان البيان الذي أطلق إشارة الإنقلاب العسكري هو البيان :
              (إلى أبناء غواتيمالا، إلى أبناء غواتيمالا، إذاعة ليبيراسيون…..
              انطلقت قوة مهاجمة كبيرة من الحدود، من الأفضل أن يخرج الجيش من البلد، من الأفضل أن يخرج أربينز من البلد، وعلى الجميع أن يحتمي
              ).
              وقعت المعركة الحقيقية في مدينة غواتيمالا العاصمة (معناها أرض الأشجار بسبب كثافة الغابات) التي أشعلت فيها السي أي إيه معركة نفسية ضد أربينز. قامت الطائرات الأمريكية وعلى متنها رجال السي أي إيه بقصف العاصمة مما أدّى إلى سقوط المئات من الضحايا.
              وفي تمام التاسعة من مساء السابع والعشرين من حزيران يونيو استقال أربينز بمشيئته للحفاظ على دماء الشعب.

              يا عيني على "جيفارا" :
              حافظ الرئيس "أربينز" على شموخه برغم الهزيمة. فبعد أن اعتقلوه، تم نفيه مع جميع أنصاره إلى المكسيك. وكان معه على الطريق، ثوري شاب، وطبيب أرجنتيني، كان شاهدا على استسلام أربينز، وعلى ظلم وسفالة ووحشية الولايات المتحدة ، هذا الشاب كان اسمه "إرنيستو تشي جيفارا".
              في نيسان أبريل من عام 1961، أطلقت السي أي إيه بمباركة الرئيس الأمريكي "جون كنيدي" هجومها على خليج الخنازير (بالمناسبة قاده "هاورد هانت" الذي أسقط حكومة غواتيمالا وذكرناه قبل قليل). ولكن الخوف لم يتملك كاسترو بسهولة. فأقسم أنه لن يتراجع أبدا، ولن يرحل كما فعل أربينز في منتصف الليل.
              تعززت قناعات كاسترو بدعم من ذاك الشاب الثوري الذي كان شاهدا على هزيمة أربينز. وهو المناضل العظيم "إرنيستو تشي غيفارا". فتحولت كوبا إلى فشل ذريع أصاب السي أي إيه. النجاح السهل الذي تحقق في عملية غواتيمالا لم يتكرر أبدا.

              نائب الرئيس الأمريكي "ريتشارد نيكسون" يكذب علناً :
              زار نائب الرئيس الأمريكي آنذاك "ريتشارد نيكسون" غواتيمالا في شباط فبراير من عام 1955 ليقدم التهاني لقادة الإنقلاب العسكري بنفسه . تصوّر نائب رئيس الدولة الأعظم التي تتشدّق بالديمقراطية يهنىء مجموعة من الجنرالات والمرتزقة على إسقاطهم حكومة ديمقراطية منتخبة من قبل الشعب، وفوق ذلك يكذب علنا في شرح أسباب الإنقلاب وفي القول إن الشعب الغواتيمالي هو الذي قام بإسقاط الحكومة .
              هل هناك شعب ديمقراطي يستخدم القوة المسلحة ؟ أليس قاعدة الديمقراطية وحكمها الأوحد كما في الولايات المتحدة هي صناديق الإقتراع ؟ هل إذا لم تعجب الحكومة الأمريكية الشعب الأمريكي يقوم بإسقاطها عن طريق الجنرالات بقوة السلاح ويقوم نائب رئيس غواتيمالا بزيارة الولايات المتحدة لتقديم التهنئة للإنقلابيين؟ وإذا كان الشعب قادرا على إسقاط الحكومة لماذا قامت الطائرات الأميركية بقصف غواتيمالا ؟ فأي سافل وكذّاب نائب الرئيس الأمريكي هذا ؟!
              # نيكسون:
              هذه أول مرة في تاريخ العالم، يتم فيها الإطاحة بحكومة شيوعية على يد الشعب، لهذا نهنئك ونهنئ الشعب الغواتيمالي على ما قدّمه من دعم.
              (هنّأ نيكسون كاستيلو أرماس، رئيس غواتيمالا لإطاحته بحكم شيوعي. لاحظ سيّدي القارىء أن نائب الرئيس الديمقراطي يصافح جنرالاً هارباً من السجن ومتهما سابقا بانقلاب عسكري على حكومة ديمقراطية منتخبة ).
              # نيكسون:
              ما يعني أن حكم أربينز، لم يكن حكما غواتيماليا، بل حكم أجنبي يسيرونه من الخارج.
              # كاستيلو : تماما!
              أي أنه محكوم من موسكو.
              وهذا يحدث لأول مرة في أمريكا.
              # نيكسون:
              لأول مرة في أمريكا.
              ما لم يقله نيكسون هو أن كاستيلو أرماس كان مجنداً لدى السي أي إيه. وأن جيشه يُموّل ويُدرّب على يد السي أي إيه. وأن كاستيلو أرماس لم يقد انتفاضة شعبية ضد حكومة أربينز، بل كان الرأس المدبر لانقلاب عسكرية دبرته السي أي إيه.
              (لقد لبّت برامج الحكومة المنتخبة الاجتماعية والاقتصادية تطلّعات العمال والفلاحين، ولهذا لا يستطيع مالكو الأراضي ولا يونايتد فروت كومباني توقع أي تعاطف من الرأي العام الغواتيمالي). هذه - حسب تشومسكي - هي خلاصة الاستخبارات الأمريكية التي قدّمتها للإدارة الأمريكية آنذاك، وهي خلفية الإنقلاب العسكري الذي حدث عام 1954 . فهل يعقل أن نائب الرئيس هذا الكذّاب السافل لم يقرأ تقرير وكالته للمخابرات المركزية ؟!

              بعد الإنقلاب "فرق الموت" تجتاح غواتيمالا لأربعين عاماً؛ تعليق النساء من أقدامهن بعد قطع أثدائهن وتقشير بشرتهن:
              ------------------------------------------
              كانت الخطوة الثانية للولايات المتحدة بعد إسقاط الحكومة الديمقراطية المنتخبة في غواتيمالا ونفي رئيسها ، هو تأديب الجماهير وقمعها من جانب ، وقتلها هي وقياداتها وبصورة وحشية من جانب آخر . وهنا جاء دور "فرق الموت" التي درّبتها الولايات المتحدة ، والتي كانت لا تكتفي بقتل الناس بل تمثّل بجثثهم بشراسة، وتنفّذ واجباتها تحت أشراف ومساندة وتغطية الجيش الغواتيمالي الذي صاغته وسلّحته الولايات المتحدة ودرّبت ضبّاطه في مدرسة الأمريكيتين الشهيرة وضمنت ولاءهم (للمعلومات عن هذه المدرسة الخطيرة وعن ستراتيجية الولايات المتحدة في تحويل جيوش أمريكا اللاتينية إلى الأمن الداخلي راجع الحلقات السابقة رجاء) .

              يقول المؤرّخ والمفكر "نعوم تشومسكي" :
              (لم يكن عمل القوات التي حرّكناها في نيكاراغوا أو عمل وكلائنا الإرهابيين في السلفادور أو غواتيمالا ، لم يكن عملهم هو القتل العادي ، ولكن كان بصفة رئيسية القسوة والتعذيب السادي : تعليق النساء من أقدامهن بعد قطع أثدائهن وتقشير بشرتهن .. قطع رؤوس الناس وتعليقها على خوازيق.. رطم الأطفال بالحوائط . الفكرة هي سحق الوطنية التي تدعو للإستقلال ، والتي قد تجلب الديمقراطية الحقيقية . خذ على سبيل المثال دولة "لاوس" في الستينات لا أحد يعرفها او سمع بها ما أن بدأت بإصلاحات بسيطة حتى سُحقت بسيل متدفق من القنابل بسرية تامة مسحتهم من مجال العمليات . لم يكن لهم أدنى صلة بالحرب التي اشعلتها أمريكا في فيتنام) (سنعالج مأساة لاوس في حلقة مستقلة).
              ويواصل تشومسكي وصف ما حصل بعد إسقاط الحكومة الديمقراطية المُنتخبة بالقول :
              (أطيح بالرئيس المُنتخب ديمقراطيا واستُبدِل بدكتاتور يميني عسكري وحشي هو الكولونيل " كارلوس كاستيلو آرماس ". وفي الحال أبطلت الحكومة الجديدة عمليات الإصلاح الزراعي، وألغت الضرائب المفروضة على شركة يونايتد فروت، و أزالت الإقتراع السري، وألقت بالآلاف من منتقدي كاستيلو في السجون .. فانفجرت حرب أهلية في عام 1980 ، واستمرت أربعين عاما ، كان نتيجتها 200000 قتيل ، وتشريد مليون شخص إلى الدول الأخرى، وتدمير 450 قرية ، وقتل عشرات الألوف من القياديين والطلبة الناشطين والأساتذة والعمال والإخصائيين على يد فرق الموت التي درّبها ذوو القبعات الخضر الأمريكية) .

              عودة العسكريين الديكتاتوريين أصدقاء الولايات المتحدة الديمقراطية؛ السفّاح "ريوس مونت" حبيب رؤساء الولايات المتحدة :
              ------------------------------------
              بعد إسقاط الحكومة الديمقراطية المُنتخبة من قبل الولايات المتحدة عاد العسكريون الديكتاتوريون إلى الحكم ، ليحظوا بدعم وصداقة الولايات المتحدة المدافعة عن الديمقراطية !! اجتاحت غواتيمالا أربعة انقلابات عسكرية بعد الإنقلاب على الرئيس أربينز ، وسلسلة من الحروب الأهلية استمرت لأكثر من 40 عامًا بفعل تمويل "السي آي إيه" للمتمردين المسلحين وما يُعرف بفرق الموت، وظهرت التنظيمات المسلحة التي قاتلت ضد قوات الجيش الغواتيمالي وأبرزها جيش الفقراء ومنظمة الشعب المسلحة وقوات المتمردين المسلحة وحزب العمل الغواتيمالي، والتي نجحت في التوحد عام 1982 تحت اسم الاتحاد الثوري الوطني الغواتيمالي.
              وكل طاغية ينقلب على جماعته يحظى بتأييد ومساندة وعون الولايات المتحدة الفوري ودعمها العلني والسرّي، بشرط أن يستمر في تسخير الجيش لجماية عمل "فرق الموت" في مذابحها الوحشية المستمرة . واحد من هؤلاء الطغاة هو الجنرال " الديكتاتور "ريوس مونت" الذي تسلّم الحكم في غواتيمالا بين عامي 1982 و1983 بعد انقلاب عسكري، وحكم البلاد 15 شهرا ، ثم صار رئيساً للكونغرس الغواتيمالي في عام 1995.
              في عهده نفّذ الجيش سياسة "الأرض المحروقة" بحق سكان البلاد الأصليين بتهمة انهم كانوا يساندون الميلشيات اليسارية .
              هو المسؤول عن كافة الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت بحق السكان المدنيين في عهده . وقد أُدين من قبل المحكمة الدستورية في غواتيمالا في العاشر من ايار عام عام 2013 بتهمة القتل العمد بحق (1771) شخصا من اقلية الهنود مايا إكسيل، عندما كان في السلطة بين عامي 1982 و 1983.
              وخلال المحاكمة سردت نساء من السكان الأصليين وقائع جرائم الاغتصاب التي ارتكبها بحقهن عسكريون في الجيش.
              هذا السفّاح كان الصديق المفضَل لواسنطن التي ايّدت أعماله الوحشية في "التطهير العرقي". كان التطهير العرقي قد أصبح مصدرا للفخر في عهد الرئيس الأمريكي الديمقراطي "رونالد ريغان" . لقد أشاد ريغان بالسفّاح "ريوس مونت" ووصفه "بأنه الرجل المتفاني المخلص كل الإخلاص في خدمة الديمقراطية" . وكان (ريغان) قد عانق (ريوس مونت) خلال "مجازر الهايلاند" وقال له ضاحكاً : "لقد حصلت على (ضربة في الرأس) بسبب خرقك لحقوق الانسان".
              (في مجزرة قرية هايلاند تم قتل 226 مواطنا بريئا، وفي مجازر (الهايلاند) ككل قام الجيش بتدمير 662 قرية (حسب إحصاءات الجيش ذاته)) .
              نجح مونت في أوائل الثمانينات في ذبح عشرات الآلاف أغلبهم هنود يعيشون في المرتفعات ، مع ما لا يعد ولا يُحصى من ضحايا التعذيب والاغتصاب . وأبيدت مناطق كاملة عن بكرة أبيها . وهذا النمط من السفّاحين الوحوش هم أصدقاء رؤساء الولايات المتحدة الديمقراطيين.
              ويقول الصحفي "ألان نيرن - Allan Nairn" :
              قال لي الجنرال "روس مونت" إن الـ CIA لديها عملاء داخل الـ "جي-2". وحينما سألتهُ – وهو المؤمن بعقوبة الإعدام - إن كان يعتقد أنهُ يستحق عقوبة الاعدام على ما قام بهِ من مجازر، قفزَ واقفاً وصاح "نعم يمكنكم محاكمتي وإعدامي.." وأضاف : "ولكن يجب أن يحاكم معي المسؤلون الأمريكان.. وبالذات الرئيس السابق رونالد ريغان".
              يقول "تشومسكي" :
              (هناك حملة الإبادة التي شنهـا الرئيس شديد التدين، و "المولود من جديد" مثل الرئيس بوش، "ريوس مونت" ضد السكان الأصليين، وراح ضحيتها عشرات الألوف من البشر. وكان لهذا الرئيس قول شهير يردده باستمرار كثير من دعاة الإصلاح في أميركا الوسطى، كان يقول : " إن المسيحي الحقيقي هو الذي يمسك الإنجيل في يد والمدفع الرشاش في اليد الأخرى ". وكان يحظى بتأييد إدارة الرئيس رونالد ريغان) .

              تعليق


              • #22
                معلومة إضافية مهمة جدا عن السفّاح ريوس مونت :
                قلتُ قبل قليل إنّ الولايات المتحدة – وحسب مبدأ وضعه الرئيس الأمريكي "جون كنيدي" بالسيطرة على حكومات أمريكا اللاتينية من خلال تدريب ضباطها في مدرسة الأمريكيتين العسكرية ذات المناهج الإرهابية التي تُدرّب الضباط على الاغتيالات وقمع المعارضة وتصفية القيادات والمقاومة المضادة ، وتحويل الجيوش إلى واجبات الأمن الداخلي لتصفية القوى الشعبية المعارضة . وقد خرّجت هذه المدرسة أكثر من 16 ألف عسكري . والسفّاح الجنرال "ريوس مونت" كان من ضمن الضباط الذين تدرّبوا في هذه المدرسة (تحوّل اسم المدرسة الآن إلى معهد العالم الغربي للتعاون الأمني ونقلت من بنما إلى فورت بيينغ في الولايات المتحدة). ومن ألقاب هذه المدرسة هي "مدرسة الإغتيالات" و "مدرسة الإنقلابات" ، وهي تدرّب على ستراتيجيات مكافحة العصيان والحرب النفسية وطرق التعذيب والإغتيال، وقد أعطي مونت مقرّراً "خاصّاً" عن الأسلحة الثقيلة والمحرّكات والآليات !.
                مجموع من قتلهم ريوس مونت هو 70000 شخص .

                من يثبت أن الولايات المتحدة هي السبب في قتل الـ 200000 إنسان في غواتيمالا ؟ :
                قد يثور سؤال مشروع في ذهن السادة القرّاء وهو : من يثبت أنّ الولايات المتحدة الأمريكية كانت السبب في الإطاحة بالتجربة الديمقراطية في غواتيمالا بالقصف العسكري وإقحام البلاد في حرب داخلية ساندت فيها الجيش الغواتيمالي وفرق الموت لتكون النتيجة المرعبة المتمثلة في قتل 200000 ؟ قد يكون هذا نوع من الإتهام المُضلّل .
                # تشكّلت لجنة دولية للتحقيق باسم"لجنة توضيح التاريخ" برئاسة قاضٍ من ألمانيا أقرّت بوقوع حرب إبادة قامت بها الحكومة ضد شعب "المايا" . وجاء في التقرير أن واشنطن قدمت مساعدات مباشرة وغير مباشرة لحكومة غواتيمالا خلال هذه الحرب التي راح ضحيتها 200.000 شخص و626 قرية هندية.
                # أفرجت الوايات المتحدة في عام 1999 عن وثائق سرّية تتضمن التفاصيل السرية لتورط الـ (سي آي إيه) في الانقلاب الذي أطاح بالزعيم الغواتيمالي "أربينز" ، وتسليح المتمردين والقوات شبه العسكرية "فرق الموت"، وفرض البحرية الأمريكية حصارًا على الساحل الغواتيمالي، بل واستخدام الطائرات في القصف الجوي على العاصمة غواتيمالا سيتي.
                # تقرير الأمم المتحدة عن غواتيمالا شهير اكد أن الحكومة الأميركية والشركات مارست الضغط للإبقاء على البنية الإقتصادية عتيقة الطراز في البلاد. فجعل بنية المجتمع والاقتصاد بنية إرهاب وقمع وحشي لأغلبية السكان . احتجت واشنطن بالقول هذا خطأ وليس عادلا .

                # الإعتراف سيّد الأدلة :
                في عام 1999، وخلال رحلة قـام بها الرئيس الأميركي "بيل كلينتون" إلى أميركا الوسطى ، إعتذر لشعوب الإقليم قائلاً ."من المهم للولايات المتحدة أن أعلن من هنا - وبكل وضوح - أن الدعم الذي قدمناه للجيش ووحدات الاستخبارات التي اشتركت في عمليات العنف والقمع واسع النطاق كان خطأ، ويجب أن لا تعود الولايات المتحدة إلى ارتكاب مثل هذا الخطأ".
                وهذه سمة سلوكية حقيرة في سلوك الولايات المتحدة اسلياسي : يقتلون شعبا كاملا ، ويدمّرون أمّة .. ثم يخرج رئيس لديه لعبة انتخابية فـ "يعترف" و "يعتذر" . هذا السلوك المتناقض الغريب في الظاهر ، وكون السياسي الأميركي سافل و "متصوّف" مؤمن في الوقت نفسه (كثير من الساسة القتلة الأميركيون في السلطة يتحوّلون إلى حمائم للسلام بعد الخروج منها مثل القاتل "جيمي كارتر" الذي كان يقدّم المساعدات العسكرية لحكومة غواتيمالا العسكرية الديكتاتورية ثم صار الآن مدافعا عن حقوق الإنسان، هذه السمات ترجع جذورها إلى تربة النشأة التاريخية للولايات المتحدة الأميركية ، والتركيبة النفسية والاجتماعية للشعب الأمريكي خصوصا في مرحلة التأسيس وسنعالجها في حلقة مستقلة) .
                # ذكرت (منظمة العفو الدولية) بأن هناك (برنامج حكومي للجريمة السياسية) نفذهُ الجيش الغواتيمالي منذ عام 1978، والذي أدّى إلى مقتل أكثر من 110,000 مواطن مدني. وكانت مسؤلية ذلك تقع على جهاز الـ (2 – G) ووحدة خاصة أخرى أصغر منها تدعى ألـ (ارشيفوArchivo) وهما معروفتان بشكلٍ واسع للغواتيماليين بأنهما تمثلان "عقل إرهاب الدولة". ولهذين الجهازين حوالي الـ 2000 عميل منتشرين في القواعد العسكرية الغواتيمالية، وتدير الـ (جي-2) من خلالهم عمليات الاعتقال والخطف والتعذيب والاغتيالات السياسية واختفاء المعارضين.

                ما علاقة ذلك بالولايات المتحدة ؟
                يقول الصحفي "ألان نيرن" إن وكالة المخابرات المركزية تشارك بوحدة فعالة مع الجيش الغواتيمالي، وتشارك في عمليات التعذيب ضمن شبكة مختصة بذلك، ولديها مقرّات ضمن وحدات الجيش الغواتيمالي، حيث أسهمت تلك الوحدة بتعذيب وقتل آلاف المدنيين الغواتيماليين. وشبكة التعذيب هذهِ والتي يرمز لها بـ (G-2 ) تتخذُ من الطابق الرابع للقصر الوطني الغواتيمالي مقراً لها. وتمتد علاقة وكالة المخابرات المركزية بهذهِ الشبكة منذُ الستينات من القرن الماضي، حيث العملاء السرّيون لوكالة المخابرات المركزية بتسليح وتدريب والإشراف على هذه الشبكة. وتقوم السفارة الأمريكية في غواتيمالا بتمويل هؤلاء العملاء الذين يعيشون في منازل (آمنة) وفنادق مُخصّصة لسكنِهِم. ويعمل هؤلاء الوكلاء السريون من خلال مجموعة مُختارة من الضباط الغواتيماليين الذين يستلمون - سرّاً - مرتبات خاصة من وكالة المخابرات الأمريكية، وهم متورطون شخصياً بالجرائم السياسية وبعمليات الاغتيال للسياسيين طيلة العقود الماضية.
                كما ذكرَ أحد عملاء الـ (جي-2) السابقين أن القاعدة التي كان يعمل فيها والتي تسمى (Huehuetenango) كان فيها أجهزة للصدمات الكهربائية ومحرقة خاصة للجثث ومفارم للجثث كي يتم التخلّص ممن يُقتلون في الاعتقال والتعذيب.

                ما هو حال غواتيمالا .. وهل أخرجتها الولايات المتحدة من الحياة والتاريخ وأعادتها إلى العصور الوسطى ؟
                سوف نتحدّث عن حال غواتيمالا البائس ضمن حلقة أشمل عنوانها "التنمية الأميركية المميتة" لكن يهمنا في هذه الوقفة أن نقدّم شواهد بسيطة لكن بليغة في تعبيرها عن الخراب الذي ألحقته الولايات المتحدة بشعب غواتيمالا والذي "اعتذرت" عنه مؤخراً :

                # متوسط الأعمار الحالي في غواتيمالا كارثي وغير معقول فهو (19.4) سنة، بواقع (18.9) سنة للذكور و (20) سنة للإناث. يُعد هذا المعدل الوسطي الأدنى في نصف الكرة الغربي، ويقارن بدول في وسط أفريقيا وأفغانستان. يدل هذا الوسطي على تدني طول حياة الإنسان المتوقعة بسبب سوء التغذية وتدهور المستوى الصحي والجوع والفقر .
                # غالبية أطفال الشوارع المشرّدين في العاصمة غواتيمالا سيتي والبالغ عددهم 5000 طفل يعملون في الدعارة. وفي أيلول 1990 عثر على ثلاثة جثث لأطفال فقئت عيونهم وصملت آذانهم كتحذير لكل من يصدف أن يكون شاهد عيان على الإساءة للأطفال من قبل قوات الأمن النظامية وغير النظامية.
                # ومن الإساءات الموجّهة لعمال المناجم في غواتيمالا، هو وجود عدد من "دور الحضانة" التي تتولى مهمة " تسمين " المواليد الجدد الذين يتم إرسالهم لاحقا إلى الخارج لتباع أعضاؤهم في الولايات المتحدة وأرووبا . وأبلغ بروفيسور اللاهوت الأب "بازويل" الأمم المتحدة بأن 75% من جثث الأطفال المقتولين تكشف عن استئصال أعضاء داخلية، وأن أعين معظم الجثث تكون مستأصلة أيضا.


                هل انتهى كل شيء عن دور الولايات المتحدة المخزي في غواتيمالا ؟
                كلّا ، هناك قوائم الإعدام !
                كلّا . هناك الكثير الكثير مما يضيق به هذا المجال ، ولكن من الأفعال المخزية المهمة للولايات المتحدة هو تسليم وكالة المخابرات المركزية لأجهزة الأمن الغواتيمالية قوائم بأسماء المناضلين والقادة اليساريين الغواتيماليين لغرض اعتقالهم وتعذيبهم وقتلهم. وهناك قوائم مماثلة سلمتها الوكالة لقيادة حزب البعث في العراق عام 1963 ، وأخرى لأجهزة ديكتاتور إندونيسيا "سوهارتو" عام 1965 . ستكون لنا معها وقفة مقبلة بإذن الله .
                لا تنسى جورج بوش خويه السؤال ؟؟؟؟؟؟؟؟

                شهادة حق للمقارنة بين معسكرين :
                قال الصحفي الغواتيمالي "جوليو جودوي" من صحيفة "لا إيبوكا" الشهيرة بعد أن فر من وطنه إثر تفجير صحيفته :
                (الحكومة المعينة من قبل موسكو في براغ تهين الإصلاحيين وتذلهم ، أما وم فتقتلهم .. لقد صار ما عشناه في بلادنا مجازر حقيقية حصدت أرواح 150000 إنسان (بشهادة منظمة العفو الدولية) وذلك من خلال برنامج حكومي منظم للقتل السياسي الجماعي) . ومن ثم فسر جودوي عدم خوف الطلاب الذين تمردوا في براغ بإيمانهم أن الشرطة لن تطلق النار عليهم . لكن في غواتيمالا – ناهيك عن السلفادور فإن الجيش درب ليقتل الجميع . كان الجيش في دول الهيمنة السوفياتية بعيدا عن السايسة وخاضعا للحكومة أماهنا فهو فرق للموت) .
                وقال أيضاً :
                "لن يكون هناك أمل ، ولا ذكر للحقيقة في المنطقة ، مادام الأمريكيون مُصرّون على أسلوبهم" .

                لمحة ختامية من "تشومسكي" :
                قامت إدارة ايزنهاور بإسقاط التجربة الديمقراطية الأولى والوحيدة التي استمرت عشر سنوات في غواتيمالا عام 1954 عبر انقلاب عسكري فاتحةً الطريق لفترة من العنف الوحشي والتعذيب الذي دعمته ادارة كنيدي وهي التي بنت عقيدة الأمن القومي، ليس في غواتيمالا فحسب ، بل في كل نصف الكرة الغربي ونفذها "ماكنمارا" الخسيس .
                العنف تصاعد بقوة والإدارة تعلن أن حقوق الإنسان في تحسن ليس في غواتيمالا وإنما في السفادور وهندوراس . في نفس اليوم تم إغلاق معمل شركة "فيليبس – فان هيوستن" الذي ينتج أجهزة للتصدير، وهو معمل أُنشِئت فيه نقابة عمّال. قال رئيس نقابة التجارة الأمريكية الشمالية : "هذه رسالة للعمال في غواتيمالا، إذا قاتلتم من أجل العدالة ومن أجل نقابة فلن نجدد عقدكم .. سوف نذهب" . وهي رسالة للعمال في كل مكان . وهي انتهاك للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تَضْمُن المادة 23 منه حق تشكيل النقابات من حيث المبدأ . ضغوط الولايات المتحدة امتدت 45 عاما من إرهاب الدولة"....
                ونتيجتها أن أُخرجت غواتيمالا من التاريخ والحياة على أيدي الولايات المتحدة الأميركية الديمقراطية المسالمة.

                تذكير وإجابة :
                في الختام، أذكّر السادة القرّاء بالسؤال الذي طرحته عليهم في البداية وتركت إجابته إلى الختام، وهو : من هي الشخصية الأمريكية السياسية الأخطر التي تملك شركة يونايتد فروت التي حطّمت تجربة غواتيمالا الديمقراطية ودمّرت شعبها بالإضافة إلى الشخصيات المجرمة الأخرى التي ذكرناها ؟
                والجواب :
                إنّه المجرم "جورج بوش الأول" قاتل الأطفال كما وصفه الراحل العظيم محمد مهدي الجواهري في قصيدته ، والذي تحوّل – مع الرئيس بيل كلنتون - بعد تركه السلطة، من سافل قاتل إلى نصير لضحايا الإعصار تسونامي المساكين !

                تعليق


                • #23
                  لا تثقوا بالولايات المتحدة (16)

                  صَلْبُ السلفادور: حِرْص الولايات المتحدة على الديمقراطية
                  تسبّب في قتل 75 ألف واختفاء 8 آلاف مواطن سلفادوري !

                  تمهيد: (صَلْبُ السلفادور) هو التعبير الدقيق الذي اجترحه المؤرّخ والمحلل السياسي وعالم اللغة الشهير (نعوم تشومسكي) ليصف مأساة شعب السلفادور ومحنته .

                  لقد قامت الولايات المتحدة الأميركية بروحها الشيطانية ومخططاتها الجهنميّة العدوانية المرعبة بتدمير هذا الشعب وتمزيقه وتحطيم مقدّراته واستلاب إرادته .

                  يكفينا القول إن هذه الدولة الشيطانية قامت بقتل أكثر من (75000) مواطن من شعب السلفادور تحت ذريعة تهديد الديمقراطية والخطر الشيوعي، وكأن الديمقراطية شيء يُفرض بالدم والسلاح وفرق الموت، أو كأن ليس من حق الإنسان أن يقوم باختيار أفكاره حتى لو كانت ماركسيّة !

                  أليس حريّة اختيار الفكر من أولى ركائز الديمقراطية ؟

                  أليست حرّية الأفكار هي أول ما تنادي به الولايات المتحدة ؟

                  في مأساة شعب السلفادور وصلبه ما يثبت لؤم وخبث وحقارة هذه الدولة وزيف الشعارات التي ترفعها .
                  لقد تسبّب الحرص الأمريكي على نشر الديمقراطية في السلفادور في قتل حوالي 75 ألف سلفادوري أثناء النزاع الذي استغرق 12 سنة، وإخفاء 8000 بيد فرق الموت .

                  نبذة بسيطة عن السلفادور:
                  جمهورية السلفادور أو( إل سَلفَدُر (وبالإسبانية:: República de El Salvador أي "جمهورية المخلّص أو المُنقذ " وهو الوصف الذي يُطلق على السيّد المسيح عليه السلام. وهي أصغر دولة في أمريكا الوسطى وأكثرها كثافة سكانية. عاصمة البلاد هي سان سلفادور وهي أكبر مدنها. يحد السلفادور المحيط الهادئ من الغرب، وغواتيمالا من الشمال، وهندوراس من الشرق. يطل أقصى المنطقة الشرقية على ساحل خليج فونسيكا قبالة نيكاراغوا. مساحة السلفادور هي 21041 كيلومتر مربع، ويبلغ تعداد سكانها حسب إحصاء عام 2009 حوالي 5,744,113 نسمة.
                  استُكشفت السلفادور، واستقر فيها الإسبان في القرن السادس عشر، وظلت إسبانية حتى 1821 عندما انضمّت إلى كوستاريكا وغواتيمالا وهندوراس ونيكاراغوا في اتحاد اسمه جمهورية أمريكا الوسطى الاتحادية. مع انحلال هذا الاتحاد عام 1841 أصبحت السلفادور جمهورية مستقلة. ارتبط تاريخ السلفادور المبكر كدولة مستقلة بتكرر الثورات.

                  لمحات تاريخية معاصرة سريعة:
                  بعد تحرّكات شعبية ثورية دامية كثيرة ضد الفقر والجهل والمرض والإستغلال وهدر الثروات، وسلسلة من الإنقلابات العسكرية العنيفة، اجتمع ممثل الولايات المتحدة في السلفادور مع إدارة البلاد، واعترف لاحقًا بإدارة نائب الرئيس مارتينيز الذي وافق على اجراء انتخابات رئاسية في وقت لاحق. استقال مارتينيز عام 1934، وقبل الانتخابات الرئاسية بستة أشهر ليكون قادرًا على ترشيح نفسه للرئاسة، ومن ثم كان المرشح الوحيد ونجح في انتخابات 1935-1939 ثم 1939-1943 وبدأ بعد ذلك فترة الولاية الرابعة في عام 1944، لكنه استقال في أيار بعد الإضراب العام. تعهّد مارتينيز باحترام الدستور الذي ينص على عدم إعادة انتخابه، لكنه لم يفعل.
                  منذ ديسمبر 1931، عام الانقلاب الذي وصل به مارتينيز إلى السلطة، كان هناك قمع وحشي للمقاومة الريفية. كان الحدث الأبرز هو انتفاضة شباط 1932 للفلاحين السلفادوريين، يشار إليها باسم "لا ماتنزا" أو "المجزرة"، التي نظمها فارابوندو مارتي بحق زعماء مثل "هابيل كوينكا"، وغيره من الأكاديميين مثل "ألفونسو لونا" و "ماريو زاباتا". هابيل كوينكا كان الناجي الوحيد، بينما قُتل الشيوعيون الآخرون من قبل الحكومة.
                  في غرب السلفادور تمرد مئات الفلاحين، فقام الجيش بقمعهم، لكن الجيش لم يكتف بقتل الفلاحين الثوريين فقط، إنما الناس الأبرياء أيضًا. يقدر عدد ضحايا المذبحة بما يقرب من 30,000.
                  سيطر العسكر على المكتب الرئاسي منذ منذ 1932-1979، مع استخدام بعض الرؤساء للقمع أكثر من غيرهم. شملت مشاكل السلفادور أيضًا الأجور غير العادلة، وقمع الطلاب والمظاهرات العامة، وتزوير الانتخابات.
                  وطول تلك المدّة من الحكم العسكري كان الديكتاتوريون هم أحبّاء الإدارة الأمريكية والأشخاص المفضّلون لديها مهما كانت شناعة أعمالهم وفظاعتها . فلا أحد من الإدارات الأمريكية المتعاقبة يهمّه بل لا يتذكّر – على سبيل المثال لا الحصر - أنّ الجنرال "ماكسيميليانو هرناندز مارتينيس" رئيس السلفادور أمر في عام 1935 بقتل الآلاف من الهنود فيما عرف وقتها بـ "المجزرة" التي يُعتقد أن عدد القتلى فاق الثلاثين ألفاً .
                  وعلى سبيل المثال أيضاً، لا أحد منهم يهمّه سجل الرئيس "ديورات" بعد أن مات (عن 64 عاماً في 23 شباط 1990) في الولايات المتحدة إثر إصابته بسرطان المعدة (بالمناسبة رفض الإستقالة وتسليم الحكم ديمقراطيّاً حتى بعد أن أخبره الأطباء أن فرصه في الحياة تتراوح بين 6 – 12 شهراً !) حيث كشف السفير الأمريكي في السلفادور "روبرت وايت" أن الرئيس "ديورات" كان يتسلّم دفعات ماليّة من وكالة المخابرات الأمريكية – CIA . وقد تساءل الكثيرون عن السبب الذي جعل السفير الأمريكي يكشف هذه المعلومة الخطيرة !.
                  وخلال تلك العقود المظلمة وبعدها استعانت الولايات المتحدة بالجيش الذي درّبت ضبّاطه في مدرسة الأميركيتين الإرهابية الشهيرة (راجع الحلقات السابقة لمزيد من المعلومات عنها)، وبفرق الموت المرعبة التي كانت تدرّبها في الدول المجاورة الخاضعة لها وخصوصا الهندوراس . وعلى الرغم من كل ذلك البطش، وبرغم الخسائر البشرية الجسيمة التي تحمّلتها القوى اليسارية، فإن قوّتها وإيمان الجماهير المسحوقة بها وانخراطها في صفوفها كان يتصاعد أيضاً .
                  في أواخر السبعينات بدأت حكومة الولايات المتحدة بالإهتمام بقضيتين:

                  أوّلاً: بدأت سلطة سوموزا - دكتاتور نيكاراغوا - في التآكل، ومن ثَمّ ستفقد الولايات المتحدة قاعدته التي تمارس منها قوّتها على الإقليم ؛ إقليم أمريكا الوسطى .

                  ثانيا: وهذا أخطر من الأول، فقد بدأت أسهم المنظمات الشعبية في السلفادور في الصعود: منظمة الفلاحين – الاتحادات والنقابات – والجمعيات الكنسية ودور المثقفين وخصوصا الطلبة واساتذة الجامعات . وبدأت هذه الجهات تقوم بأدوار في خدمة المجتمع، وهذا يهدّد خطط الولايات المتحدة بخطر الديمقراطية بالرغم من أنها تتشدّق بها.

                  كارتر المدافع عن حقوق الإنسان هو قاتل الشعب السلفادوري:
                  مع تنامي التصفيات الدموية التي يقوم بها الجيش وفرق الموت، في شباط 1980 أرسل رئيس أساقفة السلفادور "أوسكار روميرو" رسالة إلى الرئيس الأمريكي "جيمي كارتر" – المتشدّق بحقوق الإنسان الآن - يتوسّل إليه ألّا يرسل مساعدات عسكرية للسلطة التي تحكم البلاد، موضحا أن تلك المساعدات تدعم القتل وتدمير المنظمات الشعبية التي تعمل من أجل احترام المتطلبات الأساسية للبشر . بعد أسابيع تم اغتيال "روميرو" في أثناء قداس كنسي . يفترض أن النازي الجديد " روبرتو د. أوبيسون " مسؤول عن ذلك مع ما لا يحصى من الفظائع الأخرى.

                  من هو "روبرتو د. أوبيسون"؟:
                  روبيرتو أوبيسون – كما أظهرت وثائق وكالة المخابرات المركزية مؤخرا - هو مؤسس حزب "أرينا" في السلفادور، كان خلال عقد الثمانينات زعيم إحدى فرق الإعدام، وشارك في التخطيط لاغتيال الأسقف "روميرو" . كان أعضاء من "أرينا" ضالعين في أنشطة فرق الإعدام؛ كما أن هذه الفرق تجنّد أعضاء سابقين في الجيش والشرطة.
                  قاد أوبيسون فرق الموت في السلفادور من 1978 حتى 1992، وبعد اغتيال القس روميرو بستة اسابيع، أُلقي القبض عليه في إحدى المزارع مع مجموعة من الجنود ومعهم أسلحة ووثائق وأموال تثبت تمويلهم لفرق الموت . هرب إلى غواتيمالا ثم عاد بعد تهديدات من الفصائل اليمينية المسلّحة، وقام بشجب الحكومة وإعلان أسماء ليساريين على شاشة التلفاز، قُتلوا كلهم بعد ذلك من قبل فرق الموت . قالت "الواشنطن بوست" في آب 1981: أن أوبيسون أعلن أن هناك حاجة لقتل بين 200000 – 300000 سلفادوري (وهم المناضلون الشعبيون) لاستعادة السلام في السلفادور . ثم أسّس حزب "أرينا" ليكون رئيسه مدى الحياة . ويجب على كل أعضاء الحزب أن يقسموا بالدم على ولائهم للنازي الجديد أوبيسون . في سنة 1993 سمّت لجنة التحقيقات التابعة للأمم المتحدة في السلفادور الضباط الذين ارتكبوا أسوأ الفظاعات في الحرب الأهلية، وتبيّن أن ثلثيهم تدربوا في فورت بيننغ. ومنهم روبرتو دي أوبويسون، قائد فرق الموت وقتلة رئيس الأساقفة أوسكار روميرو ومجموعة من القساوسة اليسوعيين.

                  خدعة الصحافة الأمريكية المُحايدة:
                  أُقيم قداس جماعي في الذكرى العاشرة لاغتيال روميرو حضره الآلاف من الفلاحين والفقراء والكثير من الأساقفة الأجانب ولاحظ الجميع غياب الولايات المتحدة . وطلبت كنيسة السلفادور رسميا من الفاتيكان اعتبار روميرو "قدّيسا" . مرت كل تلك الأحداث (نشاط روميرو في مجال حقوق الإنسان – اغتياله – القداس الجماعي الهائل في ذكراه – طلب كنيسة السلفادور من الفاتيكان اعتباره قديسا ) بصمت في الصحافة الأمريكية "الديمقراطية"، ولم يشر إليها الإعلام الأمريكي من قريب أو بعيد . حتى "النيويورك تايمز" جريدة السجلات والتواريخ لم تنشر شيئا، ولا حتى عن الإغتيال الذي قام به رجال تم تدريبهم بواسطة حكومة الولايات المتحدة والتي قدّمت لهم الدعم المالي والسياسي كما سنرى.

                  فرق الموت الأمريكية تبدأ بالعمل:
                  في 7 آذار عام 1980، وقبل حادثة الإغتيال بأسبوعين، اشتعلت حرب حكومة السلفادور ضد شعبها (تحت دعم وتورّط حكومة الولايات المتحدة) . كان الهجوم الرئيسي الأول في "ريو سومبول"، حيث أسفر تعاون جيش السلفادور مع جيش هندوراس عن ذبح ما يزيد على 600 من المواطنين . مزّقوا أجساد الأطفال إربا، وعذّبوا النساء وأغرقوهن، واستمر العثور على أجزاء من الجثث عدة أيام بعد المذبحة . شاهد المذبحة مراقبون من الكنيسة فأعلنوا عنها، ولكن لم يكن في ذلك أحداث تهم الإعلام الأمريكي ولا الصحافة الأمريكية.
                  ارتفع عدد القتلى في عام 1980 آخر أعوام رئاسة الرئيس الأمريكي "جيمي كارتر" إلى عشرة آلاف، ثم ثلاثة عشر ألفا في أولى سنوات الرئيس الأمريكي "رونالد ريغان" . في أكتوبر عام 1980 أدان رئيس الأساقفة الجديد حرب الإبادة التي تشنها قوات الأمن ضد المدنيين العزل . بعد شهرين حيّا القتلة قائد "قوات الأمن" المعتدل المُفضّل لدى الولايات المتحدة " جوزيه نابليون ديورات " على أعمالهم البطولية مع الشعب ضد الفتنة، وذلك عند تولّيه الرئاسة المدنية لـ "الجونتا" (الجونتا هي الحكومة الثورية للمجلس العسكري في السلفادور التي جاءت في انقلاب عام 1979).
                  لعب ديوارت المُعتدل المُفضل دور ورقة التين بالنسبة للحكام العسكريين، ليؤمّن لهم استمرار تدفق الدعم الأمريكي، خاصة بعد أن عرّى النظام نفسه باغتصاب وقتل أربع راهبات أمريكيات . تلك العملية التي أثارت "بعض" الإحتجاج في الولايات المتحدة، فاغتصاب السلفادوريات شيء، واغتصاب وقتل الأمريكيات شيء آخر جد مختلف . وهو بكل تأكيد خطيئة كبرى في عالم العلاقات العامة . تحاشت وسائل الإعلام الأمريكية القصة، تحت قيادة محامي حقوق الإنسان الرئيس "كارتر" ولجنة التحقيق التي أرسلها .
                  ذهبت إدارة "كارتر" لأبعد من ذلك في تكريس وتبرير الوضع خصوصا وزير الخارجية "إلكسندر هيغ" ومندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة "جين كيركباتريك"، واستحق الوضع إقامة محكمة شكلية – بعد سنوات – تم فيها رسميا تبرئة الحكومة السلفادورية ومن يدعمها ويدفع لها .
                  تم القضاء على الجريدتين اللتين نشرتا فظائع الجونتا على الرغم من أنهما لم تكونا في اتجاه المعارضة، فقد تم اغتيال رئيس تحرير واحدة، واضطُر الثاني للهرب من البلاد، لم تذكر الصحف الأمريكية "الديمقراطية" ذلك إلّا بكلمات قليلة .

                  المجازر تستمر:
                  في تشرين الثاني عام 1989 اغتال الجيش ستة قساوسة من الجيزويت ومعهم طاهيتهم وابنتها بطريقة الذبح والتقطيع وتهشيم الرؤوس . وفي الأسبوع نفسه اغتال الجيش ما لا يقل عن (28) من المواطنين بينهم: رئيس أحد الاتحادات، ورئيسة منظمة النساء الجامعيات، وتسعة من أعضاء إحدى الجمعيات الزراعية الهنود، وعشرة من طلبة الجامعة (بالمناسبة لعب طلبة المدارس المتوسّطة والثانويّة دورا عظيما في مقاومة الديكتاتورية في السلفادور !).
                  ذكرت الأسوشيتدبرس أن الجنود اقتحموا حيّاً عماليا في العاصمة واقتادوا ستة رجال، ومعهم صبي في الرابعة عشرة، وضعوهم أمام حائط ثم أطلقوا عليهم الرصاص . لم يذكر الإعلام الأمريكي شيئا عن هذه الحادثة أيضاً.
                  اغتالت كتيبة (أتلاكاتل) قساوسة الجيزويت، وهي كتيبة رفيعة المستوى أنشأتها ودرّبتها وسلّحتها الولايات المتحدة . تشكّلت تلك الكتيبة عام 1981، عندما أرسلت مدرسة القوات الخاصة الأمريكية خمسة عشر خبيرا في مقاومة التمرد للسلفادور . استفتحت الكتيبة عملها بالقتل الجماعي . وصف مدرّب أمريكي جنود الكتيبة قائلا: "متوحشون تماما .. كنا نجد صعوبة في إقناعهم بالحصول على مساجين أحياء بدلا من آذان وأعضاء جثث القتلى" .
                  في كانون الأول عام 1981 شاركت الكتيبة في حفل قتل جماعي لأكثر من (1000) من المدنيين . زخر الحفل بعمليات الاغتصاب والحرق . بعد ذلك شاركت في قصف القرى بالقنابل وقُتل مئات المدنيين بطلقات الرصاص وبإغراقهم وبوسائل أخرى . مَثّل النساء والأطفال والعجائز القسم الأكبر من الضحايا .
                  في السفادور الديمقراطية كان يتم تجنيد المراهقين والفتيان من سن ثلاث عشرة إجباريا، ليتم تلقينهم أساليب النازي في القسوة والقتل مع تطعيم ذلك بالإغتصاب .
                  وصف أساليب جيش السلفادور هارب من الخدمة (احتُفِظ باسمه – حسب تشومسكي - سرّاً كي لا تتعقبه فرق الموت) على الرغم من طلب وزارة الخارجية الأمريكية إعادته إلى السلفادور (طبعاً لكي يتم قتله). قال:
                  "كان على المتطوعين للخدمة أن يقتلوا الكلاب والنسور بليّ رقابها، ويشاهدوا تعذيب وقتل من يُشتبه في انشقاقهم، بنزع أظافرهم وذبحهم وتقطيع أوصالهم ثم العبث واللعب بتلك الأوصال" .

                  أبشع طرق قطع الرؤوس والتمثيل بجثث الضحايا:
                  حكى ورسم القسيس الكاثوليكي "دانيال سانتياجو" في جريدة أمريكا التي يصدرها الجيزويت عن فلّاحة عادت إلى منزلها يوما لتجد أطفالها الثلاثة وأمها وأختها جالسين حول المائدة، ورأس كل منهم أمامه . ويداه ممسكتان رأسه المفصول، ووسط المائدة إناء كبير من البلاستك ملىء بالدم . وطبقا لهذا القس:
                  "لا تكتفي فرق الموت بقتل المواطنين في السلفادور، بل تفصل رؤوسهم وتضعها على خوازيق . تنزع أحشاء الرجال وتقطع أعضاء ذكورتهم وتضعها في أفواههم . لا يكتفي الحرس الوطني باغتصاب النساء بل بقطع أرحامهن، ولا يكتفي بقتل الأطفال بل يسحلهم على الأسلاك الشائكة أمام أعين آبائهم" .
                  تم ذبح عشرات الألوف من السلفادوريين، وتحوّل أكثر من مليون مواطن إلى لاجئين .

                  ما هي فرق الموت أو كتائب أتلاكتل؟:
                  فرق الموت أو كتائب أتلاكاتل (بالإسبانية: Batallón Atlacatl) هم عناصر من قوات الجيش السلفادوري، والتي تم تشكيلها وتدريبها تحت إشراف العقيد الأمريكي "جون ديفيد فاغلشتاين" حيث تولّت مهمة تدريبها قوات البيريهات الخضراء (القبعات الخضراء)، كانت مهمة هذه الفرق القضاء على التواجد الشيوعي ومساندة الحكومة السلفادورية المُعيّنة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في بسط سيطرتها على السلفادور، وقد ارتكبت فرق الموت العديد من المجازر والانتهاكات لحقوق الإنسان خلال فترة الحرب الأهلية في السلفادور والتي امتدت لأواخر عام 1991 م، وذلك بدراية من الولايات المتحدة الأمريكية وبموافقتها وتدريبها وتسليحها.
                  وقد تحدّث الفيلسوف الراحل "روجيه غارودي" عن فرق الموت السلفادورية هذه مؤكّداً المعلومات السابقة ومضيفاً معلومات أخرى قائلاً:
                  (في تشرين الثاني 1989 وصف الأب "يغناسيو إيلاكوريا"، الذي اغتيل فيما بعد، وصف السلفادور بأنها: "الحقيقة المُمزقة بجروح تكاد تكون مميتة". كان قريباً جداً من رئيس الأساقفة "روميرو" الذي كتب إلى الرئيس "كارتر" يطلب منه إيقاف المساعدات للفئة الحاكمة لإيقاف "الحرب الخاصة" التي تسحق كل تنظيم شعبي بدعوى الشيوعية والإرهاب . وطلب أن لا تتدخل الولايات المتحدة من خلال الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية لأنها ستعرّض الشعب السلفادوري لمخاطر الفناء . في آذار 1980 اغتيل المونسيور روميرو رئيس اساقفة السلفادور بينما كان يرعى قداساً كنسياً . وعدت الولايات المتحدة بأنها ستعيد تقييم منح المساعدات للفئة الحاكمة . وأعقب هذه الوعود عملية الإغتيال، وسحقت قوى الأمن المنظمات الشعبية بشراسة ووحشية مُنكرة، على غرار مذبحة "ريو سامبول" التي وقعت في ظل صمت وسائل الإعلام المقهورة . أعضاء كتيبة أتلاكاتل درّبتهم الولايات المتحدة على إطاعة رؤسائهم الذين يكلّفونهم باغتيال رجال الدين .. عمداً وبأعصاب باردة . وصفهم جنرال أمريكي يعمل في مدرسة الأمريكيتين الحربية بأنهم: "متوحشون . نعلّمهم كيف يسجنون الناس، فكيف عندما يقطعون آذانهم ؟" . شاركت هذه الوحدة في كانون الأول 1981 في عملية قُتل خلالها مئات من المدنيين في حفل قتل صاخب رافقته عمليات اغتصاب وحرق . وقدّر المكتب القانوني للكنيسة عدد الضحايا بأكثر من ألف قتيل . وتتابع هذا الأسلوب فقُصفت قرى ومات مئات المدنيين معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ حصدهم الرصاص أو أميتوا غرَقاً . هذا هو باختصار ما سُمّي بـ "الحرب الخاصة في السفادور" بدءا من العملية العسكرية التي جرت على نطاق واسع في أيار 1980 عندما ذُبح (600) مدني ومُثِّل بجثثهم في ريوسومبول. وقد اشترك في هذه المذبحة الجيشان السلفادوري والهندوراسي . تابعتها الكنيسة وكل الصحافة الأجنبية عدا الأمريكية لأنها شاركت عمليّاً في الحرب النفسية حسب الدور المرسوم لها . أكدت لجنة المحامين في رسالة إلى وزير الدفاع "ديك تشيني" بأن قَتَلة رجال الدين جرى تدريبهم من قبل القوّات الخاصة الأمريكية إلى ما قبل المجزرة بثلاثة أيام . وأنّ الجنود الأمريكان كانوا متخفّين لبضعة أيام في فندق "سان سلفادور" خلال الحدث الذي أثار ضجة كبرى) .

                  سؤال إلى السيّد االقارىء:
                  هل يعتقد السيّد القارىء العراقي أنّ ما حصل في السلفادور من فرق موت وأساليب وحشية في قتل المواطنين لإثارة الحرب الأهليّة له علاقة بالعراق بعد عام 2003 ؟

                  لماذا كان رجال الدين يطلبون من أمريكا إيقاف المساعدات للحكومة السلفادورية:
                  يقول "تشومسكي":
                  (السلفادور حصلت أوّلاً على (6) مليارات دولار كمساعدة من الولايات المتحدة . كان في مقدمة المنتفعين منها جنرالات الجيش وقادة قطاع الأعمال والتجارة وزعماء حزب "أرينا" الذين يقودون عمليات الإغتيال. قبل انتخابات عام 1994 عزا تقرير لجنة تقصّي الحقائق عن السلفادور التابعة للأمم المتحدة (85%) من أعمال العنف إلى قوّات الأمن المُدرّبة من قبل الولايات المتحدة، و (10%) إلى فرق الموت المُرتبطة بقوّات الأمن، وإلى مجتمع رجال الأعمال المُرتبط بالولايات المتحدة . وعليه فإنّ أي مساعدة أمريكية – مهما كانت بسيطة - سوف تُعزّز قوّة وطغيان الحكومة التي تقوم بقتل الشعب السلفادوري .

                  لجنة تقصّي الحقائق: 22 ألف شكوى في البداية!:
                  تصوّر أخي القارىء أن هذه اللجنة التحقيقية التي شكّلتها الأمم المتحدة تسلّمت في بداية عملها (22) ألف شكوى من مواطنين سلفادوريين حول الإغتيالات والإخفاء والتعذيب !!
                  وحتى في عام 2014 كان المحامي "كارلوس سانتوس" المدافع عن حقوق الإنسان يستقصي عن ذوي الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في السجل الأصفر، وهو أول قائمة تُنشر عن الأهداف البشرية التي أعدّتها القيادة العسكرية العليا في سنوات الحرب.
                  والسجلّ المعلّم بعبارة "سرّيّ" عُثر عليه قبل ثلاث سنوات ويضم أسماء 1900 شخص، قُتل 200 منهم وأُخفوا، ويُشار في السجل إلى أولئك الأشخاص باعتبارهم أعداءً للدولة وأعضاءً في جماعات مسلحة تقاتل معاً تحت لواء جبهة التحرير الوطني التي تُعرف اختصاراً بـ"إف إم إل إن - FMLN". وكان معظم أولئك الأشخاص مفكرين وكتابا وصحفيين ومهنيين ونقابيين. وكان بعضهم عمالا وفلاحين.

                  جانب من ديمقراطيّة الصحافة الأمريكية:
                  الصحفي "توماس ووكر" وانتخابات السلفادور المزوّرة:
                  في آذار 2004 وخشية من أن تأتي نتيجة الانتخابات في السلفادور الإختيار، فإن حبل حياة البلاد – التحاويل النقدية من الولايات المتحدة، وهي ركيزة أساسيّة من ركائز "المعجزة الإقتصادية" التي تهوّس لها أمريكا – قد يُقطع من بين عواقب أخرى كما أشاعت ذلك الإدارة الأمريكية . كما أنهم أوضحوا طبيعة مهمّتهم بأن قدّموا ما أنجزوه في السفادور كمثال يُحتذى في العراق . وردّاً على التغطية الإعلامية المناصرة لهذا الموقف الصفيق، قام الصحفي "توماس ووكر" أحد أبرز المختصين في شؤون أمريكا اللاتينية، بتوزيع مقالة تعبر عن رأيه على الصحف في أرجاء البلاد كافة، يصف فيها الإنتخابات التي وُصفت بأنّها "حرّة" بالقول:
                  (في ظل الهيمنة الأمريكية: جرت هذه الإنتخابات على خلفية من الإرهاب الذي ترعاه الدولة، والذي أزهق أرواح عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء، وأصاب المجتمع المدني بالشلل، وأخرس بالكامل صوت الإعلام والمعارضة، المرشحون كانوا حصراً من طيف سياسي واحد، هُدّد الممتنعون عن الإقتراع بالموت، وكانت أوراق الإقتراع مُرقّمة ومُتسلسلة، أي من السهل التعرّف عليها، وتُلقى في صناديق بلاستيكية شفّافة تحت أبصار الجنود المسلحين، وكانت من الشفافية بحيث يمكن قراءة ما كُتب في ورقة الإقتراع حتى وإن كانت مطويّة كما ينبغي).
                  لم تُنشر المقالة على الإطلاق. كان "ووكر" يُرسل عدة مقالات في السنة إلى صحيفة "نيويورك تايمز" عن نيكاراغوا، ولا واحدة وجدت طريقها للنشر .

                  حالة ثانية تفضح ديمقراطيّة الصحافة الأمريكية:
                  تشومسكي:
                  انتخابات السلفادور عام 1994 أنموذج للانتخابات الأمريكية المزوّرة:
                  إذا كانت الصحافة الأمريكية لم تنشر مقالات الصحفي توماس ووكر عن تزوير انتخابات عام 2004، فإنها لم تنشر أيضاً مقالات مهمة للمفكر "تشومسكي" قبل ذلك عن انتخابات عام 1994 في السلفادور (وكذلك مقالة خطيرة له عن دفن آلاف الجنود العراقيين وهم أحياء عام 1991 اضطُر إلى نشرها في صحف ثانويّة في بريطانيا) . يقول تشومسكي:
                  (في نيسان 1994 وصل مشروع "نشر الديمقراطية" على الطريقة الأمريكية إلى السلفادور، فالانتخابات التي جرت في الثمانينات جاءت لتعطي شرعية للنظام الإرهابي المدعوم أمريكيا في البلاد، ولقيت الترحيب باعتبارها خطوة راسخة نحو الديمقراطية (الأدق استعراض الديمقراطية) .. كانت مسرحية .. عشرات الآلاف من الناخبين لم يجدوا أسماءهم في قوائم المنتخبين .. وتمّ استبعاد (74000) ناخب أغلبهم من المعارضة بحجة أنّهم ليس لديهم شهادات ميلاد . (300000) صوت تم استبعادهم عبر تزوير جماعي فاضح . 10% من الناخبين لم يتمكنوا من الإدلاء بأصواتهم . تمكّنت الحكومة من تجنيب وصول قوائم انتخابية إلى أيدي (340000) ناخب، وأُبطلت قوائم (80000) آخرين أغلبهم يعيشون في مناطق تسيطر عليها جماعات مسلحة . كشفت المعارضة قوائم بأسماء المتوفين ليتم حسابها للحكومة .. دعمت الولايات المتحدة حزب "أرينا" وحزب فرق الموت . الجيش والشرطة الذين دربتهم وسلّحتهم الولايات المتحدة هم القوى الإرهابية الرئيسية وأوّل المسؤولين عن المجازر هو نائب الرئيس والمرشح الرئاسي في انتخابات 1994 . قبيل الإنتخابات بدأت عمليات الإغتيال لنقابيين وشهدت البلاد "ارتفاعا فلكيا في جرائم الإغتيال"، وكان الجيش والشرطة منخرطين فيها باعتراف الأمم المتحدة ومنظمة الأمريكيتين للمراقبة . انتشرت شائعات أن الحرب ستعود من جديد إذا لم يفز حزب أرينا . الخوف جعل 45% من الناخبين لا يذهبون لإحساسهم بعدم الجدوى من الإنتخابات أيضا . الإرهاب الحكومي سبّب "اللامبالاة" مع تفكيك القوى الشعبية وهروب قادتها خوف الإغتيال) .

                  سفالة في استغلال معاناة السجناء السياسيين:
                  في مايو 1986 نُشرت مذكرات السجين الكوبي "إرماندو فالاديرز" . وسرعان ما أصبحت حديث الإعلام وهجوم على "كاسترو" الديكتاتور المجرم .. وهكذا. استُقبل هذا الرجل في البيت الأبيض بيوم حقوق الإنسان واختير من قبل الرئيس "ريغان" ممثلا للولايات المتحدة في لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان حيث تمكن من تقديم خدمات بالدفاع عن حكومتي غواتيمالا والسلفادور ضد التهم الموجهة إليهما بارتكاب جرائم وحشية تجعل أي شيء عانى منه "فالا ديرز" يبدو ضئيلا !
                  كان هذا في مايو 1986، لكن في نفس الشهر تم القبض على أعضاء مجموعة حقوق الإنسان في السلفادور وعُذّبوا . ومن بينهم قائد الجماعة "هيربرت أنايا" رئيس لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان في السلفادور، وأُرسلوا إلى سجن الأمل "لاسبيرانتزا" . وبينما هم في السجن، واصلوا الدفاع عن حقوق الإنسان، فقد كانوا محامين بلغ عددهم (432) محامياً في هذا السجن . وقد قاموا بتوقيع بيان كتابي وقّعه (43) محاميا شرحوا فيه أساليب التعذيب التي لاقوها بالكهرباء وغيرها، وهذا التقرير مكوّن من (16) صفحة تم تسريبه خارج السجن . بالإضافة إلى شريط فيديو صُوّر فيه الأفراد وهم يقدمون شهاداتهم داخل السجن حول التعذيب . وقد تم توزيعه . رفضت الصحافة الأمريكية القومية وقنوات التلفزيون الأمريكية تغطيتها . لم يكن "أنايا" هدفا لأي ثناء، ولم يُدع إلى حفل حقوق الإنسان، كما لم يُعين بأي منصب، قد تم الإفراج عنه في صفقة تبادل للسجناء، ثم اغتيل بواسطة قوات أمنية تساندها الولايات المتحدة . ولم تطرح وسائل الإعلام تساؤلات حول ما إذا كان كشف هذه الجرائم بدلا من السكوت عليها لربما أنقذ حياته من الموت . وهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على الطريقة التي يُدار بها نظام جيّد لتصنيع الإجماع أو "هندسة الموافقة – ingineering of consent " وعند مقارنة ما كشفه "هيربرت أنايا" في السلفادور فإن مذكرات "فالاديرز" تبدو أشبه بالحبّة إلى جانب الجبل.

                  تعليق


                  • #24
                    الآن .. نجيب على "سؤال إلى السيّد القارىء: كنّا قد سألنا السيّد القارىء سؤالاً هو: هل يعتقد أنّ ما حصل في السلفادور من فرق موت وأساليب وحشية في قتل المواطنين لإثارة الحرب الأهليّة له علاقة بالعراق بعد عام 2003 ؟
                    والجواب ببساطة وإيجاز صادم هو:
                    نعم . لما حصل في السلفادور من فرق موت وأساليب وحشية في قتل المواطنين لإثارة الحرب الأهليّة علاقة بالعراق بعد عام 2003 برغم بعد المسافات، ليس لأن الجهة التي خلفها واحدة حسب بل لأن الأشخاص المخطّطون والمنفّذون الرئيسيون هم نفسهم ... وبالأسماء .
                    من الذي أشرف على تشكيل وتدريب فرق الموت في السلفادور في الثمانينات؟
                    إنّه "جون نغرو بونتي" سفير الولايات المتحدة السابق في هندوراس (1981 – 1985) وسفيرها المقبل في العراق (1984 – 1985) بعد عام 2003 .
                    من الذي ساعده في تشكيل وتدريب فرق الموت في السلفادور ؟
                    إنّه "جيمس ستيل"، وهو ضابط سابق في القوات الخاصة الامريكية دشّن خبرته في فيتنام حيث أمضى عشر سنوات بين 1965 - 1975، قبل أن يتحوّل لإدارة المهام العسكرية الامريكية في السلفادور في ذروة الحرب الأهليةِ في تلك البلاد (1984 – 1986) حيث شكل قوّات بمستوى لواء، وكان مسؤولا عن اختيار وتدريب الوحداتَ الصغيرةَ (أَو فرق موت) التي تباهت يمسوءوليتها عن ايقاع 60 % من الإصاباتِ في "حملة مكافحةِ التمرّد" في السلفادور . هولاء الضحايا كانوا بالأساس عشرات الالاف من المدنيين العُزل.
                    كان الكولونيل ستيل، طبقاً لرواية عضو الكونغرس الأمريكي "دينيس كوسينيتش"، مسؤولاً عن “خطة نُفّذت في السلفادور “اختفى” أو قُتل بنتيجتها عشرات الآلاف من السلفادوريين، بمن فيهم الأسقف أوسكار روميرو وأربع راهبات أمريكيات". وخبرة "ستيل" هي في (نشر الرعب من خلال تطبيق اقصى انواع العنف) حسب وصف الكاتب "ماكس فولر" عن حملات مكافحة التمرد الامريكية في امريكا اللاتينية .
                    وكمعلومة إضافية فإن "ستيل" كان قد أُدِين سابقاً بالكذب تحت القسم، على لجنة كونغرس أمريكية حول دوره في إرسال السلاح إلى قوات التمرد في نيكاراغوا لإسقاط حكومة الساندنيستا هناك بقيادة الرئيس المنتخب "دانييل أورتيغا" . لكن نائب الرئيس بوش، "ديك تشيني" لم ينس "فضائله" في السلفادور، والذي كان قد زارها أكثر من مرة عندما كان عضو كونغرس.
                    ويقول الصحفي "ماكس فولر - Max Fuller مؤلف كتاب "العراق: الخيار السلفادوري يصبح حقيقة" إن "نيغرو بونتي" جلب إلى فريقه في العراق معاونه السابق الكولونيل المتقاعد "جيمس ستيل" الذي عمل معه في السلفادور في إطار إعادة تطبيق "الخيار السلفادوري" في العراق . أعلنت عن هذا الخيار: شبكة ان بي سي NBC الأمريكية بتاريخ 8 كانون الثاني عام 2005، ومجلة نيوزويك في التاريخ نفسه، مجلة امريكان بروسبيكت في 1 كانون الثاني 2004، وكلّها أشارت إلى أن البنتاغون درس تطبيق "الخيار السلفادوري" في العراق .

                    نفس الأساليب في السلفادور والعراق!:
                    يقول تشومسكي:
                    (لم تكن الأساليب طيبة جدا . لم يكن عمل القوات التي حركناها في نيكاراغوا أو عمل وكلائنا الإرهابيين في السلفادور أو غواتيمالا، لم يكن عملهم هو القتل العادي، ولكن كان بصفة رئيسية القسوة والتعذيب السادي: تعليق النساء من أقدامهن بعد قطع أثدائهن وتقشير بشرتهن – قطع رؤوس الناس وتعليقها على خوازيق – رطم الأطفال بالحوائط . الفكرة هي سحق الوطنية التي تدعو للإستقلال، والتي قد تجلب الديمقراطية الحقيقية).
                    كانت أبشع المذابح في تاريخ أميركا اللاتينية وقعت في قرية إل موزوتي بالسلفادور، في كانون الأول عام 1981، حيث قتلت كتائب أتلاكاتيل الأميركية التدريب أكثر من 800 شخص في حملة على الثوار. وتشهد المواطنة "ماريا ريسينوس" أن أختها قُتلت وهي حامل في شهرها الثامن، حيث أمسكوا بها، ثم بقروا بطنها، وأخرجوا الجنين من رحمها، ثم قذفوا به عاليا ثم تلقَّوْه بسكّين.

                    ونفس القوّات أيضاً!:
                    وحسب الصحفي ماكس فوللر فإنّ الشيء المُرعب حقا هو أنّ معظم المرتزقة الذين تأتي بهم شركات ستيل والشركات الأمنية الأخرى هم أفراد من نفس فرق الموت تلك: فقد امتلأ العراق بسفّاحين من السلفادور ونيكاراغوا والهندوراس.
                    يعلّق "روجيه غارودي" على ذلك بالقول:
                    (70% من مقاتلي الشركات الأمنية في العراق من القتلة المتمرسين في السفادور، فالقتلة المُتمرّسون من جهاز إرهاب الدولة الذي أداره "رونالد ريغان" في الثمانينات بوسعهم أن يتقاضوا أجرا أفضل من خلال مزاولة صنعتهم في العراق مما لو عملوا في خرائب المجتمعات في ديارهم) .

                    ضحية سلفادورية يتحدّث عن فاجعة أبي غريب العراقية:
                    يقول "فرانسيسكو" الذي تمّ اعتقاله من قبل الحرس القومي السلفادوري في يونيو من عام 1980 بتهمة مساعدة الثوار وكان في ذلك الوقت يعمل لصالح الكنيسة الكاثوليكية برفقة اثنتين من الراهبات الأمريكيات الأربع اللواتي تم اغتصابهن وقتلهن بطريقة بشعة في وقت متأخر من ذلك العام:
                    (جروحنا ما زالت مفتوحة إلى الآن، وهي ليست من النوع الذي يُضمّد ويندمل مع الأيام. قد لا يُدرك من لم يعيشوا التجربة كم كان حجم معاناتنا عندما أطّلعنا على صور التعذيب في أبو غريب وغيرها من صور الذين عُذّبوا وقُتلوا بوحشية على أيدي المرتزقة التشيليين والهندوراسيين الذين تستخدمهم الولايات المتحدة الآن في العراق مقابل المال. وبرغم إننا نراجع الأطباء ونتلقى المساعدة، لكن ذلك غير كاف بحد ذاته، فأنت كلما ترى الصور تستعيد كل شيء كأنه حدث بالأمس. فالأساليب المُستخدمة في التعذيب هي نفس الأساليب التي استُخدمت ضدنا في السابق: الصدمات الكهربائية، الضرب المبرح، الاغتصاب ليلا ونهارا. لأن المشرفين على التعذيب هم نفس الأشخاص الذين تدرّبوا على تلك الأساليب في نفس المعهد المذكور).

                    عودة إلى مدرسة الإغتيالات والإنقلابات:
                    ما هو المعهد المذكور الذي يدرّب القتلة والذي ذكره هذا الضحية السلفادورية في نهاية حديثه؟
                    إنّها مدرسة الأمريكيتين للتدريب العسكري التي تحدثنا عنها كثيرا وتكرارا في الحلقات السابقة والتي نقلتها الولايات المتحدة من بنما إلى أراضيها ثمّ غيّرت اسمها إلى (معهد نصف الكرة الغربي للتعاون الأمني) ولكن جوهرها ظل ثابتا كمدرسة تدرّب العسكريين على الإرهاب والإغتيالات والتعذيب ليصبحوا فرق موت في بلدانهم:
                    في نهاية شهر تشرين الثاني من عام 2005 تجمع ما يقارب الـ 19,000 شخص أمام (معهد نصف الكرة الغربي للتعاون الأمني) وهو المعهد الذي كان يُطلق عليه حتى عام 2001 اسم (مدرسة الأمريكيتين) ومقرّه في جورجيا في مظاهرة مناهضة للتعذيب دعوا من خلالها إلى وضع حدٍ لنشاطات هذا المعهد الذي سبق ان تعرض إلى موجة انتقادات محلية عنيفة بدأت في عام 1996 بعدما نشر البنتاغون على الانترنيت دليلاً للتدريب يستخدمه هذا المعهد تضمن دروسا عن التعذيب والابتزاز والتصفيات الجسدية. ومنذ ظهور المعهد في عام 1946 ومئات الجرائم المروّعة تُنسب إلى المتخرّجين منه، ومنها عملية اغتيال رئيس أساقفة السلفادور أوسكار روميرو، واغتصاب وقتل أربع راهبات أمريكيات في عام 1980 في السلفادور، وتنفيذ المذبحة التي راح ضحيتها المئات من المدنيين في قرية الموزوتو.
                    وبينما يدّعي المسؤولون عن المعهد بان تلك الأيام قد أصبحت تنتمي إلى زمن مضى منذ تغيير اسم المدرسة في عام 2001، فان الآلاف الذي قدموا للمشاركة في تظاهرة هذا العام، ومن بينهم شهود ارتبطت أسماؤهم بجرائم التعذيب تلك، لهم رأي أخر مختلف عن هذا الرأي).

                    تواطؤ الإعلام خطيئة .. لكن ماذا نسمّي تواطؤ المثقفين .. ؟:
                    يقول "تشومسكي":
                    (حصل اختبارٌ آخر للعقيدة الجديدة في منتصف تشرين الثاني في الذكرى العاشرة لاغتيال ستة مفكرين أمريكيين لاتينيين بارزين مع آخرين كثيرين بينهم رئيس جامعة السلفادور الرئيسية في مجرى اهتياج إجرامي آخر لكتيبة نخبوية من قوات الإرهاب التي تديرها أمريكا والتي تُدعى "الجيش السلفادوري"، والتي خرجت لتوّها من جلسة تدريب قام بها أفراد الوحدات الخاصة الأمريكية . لم تظهر أسماء المفكرين اليسوعيين الذين قُتلوا في الصحافة الأميركية . ولن يذكر أسماءهم أو يقرأ كلمة مما كتبوه أحدٌ إلّا قلّة .
                    المثقفون السلفادوريون الستة تهشّمت جماجمهم وتطاير نخاعهم وقُتلت معهم مدبرة منزلهم وابنتها على يد كتيبة من النخبة التي سلّحتها ودربتها واشنطن. وكانت تلك الكتيبة تملك سجلا حافلا بالفظاعات والأعمال الدموية . وتمّ ركل جثث هؤلاء المثقفين برفسة أخرى في الوجه، فبُعيد حادثة القتل مباشرة زار "فاسلاف هافل" "المثقف" و"الفيلسوف" وأول رئيس تشيكي مُنتخب، زار واشنطن لإلقاء كلمة أمام جلسة مشتركة لمجلسي الكونغرس حيث استُقبل بعاصفة من التصفيق - وقوفاً - لإشادته بـ "حُماة الحرّية" الذين سلّحوا ودرّبوا قتلة المثقفين الأميركيين اللاتينيين البارزين الستّة، مثلما يعرف هو جيدا ومثلما يعرف مستمعوه بالتأكيد . وقد حظي تقريضه الحار لذواتنا المجيدة بعد هذه المنجزات كلها بتهليل ملؤه الإنتشاء من جانب كبار المعلّقين الليبراليين الذين رأوا فيه علامة أخرى على ولوجنا "عصرا رومانسيا"، وهزّهم صوت ضميره الذي تكلّم حُكماً عن المسؤوليات التي تدين بها البلدان كبيرها وصغيرها تجاه بعضها بعضا) حسبما ذكرت صحيفة "الواشنطن بوست".

                    لمحات سريعة عن معجزة التنمية التي حقّقتها الولايات المتحدة في السلفادور:
                    - سرطان الإدمان:
                    في السلفادور 500000 مُدمن على المخدّرات، ويزداد الإدمان بين صغار السن خصوصا .
                    - المتاجرة بالأطفال وبيع الأعضاء البشرية:
                    (لقد كشفت لنا شركة أفلام كندية وثائقية عن الكثير من الخبايا في أمريكا اللاتينية في فيلم بعنوان "تجارة الأعضاء" . يعرض الفيلم عمليات قتل الأطفال لاستخراج أحشائهم وانتزاع أعضائهم للبيع . كانتزاع العيون على يد قراصنة من المشتغلين بالطب مسلّحين فقط بملاعق القهوة !!!! وقد وصلت هذه الإبداعات روسيا أيضا . وقد قدمت الولايات المتحدة الثناء والتقدير لحكومة السلفادور التي تقوم برعاية هذه الأعمال، مادام ذلك "يحافظ على قيمنا وطموحنا" . وقد أعرب مسؤول في منظمة الدفاع عن حقوق الأطفال بأن "السلفادور تشهد اكبر تجارة في الأطفال" ولا تتضمن هذه التجارة خطف الأطفال وبيعهم فحسب، بل لاستخدامهم أيضا في تصوير أفلام داعرة ولتقطيع أوصالهم وبيع أعضائهم . ولم تعد سرّاً العملية التي قام بها الجيش السلفادوري في حزيران 1982 حين قامت قوات الجيش التي درّبها الأميركان بتحميل الطائرات المروحية بخمسين طفلاً لم يرهم آباؤهم بعد ذلك. وقد ظهر هذا التقرير في صحيفة "الأوبزرفر" اللندنية في نفس اليوم الذي كانت فيه صحيفة "النيويورك تايمز" الأميركية تتحدث عن الإنجازات في نيكاراغوا والنجاح الذي تحقق في "مد رقعة" القيم الأميركية المشفوعة بالرحمة وأعمال الخير) كما يقول تشومسكي.
                    ويجب أن نلاحظ أن تجارة الأعضاء لم تكن تخفى على الأميركيين، فالرئيس "كلنتون" صدّق على توصية مجلس الأمن القومي بفرض حصار على الصادرات التايوانية لمعاقبة تايوان بزعم فشلها في إيقاف تهريب قرون وحيد القرن وأعضاء الفهود . وجاء عنوان "وول ستريت جورنال": "الولايات المتحدة ستعاقب تايوان للتجارة في أعضاء الحيوانات" . وحين نأتي إلى تجارة الأعضاء البشرية في البرازيل والسلفادور والمكسيك وغواتيمالا وغيرها من الدول المشتركة في هذه الجرائم لا نسمع أي نقد اميركي لها !!

                    - كارثة تصيب الطفولة:
                    ذكرت اليونيسيف في آخر تقرير لها الحقائق التالية عن الوضع الكارثي الذي يعيشه أطفال السلفادور:
                    - ما يزال العنف السائد عاملا يحض على الهجرة، والتي تخلّف تأثيرا كبيراً على الأسرة، خاصة انتقال مسؤولية الأسرة المعيشية إلى المرأة.
                    - أدى ارتفاع عدد الأطفال دون سن 18 سنة الذين تمت إعادتهم إلى وطنهم (سنبيّن معنى الإعادة في الفقرة التالية) إلى زيادة التعرّض لعنف العصابات، والانفصال عن الأُسر، والاستغلال.
                    - لم يؤدي النمو الاقتصادي إلى الرفاه الاقتصادي بين السكان.
                    - يعيش على الأقل 4 من كل 10 أشخاص في ظروف أفقر، ويُقدّر أن حوالي نصف إجمالي عدد الأطفال والمراهقين يعيشون في الفقر.
                    - يؤثر الفقر السائد في القطاع الريفي، تأثيراً كبيراً على الأطفال، ولا سيما من حيث إمكانية الحصول على التغذية الكافية وخدمات المياه والصرف الصحي.
                    - لا تتوفر لسبعين في المائة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و 17 عامل إمكانية الحصول على التعليم الثانوي.
                    - تعانى السلفادور من أعلى معدل جرائم القتل في المنطقة.
                    - كشف سبعون في المائة من الأطفال تعرضهم لسوء المعاملة في منازلهم.
                    - بالرغم من الزيادات في الإنفاق على التعليم العام، إلا أن مستويات الإنفاق لا تزال غير كافية لتحقيق الهدف المتمثل في توفير التعليم العام.

                    سفالة في تطبيق قوانين الهجرة:
                    وهذا تعليق من صحيفة "السجل" حول قوانين الهجرة الجديدة القاسية آنذاك (1997):
                    (لأن الولايات المتحدة سلّحت وموّلت الجيش السلفادوري الذي تسبّب في هروب آلاف المواطنين، كان قلة من السفادوريين قادرين على الحصول على وضع اللاجئين في الولايات المتحدة الذي مُنح للكوبيين والفييتناميين وغيرم . أما القانون الجديد فيُعدّ كثيرا منهم مجرد أهداف للترحيل رغم أنهم كانوا يهربون من صراع مميت، وهو صراع استمر من 1979 إلى 1992 حيث قُتل أكثر من 75000 شخص في السلفادور، قتلَ معظمهم الجيش الذي تدعمه أميركا وفرق الموت التي تدعمها بدورها والتي أجبرت كثيراً من الناس على الهرب إلى الولايات المتحدة) كما يقول تشومسكي.

                    لعبة وقحة: الإعتراف الأمريكي يأتي دائما بعد ذبح الآلاف من الأبرياء:
                    عضو الكونغرس الأميركي "جيم ماكغفرن" اعترف لحلقة 30/11/2014 من برنامج "عالم الجزيرة" أن كثيرا من الناس قُتلوا بأسلحة أعطتها الولايات المتحدة الأميركية لحكومة السلفادور، وكثير ممن ارتكبوا بعض هذه الجرائم كانوا قد تدرّبوا في أميركا. مع العلم أن واشنطن ساندت قوات حكومة السلفادور خشية أن يهيمن اليساريون على أميركا الوسطى.
                    كما منحت الولايات المتحدة لجوءاً لضابطين كبيرين كانا في الجيش السلفادوري إبَّان الحرب وهما الجنرال غيليرمو غارسيا والجنرال فيديس كاسانوفا.
                    فما هي حكاية هذين الجنرالين السفّاحين ؟

                    الولايات المتحدة حاضنة الإرهاب وحامية القتلة:
                    على الرغم من أنّ العنوان السابق هو عنوان حلقة خاصّة مُقبلة إلّا أن سياق هذه الحلقة يفرض ذكر جانباً من معلوماتها . فلم تكتف الولايات المتحدة بتدريب وتسليح فرق الموت والجيش السلفادوري والإشراف على عملياتها الدموية فحسب، بل قامت أيضاً بتوفير ملاذات آمنة للقتلة السفّاحين الهاربين منهم، من هؤلاء على سبيل المثال الجنرالان غيليرمو غارسيا وفيديس كاسانوفا.
                    يعيش الجنرال خوسيه غيليرمو في فلوريدا منذ تسعينات القرن العشرين. وكونه في فلوريدا معناه أنه يحظى برعاية "جب بوش" شقيق المجرم الكحولي "جورج بوش" الثاني"، والإبن الثاني لمجرم الحرب الأكبر "جورج بوش الأول" (وبالمناسبة هو حفيد "جورج بوش الأكبر" صاحب أسوأ كتاب عن النبي "محمد" (ص) حيث وصف الرسول في هذا الكتاب بأوصاف بشعة، ودعا فيه إلى قتل المسلمين وذبحهم أسوة بقتل وذبح الهنود الحمر !! وستكون لنا وقفة مستقلة على هذا الموضوع) . وبوصفه قائداً للجيش السلفادوري خلال الثمانينات، أشرف غارسيا على قتل آلاف الأشخاص عن طريق فرق الموت المرتبطة بالجيش.
                    ويقيم في فلوريدا أيضا - ولاية "جب بوش" المُشمِسة - خليفة غارسيا، الجنرال كارلوس فيدس كازانوفا، الذي كان يدير الحرس الوطني المرهوب الجانب. ووفقاً لتقرير لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في السلفادور، قدّم فيدس الغطاء والحماية للذين اغتصبوا ثلاث راهبات أميركيات وعاملة علمانية وقتلوهن بطريقة بشعة جدا سنة 1980. وكان حاضراً شخصياً في مناسبتين على الأقل عندما كان يُعذّب الدكتور الجرّاح "خوان روماغوزا" . وفي النهاية تسببت الإصابات التي ألحقت بهذا الرجل في جعله غير قادر على ممارسة الجراحة.
                    وقد رفع ضحايا الجنرالين دعاوى عليهما لدى المحاكم الأميركية، لتتوصل هيئة محلفين عام 2002، إلى أنهما كانا مذنبَيْن بالمسؤولية عن تعذيب المُدّعِين، وارتكاب فظائع أخرى بحقهم.

                    دليل رسمي مؤكّد على تورّط الولايات المتحدة:
                    تشير الوثائق الرسمية الأميركية العائدة إلى مجلس الشيوخ الأمريكي إلى أنّه في أبريل عام 1984 رفض مجلس الشيوخ الأمريكي مشروع قانون يُلزم الحكومة الأمريكية بوقف العمل في إقامة قواعد حربية ومنشآت عسكرية في هندوراس لاستخدامها ضد الثوار في السلفادور، وضد حكومة نيكاراجوا التي تعترف بها الحكومة الأمريكية.
                    كما تشير الوثائق أيضاً إلى أنّه في 17 حزيران 1954 حصل انقلاب على الرئيس الغواتيمالي "أربنز" (راجع الحقة الخاصة بغواتيمالا) بتدبير من الولايات المتحدة حيثغزت غواتيمالا فرقة عسكرية أتت من السلفادور بعد أن تسلّحت وتدرّبت على أيدي السي.أي.آيه، ووَضَعت حكومة على رأس البلاد ألغت كل فكرة للإصلاح الزراعي وقوانينه التي أثّرت على شركة يونايتد فروتس، وخضعت لرغبات واشنطن.

                    تعليق


                    • #25
                      لا تثقوا بالولايات المتحدة الأمريكية (17)


                      كولومبيا: أكثر دولة تسحق حقوق الإنسان وأكثر دولة في العالم تحصل على المساعدات الأميركية
                      تمهيد:
                      في هذه الحلقة من سلسلة "لا تثقوا بالولايات المتحدة الأميركية" سأحاول التركيز على الخراب والدمار الذي سبّبته المخالب الشيطانية للولايات المتحدة الأميركية لشعب دولة أخرى من دول أمريكا اللاتينية هو شعب كولومبيا الذي قتلت شعبه واغتالت قياداته الشعبية وكوادره العلمية واستنزفت مقدراته وأحرقت أراضيه من خلال فرق الموت . ولكنني سوف أركّز أيضاً على ظاهرتين أخريين مترابطتين وخطيرتين هما:
                      أوّلاً: حقيقة الحرب على المخدرات التي تشنّها الولايات المتحدة في العالم وأمريكا اللاتينية عموما وكولومبيا خصوصاً.
                      وثانياً: حجم المساعدات الإقتصادية والعسكرية التي تقدّمها الولايات المتحدة وعلاقتها – كما تزعم – باحترام حقوق الإنسان.
                      وبالنسبة للولايات المتحدة فإنّها قد تصدّت لقيادة العالم الغربي وتدمير دول العالم الثالث المارقة بعد الحرب العالمية الثانية تحت غطاء محاربة "إمبراطورية الشر" ممثلة في الإتحاد السوفيتي في ظل ما سُمّي بالحرب الباردة منذ بداية الخمسينات وحتى انهيار الاتحاد السوفيتي . وبعد هذا الانهيار المدوّي صار لزاماً على واشنطن أن تخلق عدوّاً جديدا تخيف به العالم وتدمّر دول العالم الثالث وتمتص ثرواتها من خلال التلويح بخطره . قال المجرم "كولن باول" وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق: إن الإتحاد السوفيتي الذي كان يمثل "امبراطورية الشر" لم ينته، بل هو حاضر الآن في دول شريرة جديدة – يقصد كوريا الشمالية والعراق وليبيا وإيران وغيرها. ومع هذا العدو الجديد رفعت واشنطن شعار "الحرب على المخدرات"، وهذا الشعار يشمل – في غالبية إجراءاته – دول أمريكا اللاتينية (خصوصا كولومبيا) لكونها من المصادر الكبرى لزراعة وتصدير المخدرات (الكوكا بشكل خاص). ومع هذين العدوّين ظهر متغيّر (أو تهديد جديد) تلوّح به واشنطن هو (خرق حقوق الإنسان) الذي ربطته بدول الشرّ من ناحية وبمساعداتها العسكرية والاقتصادية التي تقدمها لدول العالم، بمعنى أن الولايات المتحدة ستوجّه كل جهودها العقابية والرادعة ضد الدول التي تخرق حقوق الإنسان ؛ وكتحصيل حاصل فإن هذا يعني أنّ الولايات المتحدة هي دائماً مع الديمقراطيّة وضد الديكتاتورية، وبالتالي فإن مساعداتها يجب أن تتجه وكتحصيل حاصل أيضاً نحو الدول الديمقراطية وتقع عقوباتها على الدول الديكتاتورية . فلنراجع معاً هذه الشعارات الأمريكية البرّاقة بدقة وتأمّل من خلال "حالة كولومبيا" لنكشف من جديد كذب وسفالة هذه الدولة بصورة موضوعية محكمة .

                      نبذة عن كولومبيا:
                      تقع كولومبيا في الجزء الشمالي الغربي من قارة أمريكا الجنوبية. يحدها من الشمال البحر الكاريبي ومن الشرق فنزويلا والبرازيل ومن الجنوب بيرو و الإكوادور ومن الغرب بنما والمحيط الهادي، وهي الدولة الوحيدة في أمريكا الجنوبية التي تملك سواحل على المحيط الهادئ والبحر الكاريبي.
                      غزاها الإسبان واستعمروها عام 1499 حيث أنشأوا غرناطة (أو جرينادا) الجديدة والتي تتبع التاج الإسباني، وعاصمتها بوغوتا. حصلت على الاستقلال من إسبانيا عام 1819، ولكن مع حلول عام 1830 كانت كولومبيا الكبرى قد انهارت بانفصال فنزويلا والإكوادور. ما يُعرف الآن بكولومبيا وبنما كوّنت جمهورية غرناطة الجديدة (أو جرانادا). تم إعلان جمهورية كولومبيا عام 1886، وانفصلت عنها بنما – بمؤامرة من الولايات المتحدة لضمان إكمال حفر القناة الشهيرة والسيطرة عليها، راجع حلقة بنما عام 1903.
                      مساحتها 1،138،910 كم2، وعدد سكانها 46 مليون نسمة حسب احصاء 2008 (ثالث دولة في أمريكا اللاتينية بعد البرازيل والمكسيك) .
                      وسياسيّاً مرّت كولومبيا بسلسلة متصلة من الحروب الأهلية المستعرة في كولومبيا والأنظمة العسكرية الديكتاتورية التي كانت تحظى برعاية ومساعدة الولايات المتحدة الأمريكية منذ انحلال كولومبيا الكبرى عام 1830 . فعلى سبيل المثال أسفرت انتخابات الرئاسة التي أثارت جدلاً كبيراً في عام 1945 عن انقسام شديد بين الأحزاب السياسية وأدت إلى أحداث عنف شديدة (1948 – 1957) أودت بحياة أكثر من 200000 شخص ! والأطراف الأربعة للجحيم الكولومبي الحالي تتمثل في:
                      المنظمات الثورية: القوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك FARC) وجيش التحرير الوطني (ELN).
                      ميليشيات الموت وعلى رأسها اتحادات الدفاع الذاتي بكولومبيا (AUC).
                      عصابات الكوكايين (الإحتكارية) بمدينة مدايين.
                      الحكومة: وهي متهمة بتلقي الدعم من عصابات الكوكايين، وبدعم الميليشيات وفرق الموت، بإشراف ومساندة الولايات المتحدة .
                      وهذه الحكومة تحصل على أعلى قدر من المساعدات والمعونات من حكومة الولايات المتحدة، فكيف نفسّر ذلك ؟؟
                      الولايات المتحدة لا تُساعد إلّا الدول التي تسحق حقوق الإنسان:

                      يقول المؤرّخ والمفكر "تشومسكي":
                      ( يظهر التزام الولايات المتحدة الراسخ بنشر الديمقراطية ومكافحة الديكتاتوريات، ودفاعها الصلب عن حقوق الإنسان في ظاهرتين هامتين:
                      الأولى: أن العلاقة بين المساعدات الأمريكية والإساءة الفائقة لحقوق الإنسان أصبحت وثيقة جدا، بحيث لم تعد هناك حاجة لدراستها أو تقصيها . كان يمكن دراستها في ستينات القرن العشرين وسبعيناته، أما في ثمانيناته فقد أصبحت علاقة وثيقة وواضحة للغاية .
                      فقبل عشرين عاما أثبت ( لارس شولتز ) في دراسة واسعة وجود علاقة وثيقة بين المساعدات الأمريكية والإساءة إلى حقوق الإنسان في أمريكا اللاتينية حيث تستلم أفظع الدول في انتهاك حقوق الإنسان أعلى المساعدات . وإذا ألقيت نظرة على سجلات هيئة العفو الدولية بشأن التعذيب، وعلى المساعدات الأمريكية الأجنبية فلسوف تجد العلاقة الوثيقة واضحة . وليس معنى ذلك أن الولايات المتحدة تفتش عن الدول التي تعذب مواطنيها لتقدم لها المساعدات، ولكن لأن الشرط الأساس في بناء علاقة الولايات المتحدة بأية دولة هو تحسين المناخ الاستثماري حيث ترتفع المساعدات الخارجية حيث تتحسن فرص المستثمرين في استنزاف موارد بلد ما .
                      ولكن السؤال / المفتاح الذي يفرض نفسه هو:
                      كيف تتحسن فرص الاستثمار في بلد من بلدان العالم الثالث ؟
                      والجواب: إنه يتم من خلال قتل مسؤولي الاتحادات وزعماء الفلاحين ونسف البرامج الاجتماعية وغير ذلك، وهنا تنشأ العلاقة الثانوية بين المساعدات وانتهاكات حقوق الإنسان الفاضحة . وفي عام 1981 أعد الاقتصادي "إدوارد هرمن" من معهد واردن (جامعة بنسلفانيا) دراسة تحدثت عن علاقة سببية بين الطَّغمة العسكرية وإيجاد «مناخ مناسب للأعمال» يتجلى أوتوماتيكياً بتصاعد القمع والتعذيب والاغتيالات وإرهاب الدولة وانتهاك حقوق الإنسان بأسوأ أشكاله الفاضحة. وكولومبيا الحالية هي النتيجة المباشرة لهذا النظام، وباعتبارها موطناً لمنظمات مافيا المخدرات بالتواطؤ النشط مع الصناعة الكيميائية الأمريكية ومع البرجوازية المحلية (المصارف والمصانع التي تجنى منها أرباح ضخمة) ومع العنف والعصابات فهي اليوم – مع تركيا في ذلك التاريخ من بين الدول حيث حقوق الإنسان الأكثر انعداماً.
                      إلا أنه جرت العادة بشكل عام أن يُذكر هذان البلدان من قبل الإدارة الأميركية كنموذجين لتطبيق العقيدة الليبرالية الجديدة، فمن الجدير إذن أن تستحوذا على الانتباه بشكل خاص. فكولومبيا مثلا كانت في العام 1999 أول وأكبر متلق للسلاح الأمريكي رغم أنها كان لها أسوأ سجل في حقوق الإنسان في نصف الكرة الأرضية، ولكنها حصلت على مساعدات أمريكية أكثر من بقية الدول في نصف الكرة الأرضية مجتمعة . هذه المساعدات كانت تزداد كلما صارت " مذابح المناشير السلسلية " (مناشير ذات سلسلة تُقطّع بها فرق الموق رؤوس وجثث المواطنين) أكثر وحشية وترويعا – وهذه المذابح مطابقة لمذابح تقطيع الرؤوس والأجسام التي شهدها العراق بعد الاحتلال – وفي هذه المذابح كان الجيش الكولومبي حين يدخل أي منطقة – فإنّه يقوم بتقطيع أجساد الناس إلى أجزاء بالمناشير السلسلية ويلقي بهم في حُفر . وقد ارتفع عدد الذين يُقتلون سياسيا من عشرة إلى عشرين شخصا يوميا . وبلغ عدد المطرودين من بيوتهم عشرة آلاف شهريا . إضافة إلى المليونين من المهجّرين .
                      وقد أدرك الجيش الكولومبي أنه سيُحاسب دوليا على هذه الجرائم، فسلّم جرائم القتل إلى فرق الموت، ( وتم قتل – والكلام لتشومسكي ثلاثة آلاف شخصية بارزة على أيدي فرق الموت المرتبطة بالولايات المتحدة والمدعومة منها عسكريا)، والجيش متعاون مع شركات أمريكية خاصة مثل شركة "دين كورب" و "مؤسسة الموارد المهنية العسكرية"، وذلك لخصخصة جرائم الموت وإبعادها عن المحاسبة – نفس ما سيحصل في العراق وهذا ما أعلنه الرئيس الأمريكي المُسالم " بيل كلنتون " ممارس الجنس في حرم البيت الأبيض مصّاً وإيلاجاً بقوله: " حسنا، أننا فقط نهملهم " .
                      يقول تشومسكي أنه تأكّد من جرائم الولايات المتحدة بنفسه عندما زار كولومبيا مثلما تأكّد من طريقة التبخير بالأسلحة الكيمياوية (مؤامرة التبخير سنتناولها بعد قليل). وقد أعلن كولن باول قائد الحرب العالمية الثالثة لتدمير العراق في عام 1991 ثم محتله القذر عام 2003 – "بأن كولومبيا لبّت معايير واشنطن لحقوق الإنسان" .
                      أما السبب الحقيقي لدعم أمريكا لنظام الموت في كولومبيا فهو " إصلاحاتها الاقتصادية " على الطريقة الأمريكية حيث سجّلت رقما قياسيا عالميا في الخصخصة، أي بتسليم مواردها لمستثمرين أجانب، ومن بين هذه الخصخصة، خصخصة الإرهاب كما سنرى .

                      كولومبيا أكبر متلقٍ للاسلحة الأميركية والتدريب:
                      المستوى السنوي للقتل السياسي الذي تمارسه الحكومة الكولومبية والمنظمات شبه العسكرية غير القانونية يساوي مثيله في كوسوفو، ووصل عدد اللاجئين أكثر من مليون، ومع ذلك كانت البلد الرئيسي في نصف الكرة الغربي المتلقي للأسلحة الأميركية والتدريب. وكان كلنتون يمدح الرئيس الكولومبي "جافيريا Gaviria " (سيزار أوغستو جافيريا الرئيس الثامن والعشرون لكولومبيا 1990 – 1994) الذي كان مسؤولا عن مستويات مُرعبة من العنف حسب منظمات حقوق الإنسان . لقد ولّد الفعل الأميركي تصعيد الفظائع .

                      شيء عن مساعدات الولايات المتحدة لكولومبيا:
                      تتلقى كولومبيا مساعداتٍ عسكرية أميركية أكثر مما تتلقاه دول أمريكا اللاتينية والكاريبي مجتمعة، ووصل الرقم الكلّي لعام 1999 إلى حوالي 300 مليون دولار، مع ستين مليون دولار مبيعات أسلحة، وهي ثلاثة أضعاف ما كانت عليه عام 1998 . وفي نيسان دعت إدارة كلنتون إلى تخصيص مبلغ 1،6 مليار دولار كمساعدة "طارئة" لحكومة كولومبيا "الديمقراطيّة" !، وتُعد "خطة كولومبيا" برنامجا حكوميا مدته سنتان يتكون من 5،7 مليار دولار من الولايات المتحدة، وتقدّم أوروبا وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي 6 مليارات من اجل البرامج الاجتماعية والاقتصادية . ومن الملاحظات الغريبة على "خطة كولومبيا" هذه هو أنّها قد كُتبت باللغة الإنكليزية وليس بالإسبانية التي هي اللغة الرسمية .

                      خطّة كولومبيا .. ومؤامرة الحرب على المخدّرات:
                      تم تبرير خطة كولومبيا رسميا بحجة "الحرب على المخدرات" . أفادت إدارة مكافحة المخدرات الأميركية أن جميع فروع الحكومة في كولومبيا مُتورّطة في فسادٍ يتعلق بالمخدرات . وفي تشرين الثاني من عام 1998 عثر مفتشو الجمارك وإدارة مكافحة المخدرات الأميركية على (415) كيلوغراما من الكوكايين و (6) كغم من الهيروين في طائرة هبطت في فلوريدا مما أدى إلى اعتقال عدد من ضباط القوات الجوية والمتطوعين . وأفاد مراقبون آخرون بتورط ضبّاط الجيش الأميركي في التجارة . ورافعت زوجة العقيد "جيمس هايت" عن نفسها أمام القضاء بتهمة تهريب هيرويين من كولومبيا إلى نيويورك، وبعد وقت قصير، قيل أن العقيد "هايت" نفسه المسؤول عن القوات الأميركية التي درّبت قوات الأمن الكولومبية على "عمليات مضادة لتهريب المخدرات" كان من المتوقع أن يرافع ضد اتهامات بالاشتراك في التهريب .
                      وتصرح الميليشيات علنا بأنها تعتمد على تجارة المخدرات بنسبة 70% من التمويل كما صرح "كارلوس كاستانو" قائد أكير مجموعة وحشية من الميليشيات، لكن الهجوم المُموّل من أمريكا يبقى بعيدا عن مناطق إنتاج المخدرات التي تسيطر عليها الميليشيات . إن "خطة كولومبيا" في الحقيقة هي خطة تدعو لتغيير اجتماعي داخلي لدمج كولومبيا في نظام عالمي بحسب ما تريده الولايات المتحدة، تهيمن عليها نُخب مرتبطة بمصالح القوة الأميركية تمنح مدخلا إلى ثروات كولومبيا المهمة وبينها النفط .

                      لكن لماذا يزرع الفلاحون الكوكا؟
                      بسبب تهجيرهم من قبل كبار الملاك والسياسة الاقتصادية السيئة التي اتبعتها الحكومة، حيث بدؤوا باستعمار الغابة الأمازونية الكولومبية في الخمسينات، ووجدوا الكوكا المُنتج الوحيد السهل، والسريع، والمُربح . وازدادت الضغوط بعد أن أسّس الإقطاعيون ميليشيات لانتزاع الأرض بالقوة من الفلاحين فسيطر المهرّبون على الكثير من أراضي كولومبيا الخصبة . كما أن قوات مكافحة المخدرات لا تهاجم التجار والمالكين الكبار بل صغار الفلاحين . ويصحّ الشيء نفسه على الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية التي استخدمتها الولايات المتحدة برغم اعتراض الجمعيات الزراعية لأنها تضاعف المخاطر على السكان المدنيين والبيئة وتدمّر المحاصيل الشرعية كاليوكا والموز ومصادر المياه والمراعي والمواشي وجميع المحاصيل المتضمنة في برامج استبدال المحصول وبينها المشاريع التنموية المؤسَّسة جيدا والتي تديرها الكنيسة والتي هدفت إلى تطوير بدائل لانتاج الكوكا . كانت الولايات المتحدة تصر على برامج تدمير المحاصيل بدلا من استبدال المحاصيل، وقامت بتجريب علني لـ " فِطْر " خاص جرّبته في البيوت الزجاجية وإذا به يخفض انتاج الكوكا، لكنه قضى أيضا على كثير من المحاصيل التقليدية وبينها الموز والكاكاو والبن والذرة وأعشاب الليمون وغيرها . ولكن مسؤولي الحكومة الأميركية يعتبرون هذه التهم لا أساس لها . وهناك عامل آخر وهو أن كولومبيا كانت مُنتجة " قمح " رئيسية، لكن دمّرَتْ هذا الإنتاج في الخمسينيات مساعدات "الغذاء مقابل السلام"، وهو البرنامج الذي قدّم معونات دافعي الضرائب الأميركيين إلى اصحاب المشاريع الزراعية الأميركية، وأقنع بلداناً أخرى أن "تصبح معتمدة على الولايات المتحدة من أجل الطعام" . وقبل عام من إعلان الرئيس "بوش" بجعجعة كبيرة "الحرب على المخدرات"، عُلّقت اتفاقية البن الدولية بضغط من الولايات المتحدة، على أرضية انتهاكات تجارية "مُموّهة" وكانت النتيجة هبوطا في الأسعار وصل إلى أكثر من 40% في غضون شهرين لمورد كولومبيا القانوني الرئيسي . اي أن الفلاحين وُضِعوا في موقف إما زرع الكوكايين أو الموت !! وستركز الولايات المتحدة على العمليات العسكرية لتفيد الصناعات التقنية العالية التي تنتج عتادا عسكريا وترسخ سلطة شركة "أوكسيدنتا بتروليوم" التي تملك استثمارات ضخمة في كولومبيا . فوق ذلك تقضي سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن تفتح البلدان حدودها لطوفان من المنتجات الزراعية من الدول الغنية، وهذا يدمّر زراعة البلدان في أمريكا اللاتينية ؛ كولومبيا هنا بدرجة أكبر . أما المُهجّرون فإما ينتقلون إلى أحياء الفقراء البائسة ويكونون أيدي عاملة رخيصة لمصلحة الشركات الأجنبية، أو تصدر لهم تعليمات بأن يكونوا "مزارعين عقلانيين" ينتجون لسوق التصدير ويبحثون عن اسعار أعلى ممثلة في "الكوكا والحشيش والأفيون" . وبعد أن يتعلموا الدرس تكون مكافأتهم هجوم بالمروحيات الأميركية وتدمير حقولهم بالحرب الكيمياوية والبيولوجية التي تشنها واشنطن .

                      مؤامرة التعثين الأمريكية:
                      ثمّ تأتي "مؤامرة التعثين" كما يسمّيها لكولومبيون . إن عمليات "التعثين – fumigation" أو التبخير، هي تطهير المكان الزراعي المقصود بتعريضه للدخان أو الغاز، وهي العملية التي تقوها وتنفذها الولايات المتحدة في كولومبيا. كانت هذه العمليّة "العلمية" تستهدق تهجير المواطنين من مواطنهم عبر حرب كيمياوية . ولم توافق الحكومة على مقترحات الفلاحين ونشطاء حقوق الإنسان وسكان المقاطعات الجنوبية على الاقتلاع اليدوي لنبتة الكوكا والخشخاش، وتقديم الدعم للمزروعات البديلة ؛ لم توافق، وتم تسميم التربة من جراء التعثين، ومات الأطفال، وقاسى ضحايا التهجير المرض والضيم، ودُمِّرت تقاليد الزراعة . ومع رحيل الناس تسنّى للشركات الأجنبية التنقيب واستخراج الفحم والبترول، أو زراعة محاصيل التصدير محل مزارع البن فشردت آلاف الفلاحين وتسببت في موت الآلاف . وعمليات التعثين تتولاها شركات أمريكية خاصة مؤلفة من ضباط عسكريين أميركيين بموجب عقود موقعة مع البنتاغون .

                      عام 1999: مجازر أمريكية متواصلة من كولومبيا إلى كوسوفو:
                      في الأشهر الأولى من عام 1999 بينما كانت ترتكب مجزرة كل يوم في كولومبيا، كان هناك ازدياد في المجازر في "تيمور الشرقية" قامت بها فوات الكوماندوز الأندونيسية التي درّبتها وسلّحتها أمريكا . في مجزرة واحدة ارتُكبت في كنيسة في ليكويكا في 6/4/1999 يعتقد المحققون الغربيون أنه تم قتل 200 – 300 شخص . ولم تُعرف القصة كاملة لأن الولايات المتحدة رفضت طلب بعثة الامم المتحدة للفرق الجنائية على عكس ما حدث في كوسوفو التي عجّت بالمحققين على الفور في محاولة للعثور على جرائم حرب تُستخدم كتبرير لقصف الناتو الذي أدى إلى هذه الجرائم بمنطق خادع .
                      في كولومبيا ايضاً كان الناشطون البارزون في حقوق الإنسان يواصلون الهرب خوفا من القتل، عدة نقابيين عماليين يُقتلون كل عام، من قبل الميليشيات التي تدعمها الحكومة، التهجير القسري زاد في 1998 20% على نسبة 1997، وازداد ثانية في 1999 . وتمتلك كولومبيا أضخم عدد من المهجّرين بعد السودان وأنغولا . مدحها كلنتون بأنها ديمقراطية بارزة – كما قلنا وفيها تم اغتيال 3000 ناشط من حزب الإتحاد الوطني الحزب الوحيد المناهض للسلطة فاضطر إلى اللجوء للنضال السرّي لحماية أرواح أعضائه . كان بين الناشطين الذين تمّ اغتيالهم: مُرشّحون رئاسيون ورؤساء بلديات ومشرّعون . الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية سيّئة جدّا ويُرثى لها في بلد فيه كمٌّ هائل من الثروات. تتمركز الأراضي بيد قلة، وأصبح أكثر سوءا بعد "الإصلاحات الليبرالية الجديدة" في التسعينات التي فرضها البنك الدولي. تركّزت السلطة بيد دائرة صغيرة من التكنوقراط هم في النتيجة مساعدو واشنطن. أدّت المعجزة الاقتصادية التي بشّرت بها الولايات المتحدة ونفذّها البنك الدولي إلى أن يعيش 55% من سكان كولومبيا تحت خط الفقر . وأهم اسباب العنف تحويل الجيوش النظامية إلى فرق مضادة للتمرد وقامعة للحركات الشعبيّة، وفق عقيدة الأمن القومي التي صاغها "جون كنيدي"، فتهتم الجيوش بالعدو الداخلي من خلال فرق الموت التي تقتل أعضاء نقابات العمال والناشطين (راجع الحلقات السابقة) . أرسل جون كنيدي بعثة عسكرية إلى كولومبيا عام 1962، برئاسة جنرال قوات خاصة "ويليم باربورو" قامت بتدريب الجيش الكولومبي على سبل الإرهاب وليس الدفاع عن البلاد. وقد اعترف "شارل كيشلنغ" المسؤول الأسبق عن برنامج الحرب ضد العصابات أيام رئاسة "كيندي" و "جونسون" بأنه لم يعد يكفي منذ ذلك الحين تحمُّل «جشع ووحشية العسكريين في أمريكا اللاتينية» ولكن انتقلنا معهم إلى «شراكة مباشرة». إن الأساليب التي استخدمها العسكريون المدربون من قبل الأمريكيين لم تقل شراسة عن «أساليب فرق التصفية لـ "هنريش هملر» السفّاح النازي المعروف. هذه المقارنة ليست بسبيل المصادفة لأن الولايات المتحدة استقبلت حينها القادة السابقين للنازية الذين ساعدوا في إعداد كراسات التدريب (راجع الحلقة الخاصة بتحالف الولايات المتحدة مع هتلر). وقد دأب معاونون في البيت الأبيض أمثال "روبرت مكنمارا" على تطبيق الأساليب المقترحة من أجل أبعاد «كل من يمكنه أن يهدد الأمن الداخلي» لدول أمريكا اللاتينية. وصار تجريم الإحتجاج الاجتماعي أهم سبب لانتهاك حقوق الإنسان، واعتبر مسؤول عسكري الخطر الحقيقي هو الحرب السياسية والنفسية التي تشنها الدولة من أجل السيطرة على العناصر الشعبية من خلال النقابات والجامعات ووسائل الإعلام.

                      الديكتاتوريون أحباء الولايات المتحدة:
                      في كولومبيا مدح كلنتون الرئيس "سيزار جافييرا" وهو ديكتاتور مُحبّب – كالعادة إلى قلوب رؤساء الولايات المتحدة الديمقراطيين . وتقرير منظمات مراقبة حقوق الإنسان يشير إلى أن كولومبيا في ظلّ هذا الديكتاتور هي اسوأ دولة في نصف الكرة الغربي في مجال حقوق الإنسان، وإلى تفشّي مستويات بالغة للعنف . ومنذ عام 1986 قُتل – كما قلنا سابقاً أكثر من 30000 شخص لأسباب سياسية سقط اغلبهم على يد الجيش والشرطة الكولومبية والعصابات المرتبطة بهما وتجار الألماس، وعلى يد "فيكتور كارانزا" أكبر تاجر مخدرات في الدولة . ولقي أكثر من 1500 شخص من حزب المعارضة حتفهم سواء أكانوا زعماء أم أعضاء أم مناصرين منذ تأسيسه عام 1985 .
                      ثم يأتي الرئيس "كلنتون" ليعلن أن انتخابات آذار من عام 1994 قد عبّرت عن "الديمقراطية المستقرة" التي ينشدها في كولومبيا، في حين أنها ديمقراطية اشترى فيها تاجر الكوكايين الشهير "كالي" اصوات الناخبين .

                      تعليق


                      • #26
                        الديكتاتوريون أحباء الولايات المتحدة:في كولومبيا مدح كلنتون الرئيس "سيزار جافييرا" وهو ديكتاتور مُحبّب – كالعادة إلى قلوب رؤساء الولايات المتحدة الديمقراطيين . وتقرير منظمات مراقبة حقوق الإنسان يشير إلى أن كولومبيا في ظلّ هذا الديكتاتور هي اسوأ دولة في نصف الكرة الغربي في مجال حقوق الإنسان، وإلى تفشّي مستويات بالغة للعنف . ومنذ عام 1986 قُتل – كما قلنا سابقاً أكثر من 30000 شخص لأسباب سياسية سقط اغلبهم على يد الجيش والشرطة الكولومبية والعصابات المرتبطة بهما وتجار الألماس، وعلى يد "فيكتور كارانزا" أكبر تاجر مخدرات في الدولة . ولقي أكثر من 1500 شخص من حزب المعارضة حتفهم سواء أكانوا زعماء أم أعضاء أم مناصرين منذ تأسيسه عام 1985 .
                        ثم يأتي الرئيس "كلنتون" ليعلن أن انتخابات آذار من عام 1994 قد عبّرت عن "الديمقراطية المستقرة" التي ينشدها في كولومبيا، في حين أنها ديمقراطية اشترى فيها تاجر الكوكايين الشهير "كالي" اصوات الناخبين .

                        قمع الشعب بقانون تجريم التظاهر، وذبحه بشعار "الحرب على المخدّرات":
                        لقد كانت الحرب تُشن على المعارضة تحت غطاء "الحرب على المخدرات"، في حين كانت قوات الأمن الحكومية وما يتبعها من عصابات تشترك في تجارة وتهريب المخدّرات . إن اعتبار "تجريم التظاهر الشعبي" واحداً من العوامل الاساسية التي يسّرت سُبل انتهاكات حقوق الإنسان على يد سلطات الجيش والشرطة حسب اللجنة الكولومبية للتغلب على العنف . كانت الشرطة في مقدمة صانعي العنف، وكان عام 1992 اسوأ الأعوام منذ الخمسينات حيث قُتل مئات الآلاف بدعم وتأثير الولايات المتحدة. اقترفت فرق الموت عمليات الإختفاء والتعذيب والاغتصاب والمذابح الجماعية تحت مبدأ "العقاب الجماعي" . بين آب 1992 وآب 1993، قُتل 217 من نشطاء المعارضة . وكان "التطهير الشعبي" أحد مشاريع قوات الأمن، وذلك عبر اغتيال المُشرّدين والعاطلين وأطفال الشوارع وفتيات البغاء والشواذ جنسيا وغيرهم من غير المرغوب فيهم . قالت وزارة الدفاع الكولومبيّة "إنّ هؤلاء اشخاص لا فائدة منهم، وغير قادرين على الإنتاج" (وهذه فكرة نازيّة اصلاً طربت لها الولايات المتحدة). تفشّى القتل أيضا دعماً لتجارة بيع الأعضاء البشرية، حيث يُقتل الأشخاص وتُقطّع جثثهم للبيع في السوق السوداء حسب تقارير منظمة العفو الدولية .

                        قوّات الأمن الكولومبية تبتكر طريقة جديدة للتجارة بالأعضاء البشرية:
                        في كولومبيا طُبّقت فكرة جديدة في تجارة الأعضاء البشرية حيث يقوم رجال الأمن الذين يحرسون إحدى المدارس الطبّية بقتل الناس وبيع جثثهم للمدرسة لتُستخدم في الأبحاث التي يجريها الطلاب . وتشير التقارير إلى أن أعضاءهم القابلة للبيع في السوق السوداء يتم استئصالها قبل قتلهم . تُرتكب هذه الممارسات التي لا تكاد تشكل شيئا من أسوأ سجلات حقوق الإنسان في القارة كلها، على يد قوات الأمن التي طالما استفادت من التدريب والإمداد الأمريكيين، والتي صارت الآن من أكبر متلقي المعونات الأمريكية . ويُعتبر القساوسة والناشطون النقابيون والقادة السياسيون وغيرهم ممن يحاولون الدفاع عن الفقراء وتشكيل التعاونيات، أهدافا رئيسية للقتل والتشويه والتعذيب، ويوصفون بأنهم "هدّامون" نتيجة معارضتهم النموذج الإقتصادي الليبرالي الجديد المطبّق وفق تعليمات الولايات المتحدة والبنك الدولي .
                        وتلاحظ منظمات حقوق الإنسان تشابه النموذج الكولومبي مع نظيريه في السفادور وغواتيمالا، فالمبادىء التي قدّمها المستشارون والمدرّبون الأميركيون لأنظمة هذه الدول يمكن تتبع تاريخها إلى الفترة النازية . وحظيت كولومبيا بدعم المرتزقة البريطانيين والألمان و"الإسرائيليين" الذين قاموا بتدريب السفّاحين وأدّوا الخدمات لتحالف تجّار المخدّرات والإقطاعيين والعسكر، وذلك في حربهم ضد الفلاحين والنشطاء الشعبيين.



                        الولايات المتحدة تحمي أشرس السفّاحين الكولومبيين
                        حالة السفّاح "لويس بيسيرا" أنموذجا:
                        وفّرت الولايات المتحدة الحماية والملاذ الآمن لأكثر السفّاحين في أمريكا اللاتينية من الجنرالات وفرق الموت، على العكس مما تدّعيه من مزاعم مكافحة الإرهاب ومحاكمة من يقتلون الإنسان . ووفق هذه القاعدة كانت الولايات المتحدة الملجأ الذي يفر إليه السفّاحون القتلة لينعموا بالراحة والأمان وأيديهم ملطّخة بدماء الشعوب المسكينة المطالبة بالخبز والحرّيبة . حصل هذا مع العشرات من الجنرالات وأعضاء فرق الموت في دول عديدة من دول أمريكا اللاتينية ومنها كمبوديا . وقد ذكرنا حالات من هذا النوع في الحلقات السابقة، وسوف نذكّر الكثير منها في الحلقات المقبلة . وفي هذه الحلقة سنشير إلى واحدة من الحالات التي وفّرت فيها الولايات المتحدة الحماية والماذ الآمن لأشرس السفّأحين في كولومبيا وهي حالة الرائد "لويس فيليب بيسيرا".
                        فالرائد "لويس فيليب بيسيرا" المتهم بالمسؤولية عن العديد من المذابح من قبل المحكمة المدنية، تمكّن من الهرب من الدولة في ظل تهديد بالقتل بعد أيام من الإفراج عنه بكفالة . لكن التهديد بالقتل لم يُنفّذ لأن "بيسيرا" كان يتلقّى تدريبا عسكريا في الولايات المتحدة للترقي إلى رتبة عقيد . وبعد عودته من الدورة التأهيلية عُيِّن بيسيرا رئيسا لشعبة الإعلام والعلاقات العامة في الجيش،على الرغم من توصية النائب العام للقوات المسلحة بفصله من الخدمة عقابا له على مشاركته في مذابح الفلاحين . وفي أبريل 1996 تم إسقاط التهم عنه بضغط خفي من الولايات المتحدة . وفي أكتوبر اتُهم من جديد بالتورّط في مجازر ضد المدنيين العُزل . وتحت ذريعة مقاتلة المتمردين نفّذت القوات المسلحة التي كانت تحت أمرته عمليات لقتل عشرات الأشخاص في المناطق الريفية، وكان الضحايا مرة أخرى مدنيين عُزلاً، كما قامت هذه القوات باغتصاب النساء وتعذيبهن، وذلك بشهادة مواطنين في المنطقة التي شهدت العمليات .
                        هكذا استمر هؤلاء المجرمون يفلتون من العقوبة، وبشكل منتظم، والنتيجة أن القصص في دول أمريكا اللاتينية متشابهة، سواء في أمريكا الوسطى أو هاييتي أو البرازيل وفي أي مكان وصل إليه "مبدأ مونرو" (عن مبدأ مونرو راجع الحلقات السابقة). وكذلك في الفلبين وفي إيران الشاه . وكل ذلك يعود إلى مبادىء أقرّها جون كنيدي عام 1962 – كما قلنا مرارا لتحويل جيوش أمريكا اللاتينية من خيار "الدفاع عن البلاد" إلى "الأمن الداخلي" بهدف مقاتلة "العدو الداخلي" الذي يُقصد به القوى المحلّية التي تقف في مواجهة الولايات المتحدة وعملائها . وقد علت وتيرة الحرب ضد "العدو الداخلي" في كولومبيا في الثمانينات، وذلك مع تحديث "رونالد ريغان" لمبدأ جون كنيدي. وفي عام 1988 تم تبنّي نظام قضائي جديد في كولومبيا يتيح "التجريم الأقصى للمعارضة السياسية والشعبية" .



                        أدوات التعذيب في كولومبيا توفّرها الولايات المتحدة إ
                        الولايات المتحدة تتواطأ مع تجّار المخدّرات !:
                        وفي تقريرها لعام 1993 لاحظت منظمة حقوق الإنسان أن أغلب المواد المستخدمة في التدريب والتعذيب التي يستعين بها الجيش والشرطة في كولومبيا تأتي من الولايات المتحدة . ولبّت الولايات المتحدة طلب كولومبيا بنصب نظام راداري لمراقبة طيران تجّار المخدرات فنصبته الولايات المتحدة بعيداً عن ممرات طيران هؤلاء التجّأر، وقريبا من حدود نيكارغوا لمراقبة الأخيرة في الحرب التي شنتها واشنطن عليها .
                        بين عامي 1984 إلى عام 1992 تمّ تدريب (6844) جنديا كولومبيا خصوصا في فترة الأعمال الإجرامية وكان البرنامج التدريبي الأكبر وبثلاث مرات من السلفادور . وقد أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أنه "في كولومبيا نظام ديمقراطي لا ينتهك حقوق الإنسان" . بعد ثلاثة أشهر أعلن تقرير للأمم المتحدة أنّ: 140 عصابة في كولومبيا يموّلها تجار المخدرات وبعض الإقطاعيين ينسّقون مع الجيش والشرطة .. القتل يجري في هذه المناطق بتغطية الجيش .. وثبت أن الكل يهرّبون المخدرات . النصف الأول من عام 1988 شهد مقتل 3 آلاف شخص لأسباب سياسية من بينهم (273) تم تفتيتهم في معسكرات "التطهير الشعبي" .
                        بلغ معدل القتل السياسي ثمانية أشخاص يوميا، بواقع سبعة يُقتلون في بيوتهم، وواحد "يختفي" في الشارع العام . وأغلب الذين اختفوا كانوا من قادة الاتحادات الزراعية وسياسين يساريين، قُتل (1500) منهم في الوقت الذي أصدرت وزارة خارجية الولايات المتحدة فيه بيانها بدعم كولومبيا "الديمقراطية" !! .
                        حملة انتخاب عمداء المدن عام 1988 اغتيل فيها (29) من أصل (87) مرشحا من المعارضة، وقُتل أكثر من (100) من مرشّحيها على مقاعد المجالس المحلية ! اتحاد العمال تشكّل عام 1986، وفقد أكثر من (230) عضواً وُجد أغلبهم مقتولاً في أعقاب تعذيب وحشي!

                        كولومبيا "ديمقراطية بلا شعب"
                        الولايات المتحدة الديمقراطية ترحّب بقانون تجريم التظاهر في كولومبيا:
                        التجريم الأقصى للتظاهر والنشاطات النقابية والفكرية والسياسية المعارضة، والحرب على "العدو الداخلي" رحّبت به الولايات المتحدة . ومنذ عام 1988 وحتى مطلع 1992، تم اغتيال (9500) شخص لأسباب سياسية إضافة إلى اختفاء (830) آخرين وارتكاب (313) مجزرة (هذه هي المجازر الأخيرة بين عامي 1988 و1990 فقط)، وكل ضحايا هذه المجازر كانوا من الفقراء والفلاحين . كان الجيش بشهادة السكان يستخدم أسلوب الأرض المحروقة، ويغتال الرجال والنساء والشيوخ والأطفال . والولايات المتحدة كانت تزداد إصراراً على أن تصف كولومبيا بأنها دولة تحترم حقوق الإنسان !! . مع كلنتون عام 1994 زادت المساعدة لكولومبيا 12% . وفي عام 1997 قفزت المساعدات الأميركية لكولومبيا من 50 إلى 290 مليون عام 1997 .

                        السياسة الإقتصادية للولايات المتحدة في كولومبيا سبب الإرهاب:
                        "المعجزة الإقتصادية" التي طبّلت لها الولايات المتحدة ونفّذ سياساتها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أنتجت ثراءً فاحشاً للأقلية وبؤساً ساحقاً للأكثرية . في كولومبيا 3% من السكان يمتلكون 70% من الأراضي الزراعية في وقت يعمل فيه 57% من الفلاحين الفقراء تحت إمرة هذه النسبة من الأثرياء . وبالمثل، 40% من الكولومبيين يعيشون في "فقر مدقع" غير قادرين على تلبية الاحتياجات الحياتية، بينما 18% يعيشون في "بؤس شامل" غير قادرين على تلبية الحد الأدنى من الغذاء اليومي، وذلك بحسب لجنة الإحصاء القومي عام 1986 . كما قدّر المعهد الكولومبي لرفاهية الأسرة بأن 4،5 مليون طفل دون سن الرابعة عشرة يعانون من الجوع، وهو يعادل واحداً من كل طفلين، وذلك في ظل تفاخر الولايات المتحدة بـ "أنتصار الرأسمالية في كولومبيا التي هي واحدة من أكثر دول أمريكا اللاتينية انتعاشا في أوضاعها الإقتصادية" كما تقول تقارير البنك الدولي . كولومبيا " ديمقراطية بلا شعب " هذا هو الوصف الدقيق لحالها كما قلنا . صارت الدولة "سجنا كبيرا" والديمقراطية للأقلية الثرية .

                        شركة بوش للفواكه المتحدة تذبح العمال الكولومبيين:
                        شركة يونايتد فروتس (كما قلنا في الحلقة الخاصة عن غواتيمالا) تأسّست عام 1899 وتسيطر على دول ومقاطعات سُمّيت بـ "جمهوريات الموز" مثل: هندوراس وغواتيمالا وكوستاريكا وكولومبيا وغيرها. كانت هذه الشركة مسؤولة عن مجازر عديدة أشهرها مجزرة الموز عام 1929 التي قُتل فيها أكثر من ألف عامل كولومبي . الشركة مُتهمة أيضاً بتمويل وتدريب وتسليح منظمات إرهابية في عدة دول في امريكا الوسطى منها كولومبيا . وبرغم الأدلة القاطعة يرفض القضاء الأمريكي النظر في ذلك أو تسليم المسؤولين عن الإرهاب.

                        معجزة التنمية الأمريكية: الجريمة في كولومبيا .. أخطر بلد في العالم:
                        تُعد كولومبيا من الدول الأكثر خطرا في العالم من الناحية الأمنية، حيث بلغت نسبة جرائم القتل لعام 2012 أرقام خيالية بلغت 14 ألف جريمة قتل وهو ما يشكل 31 حالة لكل مئة ألف نسمة مسجلة لدى السلطات الأمنية، إلا أن هذا الرقم قد يكون أكثر بكثير من الواقع حيث أن العديد من جرائم القتل لا يتم إبلاغ السلطات عنها فيما يعرف بحروب المخدرات والتصفيات بين تجار المخدرات حيث يموت الآلاف سنويا.

                        من اعترافات قرصان أمريكي اقتصادي:
                        يقول "جون بركنس" صاحب كتاب (الإغتيال الاقتصادي للأمم: اعترافات قرصان اقتصادي):
                        (إحدى أهم الخدمات التي بعناها لكولومبيا في أواخر القرن العشرين كانت الاستشارات الهندسية والإنشائية . كانت كولومبيا نموذجا لكثير من الأماكن التي عملتُ فيها . وقد كان من السهل نسبيا إبراز أمكانية هذا البلد على استيعاب كمّ هائل من الديون ثم إعادة دفعها من عائدات المشروعات نفسها وكذلك من عائدات ثرواتها الطبيعية . وهكذا تم توضيح استثمارات في إنشاء محطات توليد الكهرباء والطرق السريعة ووسائل الاتصالات السلكية واللاسلكية لتتمكن كولومبيا من استخراج مخزونها الكبير من البترول ولتتمكن من تطوير المساحات الهائلة من غاباتها الأمازونية . في المقابل سيتولّد عن تلك المشروعات ناتج ضروري لسداد القروض وفوائدها .
                        تلك كانت النظرية . على أية حال، اتشق الواقع مع أغراضنا الحقيقية في جميع أرجاء العالم، والتي تكمن في استعباد كولومبيا لتنضم إلى امبراطوريتنا العالمية . وكانت وظيفتي، كما هي الحال في كثير من الأماكن، أن أسهم في جعل البلاد تقترض أقصى ما يمكن من القروض . لم يكن في كولومبيا شخص مثل عمر توريخوس ليكبح من مخططاتنا، ولذلك شعرت أنه ليس لدي خيار سوى أن أزيد عمليات التضخم المالي وتوقعات الأحمال الكهربائية . وفي أثناء سبعينات القرن العشرين، حصلت شركة "مين – Main" التي أعمل فيها على عدد من العقود لتنمية مشروعات مختلفة للبنية التحتية، تشمل شبكة مرافق مولدات طاقة كهربائية زأنظمة توزيع لنقل الطاقة من العمق في الغابات إلى المدن المرتفعة في الجبال . ومد الكهرباء لن يساعد إلّأ قلة من الناس هم الكولومبيون الأثرياء، وبضعة آلاف سيموتون بسبب تسمم السمك والماء، بعدما ننهي بناء سدّنا هناك .

                        كل شركة أميركية لديها جناح عسكري يقتل ويذبح المعارضين:
                        في كولومبيا، حاول الأهالي إيقاف المشروعات الأمريكية في أراضيهم. هم يعلمون بفساد الحكومة وبأن المشروعات التي تُقام هي مشروعات لخدمة رجال الأعمال لتزيدهم ثراءً على حساب الفقراء الذين سيتعرّضون لضياع بيوتهم وأراضيهم التي ستُقام عليها المشروعات التي تنفّذها الشركات الأمريكية.
                        الشيء الطريف في الموضوع، والذي لم نذكره بعد، أن كل شركة من هذه الشركات الأمريكية العملاقة تضم تحت لوائها شركة أو أكثر من شركة للخدمات العسكرية، وهو تعبير أنيق بديل لكلمة " مرتزقة " . على سبيل المثال شركة (كى بي أر) للخدمات العسكرية تابعة لمجموعة "هاليبرتون" العابرة للقوميات الشهيرة التي تضم شركات بترول ومقاولات عملاقة والتي يرأسها "ديك تشيني" نائب الرئيس الأمريكي (راجع الحلقة الخاصة ببنما) .
                        هؤلاء المرتزقة هم أشخاص غير أمريكيين، أستراليين وأفارقة وأشخاص من جنسيّات متعددة، لا يدفعون ضرائب – وبالتالي هم غير مُسجّلين في السجلات الأمريكية – ويقومون بأعمالهم علي أراضي غير أمريكية، وبالتالي فإن الكونجرس أو أي هيئة قضائية أمريكية لا يمكنها محاسبتهم على ما يفعلونه. هؤلاء المرتزقة يقومون بعمليات الإغتيال و الإرهاب والقمع لكل أشكال المعارضة الشعبية للمشروعات التي تقوم بها الشركات الأمريكية خارج أمريكا وخصوصا في بلدان أمريكا اللاتينية ومنه كولومبيا.
                        حين حاول الكولومبيون التصدي لهذه الشركات تدخل المرتزقة. ولكي يرد الكولومبيون هجوم هؤلاء المرتزقة لابد لهم من مال و سلاح و تدريب علي السلاح. وليحصل الكولومبيون علي المال إنتشرت تجارة و زراعة المخدرات في كولومبيا. بالطبع إستمر البعض في هذه التجارة كمصدر للثراء و تحول الأمر إلي مافيا كما يظهر في الأفلام الأمريكية إلا أن جانبا ضخماً من هذه التجارة بدأ و إستمر لتمويل حركات التحرر من سيطرة الشركات الأمريكية.
                        وليحصل الكولومبيون على السلاح والتدريب على إستخدام السلاح، إضطر الكولومبيون لتكوين علاقات مع منظمات إرهابية. هم لا يريدون الإرهاب لأسباب أيديولوجية، بل يريدون فقط أن يحصلوا على سلاح و تدريب على إستخدام هذا السلاح لمواجهة مرتزقة الشركات الأمريكية، إلا أن هذه الحقيقة لا تُذكر في التقارير التي تُنشر عن علاقة الكولومبيين بالمنظمات الإرهابية.
                        بإختصار، أدّى وجود الشركات الأمريكية إلي إيجاد وضع خاطيء أدّى الى المزيد من الأوضاع الخاطئة في متوالية هندسية لا تبدو لها نهاية.
                        هذه إحدي قصص الإمبريالية الأمريكية الشنيعة.
                        وإذا تتبعت كل مجاعة وكل حرب أهلية، كل انقلاب، فلا ريب ستجد طرفا من خيط يدلك في النهاية عن المصالح الأمريكية.

                        كولومبيا: إحصائيات موت جديدة من منظمات حقوق الإنسان:
                        الجيش الكولومبي الذي سلّحته ودرّبته الولايات المتحدة، وفرق الموت التي يشرف عليها ضبّاط ومدرّبون أميركيون جعلت البلاد جحيما . ففي كل عام يفر (300000) شخص من اللاجئين الجدد من منازلهم، مع ضريبة قتلى تصل إلى (3000) قتيل بالإضافة إلى كثير من المجازر المروّعة . ويُنسب القسم الأكبر من المجازر إلى الميليشيات التي ترتبط بالجيش كما وثّقت ذلك هيومن رايتس ووتش في شباط عام 2000 ودراسة للأمم المتحدة في نيسان عام 2000 .
                        أفادت لجنة القضاة الكولومبيين في أيلول عام 1999 أن نسبة القتل ارتفعت 20% في العام السابق، وأن نسبة عمليات القتل التي تقوم بها الميليشيات ارتفعت من 46% عام 1995 إلى 80% عام 1998 . أما مكتب حقوق الإنسان في كولومبيا فقد ذكر زيادة بنسبة 68% عن عام 1998، وهذا يعني أكثر من مجزرة في اليوم . وفي السنوات الثلاث السابقة لوحدها أُجبر أكثر من مليون شخص على مغادرة منازلهم في الريف، وأنه قتل 5000 إلى سبعة آلاف مزارع أعزل على يد الميليشيات اليمينية . ومن تسعة أشخاص قابلهم "دانييل بلاند" الباحث في مجال حقوق الإنسان مستفسراً منهم عن حالة حقوق الإنسان في كولومبيا وبينهم بروفيسورات وصحفيون وكهنة وعمّال قُتل ثلاثة على يد مسلحي الميليشيات، وهرب أربعة مع أُسَرهم بعد تلقي تهديدات بالقتل .

                        سؤال مهم إلى القارىء العراقي:
                        هل لفرق الموت في كولومبيا علاقة بالعراق؟
                        واحد من أهم المشرفين على تشكيل وتدريب فرق الموت في كولومبيا عمل في العراق وهو "ستيفن كاستيل –“ Steven Casteel . كاستيل هذا مثل زميله "جيمس ستيل" (راجع الحلقة السابقة) كسب خبرته في امريكا اللاتينية، بالمشاركة في الحرب ضد "بابلو اسكوبار" بارون الكوكائين (صاحب الثلاثين مليار دولار والذي قتل عشرين من خصومه وهو في السجن !)، وذلك اثناء حروب كولومبيا ضد المخدرات في التسعينات . هذا بالاضافة لعمله مع القوات المحلية في بيرو وبوليفيا، بينما تكمن خلفية كاستيل في (هيئة السيطرة على المخدرات (DEA، فان العمليات ضد بابلو اسكوبار كانت عمليات مشتركة ساهم فيها الـ CIA والـ DEA وقوات دلتا وقوات مخابرات أخرى في منتهى السرية اسمها سنترا سبايكCENTRA SPIKE . والجدير بالذكر أن العمليات هذه لم تترك اثرا يُذكر على موقع كولومبيا كمصدّر رئيسي للكوكائين في العالم سوى انتقال مركز الثقل الى دزينة من الكارتيلات الصغيرة . وهذا الموقع احتلته بالمناسبة بفضل ال CIA وتورّطها كثيرا في تجارة المخدرات كجزء من عملياتها السرية لتمويل حرب وجيش الكونترا في نيكاراغوا (من يرغب في المزيد من التفاصيل فليقرا كتاب (التحالف المظلم Dark Alliance ) الذي نشرته ميركوري نيوز في سان جوزي (San Jose Mercury News )
                        على أية حال، العمليات هذه أدّتْ إلى تشكيلِ فرقة موت تعرف باسم (لوس بيبيس (Los Pepes (هذا الرمز مختصر اسمها وهو: الناس المضطهدون من قبل بابلو إسكوبار) والتي بدأت أوّلا تحت غطاء خادع هو التحالف ضد أسكوبار، ولكنها ستكون نواة التنظيم الجامع لفرق الموت الكولومبية شبه العسكرية الحالية المُسمّاة: (أي يو سي AUC ) المسؤولة عن أكثر من 80% مِنْ أخطر حالات إنتهاكات حقوق الإنسانِ في البلاد . بينما لم يكشف النقاب عن أية صلة رسمية فإن (لوس بيبيس) اعتمدت على معلومات مخابراتية محفوظة في خزائن حديدية في الطابق الخامس من السفارة الامريكية في باغوتا (عاصمة كولومبيا) والتي قامت بدور العقل المركزي للعمليات حبث يتم اعداد قوائم ضحايا فرق الموت وبسرعة اصبحت تضاهي قوائم اصحاب بابلو اسكوبار المرتبة في مقرِ السفارة.

                        ستراتيجية "الإنكار بمصداقية":
                        استخدمت الولايات المتحدة استراتيجيات تظليل مماثلة في كل صراعاتها ضد التمردات التي شاركت فيها . واكتسبت الاستراتيجيات هذه تسمية محددة تعرف ب: " الانكار بمصداقية (plausible deniability . ففي كولومبيا على سبيل المثال حيث تورطت الولايات المتحدة عميقا ولحقبات مديدة، توصف فرق الموت شبه العسكرية دائما بأنها قوة ثالثة في النزاع المسلح برغم ان ضحاياها هم دوما من المدنيين المناهضين للحكومة، وبرغم كون أفراد الفرق هذه مجنّدون مباشرة من بين صفوف القوات المسلحة العاملة، وبرغم ان قدرتهم على العمل لا تتوفر الا بالتواطؤ النشط للجيش . في الواقع تتصرف الفرق هذه كجزء من " دولة الظل " التي تتواجد لتنفيذ سياسات لا بد لها ان تظل لغزا .


                        معلومات إضافية عن مشاريع وفرق الموت:
                        CENTRA SPIKE و :Los Pepes
                        مؤخرا تحدّث سياسيون عن فصيحة في كولومبيا اسمها "“chuzada وهو مصطلح شعبي للتصنّت الإستحباري على الهواتف ومحادثات الإنترنت ومختلف وسائل الإتصال من قبل وكالة المخابرات الكولومبية والتي يقارنها المعلّقون بفضيحة ووترغيت (نكسون) ولكنهم يعتبرونها أوسع وأكثؤ تنظيما من ووترغيت.
                        وقد أشرفت الولايات المتحدة على هذا المشروع للتجسس على الصحفيين والناشطين في مجال حقوق االإنسان والقضاة وغيرهم ممن يعتبرون تهديدا للأمن القومي ! وما لم تعلنه الحكومة الكولومبية هو أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تشرف بصورة مباشرة على مشروع chuzada منذ تأسيس مشروع تجسسي سرّي سمّوه Centra Spike .
                        وحسب كتاب الحرب السرية لويليام آركن فإن الولايات المتحدة شكلت منظمة تقوم بجمع المعلومات السرية مستقلة عن باقي المنظمات الأمريكية الإستخبارية وترافق النشاطات العسكرية، وقد قامت هذه المنظمة بنشاطات لاقانونية خطيرة وشاركت في حروب المخدرات والحروب ضد المنظمات اليسارية في أمريكا الجنوبية .
                        وحسب كتاب "قتل بابلو" لمارك بودوين (أصبح فيلما سينمائيا بعد ذلك) فإن الإسم الشفري لهذه المنظمة هو Centra Spike في كولومبيا وبدأت نشاطاتها عام 1989 بالتصنّت وجمع المعلومات مستخدمة أحدث أجهزة التنصّت المصنوعة في الولايات المتحدة .
                        عملت هذه المنظمة مع فرقة الموت المسماة Los Pepes التي شكلتها الحكومة الكولومبية ووالولايات المتحدة بالتعاون مع رجال اغتيالات أشداء وتاجري المخدرات الشهيرين "فيدل وكارلوس كاستانو" .

                        أمريكا جعلت كولومبيا سكّين في خاصرة فنزويلا:
                        لقد نجح الرئيس الفنزويلي الثائر الراحل (تشافيز) في نزع فتيل الأزمه التي حاولت واشنطن تغذيتها بين فنزويلا وكولومبيا على الحدود بين البلدين الجارين في منتصف ديسمبر 2004، وسارعت على خطى الأزمات الحدوديه السابقة بين بوجوتا وكاراكاس، ووصلت إلى حد سحب السفيرين، وقطع العلاقات التجارية، وتبادل الاتهامات من العيار الثقيل. وفي 16 شباط 2005 عُقد اجتماع في كراكاس انتهى بتعهدات ودّية لطيّ صفحة الأزمة، والاتفاق على برنامج أمنى مشترك لحماية الحدود المشتركة والممتده لمسافة 1400 كيلو متر، والتعاون في مجال مكافحة الارهاب بكل أشكاله . وبات واضحا دور السفارة الأميركيه في بوتاجوا، عاصمة كولومبيا في تغذية الأزمة، ومحاولة دفع الحكومة الكولومبية لاثارة مشكلات لاشغال وارهاق الزعيم الفنزويلي، ومنعه من تنفيذ برامجه الثورية، بدعوى أن شافيز فتح معسكرات لإيواء عناصر منظمة (فارك) المعارضة للنظام الكولومبي.

                        تعليق


                        • #27
                          لا تثقوا بالولايات المتحدة (18)


                          حرب الولايات المتحدة على المخدّرات وسيلة لنشرها ولتدمير الشعوب

                          تمهيد: في البداية أودّ القول إنّ هذه الحلقة مكمّلة للحلقة السابقة (الحلقة 17) عن كولومبيا التي تحصل على أعلى مقدار من المساعدات الأمريكية العسكرية والإقتصادية والمعونات على الرغم من أنها أفظع دولة في العالم في سحق حقوق الإنسان وذلك تحت غطاء أنّها طرف أساسي في مساعدة الولايات المتحدة الأميركية في "حربها على المخدرات" .

                          وهذه الحالة تعكس مفارقة عجيبة حيث تتشدّق الولايات المتحدة بأنها النصير الأول لحقوق الإنسان في العالم وتقطع المساعدات بل تفرض الحصارات الاقتصادية المُهلكة على الدول التي تملك سجلّاً سيّئا في مجال التعامل مع حقوق الإنسان حسب مزاعم سياسيي الإدارة الأمريكية المنافقين.

                          وقد رأينا في الحلقة السابقة كيف أن الباحثين قد أثبتوا – إحصائيا - وبدقّة أن جميع المساعدات والمعونات الأمريكية المالية والاقتصادية والعسكرية تذهب إلى أشد الدول فظاعة في سحق الإنسان وحقوقه.
                          وقلنا إنّ من المبررات التي تطرحها الولايات المتحدة للمساعدات والمعونات الهائلة التي تقدّمها لكولومبيا هو أنّها طرف مساعد في شن الحرب على المخدرات التي تخشى الولايات المتحدة أن تغزو أراضيها وتخرّب مجتمعها. فهل هذا المبرّر؛ الحرب على المخدرات، الذي تطرحه الولايات المتحدة الأمريكية مبرّر صادق وحقيقي، أم أنّه شعار لمؤامرة شيطانية نجحت من خلاله في السيطرة على مقدرات الشعوب وتدميرها ونهب ثرواتها؟

                          خطّة كولومبيا .. ومؤامرة الحرب على المخدّرات:
                          لنبق أوّلاً عند حالة كولومبيا وننقل شيئاً من حرب الولايات المتحدة فيها على المخدرات مما ذكرناه في الحلقة السابقة لأنّه شديدة الصلة بما سنقوله هنا:
                          تم تبرير "خطة كولومبيا" (خطة وضعتها الولايات المتحدة في عهد الرئيس بيل كلنتون لتقديم المساعدات المالية والعسكرية لكولومبيا) رسميّاً بحجة شنّ "الحرب على المخدرات".

                          أفادت إدارة مكافحة المخدرات الأميركية أن جميع فروع الحكومة في كولومبيا مُتورّطة في فسادٍ يتعلق بالمخدرات. وفي تشرين الثاني من عام 1998 عثر مفتشو الجمارك وإدارة مكافحة المخدرات الأميركية على (415) كيلوغراما من الكوكايين و (6) كغم من الهيرويين في طائرة هبطت في فلوريدا مما أدى إلى اعتقال عدد من ضباط القوات الجوية والمتطوعين. وأفاد مراقبون آخرون بتورط ضبّاط الجيش الأميركي في التجارة. ورافعت زوجة العقيد "جيمس هايت" عن نفسها أمام القضاء بتهمة تهريب هيرويين من كولومبيا إلى نيويورك. وبعد وقت قصير، قيل أن العقيد "هايت" نفسه المسؤول عن القوات الأميركية التي درّبت قوات الأمن الكولومبية على "عمليات مضادة لتهريب المخدرات" سيرافع عن نفسه ضد اتهامات بالاشتراك في التهريب.
                          وتصرّح الميليشيات الكولومبيّة المُسلّحة علناً بأنها تعتمد على تجارة المخدرات بنسبة 70% من التمويل كما صرح بذلك "كارلوس كاستانو" قائد أكبر مجموعة وحشية من الميليشيات، لكن الهجوم المُموّل من أمريكا يبقى بعيدا عن مناطق إنتاج المخدرات التي تسيطر عليها الميليشيات.

                          إن "خطة كولومبيا" في الحقيقة هي خطة تدعو لتغيير اجتماعي داخلي لدمج كولومبيا في نظام عالمي بحسب ما تريده الولايات المتحدة، تهيمن عليها نُخب مرتبطة بمصالح القوة الأميركية تمنح مدخلا إلى ثروات كولومبيا المهمة وبينها النفط.

                          لكن لماذا يزرع الفلاحون الكوكا؟
                          بسبب تهجيرهم من قبل كبار المِلّاك والسياسة الاقتصادية السيئة التي اتبعتها الحكومة، حيث بدؤوا باستعمار الغابة الأمازونية الكولومبية في الخمسينات، ووجدوا الكوكا المُنتج الوحيد السهل، والسريع، والمُربح. وازدادت الضغوط بعد أن أسّس الإقطاعيون ميليشيات لانتزاع الأرض بالقوة من الفلاحين فسيطر المهرّبون على الكثير من أراضي كولومبيا الخصبة. كما أن قوات مكافحة المخدرات لا تهاجم التجار والمالكين الكبار بل صغار الفلاحين.

                          ويصحّ الشيء نفسه على الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية التي استخدمتها الولايات المتحدة برغم اعتراض الجمعيات الزراعية لأنها تضاعف المخاطر على السكان المدنيين والبيئة وتدمّر المحاصيل الشرعية كاليوكا والموز ومصادر المياه والمراعي والمواشي وجميع المحاصيل المتضمنة في برامج استبدال المحصول وبينها المشاريع التنموية المؤسَّسة جيدا والتي تديرها الكنيسة والتي هدفت إلى تطوير بدائل لانتاج الكوكا.

                          كانت الولايات المتحدة تصر على برامج تدمير المحاصيل بدلا من استبدال المحاصيل، وقامت بتجريب علني لـ " فِطْر " خاص جرّبته في البيوت الزجاجية وإذا به يخفض انتاج الكوكا، لكنه قضى أيضا على كثير من المحاصيل التقليدية وبينها الموز والكاكاو والبن والذرة وأعشاب الليمون وغيرها. ولكن مسؤولي الحكومة الأميركية يعتبرون هذه التهم لا أساس لها.

                          وهناك عامل آخر وهو أن كولومبيا كانت مُنتجة رئيسية للـ " قَمْح "، لكن دمّرَتْ هذا الإنتاج في الخمسينيات مساعدات "الغذاء مقابل السلام" الأميركية، وهو البرنامج الذي قدّم معونات دافعي الضرائب الأميركيين إلى أصحاب المشاريع الزراعية الأميركية، وأقنع بلداناً أخرى أن "تصبح معتمدة على الولايات المتحدة من أجل الطعام" .
                          وقبل عام من إعلان الرئيس "بوش" - بجعجعة كبيرة - "الحرب على المخدرات"، عُلّقت اتفاقية البن الدولية بضغط من الولايات المتحدة، على أرضية انتهاكات تجارية "مُموّهة"، وكانت النتيجة هبوطاً في الأسعار وصل إلى أكثر من 40% في غضون شهرين لمورد كولومبيا القانوني الرئيسي. اي أن الفلاحين وُضِعوا في موقف إما زرع الكوكايين أو الموت!!

                          وستُركّز الولايات المتحدة على العمليات العسكرية لتفيد الصناعات التقنية العالية التي تنتج عتادا عسكريا وترسخ سلطة شركة "أوكسيدنتا بتروليوم" التي تملك استثمارات ضخمة في كولومبيا.

                          فوق ذلك تقضي سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن تفتح البلدان حدودها لطوفان من المنتجات الزراعية من الدول الغنية، وهذا يدمّر زراعة البلدان في أمريكا اللاتينية؛ كولومبيا هنا بدرجة أكبر.

                          أما المُهجّرون فإما ينتقلون إلى أحياء الفقراء البائسة ويكونون أيدي عاملة رخيصة لمصلحة الشركات الأجنبية، أو تصدر لهم تعليمات بأن يكونوا "مزارعين عقلانيين" ينتجون لسوق التصدير ويبحثون عن اسعار أعلى ممثلة في "الكوكا والحشيش والأفيون". وبعد أن يتعلموا الدرس تكون مكافأتهم هجوم بالمروحيات الأميركية وتدمير حقولهم بالحرب الكيمياوية والبيولوجية التي تشنها واشنطن.

                          مؤامرة التعثين الأمريكية:
                          ثمّ تأتي "مؤامرة التعثين" كما يسمّيها الكولومبيون. إن عمليات "التعثين – fumigation" أو التبخير، هي تطهير المكان الزراعي المقصود بتعريضه للدخان أو الغاز، وهي العملية التي تقودها وتنفذها الولايات المتحدة في كولومبيا.

                          كانت هذه العمليّة "العلمية" تستهدف تهجير المواطنين من مواطنهم عبر حرب كيمياوية. ولم توافق الحكومة على مقترحات الفلاحين ونشطاء حقوق الإنسان وسكان المقاطعات الجنوبية على الاقتلاع اليدوي لنبتة الكوكا والخشخاش، وتقديم الدعم للمزروعات البديلة؛ لم توافق، وتم تسميم التربة من جراء التعثين، ومات الأطفال، وقاسى ضحايا التهجير المرض والضيم، ودُمِّرت تقاليد الزراعة.

                          ومع رحيل الناس تسنّى للشركات الأجنبية التنقيب واستخراج الفحم والبترول، أو زراعة محاصيل التصدير محل مزارع البن فشردت آلاف الفلاحين وتسببت في موت الآلاف. وعمليات التعثين تتولاها شركات أمريكية خاصة مؤلفة من ضباط عسكريين أميركيين بموجب عقود موقعة مع البنتاغون.

                          الولايات المتحدة تتواطأ مع تجّار المخدّرات!:
                          وفي تقريرها لعام 1993 لاحظت منظمة حقوق الإنسان أن أغلب المواد المستخدمة في التدريب والتعذيب التي يستعين بها الجيش والشرطة في كولومبيا تأتي من الولايات المتحدة. ولبّت الولايات المتحدة طلب كولومبيا بنصب نظام راداري لمراقبة طيران تجّار المخدرات فنصبته الولايات المتحدة بعيداً عن ممرات طيران هؤلاء التجّار، وقريبا من حدود نيكارغوا لمراقبة الأخيرة في الحرب التي شنّتها واشنطن عليها.
                          بين عامي 1984 إلى عام 1992 تمّ تدريب (6844) جنديا كولومبيا خصوصا في فترة الأعمال الإجرامية وكان البرنامج التدريبي الأكبر وبثلاث مرات من السلفادور. وقد أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أنه "في كولومبيا نظام ديمقراطي لا ينتهك حقوق الإنسان".
                          بعد ثلاثة أشهر أعلن تقرير للأمم المتحدة أنّ: 140 عصابة في كولومبيا يموّلها تجار المخدرات وبعض الإقطاعيين ينسّقون مع الجيش والشرطة.. القتل يجري في هذه المناطق بتغطية الجيش.. وثبت أن الكل يهرّبون المخدرات. النصف الأول من عام 1988 شهد مقتل 3 آلاف شخص لأسباب سياسية من بينهم (273) تم تفتيتهم في معسكرات "التطهير الشعبي".

                          دور مرتزقة الشركات الأمريكية في انتشار زراعة المخدرات:
                          في كولومبيا، حاول الأهالي إيقاف المشروعات الأمريكية في أراضيهم. هم يعلمون بفساد الحكومة وبأن المشروعات التي تُقام هي مشروعات لخدمة رجال الأعمال لتزيدهم ثراءً على حساب الفقراء الذين سيتعرّضون لضياع بيوتهم وأراضيهم التي ستُقام عليها المشروعات التي تنفّذها الشركات الأمريكية.
                          الشيء الطريف في الموضوع، والذي لم نذكره بعد، أن كل شركة من هذه الشركات الأمريكية العملاقة تضم تحت لوائها شركة أو أكثر من شركة للخدمات العسكرية، وهو تعبير أنيق بديل لكلمة " مرتزقة ". على سبيل المثال شركة (كى بى أر) للخدمات العسكرية تابعة لمجموعة "هاليبرتون" العابرة للقوميات الشهيرة التي تضم شركات بترول ومقاولات عملاقة والتي يرأسها "ديك تشيني" نائب الرئيس الأمريكي (راجع الحلقة الخاصة ببنما).
                          هؤلاء المرتزقة هم أشخاص غير أمريكيين، أستراليين وأفارقة وأشخاص من جنسيّات متعددة، لا يدفعون ضرائب – وبالتالي هم غير مُسجّلين في السجلات الأمريكية – ويقومون بأعمالهم على أراضي غير أمريكية، وبالتالي فإن الكونغرس أو أي هيئة قضائية أمريكية لا يمكنها محاسبتهم على ما يفعلونه. هؤلاء المرتزقة يقومون بعمليات الإغتيال و الإرهاب والقمع لكل أشكال المعارضة الشعبية للمشروعات التي تقوم بها الشركات الأمريكية خارج أمريكا وخصوصا في بلدان أمريكا اللاتينية ومنها كولومبيا.
                          حين حاول الكولومبيون التصدي لهذه الشركات تدخل المرتزقة. ولكي يرد الكولومبيون هجوم هؤلاء المرتزقة لابُدّ لهم من مال وسلاح وتدريب علي السلاح. وليحصل الكولومبيون علي المال إنتشرت تجارة وزراعة المخدرات في كولومبيا. بالطبع إستمر البعض في هذه التجارة كمصدر للثراء و تحول الأمر إلي مافيا كما يظهر في الأفلام الأمريكية إلّا أن جانبا ضخماً من هذه التجارة بدأ وإستمر لتمويل حركات التحرر من سيطرة الشركات الأمريكية.
                          وليحصل الكولومبيون على السلاح والتدريب على إستخدام السلاح، إضطر الكولومبيون لتكوين علاقات مع منظمات إرهابية. هم لا يريدون الإرهاب لأسباب أيديولوجية، بل يريدون فقط أن يحصلوا على سلاح و تدريب على إستخدام هذا السلاح لمواجهة مرتزقة الشركات الأمريكية، إلّا أن هذه الحقيقة لا تُذكر في التقارير التي تُنشر عن علاقة الكولومبيين بالمنظمات الإرهابية.
                          بإختصار، أدّى وجود الشركات الأمريكية إلي إيجاد وضع خاطيء أدّى الى المزيد من الأوضاع الخاطئة في متوالية هندسية لا تبدو لها نهاية.
                          هذه إحدي قصص الإمبريالية الأمريكية الشنيعة.
                          وإذا تتبعت كل مجاعة وكل حرب أهلية، كل انقلاب، فلا ريب ستجد طرفا من خيط يدلك في النهاية عن المصالح الأمريكية.

                          تساؤلات مشروعة للمفكّر "تشومسكي":
                          حين أُعلِنتْ الأحكام العرفية في بوليفيا إثر تظاهرات المياه التي خصخصتها شركة "بكتل" الأميركية (والتي ستكون لنا وقفة معها في حلقة مستقة.. حتى الماء سيمنعونه عنّا فالله أكبر ماذا سينتظرنا!)، وصف تقرير من جنوب كولومبيا المخاوف المنتشرة من أن الطائرات الدُخانية قادمة لإسقاط سمومها على حقول الكوكا، والتي ستقتل أيضا المحاصيل التي يعيش عليها المزارعون، وتسبّب تمزّقاً اجتماعياً كبيرا، وتثير تهديد العنف الحاضر دوما .

                          ويتساءل تشومسكي: (أي حق تمتلكه الولايات المتحدة لتقوم بعمليات عسكرية وتشن حربا بيولوجية وكيمياوية في بلدان أخرى كي تدمّر محصولا لا تحبه؟

                          نستطيع أن نضع جانبا الرد الكلبي بأن الحكومات طلبت هذه "المساعدة" أو أي شيء آخر . بالتالي يجب أن نسأل إن كان الآخرون لهم الحق نفسه، خارج أراضيهم، للقيام بالعنف والتدمير الذي تطالب به الولايات المتحدة) .
                          ووقت صياغة "خطة كولومبيا" من قبل بيل كلنتون، طُرِح مقترح بأخذ (100) مليون دولار من مبلغ (3.1) مليار لاستخدامها لمعالجة المدمنين الأميركيين فرُفض الطلب بالإجماع،
                          هل يُصدّق السيّد القارىء هذا الموقف؟ أن ترفض الولايات المتحدة تخصيص بضعة ملايين لعلاج المدمنين وتأهيلهم في الولايات المتحدة، في حين تُخصص مئات الملايين من الدولارات للحرب على المزارعين والتجّار؟
                          ومنذ عام 1980، انتقلت الحرب ضد المخدرات إلى مراقبة الحدود ومحاربة الإنتاج في بلدان المصدر، وكانت النتائج ارتفاعاً كبيراً في جرائم المخدرات، وانفجار سكّاني في السجون، تجاوز أي بلد صناعي، دون تأثير قابل للرصد في توفير المخدرات أو أسعارها.
                          فما هو الهدف من حرب المخدرات؟
                          أوّل أهداف هذه الحرب هي الحرب على الأقلّيات، أي التخلّص من السكان الزائدين الذين يمكن التخلص منهم: desechables كما كانوا يسمّونهم في كولومبيا حيث استأصلهم "التطهير الاجتماعي"، فعلى سبيل المثال في كولومبيا بين آب 1992 وآب 1993، قُتل 217 من نشطاء المعارضة. وكان "التطهير الشعبي" أحد مشاريع قوات الأمن، وذلك عبر اغتيال المُشرّدين والعاطلين وأطفال الشوارع وفتيات البغاء والشواذ جنسيا وغيرهم من غير المرغوب فيهم. قالت وزارة الدفاع الكولومبيّة "إنّ هؤلاء أشخاص لا فائدة منهم، وغير قادرين على الإنتاج" (وهذه فكرة نازيّة أصلاً طربت لها الولايات المتحدة).
                          وثانيا: تخويف كلّ شخص آخر، وهذه أداة مهمة لفرض الطاعة. كانت الحرب على المخدرات موقّتة بشكل جيّد لتستهدف الذكور السود. كما استُخدِمت للتوسّع والاحتلال كما حصل في "بنما". فقد كان السبب الرئيسي الذي طرحته الولايات المتحدة لغزوها الخارج على القانون الدولي والمستهتر لدولة بنما واعتقال رئيسها هو مواجهة خطر امتداد تجارة المخدرات من بنما إلى الولايات المتحدة في ظل حكم الجنرال "نوريجا". فانظر أي عذر سخيف ومنافق هذا؟!

                          وإليك سيّدي القارىء حال تجارة المخدرات في بنما بعد أن احتلها بوش الأول المجرم:
                          لقد زادت تجارة المخدرات في بنما بعد العدوان وفي ظل الأمريكان إلى 400% !!!، ويقول السكرتير التنفيذي لمركز دراسات أمريكا اللاتينية إن الوحدات الأمريكة المُناط بها مكافحة المخدرات تمثل سوقاً غنية للمخدرات مما يساهم في زيادة الأزمة.
                          حرب المخدرات التي تشنها الولايات المتحدة، كانت غطاءَ لمهاجمة الناشطين اجتماعيا في بنما، وغير ذلك من الإساءات لحقوق الإنسان التي تتم على يد قوات الأمن بإشراف القوات الأمريكية هناك.
                          أعادت الولايات المتحدة القوة لرجال البنوك واستأنفوا أعمالهم في غسيل أموال المخدرات، حتى أن نشاط نوريجا السابق في تجارة المخدرات يُعد تافها بالنسبة لما وصل إليه الحال الآن.
                          بعد سنوات أعلنت "واشنطن بوست" عن البيت الابيض (أن بنما ذات الديمقراطية الجديدة قد صارت المركز الأكثر نشاطا لغسيل الأموال من تجارة الكوكايين في نصف العالم الغربي)، وهي حقيقة قلّلت واشنطن من أهميتها بهدف دعم القادة "الديمقراطيين" الجدد الذين أوصلتهم لحكم بنما. وحسب "الإيكونومست" زادت تجارة المخدرات عن عهد الجنرال نوريجا، وكان من بين الذين أُلقِي القبض عليهم مسؤول رفيع في الحكومة البنمية الجديدة بتهمة غسيل أموال تجارة الكوكايين الآتية من كولومبيا الى السوق البنمي، وهذا هو النجاح الذي حققته واشنطن بغزو بنما حين أصبح مثل هؤلاء المسؤولين الفاسدين منتشرين في البنوك البنمية ليضمنوا سيطرة واشنطن على المؤسسات المالية .
                          وقد ارتفعت الجرائم المرتبطة بالمخدرات مستهدفة بشكل رئيسي الأمريكيين الأفارقة، يُقبض على الأمريكيين من أصل أفريقي في جرائم المخدرات – وتشمل الحيازة – بواقع ثلاثة أضعاف ما يتعرض له الرجال البيض. وكانت وسيلة للسيطرة على "الطبقات الخطيرة" اليوم التي يطرحها النموذج الاجتماعي والاقتصادي المُصمّم لعولمة النموذج البنيوي للعالم الثالث المقسوم بحدّة إلى طبقتين. وكما لوحظ أيضاً إن "الحرب الأخيرة ضد المخدرات" كانت موقتة كي تستهدف، بشكل رئيسي، الذكور السود.

                          لقد كانت نظيراً "للتطهير الاجتماعي": إزالة أو استئصال "السكان الفائضين" والذي قامت به قوات الدولة الإرهابية في كولومبيا، ودول إرهابية أخرى. وهي تخيف أيضاً بقية السكان، وهذه أداة عادية لفرض الطاعة. وطبقاً لمكتب إحصاءات وزارة العدل فإن نحو 3.1 في المائة من الرجال الأمريكيين من أصل أفريقي، و1.3 في المائة من اللاتينيين، و0.5 في المائة من البيض، يقبعون وراء القضبان.

                          المخابرات الأميركية “سي.آي.ايه” تُسهّل سوق المخدرات في الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية
                          قتلُ الصحفي "غاري ويب" الذي بدأ التحقيق في هذه النشاطات:
                          علاقات وكالة الاستخبارات الأمريكية مع المخدرات لها تاريخ طويل، وقد تمّ التطرّق للموضوع من خلال علاقتها بالمافيا الكورسيكية خلال الحرب العالمية (الغربية) الثانية، أو في اثناء حربي أفغانستان وفيتنام. ويقول مؤلّف كتاب "الكتاب الأسود لوكالة الاستخبارات الأميركية":
                          “صحيحٌ أن الوكالة لا تمارس بنفسها هذه التجارة، ولكنّها في بعض المراحل من تاريخها تركت حلفاءها الظرفيين يقومون بالأمر، من دون أن تطرح سؤال من الذي سيستهلك هذه المواد في نهاية المطاف”. وفي سنة 1996 طُرح نقاش علني، من قبل "غاري ويب - Gary Webb" في الولايات المتحدة حول العلاقة ما بين تمويل وكالة الاستخبارات الأمريكية لعصابات الكونتراس النيكاراغويين في سنوات الثمانينات، وبين وصول نوع رديء من المخدرات إلى أسواق وشوارع سان فرانسيسكو. كانت “هذه المخدرات من إنتاج الكونتراس وإرسالها يتم بحماية وكالة الاستخبارات” . وقد تسبّب هذا النوع الرديء في إحداث كوارث وسط الزنوج الأمريكيين في سان فرانسيسكو. ولكن وسائل الإعلام تجاهلت هذا النقاش وتجاهلت غاري ويب، الذي واصل تحقيقه إلى سنة 2004. المخابرات الأمريكية أنكرت الأمر بطبيعة الحال، ولكن النتيجة المأساوية للكاتب غاري ويب الذي وُجد مقتولاً في بيته برصاصة في رأسه تدل على شيء ما غير طبيعي.

                          المخابرات الأميركية تتعاون مع عصابات المافيا لنشر الهيروين في فرنسا والعالم:
                          كانت مدينة "مرسيليا" الفرنسية بعد الحرب الثانية مركزاً لنشاطات الطبقة العاملة الفرنسية بإشراف الحزب الشيوعي الفرنسي، وكانت الولايات المتحدة ضد هذا النشاط وتستعين حتى برجالات المافيا (خصوصا زعماء المافيا الكورسيكيين مثل الإخوان غيريني) لتدمير وحدة الطبقة العاملة خصوصا في الموانىء الفرنسية حيث تتركّز أكثر فعاليات العمال . ووصل الأمر بالحكومة الأمريكية إلى التهديد عام 1947 باستعادة حمولة 65000 كيس من الطحين مُرسلة إلى مارسيليا إذا لم يُوقف عمّال الموانئ إضرابهم على الفور. وقد تسبّب الفقر والعنف في إرغام عمال مارسيليا على وقف إضرابهم، وهو ما فعله رفاقهم في مدن فرنسية أخرى. وقد كانت النهاية “السعيدة” لإيقاف الإضراب تتمثل في أنه في عشية أعياد الميلاد من سنة 1947 وصلت 78 عربة قطار إلى محطة مارسيليا مُحمّلة بالطحين والحليب والسُكّر والفواكه. وكان وصولها وسط تصفيقات من قبل تلاميذ فرنسيين يحملون أعلاما أمريكية !!.
                          خرج الإخوة غيريني أقوياء من هذا الموقف، أي تكسير الإضراب، وأصبحوا زعماء المافيا الكورسيكية. ولكن قوّتهم ستزداد بأساً سنة 1950 مع إضراب عمّال الموانئ الجديد في مارسيليا، حيث أرسوا سيطرتهم على الموانئ. وقد خلق تأثيرهم السياسي وبسط سيطرتهم على الميناء شروطا مثالية لتطوير مختبرات الهيروين في الوقت الذي كان فيه عرّاب المافيا الإيطالي الأمريكي "لوكي لوشيانتو" يبحث عن مورّدين جُدد. مارسيليا كانت منذ قرن “بوابة الشرق”، وعبرها كان يعبر السلاح الموجّه إلى الهند الصينية، أمّا “هو شي منه”، الذي شارك في تأسيس الحزب الشيوعي الفرنسي، فقد كان يُعتبر في مارسيليا بطلاً لدى العمال. وفي كانون الثاني من سنة 1950 قرّر العمال مقاطعة السفن التي تنقل المعدات إلى أرض المعارك. وفي الثالث من شهر شباط من سنة 1950 نشرت النقابة العمالية المُقرّبة من الشيوعيين بيانا يطالب بعودة الجنود من الهند الصينية لوضع حدٍّ لحرب فيتنام. وقامت بإضراب كبير قاطعت فيه كل ما له علاقة بالحرب. هنا تتدخل وكالة الاستخبارات الأمريكية لتقويض هذا الإضراب، بفضل مليونين من الدولارات قدمتهما وكالة الاستخبارات الأمريكية. قام "إيروين براون"، مسوؤل الفيدرالية النقابية الأمريكية، بإحضار عمال “صُفْر” (آسيويين) من إيطاليا تولّوا إفراغ الأسلحة القادمة من الولايات المتحدة ونجحوا في تكسير الإضراب، بينما كان النقابيون الفرنسيون مُهدّدين بالتصفية جسديّاً. والاستخبارات الأمريكية من خلال منحها الأموال للمنظمات الكورسيكية سهّلت عمليات التهريب، وأصبحت المنطقة مختبر أمريكا للهيروين. أولى المختبرات افتُتحت سنة 1951 بُعيد شهور فقط من سيطرة المافيا على الميناء.
                          إذن، فقد ساهمت الاستخبارات الأمريكية في نشر الهيروين والمخدرات في مارسيليا وفرنسا ومن خلالهما في العالم. وبحسب تحقيق أجراه المكتب الفيدرالي الأمريكي لمحاربة تجارة المخدرات فإن كورسيكيي مارسيليا أصبحوا أكبر المموّنين للولايات المتحدة الأمريكية. لقد قاموا خلال خمس عشرة سنة بربط حقول الأفيون في تركيا بسوق نيويورك للهيروين. وفي سنة 1965 كانت عصابة مارسيليا تُديرُ خمساً وعشرين مختبرا تنتج شهريا ما بين 50 و150 كيلوجراماً.

                          الولايات المتحدة تدمّر دول أمريكا اللاتينية بالمخدرات في ظل الحرب على المخدرات ؛ نيكاراغوا أنموذجا
                          الإدمان وباء يجتاح شعوب دول أمريكا اللاتينية في ظل معجزات التنمية الأميركية:
                          بعد موافقة نيكاراغوا على توقيع اتفاقيات تفتح الطريق أمام "وكالة مكافحة المخدرات الأميركية" للعمل فيها، صارت البلاد "تُستخدم كممر لشحن الكوكايين الكولومبي إلى الولايات المتحدة "، كما صارت مركزاً لغسيل أموال المخدرات، إضافة إلى توسيع وباء المخدرات نفسها في نيكاراغوا بفعل القهر الاقتصادي والفقر . كانت نيكاراغوا خالية من الإدمان منذ عام 1984 . الآن هناك وزيران في نيكاراغوا يعملان لصالح كارتل المخدرات . يزداد عدد اطفال الشوارع بسرعة حيث يقوم أطفال في العاشرة باستنشاق علب الصمغ في الشوارع قائلين "إنه يُذهِب الجوع" . فازدهرت تجارة صمغ الأحذية لملء زجاجات الأطفال بعد دخول شيطان الولايات المتحدة إلى البلاد. مؤتمر عام 1991 في ماناغوا العاصمة أعلن أن نيكاراغوا صارت جسراً لنقل المخدرات إلى الولايات المتحدة وأوروبا .
                          الآن في نيكاراغوا 250000 مدمن، مقارنة بـ 400000 مدمن في كوستاريكا، و 450000 غواتيمالا، و 500000 السلفادور .
                          ويزداد الإدمان في نيكاراغوا بين صغار السن خصوصاً . ولم يصبح الكوكايين متوفّراً في "ماناغوا" العاصمة إلّا بعد تولّي الديكتاتور "شامورو" السلطة عام 1990 .
                          تُعتبر المخدّرات الصناعة الأحدث نموا في أمريكا الوسطى، وذلك نتيجة الظروف الاقتصادية القاسية التي تجعل 85% من سكان أمريكا الوسطى يعانون الفقر وفقدان فرص العمل بعد التنمية الأميركية، وخصوصا في كولومبيا حيث يتحالف السياسيون اليمينيون وضباط الجيش وتجار المخدرات الأشداء . أما الوضع في بيرو فأسوأ من ذلك بكثير.

                          الولايات المتحدة وبريطانيا تحاولان إبادة الشعب الصيني بواسطة المخدرات:
                          عام 1793 جاء وفدٌ تجاري للامبراطور الصيني يحمل هدايا لفتح الأسواق الصينية فأخبرهم الإمبراطور إن الإمبراطورية الصينية مُكتفية من هذه المنتجات . رأوا أن الشيء الوحيد الذي ينقص الصين هو "الأفيون" الذي يمكن أن يحقّق غايتين: الأولى الأرباح الهائلة، والثانية إبادة الشعب الصيني . وبلا خجل ولا اعتبارات أخلاقية، لجأوا إلى المخدرات والأفيون البنغالي الذي أصبح بيعه للصين المورد الثاني لأرباح شركة الهند الشرقية بعد عائدات الأرض، وغابت التحفّظات الأخلاقية البريطانية . بعد عدّة سنوت حاولت الصين إيقاف هذا التدفق المدمّر للأفيون، فشنت بريطانيا الحرب عليها، وأُجبرت الصين على فتح أبوابها أمام المخدرات القاتلة بعد أن قامت سفينة حربية بريطانية بتدمير تسع سفن حربية صينية وخمس قلاع ومخفرين عسكريين وبطارية مدفعية في يوم واحد من أيام شهر شباط من عام 1841 .
                          انتبهت الولايات المتحدة إلى هذه التجارة: تجارة الأفيون وأرباحها الهائلة، وارادت مواكبة الميّزات التي أحرزتها بريطانيا، متذرّعة هي أيضا بالدفاع عن المبادىء العليا . فقد أدان الرئيس الأمريكي "جون كوينسي آدامز"، سادس رؤساء الولايات المتحدة آنذاك، رفض الصين قبول الأفيون القادم من المستعمرة البريطانية في الهند باعتباره اتتهاكا للمبدأ المسيحي القائل "أحبب جارك"، وباعتباره أيضا "اعتداءً صارخا على حقوق الطبيعة البشرية، واعتداءً على أول مبادىء حقوق الأمم" كما يقول تشومسكي . بينما هلّل المبشّرون – والتبشير ذراع ثقافي شيطاني لاستعمار الشعوب المُستضعفة - "لحسن تدبير العناية الإلهية التي شاءت أن تخدم شرور الإنسان إرادة الرب بأن يرحم الصين، وذلك باختراق الجدران التي تفصلها عن العالم وبإجبار امبراطورها على الإحتكاك سريعا مع الأمم المسيحية الغربية" !!!.
                          يعلق المفكّر الأستاذ "منير العكش" في كتابه الخطير "أمريكا والإبادات الثقافية":
                          (لو قُدّر للزنابير – WASP (المستعمرون الأمريكان) أن يصلوا بحرب الأفيون إلى مداها كما وصلوا بحرب الجراثيم ضد الهنود في العالم الجديد إلى مداها، لما كان غريبا أن نسمع اليوم أن الصين – وقد كان فيها 400 مليون إنسان أيام حرب الأفيون – كانت مجاهل خاوية، وأن سكانها كانوا مجرد قبائل متوحشة يعيشون في الكهوف والغابات وينبت في رأسهم الريش والحشيش) .
                          بهذه الطريقة أفلحت بريطانيا بخلق حاجات جديدة في الصين، تماما كما تفعل الولايات المتحدة اليوم عندما تُجبر البلدان الآسيوية، تحت طائلة العقوبات الاقتصادية، على قبول المخدرات القاتلة المزروعة في الولايات المتحدة، والتي تقتل سنويا 50 – 100 ضعف ما تقتله كل المخدرات الأخرى مجتمعة، وعلى قبول الإعلان عنها من أجل فتح أسواق جديدة بين النساء والأطفال خاصة .
                          فما هي المخدرات القاتلة المزروعة في الولايات المتحدة والتي تقتل سنوياً أضعاف ما تقتله كل المخدّرات مجتمعة.

                          تعليق


                          • #28
                            أليس المُخدّر الذي تنتجه الولايات المتحدة أخطر من المخدرات المحرّمة مجتمعة ؟:
                            هناك مخدّر تنتجه الولايات المتحدة، وهو مخدّر رهيب مُرعب مُدمّر، وعدد ضحاياه هو أضعاف مضاعفة لعدد ضحايا المخدرات الفعليّة المحرّمة التي تشنّ أمريكا الحرب عليها .
                            هذا المخدّر هو: التبغ .
                            إنّ الشركات الأمريكية المُنتجة للتبغ والسكاير تمارس حرباً رهيبة على دول العالم – خصوصا دول العالم الثالث – للقبول بالسجائر والإعلان عنها . ويهمنا القول إن عدد الذين يموتون بسبب التدخين يفوق عدد من يموتون فعليّاً بسبب المخدرات (الكوكايين مثلا) في العالم كما سنرى .
                            إنّ عدد الكولومبيين الذين يموتون من مخدرات مهلكة تنتجها الولايات المتحدة (التبغ) يتجاوز بكثير عدد الأمريكيين الشماليين الذين يموتون من الكوكايين . أما في شرق وجنوب آسيا، فتسبب المخدرات المهلكة التي تنتجها أميركا ملايين الوفيات . وهذه البلدان مُجبرة على قبول المنتجات الأمريكية من السجائر وأيضا الإعلان عنها تحت تهديد العقوبات التجارية .
                            ويرى الباحثون في حقل الصحة العامة أن تأثيرات التسويق والإعلانات العدوانية التي تفرضها الشركات الأميركية مسؤولة إلى حد كبير عن ازدياد ضخم في نسب التعاطي بين النساء والشبّان في البلدان الآسيوية حيث تُفتح أبواب الدول والأسواق بالقوة، وذلك من خلال التهديد بفرض عقوبات تجارية أمريكية حادة . أما الكارتلات الكولومبية فإنها على خلاف ذلك، فغير مسموح لها بأن تدير حملات دعاية ضخمة يقوم فيها نظير لـ " جو كامل – joe camel " بتمجيد عجائب الكوكايين (المقصود " بعير " الإعلانات الشهير عن السجائر الأميركية) .
                            وبفضل الولع الأمريكي بالتجارة الحرّة وحرّية التعبير للمعلنين عن مواد قاتلة، فقد توسعت تجارة السجائر العالمية جدا، لتبلغ خمسة أضعاف من 1975 إلى 1996 .
                            يتساءل "تشومسكي":
                            (هل يحق لكولومبيا والصين وتايلاند وغيرها من الدول المُتسهدَفة بشن حرب على المنشآت العسكرية الكيمياوية والبيولوجية في "نورث كارولينا" ؟
                            ولماذا لا تُشن غارات من قبل "قوّة دلتا – DAELTA FORCE" الأميركية على المصارف والشركات الكيمياوية الأميركية على الرغم من أنّه ليس سرّاً أنها هي أيضا مُنغمسة في تهريب المخدرات ؟ أو للهجوم على الولايات المتحدة المُنتِج الرئيسي للماريجوانا ؟
                            يسبب التبغ هناك 400000 حالة وفاة سنويّا في الولايات المتحدة، أي أكثر من ضحايا الأيدز وحوادث الطرق والكحول والجرائم والمخدرات والحرائق مجتمعة . ومع انحدار استهلاك هذه المادة المهلكة في الولايات المتحدة وإجبار المنتجين على دفع تعويضات ضخمة للضحايا، انتقلوا إلى الأسواق الخارجية خصوصا أسواق دول العالم الثالث .

                            الحكومة الأميركية تُقدّم المساعدات لشركات التبغ الأميركية لتشجيع التدخين في العالم الثالث، ورؤساء أمريكا يهدّدون الدول الرافضة:
                            تقدّم وزارة الزراعة الأميركية معونات لشركات التبغ من أجل تشجيع التدخين في ما وراء البحار . وحاولت البلدان الآسيوية أن تدير حملات توعية ضد التدخين من خلال الإعلان والتلفزيون، لكن التهديدات الأميركية بفرض العقوبات قضت عليها . إن شركة السجائر "فيليب موريس" التي كانت تملك عام 1992 ميزانية للإعلان عن التبغ والتشجيع على التدخين تصل إلى (9) مليارات دولار أصبحت أضخم مُعلن في الصين . وكان التأثير الناجم عن تهديدات الرئيس الأمريكي "رونالد ريغان" هو زيادة الإعلان، والتشجيع على التدخين (وخاصة الأنواع الأمريكية) بشكل حاد في اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية .
                            ففي كوريا الجنوبية - على سبيل المثال - تضاعفت نسبة النمو في التدخين أكثر من ثلاث مرّات حين فُتحت أسواقها للمخدرات الأميركية المُهلكة بالإكراه في 1988 . هذا وقد وسّعت إدارة بوش التهديدات لتشمل تايلاند في 1989، في اللحظة نفسها اتي أعلنت فيها "الحرب على المخدرات" . وأغفلت وسائل الإعلام الأمريكية "الموضوعية" و "الديمقراطية" هذا التزامن الخطير .
                            وفي الصين وحدها، وبين الأطفال تحت العشرين عاما، سيموت 50 مليون من أمراض مرتبطة بالتدخين . وكانت وفيات المخدرات (16) ألفا عام 1997 ولا يتلقى العلاج إلّا 4 من كل 10 من المدمنين .


                            إحصائيات الموت بسبب التبغ الأمريكي أكثر من المخدرات مئات المرّات:
                            يقول "جون ميدلي" مؤلّف كتاب "نهب الفقراء: الشركات عابرة القومية واستنزاف موارد البلدان النامية": "يقتل التدخين 5 ملايين شخص في العالم كل عام.، مع تحوّل وجهة الموت باتجاه الجنوب. ومع تراجع التدخين في الشمال تستهدف الصناعة الجنوب بصورة متزايدة، وترى فيه سوقا يضمن استمرار تدفق الأرباح .
                            وفي الشمال، هناك أقل من 3 من كل 10 من البالغين لازالوا يدخنون، مقارنة بحوالي 6 من كل 10 قبل 40 عاما مضت، وتُخلّف الأمراض المتصلة بالتدخين حوالي مليوني ضحية في الشمال سنويا، حيث يقرّ معظم الناس بمسؤولية التدخين عن حالات الوفاة . وعلى الرغم من تزايد الوعي بمخاطره في العالم، فإن التدخين في الجنوب آخذ في التزايد. وطبقا لمستوياته الحالية، من المتوقع أن يودي التدخين بحياة حوالي 10 ملايين شخص سنويا بحلول 2020، ثلثيهم في البلدان النامية . وفي ستينيات القرن الماضي لم تكن نسبة المدخنين بين الرجال في الجنوب تتجاوز 20% - ولم يكن هناك بالفعل من يدخن بين النساء . والآن، وبفضل قدرة الشركات على الإقناع الحاذق، تصل نسبة المدخنين إلى 50% والمدخنات إلى 9% .

                            شركات التبغ الأمريكية تستنزف موارد الدول النامية
                            تكاليف الرعاية الصحية للمدخنين في الصين تكفي لتعيين نصف مليون مُعلّم:
                            ويتركز إنتاج وتجارة التبغ بيد شركات عابرة القومية . وتستحوذ 4 شركات هي التريا جروب (فيليب مورس)، بريتش أمريكات توباكو (BAT)، رينولدز أمريكان أند جابان توباكو على حوالي 70% من الإنتاج العالمي للتبغ (مع استبعاد الصين حيث تحتكر الدولة إنتاجه) . وتقف هذه الشركات موقف الدفاع مع شروع المرضى المزمنين من المدخنين في مقاضاتها أمام المحاكم بسبب الأضرار التي يدّعون أنها لحقت بصحتهم .
                            وبالنسبة للحكومات فإنّ ما يهمها هو جمع الأموال من خلال الرسوم على تصدير التبغ. لكن في العالم الثالث يضرّ التبغ بصحة ملايين الناس، ومعالجة أمراضه سوف تفرض قيوداً إضافية على ميزانية تلك الدول المضغوطة أصلا، وعندما تُخصِّص أموالا لمعالجة المدخنين سيقل ما تنفقه على الأمراض الأخرى .
                            على سبيل المثال تحصل الصين على أكثر من 5 مليار دولار سنويا من المدخنين في صورة ضرائب، لكن الصين أنفقت في عام 2002 ما يقارب 3,5 مليار دولار كتكاليف للرعاية الصحية للأمراض التي يسبّبها التدخين . ولو كانت هذه التكاليف أقل بنسبة 20% لأمكن للصين تشغيل أكثر من نصف مليون معلم ابتدائي إضافي .
                            وبينما يزيد التدخين صحة الشعوب تدهورا يبدو أن الحكومات تنأى بنفسها عن التعرض لشركات التبغ القوية بسبب الخوف من العقوبات الأميركية . وتتحمل مستشفيات البلاد النامية الآن عبء الأمراض الناتجة عن التدخين . ففي زيمبابوي على سبيل المثال، أصبح سرطان الرئة الناتج عن التدخين الشديد من أكثر الأمراض شيوعا بين المترددين على المستشفيات، وفي السودان أصبحت إصابات الشريان التاجي من أكثر اسباب الوفاة شيوعا .

                            محصول التبغ يستنزف خصوبة الأرض ويدمّر زراعة المحاصيل الغذائية
                            زراعة التبغ تحرم 20 مليون إنسان من الغذاء:
                            وتخصيص الأراضي لزراعة التبغ يعني تناقص الأراضي المُخصّصة للغذاء. وحسب تقارير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، تخصّص دولة "مالاوي" 4,3% من مساحة أرضها لزراعة التبغ، وزيمبابوي 2%، وبينما تُعتبر هذه النسب صغيرة، فإنها آيلة للإرتفاع عند إقناع فلّاحيها بتخصيص مساحات أكبر للحصول على أرباح أكثر .
                            وحسب الأمم المتحدة فإن استخدام الأراضي لزراعة التبغ يحرم 10 – 20 مليون شخص من الغذاء . وهنا سوف تتحمل البلاد النامية تكاليف استيراد المواد الغذائية بسبب زراعة التبغ .
                            والدعاية المُكثّفة التي تنظمها الشركات عابرة القومية تقنع الفقراء بالمزيد من التدخين. واستخدام الأموال المخصصة للغذاء أو الرعاية الصحية في شراء السجائر . فإصحاب الدخول المحدودة في بنغلاديش الذين جرى إقناعهم بتدخين خمس سجائر يوميا، كان عليهم أن يحفضوا مشترواتهم من الغذاء بنسبة 15% وهو ما يقلل من السعرات الحرارية اليومية بمعدل 300 سعرة من حصة منخفضة بالفعل لا تتجاوز 2000 سعرة.

                            الشركات تنشر التدخين بين الأطفال:
                            وتركّز الصناعة دعايتها على الأطفال والشباب لاجتذاب مدخنين جُدُد. وقد أتت الدعاية ثمارها. فكل يوم، ينضم أكثر من 4000 مدخن جديد من الشباب. ويشير عدد ديسمبر 1991 من "جورنال أوف أمريكان ميديكال أسوسييشن" إلى أن صغار الأطفال يشاهدون الإعلان ويفهمونه ويتذكرونه. وتقول إنّ بعض الإعلانات التي تلجأ إلى الرسوم الكرتونية كانت أكثر نجاحا في تسويق السجائر بين الأطفال مقارنة بالبالغين. وهناك شكل آخر خبيث من الإعلان هو وضع السجاير وعلاماتها على لُعَب الأطفال. كما تروّج الصناعة لنفسها من خلال رعاية المناسبات الرياضية التي تحظى بالشعبية عند الأطفال؛ وهناك حاجة مستمرة وضاغطة لاجتذاب مزيد من المدخنين لتعويض مَنْ يموتون، وكلما اجتذبتهم الصناعة في سن مبكرة، كلما أسهموا في وقت مُبكر في زيادة أرباح الشركة.

                            زراعة التبغ تدمّر القطاع الزراعي في البلدان النامية:
                            في البلاد النامية التي تزرع التبغ، عادة ما تتعاقد الشركات عابرة القومية على الإنتاج مع صغار الفلاحين، وتقدم لهم الإرشادات، وتبيعهم البذور اللازمة، والسماد وغيرها. ثم تشتري منهم أوراق التبغ المُجفّفة. لكن عوائد المزارعين تكون متدنية دائما.
                            وفي أوغندا، توجد أربعة أخماس مساحة الأراضي المرزوعة بالتبغ في منطقة غرب النيل، شمال غرب البلاد، وتُزرع حوالي 10 آلاف قطعة صغيرة من الأرض بالتبغ بمقتضى تعاقد لحساب "بريتش أمريكان توباكو" التي تحتكر إنتاج التبغ في البلاد. وتمد الشركة الفلاحين بصفقة متكاملة (بالدَيْن عادة) تشمل مُدخَلات مثل الأسمدة والبذور والمبيدات الحشرية والمشورة الفنية، وتشتري منهم النبغ المجفف بالأسعار التي تحددها الشركة.
                            وفي الفلبين، حدّدت الهيئة الوطنية للتبغ الحد الأدنى لسعر الكيلو الواحد من أوراق التبغ بـ 20 بيزو فقط (حوالي 50 بنساً) لكن شركة "فيليب مورس" و "ر. جي . رينولدز" تدفع للفلاحين 7 بيزو فقط (17 بنساً) . أمّا معدّلات الفائدة على القروض المُقدمة لزراع التبغ في الفلبين التي تتراوح مدة سداداها بين 4 – 5 سنوات، فتتراوح بين 75% - 100%.
                            وقد توضح الديون سبب استمرار الفلاحين في زراعة التبغ: إنهم مدينون بالأموال للشركات .
                            في مالاوي هجر آلاف المزارعين المالاويين أراضيهم ليخلو السبيل أمام مزارع التبغ الكبيرة.
                            ولتوفير مستلزمات زراعة التبغ، يتم قطع الأشجار في بلدان كثيرة، فتنكشف التربة وتصبح أكثر عرضة لأن تجرفها الأمطار الغزيرة . ويشكو الفلاحون من تناقص خصوبة التربة وإنتاج المحاصيل. وتتمثل إحدى النتائج الرئيسية لإنتاج التبغ في الطاقة الكبيرة المطلوبة لعمليات التجفيف والتحميص، وهو يتطلب استخدام كميات هائلة من الأخشاب، مما يستدعي قطع الأشجار وتعرية التربة، والتأثير على إنتاج الغذاء . وحتى البدائل - كالأشجار سريعة النمو - يستغرق نموها 5 سنوات في الأقل في البرازيل حيث تسيطر شركة BAT على أربعة أخماس سوق التبغ، يبلغ عدد مزارعي التبغ 130 ألف يحتاجون (60) مليون شجرة سنويا لزراعة محصولهم المدمّر .
                            وهناك حقيقة أخرى هي أن الشركات تأتي إلى الفلّاح وتغريه بترك زراعة المحاصيل الغذائية وزرع التبغ، فتصبح أرضه "متخصّصة" بالتبغ وحده وهذا ما تريده الشركات الأميركية . والتبغ يستنفد المواد الغذائية الموجودة في التربة بمعدل يفوق أي محصول آخر، وتعجز التربة عن تغذية المحاصيل الغذائية، وحين تستنفد الأرض إمكاناتها في مكان ما، تتجه الشركات إلى مكان آخر .. وهكذا .
                            ويحتاج التبغ إلى استخدام المبيدات بكثافة . وتُوصي الكتيبات الإرشادية المُوجّهة لمزارعي التبغ ببرنامج لإنبات بذور التبغ تستمر لثلاثة أشهر وتتطلب رشّ (16) نوعا من المبيدات .
                            وقد لجأت الشركات عابرة القومية – لتتهرّب من انتقادات الحكومات والمنظمات لتدميرها البيئة – إلى زراعة أشجار الكافور لتوفير الخشب، ولكن شجرة الكافور شجرة تنمو بسرعة كبيرة اعتمادا على المياه الجوفية، اي أنها سوف تستهلك المياه التي تحتاجها المحاصيل الغذائية .

                            من جديد: ما هي أهداف الحرب الأميركية على المخدرات؟:
                            وتثير هذه الحقائق المزيد من الأسئلة حول بواعث الحرب على المخدرات . وأثبتت "مؤسسة راند" لدراسات الرأي العام أن الأموال التي صُرفت على معالجة المخدرات المحلية كانت فعاّلة أكثر بـ (23) مرّة من "ضبط بلد المصدر" (خطة كولومبيا لبيل كلنتون مثلاً كما قلنا قبل قليل)، وأكثر فعالية بإحدى عشرة مرّة من الحِرْم، وسبع مرّات من فرض القانون المحلي .
                            ولكن الطريق الرخيص والفعّال لم يُسلك، وتم صنع "حرب المخدرات" لاستهداف الفلاحين الفقراء في الخارج والفقراء في الداخل، باستخدام القوة، وليس من خلال الإجراءات البنّاءة للتخفيف من المشكلات التي تُحرّض عليها بشكل مزعوم بجزء من الكلفة .
                            إن الجريمة في الولايات المتحدة لا تختلف كثيرا عنها في البلدان الصناعية الأخرى، لكن الخوف من الجريمة أعلى في الأولى بكثير، والكلام عينه ينطبق على على المخدرات: إنها مشكلة في المجتمعات الأخرى، لكنها في الولايات المتحدة خطر وشيك يتهدّد وجودنا بالذات، وإنه لمن السهل على القادة السياسيين أن يستغلوا وسائل الإعلام لإثارة الفزع حيال هذه الأخطار وغيرها، فيُصار إلى تنظيم الحملات بصفة دورية حين تتطلّب الضرورات السياسية المحلية ذلك.
                            وهناك مثال صارخ آخر يتمثل في إعلان الحرب مجدداً على المخدرات في عام 1989 . ففي وجه قرائن مادية تقول العكس، أعلنت الإدارة الأميركية بصورة دراماتيكية أن مروجي المخدرات من أصول "أميركية لاتينية" يشكّلون خطرا على مجتمعنا . وأحرزت الحملة نجاحا هائلا، بمعزل عن مدى تأثيرها في نسبة تعاطي المخدرات . إذ اندفع الخوف من المخدرات ليحتل الصدارة بين مخاوف الجمهور وهمومه . وقد أُعِد المسرح لتصعيد الحملة الرامية إلى نقل الفائض من الناس من شوارع المدن إلى السجون الجديدة التي كانت تُشيّد على عجل، وكذلك للإنتقال إلى "عملية القضية العادلة": الغزو المجيد (كما يسخر منه تشومسكي) لباناما تحت ذريعة تورّط نورييغا في تهريب المخدرات، من بين أسباب أخرى طبعاً . هذا في الوقت الذي كانت فيه إدارة بوش تُهدّد تايلاند بعقوبات قاسية في حال وضعت حواجز في وجه وارداتها من مادة مُنتجة أميركياً أشدّ فتكا هي التبغ . بيد أن كل ذلك مرّ في صمت وهدوء لأن وسائل الإعلام الأمريكية لديها ميل طاغٍ إلى النطنطة والتهويش معاً متى فرقع البيت الأبيض لها بإصبعيه .

                            قانون "حرّية السوق" الأمريكي يُنعش تجارة المخدّرات:
                            يقول الفيلسوف الراحل "روجيه غارودي":
                            (أسفرت حرية السوق عن شهرة خاصة بها، هي تهريب المخدرات. كان استهلاك الكوكايين في الولايات المتحدة 85 طنا في عام 1984، 125 طنا في عام 1985، 250 طنّاً في عام 1986 . الآن وبوجود 20 مليون مدمن مخدرات بها تستوعب الولايات المتحدة 80% من المبيعات العالمية من المخدرات .
                            أصبحت المخدرات في الولايات المتحدة واحدة من القطاعات المهمة في الاقتصاد، على نفس مستوى الإلكترونيات، والسيارات أو صناعة الحديد والصلب .
                            وبلُغَة السوق: في مواجهة مثل هذه الزيادة في "الطلب" ارتفع "العرض" البوليفي بنفس النسب: كانت بوليفيا تنتج 6 آلاف طن من أوراق الكوكا في عام 1970، تخطت 150 ألف طن في عام 1986 .
                            هناك 60 ألف هكتار من أراضي بوليفيا مزروعة بنبات الكوكا، ينتج كل هكتار سنويا ثلاث غلّات تعطي لمالكها عشرة آلاف دولار . هذا، بينما يكسب عامل المناجم في بوليفيا 827 دولارا سنوياً، والعامل في المصانع 649 دولارا، والفلّاح الذي ينتج الكوكا 160 سنويا، يتحول الفلاح الأكثر فقرا بين الفلاحين في كولومبيا من إنتاج البن أو الكاكاو إلى إنتاج الكوكا، مطيعاً لنفس منطق بورصة وول ستريت ومنطق السوق .
                            إذا ما استمرت السوق في ازدهارها، وحرّيتها المتألقة هي الحكم الوحيد، فستضمن المخدرات مستقبلا مزدهرا) .

                            تفشّي سرطان المخدّرات سببه طبيعة الحضارة الأمريكية ؛ حضارة اللّامعنى:
                            يبلغ حجم التعامل بالمخدرات في الولايات المتحدة اليوم، من الضخامة ما يعادل أرقام التعامل في صناعة السيارات، أو صناعة الفولاذ . ويزداد استهلاك المخدرات طرداً، مع فقدان الحياة لمعناها، كما يواصل "غارودي" حديثه، نتيجة للبطالة والتسريح، أو أمور أخرى . إن الغاية النهائية للحياة هي الاستهلاك الذي يخلق ازدهار "السوبر ماركت" .وإنه لأمرٌ ذو دلالة أن الرقم القياسي لانتحار اليافعين، سجلته الدول الأكثر غنى في العالم: الولايات المتحدة، والسويد . في الجنوب، يموت الناس بسبب نقص وسائل العيش، أما في الشمال فيموتون لانعدام غايات الحياة .
                            ويُعتبر الاستهلاك المتزايد للمخدرات، أحد النتائج الطبيعية لوحدانية السوق: أوّلاً، بسبب إنتاجها . إن الربح الذي تدره نبتة الكوكا التي يُستخرج منها الكوكاين، على الفلاح البوليفي، أكبر بعشر مرات من ربح نبتة الكاكاو أو البن، وهي وحدها القادرة على السماح له بالحياة . كما أن الدولة، مُلزمة بتسديد ديونها لصندوق النقد الدولي . ونتيجة لاستهلاك المخدرات، تعاني الولايات المتحدة من ثلاثة ملايين مُصاب بالتسمم المزمن، أما الذين يتعاطون المخدرات فيُقدّر عددهم بعشرين مليون أمريكي .أصبحت المخدرات بخور "الكنيسة الجديدة "، نعني وحدانية السوق . ويعطينا الاتحاد السوفيتي معنى كبيرا، فمنذ العودة إلى الرأسمالية، انفجر إنتاج واستهلاك المخدرات، وتضاعفت مساحة الأراضي المزروعة بالخشخاش في أوزبكستان خلال عامين فقط (1991 و 1993) .أما أفغانستان، فقد أصبحت منذ عام 1993 البلد الأول المنتج للأفيون، وقد تضاعف إنتاجها ثلاث مرات . ومن الملاحظ أن عودة الرأسمالية إلى الإتحاد السوفيتي وبلدان شرق أوروبا، قد رافقها ارتفاع مجنون في انتشار البغاء.
                            تشير دراسة أجرتها وزارة الصحة الأمريكية، أن استخدام المهدئات عند المراهقين في سن 12 - 17 عاما، قد ازدادت 78 %، ما بين عامي 1992 1995. وقد ارتفع استهلاك حبوب الهلوسة، مثل حبوب (ل . س . د) إلى 183%، (54% ما بين عامي 1994و 1995)، وارتفع استهلاك الكوكايين إلى 166%، والماريجوانا إلى 105% (37 % ما بين عامي 1994و 1995).
                            واعترف 10,4 % من الشباب الأمريكي، من نفس الشريحة العمرية، أنهم تناولوا المخدرات خلال الشهر السابق على الاستطلاع الذي أجرته وزارة الصحة . وتدل دراسة أخرى، رسميّة أيضا، أن حالات الإسعاف التي سجلتها المستشفيات، بسبب الإسراف في تعاطي المخدرات، قد ازدادت 96 % في حالات تعاطي الكوكايين.
                            ويتجسد هذا الإنحلال المعنوي والخُلُقي في ارتفاع متصاعد للجريمة: سنة 1989 يموت شخص في نيويورك اغتيالاً كل 5 ساعات ؛ وتُنتهك حرمة امرأة كل 3 ساعات ؛ ويُعتدى على شخص كل 3 دقائق . وهذا يعني سنويا، بالنسبة إلى هذ المدينة وحدها: ارتكاب 712419 جريمة – الشرطة لا تحصي سوى الجرائم التي قُدّمت فيها شكاوى – منها 1905 جريمة اغتيال، 3254 جريمة اغتصاب، 93377 عملية سطو في الشارع، وأغلبها تحصل تحت تأثير المخدرات. وهناك 20 مليون من المدمنين على المخدرات من مجموع سكان الولايات المتحدة كما قلنا . زد على ذلك أن "أسلوب الحياة" هذا ينعكس في الأفلام الأميركية المبثوثة يوميا على أقنية العالم "الحُرّ" .
                            إن تفكّكاً للمجتمع كهذا، مع حيوات بلا هدف ولا مستقبل – لا مستقبل ؛ هذا هو الشعار الذي يكتبه شباب "البونكز" على قمصانهم – يُذكّر بتشنجات وانحلالات الانحطاط الروماني في اسوأ ساعاته .
                            هوذا نموذج "فلتان" بلا قانون ولا إيمان، يفرضه الغرب على العالم في صور شتى: عالم حرّ، ليبرالية، ديمقراطية، حداثة، .. إلخ.
                            إن مشهد انحطاط عالم كهذا بلا معنى، بلا بعد انساني حقيقي؛ عالم مستسلم لقوانين اقتصاد السوق وحدها حيث لم يعد في امكان الحياة الروحية ان تُعاش الا في سِرّ النفوس دون دون أن تلعب أيّ دور في نَظْم الأواصر الاجتماعية ولا في توجيه العلوم والتقنيات لكي تساعد على تفتّح الإنسان، لا على تحطيمه، أدى في مرحلة أولى، إلى فرارات فردية: دروب كاتماندو، الغيبة / الباطنية، البحث عن معلّمين مرشدين ومُنقذين .. ثم أدى إلى ردّات فعل سياسية قوامها الرفض الشامل لحضارة غريبة فاسدة .

                            المخدرات والتعذيب في عمل وكالة الإستخبارات الأمريكية CIA:
                            ربما يجد القارئ تناقضا في هذا العنوان، إذْ إن المخابرات الأمريكية دورها يتمثل في محاربة المخدرات وليس في تجريبها وإشاعتها واستخدامها في التعذيب وانتزاع الاعترافات وفي عمليلت غسيل الدماغ – brain washng أو قتله - mentacide.
                            تَعَاقَب الكثيرون من المديرين على وكالة الاستخبارات الأمريكية، ولكن "ريتشارد هيلمس" يظل هو من تحمّل العبء الأكبر في هذا المجال. فقد تكاثرت الفضائح وتسرّبت في الصحافة، وعرف الناس الكثير من الجرائم التي ارتكبتها وكالة الاستخبارات الأمريكية، وتداخلت لكثرتها من فضيحة ووترغيت إلى تصفية رئيس تشيلي سلفادور أليندي.
                            هذا المدعو هيلمس تحمل كل تبعات وكالة الاستخبارات إلاّ ملفا واحدا وهو الذي يتعلق بـ MK Ultra، وهو الإسم الشفري (كود) لمجموعة من التجارب “العلمية” قامت بها الوكالة ما بين سنتي 1953 و1964 تحت إدارة ألان دالاس.
                            تم اختبار طرق عديدة من بينها تقنيات الاستنطاق العنيفة والمخدرات والتنويم المغناطيسي والصدمات الكهربائية وغيرها...(وهي طرق تعذيب سبقت بكثير ما وقع في سجن أبو غريب) وقد تم تطبيقها على “فئران تجارب” غير طوعيين (أناس يخضعون للتجربة دون أن يدروا !)، وعلى سجناء حرب، وعلى جنود ومواطنين رافضين لأداء الخدمة العسكرية، ولكن أيضا على مرضى مستشفى الأمراض النفسانية. صورة مرعبة لدور المخابرات الأمريكية في هذه التجارب.
                            يقول "غوردون توماس" مؤلف كتاب "الكتاب الأسود لوكالة الاستخبارات الأميركية": “لقد موّلت وكالة الاستخبارات الأمريكية في الواقع “أبحاثا” للدكتور "إيوين كامرون"، نائب رئيس جمعية المحلّلين النفسانيين في أمريكا الشمالية (تصوّر طبيباً "إنسانيّاً" يشارك في التعذيب مثل الأطباء النازيين ومثل الأطباء الأميركيين في أبو غريب)، في عيادته في مونتريال: نساء قادمات من أجل أن يعالجن من انهياراتهن العصبية يتلقين علاجات مرتكزة على مخدرات وصدمات كهربائية أثناء سنوات عديدة”. ليس خافياً، كما يرى المؤلف، أن هذه التجارب لم تؤدّ أبدا إلى أيّ نتيجة ملموسة. ويعلّق على الأمر بكثير من القوة حين يقول: “أن تكون هذه الأشياء حدثتْ بُعَيد ما جرى في معسكرات التعذيب النازية الفظيعة، لا يستطيع أن يفهمه اليوم أحدٌ”. هذه التصرفات الأمريكية تشي في جزء منها بالهوس المُعادي للشيوعيين المسيطر آنذاك على المسؤولين الأمريكيين (إذْ إن كلّ إجراء يفترض أن العدوّ استخدمه يصبح سلاحا مباحا من أجل محاربته)، ولكنها تشي أيضا بالإيمان الأعمى في تقدّم العلوم، التي تتَصَوَّر قدرتها على أخذ زمام الأمور للعقل البشري. ويتساءل الكاتب عن هذه الإجراءات: هل يتعلق الأمر بـ “جنون عابر؟ ليس الأمر مؤكَّدا، لأننا سنعثر على طرق ومنهجيات وأوهام في مسألة السجون السرية”. ويستتبع الكاتب هذا الفصل بفقرات من كتابه "أسلحة وكالة الاستخبارات الأمريكية السرية" ؛ فقرات لا يستطيع القارئ أن ينهيها، وذلك لما تحتوي عليه من فظاعات وجرائم حقيقية. وقد قدمت عائلات الكثير من الضحايا شكاوى أدت إلى تحقيقات طويلة انطلاقا من سنوات السبعينات.
                            نقرأ في هذه الأرشيفات: “في أحد الملفات يتعلق الأمر بإحدى المريضات وتدعى "مادلين لاركوا"، توجد إشارة تتحدث عن حوار قصير بين المريضة وطبيبها: “سألتني لماذا تنظر إليّ الممرضات بهذه الطريقة، كما لو أنها كانت غريبة الأطوار. وبدوري، سألتها عن الشيء الذي يجعلها تعتقد أنها غريبة الأطوار. أجابتني بأنها لا تعرف. لاحقا صرّحت مادلين بأنها تحسّ نفسها: “تشبه.....zombie”. كما أشار الدكتور كامرون. يشير الملفّ إلى أن المريضة مادلين تناولت، ثلاث مرات كل يوم، “كوكتيلا من المهدئات” مُكوّنا من 100 ميليغرام من تورازين – Thorazine، و100 ميليغرام من نومبتال - Nombutal ، و100 ميليغرام من سيكونال - Seconal و150 ميليغراما من فيرونال - Veronal. إنّ كلّ واحد من هذه المخدرات، كان قادرا، بمفرده، على التسبّب في اضطرابات سيكولوجية”.
                            وفي حالة أخرى “إحدى المريضات التي كانت تعاني انهيار ما بعد وضع الحمل، وبعد أن وضعت توأمين، تم اختيارها لتناول خمسة أدوية مختلفة ثلاث مرات في اليوم. كما أن مريضة تم تشخيص مرضها على أنه متخلّفة عقليا، وقد أصبح “من الصعب التحكم فيها”، تلقّت هي الأخرى علاجا طويلا من الصدمات الكهربائية.

                            تعليق


                            • #29
                              لا تثقوا بالولايات المتحدة (19):

                              هل هناك احصائيات نظيفها مع بلد استباحته؟

                              في شيلي قتلت الولايات المتحدة الرئيس المُنتخب
                              من أجل تعزيز الديمقراطية (3 آلاف قتيل و30 ألف مُعتقل ومختفٍ)

                              نبذة عن شيلي:
                              تحتل شيلي (أو تشيلي) الجزء الغربي من المخروط الجنوبي في أمريكا الجنوبية، وتمتد سواحلها على المحيط الهادي بمسافة تقدر بحوالي 4828 كيلومتراً، تحدها بيرو من الشمال، وبوليفيا من الشمال الشرقي، والأرجنتين من الشرق، والمحيط الهادي من الغرب. تبلغ مساحتها: 756626 كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانها: 12.7 مليون نسمة، وعاصمتها سنتياجو (القديس يعقوب).
                              غزت إسبانيا تشيلي واستعمرتها في منتصف القرن السادس عشر، واستبدلت حكم الإنكا في شمال ووسط تشيلي، لكنها فشلت في قهر مملكة "مابوتشي" المستقلة التي سكنت جنوب وسط تشيلي . (وبالمناسبة فإن الأنكا حضارة عظيمة بخلاف ما يشيعه الأمريكان عن القوم الهمج القدماء في شيلي الذين يستحقون الإبادة كما يكرّر الرؤساء والفلاسفة الأميركيون ومنهم الرئيس ثيودور روزفلت).
                              نالت شيلي استقلالها من الاستعمار الإسباني في العام 1818، وحقق شعبها أول حكومة ديمقراطية له سنة 1861. أما ولادة الدستور الأول فقد كانت في 1925 والذي زاد من صلاحيات رئيس الجمهورية. ومنذ هذا العام وحتى عام 1970 كانت تشيلي من الناحية السياسية مسرحاً لصراعات سياسية بين القوى الإشتراكية اليسارية والشيوعية المتنامية من ناحية، والقوى اليمينية (حبيبة الولايات المتحدة) التي سلّمت ثروات شعب تشيلي ومقدّراته للولايات المتحدة وشركاتها من ناحية أخرى.

                              بلدٌ استباحته الشركات الأميركية:
                              كانت أبرز الشركات الأمريكية العاملة في شيلى هى شركة "اناكوندا" و "كينوكوت" العاملة في مجال النحاس، وشركة "أى تى تى" العاملة في مجال الاتصالات، وكلا الشركتين العاملتين في مجال استخراج النحاس أرادتا أن توسّعا الخصخصة في هذا القطاع في جبال الانديز في مدينة "التنينتى" والتي تمتلك أكبر مخزون من النحاس في العالم. في نهاية عام 1968 وحسب وزارة التجارة الأمريكية، فالشركات الأمريكية القابضة التي تعمل في شيلى في ذلك الوقت تقدر قيمتها بـ (964) مليون دولار، تستحوذ شركتا النحاس على 28% منها، بينما قُدّرت استثمارات شركة اى تى تى العاملة في مجال الاتصالات في ذلك الوقت بـ 200 مليون دولار. وفى عام 1970، وقبيل انتخاب أليندى استحوذت الشركة على 70% من الشركة الشيلية "تشيتلكو" العاملة في مجال الاتصالات.
                              كان الفقر واللامساواة والجهل من جهة، والثراء الفاحش من جهة أخرى، السمة المميزة للمجتمع الشيلي في ظلّ الحكومات التي سبقت حكومة سلفادور ألندي . كان %28 من الشعب يحصل على أقل من %5 من الدخل القومي للبلاد، بينما يحصل %2 على %46 من إجمالي هذا الدخل . وكانت تلك الشركات الأميركية تتدخل في اختيار وفوز المرشحين للإبقاء على سطوتها واستنزاف موارد البلاد . نشرت الجريدة اليمينية الشيلية وثيقة للمخابرات الأمريكية تفيد بان شركة اى تى تى موّلت المرشح "اليسندرى" المنافس لسلفادور ألندي بمبلغ 700 ألف دولار أمريكى وبمساعدة المخابرات الأمريكية في تحويل الأموال بطريقة آمنة وغير مكشوفة . وقام رئيس شركة اى تى تى في ذلك الوقت "هارولد جينين" بعرض مبلغ مليون دولار على المخابرات الأمريكية للمساعدة في منع فوز أليندى في الانتخابات.
                              وقد تكلّل نضال القوى اليساريّة بعد كفاحٍ طويل وإضرابات عمّالية ومصادمات وتضحيات دامية بفوز مرشّح تحالف الوحدة الشعبيّة (الحزب الإشتراكي والحزب الشيوعي) الدكتور "سلفادور أليندي" في الإنتخابات عام 1970 وتسلّمه رئاسة الجمهوريّة .

                              من هو سلفادور أليندي؟:
                              سلفادور إيزابيلينو أليندي غوسينز هو: طبيب وسياسي تشيلي وُلد في 26 يونيو 1908 وتوفي في 11 سبتمبر 1973. يُعتبر عموماً أول رئيس دولة في أمريكا اللاتينية ذي خلفية ماركسية انتُخب بشكل ديموقراطي. احتل منصب رئيس جمهورية تشيلي منذ 1970 وحتى 1973 عند مقتله في الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكمه.
                              عمل أليندي في الحياة السياسية الشيلية مدة تصل إلى حوالي أربعين عاما. لكونه عضوا في الحزب الاشتراكي في تشيلي, صار عضوا في مجلس الشيوخ، ونائبا برلمانيا، ووزيرا للصحّة . ترشّح للانتخابات الرئاسية في الأعوام 1952 و1958 و1964 ولكنه لم يفز بأيٍّ منها. في عام 1970، فاز بالرئاسة حيث تنافس عليها هو وسياسيين اثنين آخرين.
                              لقد اتضحت ملامح رؤيته، فترة ائتلاف الوسط ـ اليسار (19381947)، وخاصة مع حكومة "بيدرو أغير سيردا" حيث شغل أليندي منصب وزير الصحة.
                              ولأن نتائج انتخابات 1958، جعلته قاب قوسين من الانتصار، فقد أصبح مُرشداً للقوى الوطنية طيلة سنوات الستينات.
                              أليندي، تجاوز كثيرا الشيوعيين، الذين لم يتخلّوا أبدا عن مفهوم أرثوذكسي للاشتراكية المتوخاة، وظلوا متشبثين بمنطق اللحظة الحاسمة للاستحواذ على "كل السلطة"، ولأنها أساسية، فقد أجّلوها في الزمان، انطلاقا من شعار الاستعارة المشهورة لقائدهم "لوي كورفلان Luis Corvalan " حين أشار إلى "المصير الحتمي لقطار الاشتراكية"، أو كما قال بالضبط: "سيصل القطار إلى غاية منطقة « Puerto montt » في أقصى جنوب الشيلي، وقبل تلك المحطة سينزل بعض الحلفاء المؤقتين" .
                              وحتى، حين تسلم السلطة، رفض أليندي التخلي عن إتجاهاته الإنسانية بالالتجاء إلى الاستبداد . كما فعل تقريبا كل الرؤساء منذ سنة 1932. هذا المنحى، أضفى طابع الليونة على "ثورته" في مواجهة أعدائها. غير أن مستوى الأزمة بداية سنة 1973، أجبره على أن يطارد قانونيا، ليس فقط بعض مجموعات المعارضة، لكن كذلك مكوّنات يسارية تعارض سياسته.
                              لم يستهدف أليندي، خلق إصلاح جديد ولا الدعوة إلى طريق اشتراكي ديمقراطي، لكن الأمر تعلق عنده بتجذير للديمقراطية في كل قطاعات الحياة الاجتماعية محور التغير المجتمعي، هنا تكمن طبيعته الثورية، ساعيا إلى عدم استعمال العنف لحل إشكالية السلطة. لكن، للأسف، كان هذا "منظور" سينعكس سلبيّاً على مستقبل المثل الاشتراكي.
                              انصبّ همّ أليندي على البحث عن طريق أمريكي لاتيني للثورة، خاصة تلك التي تستلهم فكرة "الطريق الثالث" لمبتكرها "فيكتور راوول هايا Victor Raul Haya" الذي أسّس سنة 1924 التحالف الشعبي الثوري الأمريكي، ووضع في مرحلة أولى برنامجا وطنيا ذا صبغة ماركسية، عبّأ بواسطته قوى هنود ومثقفي البيرو.


                              ما الذي حقّقه ألليندي؟:
                              سعى أليندي فور تنصيبه إلى القيام بالعديد من الإصلاحات البنيوية للتحوّل بالبلاد من النظام الرأسمالي واقتصاديات السوق المفتوح إلى النظام الاشتراكي، وذلك لتحقيق العدالة الاجتماعية، حيث كان %28 من الشعب يحصل على أقل من %5 من الدخل القومي للبلاد، بينما يحصل %2 على %46 من إجمالي هذا الدخل، ومن ثم عمد أليندي إلى إصلاحات هيكلية، تضمنت تأميم العديد من الصناعات وإعادة توزيع الأراضي، وذلك لمعادلة ميزان القوى بين النخبة الاقتصادية الرأسمالية من جانب والطبقة العاملة من الجانب الآخر. كما وُضعت إدارة المصارف ناهيك عن الشركات متعددة الجنسية تحت إشراف الدولة، كجزء من النهج الذي وعد به بنظام إشتراكي مبني على الديمقراطية.
                              كان أليندي بشكل رئيس، اشتراكيا ديمقراطيا، قريبا من النموذج الأوروبي، وكان يدعو إلى إعادة توزيع الثروة لمساعدة الفقراء في مجتمع شيلي الطبقي . وقد كان اليندي طبيباً . هكذا قام بإنشاء برنامج يقتضي توزيع الحليب بشكل مجاني على نصف مليون من الأطفال الفقراء ذوي التغذية السيّئة . كما دعا إلى تأميم معظم الصناعات كالتنقيب عن النحاس وذلك من أجل سياسة الاستقلال الوطني، أي أن شيلي لن تستسلم ببساطة للولايات المتحدة، بل ستسير قدما في طريق الإستقلال .


                              الولايات المتحدة عادَتْ أليندي منذ عام 1964 !:
                              كان قد سبق للولايات المتحدة أن تدخلت لمنع أليندي من الفوز عام 1964 . وفي الحقيقة، عندما تساءلت اللجنة الكنسية حول ذلك بعد سنين، اكتشفت أن الأموال التي صرفتها الولايات المتحدة لشراء أصوات الناخبين لصالح مرشحين أرادتهم في الانتخابات التي جرت عام 1964، وجدت أنها كانت أكثر من تلك التي صرفها كل من جونسون ونمولدووتر في الانتخابات التي جرت في العام نفسه في الولايات المتحدة.
                              وقد تم اتخاذ اجراءات مماثلة عام 1970 لمنع حدوث انتخابات ديمقراطية . كما كان هناك قدر هائل من الدعاية المناهضة لأليندي حيث قيل أنه – في حال نجاحه – سيتم إرسال الأولاد إلى روسيا ليصبحوا عبيدا . وكلام من ذلك النوع . هذا بالإضافة إلى تهديد الولايات المتحدة بتدمير اقتصاد البلاد، وذلك ما حصل فعلا . ومع ذلك فاز أليندي .

                              الشيطان الأمريكي يستعد للدفاع عن الديمقراطية:
                              كانت إمكانية فوز سلفادور أليندى في الانتخابات كارثة للولايات المتحدة الأمريكية، التي أرادت حماية مصالحها من خلال منع أى انتشار للاشتراكية إبان الحرب الباردة.
                              في سبتمبر عام 1970 أخبر الرئيس نيكسون مستشاريه أن وجود حكومة يرأسها أليندى أمر غير مقبول، وقام بتخصيص مبلغ 10 ملايين دولار (ما يُعادل 60 مليون دولاراً اليوم) لمنع وصول أليندى إلى السلطة.
                              قامت لجنة الأربعين برئاسة "هنرى كيسينجر" مع المخابرات الأمريكية بالعمل لمنع أليندى وإعاقة تنصيبه رئيسا من خلال خطة سرية تم تسميتها Track I والخطة Track II، أى المسار واحد والمسار اثنين. وسعت الخطة المسار واحد إلى منع أليندى من الوصول للسلطة من خلال ما يُسمى بالاحتيال البرلمانى، بينما سعت من خلال الخطة المسار اثنين إلى اقناع بعض القيادات العسكرية في الجيش الشيلى للقيام بانقلاب عسكرى.
                              وفى خلال رئاسة الرئيس نيكسون سعت الولايات المتحدة إلى منع انتخاب أليندى من خلال دعم الأحزاب السياسية المعارضة والمتحالفة مع "جورج أليسندرى" مُرشّح المعارضة، وكذلك دعم الاضرابات في قطاعى النقل والتعدين ولكنها فشلت. تم تنفيذ الخطط والتي اشتملت على حملات تشهير إعلامية وتجييش للطبقات الأكثر غنى في تشيلي وشراء ولاءات العسكر بالأموال. رأس حرب الجهود ضد الليندي ضباط للسي آي إيه عملوا لمدّة 3 سنوات في تشيلي. وخالطوا ضباط الجيش ﻹقناعهم بالتخلص من الليندي وأعطوهم أموالا ورواتب شهرية، ووصل بهم الحال إلى اختطاف وقتل من رفض الخطة من الضباط.
                              خطّة "الإحتيال البرلماني" تمثّلتْ في أنّه بعد انتخابات عام 1970 حاولت الولايات المتحدة أن تُقنع الرئيس الحالى "إدواردو فراى مونتالفا" أن يقوم بإقناع حزبه للتصويت لصالح "اليسندرى" في البرلمان قبل أن يقوم بتسليم السلطة، وفى حالة نجاح اليسندرى سيقوم بالتنازل عن السلطة والدعوة لانتخابات مبكرة ليتيح الفرصة مرة أخرى للرئيس "ادواردو" للترشح مرة اخرى حيث إن الدستور الشيلى في ذلك الوقت لا يسمح إلا بفترة رئاسية واحدة للرئيس مع إمكانية ترشّحه لفتره ثانية غير تالية لفترة رئاسته. وطبقا للخطة المسار واحد سيتمكن ادواردو من الترشح والعودة مرة أخرى إلى السلطة. وعلى العكس من ذلك انتخب البرلمان "سلفادور أليندى"، ووضع شرطا لذلك هو أن يقوم أليندى بالتوقيع على وثيقة دستورية تضمن احترامه وخضوعه للدستور الشيلى وأن التعديلات الذي سيقوم بها لن تتعارض مع مواد الدستور. هنا تمّ تعطيل الخطة المسار اثنين انتظاراً لما سيسفر عنه هذا الإتفاق. لكن ألندي سار قُدُماً في محاولة التخلّص من السيطرة الأميركية.

                              الشيطان الأمريكي .. يتحرّك:
                              بعد أيام من فوز ألندي استدعى نيكسون ريشارد هيلمز مدير وكالة المخابرات المركزية وهنري كيسنجر وزير خارجيته وصار الإتفاق على عمل عسكري لتدمير تشيلي ولخّص السفير الأميركي الخطة بالقول:
                              "سنفعل كل ما بوسعنا لجعل تشيلي وأهلها يعيشون حالة قصوى من الفقر والحرمان" .
                              ومن هنا بدأت الضغوط السياسية والاقتصادية على تشيلي من الولايات المتحدة. ولا ننسى هنا مقولة هنري كيسنجر: “لا أفهم لماذا يجب أن نقف ونساند بلداً يتحول الى الشيوعية بسبب قلّة المسؤولية لدى شعبه” . نعم . هذا ما قاله كيسنجر الأميركي داعية الليبرالية والديمقراطية ومستشار الأمن القومي آنذاك. وبحسب مدير CIA في العام 1970، ريتشارد هولمز، كان “المطلوب أن يصرخ الاقتصاد في شيلي” اشارة الى الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة لخلخلة حكم أليندي الإشتراكي في تشيلي، من خلال تمويل الجماعات السياسية المعارضة ووسائل إعلامها في تشيلي والتي كانت تعمل بكل حرّية. كما درّبت CIA عناصر من ميليشيات معارضة موّلتها شركات امريكية لها مصالح اقتصادية مثل "آي تي تي" . جاءت الانتخابات النيابية للعام 1973، لتزيد من قوة أليندي مع نيل حزبه 6 مقاعد نيابية إضافية في وقت كان خصومه اليمينيون يتوقعون أن يخسر الانتخابات، ما صعّد الموقف السياسي.
                              وتفيد وثائق مؤكّدة بأن المخابرات المركزية الأميركية موّلت إضراب سائقي الشاحنات الذي تسبّب في الفوضى الاقتصادية التي سبقت الانقلاب كما موّلت الانقلاب العسكري (فعلت الولايات المتحدة الشيء نفسه بعد ثلاثين عاماً بتمويل معارضي هوغو شافيز في فنزويلا ). (راجع الحلقة الخاصّة بفنزويلا) .
                              أدت هذه الضغوط الخارجية والمقاومة الداخلية إلى حالة من الاضطراب السياسي والفوضى المجتمعية، وتراجعت المؤشرات الاقتصادية إلى أدنى مستوياتها وتصاعدت وتيرة الاستقطاب الأيديولوجي وموجات العنف، وتعدّدت عمليات الاغتيال والتفجيرات التي أودت بحياة الكثيرين من الأبرياء، وتراجع مستوى الخدمات إلى أدنى معدلاته، وراحت معاول الهدم تضرب على جسد الدولة والمجتمع بلا رحمة، مما دفع بالجنرال براتس، قائد الجيش آنذاك، إلى الاستقالة من منصبه، على الرغم من سجل المؤسسة العسكرية النظيف من أي تدخلات في الشأن السياسي، مقارنة ببقية دول أمريكا اللاتينية، ليأتي الجنرال أوجستو بينوشيه على رأس هذه المؤسسة في 21 أغسطس (قبيل الانقلاب بأقل من ثلاثة أسابيع) بقرار من الرئيس سلفادور اليندي ليكون "بروتوس" الذي سيوجّه الطعنة إلى قلبه.

                              كيسنجر يخشى على إيطاليا من شيلي !!:
                              صحيح أن شيلي بلد كبير المساحة غني بمصادره الطبيعية، ولكن الولايات المتحدة لن تنهار إذا استقلت عنها تشيلي . إذن لماذا كل ذلك الإهتمام بشيلي؟
                              طبقا لقول هنري كيسنجر: "تشيلي فيروس يعدي المنطقة ويمتد تأثيره إلى إيطاليا !" .
                              وقال كيسنجر في مناسبة أخرى: "الإشتراكية الديمقراطية في شيلي مثال معد .. جرثومة معدية يخشى أن تصل بعدواها إلى بلدان بعيدة أخرى كأوروبا الجنوبية فلابد من اجتثاث مصدر العدوى" .
                              برغم 40 سنة من تدخل المخابرات المركزية الأميركية في ايطاليا مازال بها حركة عمالية . فإذا ما نجحت حكومة ديمقراطية اشتراكية في شيلي فستصل رسالة الخطيئة إلى الناخبين الايطاليين حسب قول هنري كيسنجر، فافترض أنهم سيتعلقون بأفكار غريبة عن حكمهم، على الرغم من كل ما عملته المخابرات الأمريكية طوال أربعة عقود.

                              خاصيّة سيكولوجية أميركية: رعب الأمن القومي:
                              يقول تشومسكي إنّ الشعب الأمريكي من أكثر الشعوب خوفاً ورعباً خلاف ما يُظهر من قوّة حتى أصبح رعب الأمن القومي نفسي المنشأ . فبناء الأسطول الأمريكي في ثمانينات القرن 19 كان مبرره "الصور المُرعبة التي تخيّلها البعض للبوارج البريطانية والتشيلية والبرازيلية، بل والصينية، وهي تقصف المدن الأمريكية" . كما كان مبرر الإستيلاء على هاواي إيقاف الهجوم الإنكليزي خارج الأرض الأمريكية الواقعة تحت رحمة زوارق بريطانيا في المحيط الهادىء، وصوّر البحر الكاريبي والأرض الأميركية نفسها، وقد وقعت تحت تهديد الأسطول الألماني قبل الحرب الأولى . ولكي يُحضّر بلده للدخول في الحرب الثانية في اكتوبر 1941 تحدث الرئيس "روزفلت" عن "خريطة سرّية رُسمت من قبل حكومة هتلر لإخضاع كل القارة الأمريكية للسيطرة الألمانية" .. رونالد ربغان كان يُحذّر من أن الساندينيين النيكاراغويين على مسافة ساعتين من التحليق الجوي على حدودنا، وعلى مسافة يومين من تكساس . وحتى قبل الحرب الباردة قال الرئيس "جون كوينسي آدامز": "لدى الولايات المتحدة مشروع عظيم لتطهير القارة الأمريكية من أولئك المُقدّر لهم الإنقراض فهم من حيث الجنس لا يستحقون البقاء لأنهم أدنى من العرق الأنجاو سكسوني وليسوا سلالة مُحسّنة . ومن ثم فإن اختفاءهم من العائلة البشرية لن يفقدها الكثير" . ثم اعتذر – وكالعادة بعد أن أباد الناس قائلا: "إن السياسة التي اتبعها ارتكبت من الذنوب الشائنة للأمة الأمريكية ما سيحاسبنا الرب عليها، متمنيا أن وعيه المتأخر ربما يُكفّر عمّا ارتكب بحق أولئك التعساء من الأمريكيين الأصليين الذين سحقناهم بوحشية مُفزعة" . كانت الإبادة تحت غطاء مبدأ قانوني أعلن عنه الرئيس مونرو وبموجبه لابد أن يفسح الجنس الوضيع المجال للجنس الأكثر رقيا وقوة وتحضراً" .

                              الشيطان الأمريكي ينقض:
                              امتدت المواجهة ضد إجراءات حكومة الوحدة الشعبيّة هذه لتشمل النخبة الاقتصادية وكبار رجال الأعمال الذين رأوا في هذه السياسات الجديدة التي اتبعها أليندي، تهديدًا سافرًا لامبراطورياتهم الاقتصادية ومراكزهم السياسية داخل البلاد، ومن ثم انبروا بلا هوادة للعمل على إرباك الدولة وشل مرافقها الحيوية بافتعال العديد من الأزمات في قطاعات الصناعة والزراعة والمواصلات التي تخضع لملكيتهم الخاصة، وذلك عبر سلسلة من الإضرابات، توقفت على إثرها زراعة الأراضي، كما تعطلت وسائل المواصلات عن الحركة والمصانع عن الإنتاج، أما أبرز هذه الإضرابات، فجاء من قبل سائقي الشاحنات، والذي استمر بداية من تموز وحتى الانقلاب العسكري .
                              ففي يوم الثلاثاء 11/9/1973 (لاحظ يوم 11 أيلول/ سبتمبر !)، وبعد سنوات من إعمال الولايات المتحدة هدماً في الديمقراطية التشيلية وتدعيما للإرهاب وجعل الإقتصاد يئن وجعاً، هاجمت قوات الجنرال بينوشيه القصر الرئاسي التشيلي . بدأت القوات الجوية بقصف قصر الشعب (المقر الرئاسي)، قبل أن يقتحمه جنود الجيش للقبض على «أليندي» الذي رفض عرضا بمغادرة القصر والبلاد هو وأسرته ومن يريد من أعوانه، بل ارتدى الوشاح الرئاسي الذي ميّز رؤساء تشيلي طوال قرنين من الزمان. كانت إبنته "إيزابيل ألليندي بوسي" آخر من زاره، وحين بدأ قصف الطائرات والدبابات والمدفعية على القصر الرئاسي طلب من النساء الخروج بسرعة، وتركه يقاوم القتلة .
                              قضى الرئيس المنتخب سلفادور ألليندي نحبه في القصر، انتحارا على ما يبدو لأنه لم يكن مستعدا للإستسلام أمام الهجوم الذي دمّر أعرق الديمقراطيات وأكثرها حيوية في أمريكا اللاتينية، وأقام بدلا منها نظاما للتعذيب والاضطهاد .. في غضون ذلك انبرت واشنطن تساند بحزم وقوة نظام حكم بينوشيه القائم على العنف والإرهاب .
                              قُتل «أليندي» وجميع من بقي معه وحتى الآن لا يعلم أحد هل انتحر مُفضّلاً ذلك عن سقوطه في يد بينوشيه ورجاله، أم تم إعدامه، أم أنه قاوم القوة المناط بها اعتقاله فأردته قتيلاً .
                              ولمقتل أليندي روايتان متنازعتان، الأولى رسمية تُفيد بأنه انتحر بطلقات مسدس رشاش كُتب على كعبه المُذهّب:
                              (إلى صديقي الطيب سلفادور من فيديل كاسترو)،
                              والأخرى يعتنقها مؤيدوا أليندي بقوة وبشكل موحد، تُفيد بقتله على أيدي الانقلابيين، وهناك نسخة أخرى من رواية القتل تصر على أنه قُتل في معركة على بعد خطوات من القصر الرئاسي.

                              حكمة كاسترو:
                              يكتنز المناضل العظيم "فيدل كاسترو" الكثير من الحكمة والنظر النافذ إلى شؤون أمريكا اللاتينية، والبصيرة الثاقبة في سلوك الولايات المتحدة الإجرامي . ومن المؤكّد أنّ الرئيس كاسترو لم يكن ساذجاً أو بلا ذوق، كي يقوم بإهداء ضيفه ألندي بندقية، وضيفه رجل ديمقراطي مُسالم . إنّها – من وجهة نظري – لفتة حكيمة أراد منها أن يلفت بصر ألندي وبصيرته إلى هذا الوحش الرابض عند الأبواب ليفتك به بلا رحمة .

                              وجهة نظر: ما هي "خطيئة" ألليندي؟:
                              وارتباطاً باللفتة الحكيمة للمناضل الرئيس فيدل كاسترو، نقدّم وجهة النظر هذه لأحد المحلّلين السياسيين:
                              (التحليل التقليدي للانقلاب الذي قام به العسكر بقيادة بينوشيه في تشيلي يتبنى منطق المؤامرة الثلاثية ضد اليندي وحكومته، وأركان المؤامرة الثلاثة هم: المخابرات المركزية الأمريكية، والمجلس العسكري التشيلي، وممثلي الرأسمالية التشيلية الكبيرة، وهي أطراف كانت متضرّرة من سياسات اليندي الاجتماعية التي جعلت تشيلي خارجة عن سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية والرأسمالية العالمية، فدبّروا المؤامرة للتخلص من اليندي وسياساته ليتولى بينوشيه قيادة البلاد ويعود بها من جديد إلى حظيرة التبعية ويعود لتبني سياسات الاقتصاد الحر التي تخدم المصالح التقليدية للولايات المتحدة والجنرالات وكبار رجال الأعمال.
                              يبدو التحليل التقليدي منطقياً، خاصة مع ما يُعرف عن العلاقات الدائمة التي تجمع ما بين الولايات المتحدة والقادة العسكريين لجيوش العالم الثالث، سواء عن طريق المعونات العسكرية والمناورات والتدريبات المشتركة وهي العلاقات المُعلنة، أو عن طريق صفقات الأسلحة والعمليات المخابراتية وهي العلاقات التي تبقى سرية. أيضاً، مما يدعم هذا التحليل تضرّر الولايات المتحدة من تأميم اليندي لمناجم النحاس التشيلية والتي كانت خاضعة لاستغلال الشركات الأمريكية، والعبارة التي وردت على لسان وزير الخارجية الأمريكي في هذا الوقت هنري كيسنجر: "لا أفهم لماذا يجب أن نجلس جانباً ونراقب دولة تسير في طريق الشيوعية نتيجة لعدم تحمل شعبها المسئولية .. المواضيع أكثر أهمية بالنسبة للناخبين التشيليين من أن تترك ليقرروها بأنفسهم".
                              فبرغم أن الوحدة الشعبية كانت تتكون نظرياً من أكثر الأحزاب راديكالية، والتي نجحت في أن تتحد خلف اليندي كمرشح واحد للمعارضة في انتخابات 1969 يجذب أصوات كل الناخبين الراغبين في إحداث تغيير جذري في حالة البلاد، وبرغم إصرار الحزب الشيوعي التشيلي والحزب الاشتراكي التشيلي القطبان الرئيسيان في حكومة الوحدة الشعبية على تسمية عملية وصول الليندي لرئاسة الجمهورية في 1970 بالثورة السلمية وأنها تفتح آفاق لتغيير المجتمع التشيلي عن طريق العملية السياسية البرلمانية البرجوازية التقليدية، إلا أن أداء اليندي وحكومته لم يتجاوز سقف الحكومة الاصلاحية التي سبقته.
                              فحكومة اليندي لم تطرح قانوناً جديداً للإصلاح الزراعي بخلاف ما طرحته الحكومة السابقة، ولم تسترد المصانع لصالح العاملين فيها، بل أنه في أحد التعديلات الوزارية تم تشكيل وزارة من جنرالات الجيش، هذا بالإضافة إلى أنّ اليندي كان قد وقع على اتفاقية مع ممثلي الرأسمالية التشيلية سُمّيت "قانون الضمانات" يتعهد فيها بعدم إحداث أي تغيير جوهري في بنية مؤسسات الدولة القديمة، أي أنه ألزم نفسه بالعمل من خلال المؤسسات القديمة وبالأسلوب القديم ذاته، وفوق هذا عندما حدثت إضرابات عمالية في بعض الأقاليم أعلن الليندي حالة الطوارئ ووضع الأمور كلها في يد الجيش.
                              إذاً، فحكومة اليندي لم تكن تشكل الخطر الذي يدفع ثلاثي للمؤامرة للإطاحة بها، لكنها كانت حكومة إصلاحية مثل حكومات كثيرة في العالم الثالث وفي أمريكا اللاتينية تحديداً يمكن الضغط عليها باستمرار لتقليل هامش التغيير الاجتماعي الذي تسمح به.
                              لكن الخطر الحقيقي على المصالح الأمريكية، وامتيازات جنرالات الخونتا، ومشروعات كبار الرأسماليين (وعلى إيطاليا وأوروبا الجنوبية حسب قول كيسنجر)، كان في الواقع هو الحراك الشعبي المتزايد والذي أدى لنجاح حكومة الوحدة الشعبية في الانتخابات، واكتسب الثقة من هذا النجاح، وانطلق وتعزّز عبر النضالات العمالية والفلاحية المستمرة لاحداث تغيير حقيق وجذري.
                              فالاضرابات العمالية المتزايدة التي وصلت للاضراب العام في سنة 1968 هي التي زعزت الحكومة السابقة لحكومة اليندي، وبتضافرها مع موجة من احتلال الأراضي بواسطة الفلاحين المُعدمين، وتنظيم فقراء المدن من العاطلين وأصحاب المهن الهامشية أنفسهم للنضال من أجل حقوقهم في السكن والخدمات الأساسية، استطاعت هذه الحركة الاجتماعية وهذا المد الطبقي أن يترجم في الانتخابات باختيار سلفادور اليندي باعتباره مرشح أكثر الأحزاب جذرية.
                              وباحساس الجماهير بقوّتها في الانتخابات زادت الحركة العمالية قوة وثقة، وبدأت حركة الفلاحين للاستيلاء على الأراضي من كبار الملاك تنتشر أكثر وأكثر، وحاول اليندي أن يكبح جماح هذه الحركة حتى لا يخسر ثقة الرأسمالية التشيلية، لكن الحركة استمرت وأبدع العمال التشيليون شكلاً جديداً من اللجان العمالية على مستوى المناطق أسموه “الكردون“، وقادت الكردونات النضالات في نفس الوقت التي بدأت الرأسمالية التشيلية تقلق وتدبّر تحرّكاتها لكسر حركة الجماهير، بدءاً من اضراب لأصحاب الشاحنات وحتى محاولة فاشلة لانقلاب عسكري في بدايات 1973، لكن تنظيم العمال والطبقات الشعبية لأنفسهم وتشبيك هذه الكيانات أفشل كل هذه التحركات، وأثبت أن الطبقة العاملة يمكنها أن تقود الثورة الاجتماعية في تشيلي لتحدث تغييرات جذرية في المجتمع التشيلي.
                              لكن اليندي لم يُدرك هذا الدرس الذي أدركه أعداؤه – الولايات المتحدة، الخونتا، الرأسمالية التشيلية – وكانت "خطيئته" الكبرى أنه بدلاً من أن يعزّز هذا النضال باعتباره قاعدته الشعبية التي يمكن أن يستند عليها ليتخذ إجراءات ثورية حقيقية، لجأ إلى الاستناد على الجيش فشكّل وزارة جديدة من جنرالات الجيش معتقداً أن هذه هي الوسيلة التي يمكن أن يمنع بها الأوضاع من الانفجار، لكن ثلاثي المؤامرة الذي كان قد اتخذ القرار بتصفية الحركة الجماهيرية التشيلية وجنين الثورة الشعبية داخلها ووجدها الفرصة السانحة لإعادة ترتيب الأوراق استعداداً للانقلاب).

                              الخطاب الأخير للرئيس أليندي قبل استشهاده:
                              قبل دقائق من قصف القصر الجمهوري توجّه «أليندي» عبر إذاعة سرية بخطابه الأخير للأمة.، قائلاً:
                              (أصدقائي
                              بالتأكيد ستكون هذه فرصتي الأخيرة للحديث معكم. فالقوات الجوية قصفت أبراج راديو بورتاليس وكوربوراسيون.
                              كلماتي هنا لن تحمل المرارة بل خيبة الأمل. ليكن ذلك عقابا أخلاقياً لأولئك الذين خانوا قسمهم من جنود تشيلي، الأميرال مورينو، الذي نصّب نفسه قائدا للبحرية، والسيد ميندوزا، الجنرال الحقير الذي تعهّد بالأمس فقط بالإخلاص والوفاء للحكومة ثم نصّب نفسه رئيسا للشرطة الوطنية.
                              بعد هذه المعطيات، لم يعد لدي شيئا أقوله للعمّال سوى أنني لن أستسلم.
                              في هذا المنعطف التاريخي، سأدفع حياتي ثمناً لولائي للشعب. وأقول لهم أني على تمام الثقة أن البذور التي زرعناها في ضمائر الآلاف والآلاف من المواطنين التشيليين لن تذهب هباءً.
                              هم لديهم القوة لحكمنا، ولكن الصيرورة الاجتماعية لا تُحكم بالجريمة أو القوة. التاريخ ملك لنا، والشعوب تصنع التاريخ.
                              عمّال بلادي، أشكركم لولائكم، الثقة التي أودعتموها في شخص لم تكن إلّا ترجمة لتطلعاتكم العظيمة نحو العدالة، وهذا الشخص أقسمَ على احترام الدستور والقانون، وها هو يفعل.
                              في هذه اللحظة الحاسمة، اللحظة الأخيرة التي سأتمكن فيها من التحدّث معكم، آمل أن تكونوا قد استفدتم من الدرس، رأس المال الأجنبي والإمبريالية جنبا إلى جنب مهّدا الطريق كي تُحطِّم القوات المسلحة تقاليدها، التقاليد التي أرساها الجنرال شنايدر وأكدها القائد آرايا، ضحايا نفس الشريحة الاجتماعية التي تقبع الآن في منازلها آملة أنها، وبالمساعدات الأجنبية، تستعيد القدرة على مواصلة الدفاع عن مصالحها وامتيازاتها.
                              أتوجّه قبل الجميع إلى المرأة البسيطة في أرضنا، العمّال الذين خدمونا، للأم التي تعلم مدى اهتمامنا بأطفالها، للمهنيين في تشيلي، المهنيين الوطنيين، هؤلاء الذين استمروا في العمل في الأيام الماضية ضد الفتنة التي ترعاها الفئات الطبقية التي تدافع عن الامتيازات التي يضمنها المجتمع الرأسمالي للأقلية.
                              أتوجّه إلى الشباب الذين غنّوا وقدّموا لنا البهجة وروح النضال. أتوجّه للرجال في تشيلي، العمال، الفلاحين، المثقفين، الذين سيتم اضطهادهم، لأنّ الفاشية بدأت تحلّ في بلادنا في الساعات الأخيرة عبر قيامها بهجمات إرهابية، تدمير للجسور، قطع للسكك الحديدية، تدمير لأنابيب البترول والغاز، وسط صمت أولئك الذين يحمونهم.. التاريخ سيحكم عليهم.
                              بالتأكيد سيتم إسكات راديو ماجالانس، ولن يصلكم صوتي بعد الآن. لا يهم. فسوف تسمعونه دائما. سأظل دائما بينكم.. على الأقل ذكراي ستظل كرجل حافظ على كرامته وولاءه للعمّال.
                              الجماهير يجب أن تدافع عن أنفسها، لكن دون تضحية بحياتها. يجب ألّا يعطوا أحداً الفرصة أن يدمرهم وألّا يضعوا أنفسهم في مواجهة الرصاص، وكذلك يجب ألّا يسمحوا بإذلالهم.
                              عمّال بلادي، لدي إيمان بتشيلي وقدرها. وبقدرتها على تخطي تلك اللحظات المظلمة والمريرة التي تسودها الخيانة. تحرّكوا للأمام وأنتم واعون أنْ عاجلاً أو آجلاً ستنفتح آفاقٌ أرحب عندما يسعى رجالٌ أحرار لبناء مجتمع أفضل.
                              عاشت تشيلي،
                              عاش الشعب،
                              عاش العمال.
                              هذه كلماتي الأخيرة، وأنا على يقين أن تضحيتي لن تذهب هباءً، وأنّها على الأقل ستكون درسا أخلاقيا يعاقب جريمة الجبن والخيانة.
                              رئيس تشيلي، ١١ سبتمبر ١٩٧٣

                              تعليق


                              • #30
                                هل قُتِل أليندي أم انتحر؟:
                                أما عن وفاته فقد اختلفت الروايات، حيث يقال إنه قُتل ويقال إنه انتحر، ولاحقا أكدت هيئة طبية تشيلية شرعية أن سبب وفاة الرئيس الراحل هو الانتحار، وكانت الرواية الرسمية حول مقتله تفيد بأنه أقدم على الانتحار بإطلاق النار على نفسه من مسدس كان قدمه الرئيس الكوبي السابق فيدل كاسترو هدية له كما قلنا، فيما كانت قوات الجنرال "أوغوستو بينوشيه" تُطبق على القصر الرئاسي خلال الانقلاب وتقصفه بالدبابات والطائرات غير أن عدداً من أنصار أليندي ظلوا يشكون في الرواية المتعلقة بانتحاره، وأنّه قتل أثناء الانقلاب الذي أدى إلى ظهور النظام الديكتاتوري في تشيلي بقيادة بينوشيه قائد الانقلاب.
                                وكان التلفزيون الوطني التشيلي قد عرض شريطا وثائقيا يعتمد على التقرير المذكور في الشهر الماضي.
                                وقال التلفزيون إنه عثر على نسخة من التقرير في ركام منزل دمره الزلزال الذي ضرب جنوبي تشيلي في فبراير / شباط الماضي. وكان المنزل ملك احد القضاة العسكريين.
                                وتضمن الشريط الوثائقي مقابلة اجراها التلفزيون مع لويس رافانال، وهو خبير في الطب الجنائي يعتقد ان سلاحين وليس سلاحا واحدا لعبا دورا في مقتل الرئيس الليندي.
                                وقال رافانال إن الليندي اصيب باطلاقتين، الاولى من سلاح ذي عيار صغير، والثانية من بندقية الكلاشنكوف اطلقت عندما كان ميتا او يحتضر.
                                وقد اثار هذا التصريح التكهنات بأن الرئيس اليندي ربما قُتل على ايدي احد الجنود او القناصة او حتى أحد مساعديه.
                                وقد أمر قاضي تحقيقات باستخراج رفات اليندي وتشريحها كجزء من تحقيق لمنظمة تعني بحقوق الإنسان، وتحديد ما إذا كان مات انتحاراً أم اغتيالاً، وجاء في التقرير أن "التحليل يؤكد أن سبب وفاة هو ما ورد سابقاً، وأن السبب هو الانتحار".
                                ويؤيّد بابلو نيرودا نفسه هذه الرواية، إذ كتب بعد مقتل اليندي بثلاثة أيام: "لقد تم اخفاء حقيقة اغتياله. كان يجب قتله لأنه ما كان ليستقيل من الرئاسة."

                                شُبهة في اغتيال الديكتاتور لـ "بابلو نيرودا":
                                ولسنوات وسنوات، قيل للتشيليين إن شاعرهم الكبير "بابلو نيرودا" قد توفي بعد ذلك بـ 12 يوما نتيجة عجز القلب المتأتي عن سرطان البروستات الذي كان يعاني منه. لكن الكثيرين يظنّون أنّه اغتيل أيضاً.
                                وفي حالة نيرودا، تعتمد الادلة على إفادة شاهد واحد، هو "مانويل ارايا" الذي كان مساعداً شخصيا للشاعر الكبير في آخر سنيّ عمره،. يقول "إرايا" إنه في الثالث والعشرين من سبتمبر، اتصل نيرودا بزوجته من المستشفى ليخبرها انه حقن بمادة غريبة اثناء نومه، ولكن زوجة نيرودا اعتبرت هذا القول هراءً .
                                ولكن من ناحية اخرى، على الذين يستخفّون بهذه الادعاءات ويعتبرونها نظريات مؤامرة لا أساس لها ان يتذكروا تاريخ تشيلي في السنوات الأخيرة.
                                ففي عام 2009، اتُهِم ستة اشخاص بقتل "ادواردو فراي" سلف الليندي في الرئاسة. فقد اُدخل فراي الى المستشفى عام 1981 اثناء ديكتاتورية بينوشيه لاجراء عملية جراحية روتينية، ولكنه لم يخرج حيّاً. وتعتقد أسرته أنّه سُمّم بغاز الخردل.
                                وفي ديسمبر / كانون الاول، نُبش رفات وزير داخلية الليندي "خوزيه توها" عندما تقرّر إعادة التحقيق في وفاته عام 1974، حيث كان الجيش قد قال إنه انتحر شنقاً في المستشفى بينما تُصِرّ أسرته على أنّه قُتل.

                                خطّة الشيطان الأمريكي الدمويّة تنطلق:
                                بعد مقتل الرئيس ألندي أعلن جنرالات الجونتا بقيادة الجنرال "أوغستو بينوشيه" استلامهم السلطة، وأصدروا قراراً بإلغاء الصحف، واستمر القتال لبضعة أيام في الأحياء العمالية والورش والمصانع بين الجيش من ناحية والعمال ورافضي الانقلاب العسكري من ناحية أخرى. قام العسكريون القتلة بجمع آلاف من المواطنين الشيليين المدنيين المعارضين في الملعب الرياضي الرئيسي (ناسيونال) في سانتياغو العاصمة، وبدأوا بتعذيبهم وقتلهم ورمي جثثهم في الشوارع (وهذه هي الطريقة الأمريكية المفضّلة وبمكن للسيّد القارىء مراجعة الحلقات السابقة) . وكان من بين من قاموا بتعذيبه ثم "فرم" يديه وقتله ورمي جثته خارج الملعب هو البطل الشعبي والمغني الشيلي الشهير "فيكتور خارا" الذي سيُسمّى الملعب باسمه بعد سقوط الطاغية بينوشيه .
                                دمّر الهجوم أعرق الديمقراطيات وأكثرها حيوية في أمريكا اللاتينية وهذا بـ "حرص" من الولايات المتحدة على الديمقراطية طبعاً، وأقام بدلا منها نظاما للتعذيب والاضطهاد كانت أداته الرئيسية جهاز الشرطة السرية (DINA) الذي كانت تشبّهه المخابرات المركزية بجهاز الكي جي بي السوفيتي والغستابو النازي . وفي غضون ذلك انبرت واشنطن تساند بحزم وقوة نظام حكم بينوشيه القائم على العنف والإرهاب . فبعد أن زُجّ بالآلاف في السجون، بدأت المساعدات الإقتصادية التي ألغيت سابقا بالتدفّق فورا (قامت الولايات المتحدة بتخفيض المعونات الاقتصادية من 80 مليون دولار عام 1969 إلى 3.8 مليون دولار عام 1973، فضلاً عن الضغوط التي مارستها على المؤسسات الدولية، وعلى رأسها البنك الدولي لوقف أي قروض للحكومة التشيلية).
                                بلغ العدد الرسمي لضحايا 11 أيلول/ سبتمبر 1973، 3200 قتيل، أما العدد الفعلي فيُقدّر عادة بحوالي ضعف هذا الرقم . وبالتناسب مع عدد السكان يكون الرقم المناظر له في الولايات المتحدة ما بين 50000 و 100000 قتيل، وقد وجد تحقيق رسمي أجري بعد انقضاء ثلاثين عاما على الإنقلاب أدلة ثبوتية على حصول 38000 حالة تعذيب أي ما يناظر نحو 700000 حالة في الولايات المتحدة . وسرعان ما تحرّك بينوشيه لادماج ديكتاتوريات عسكرية أخرى مدعومة أميركيا في أمريكا اللاتينية ضمن برنامج عالمي لإرهاب الدولة يدعى "عملية كوندور" . فقد كان لدى حكومة بينوشيه الديكتاتورية برنامجان إرهابيان لقتل معارضيها هما: كوندور وكولومبو، وقد عاث البرنامجان قتلاً وتعذيبا دونما شفقة أو رحمة ضمن نطاق المنطقة وتشعب إلى عمليات إرهابية في أوروبا و الولايات المتحدة . فما هي عملية كوندور؟

                                ما هي عمليّة كوندور؟
                                عملية كوندور جرت تحت رعاية وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وهي حملة من إرهاب الدولة تضمّنت عمليات استخبارية واغتيالات للمعارضين رسمياً في عام 1975 من خلال ديكتاتوريات الجناح اليميني في أمريكا الجنوبية . كان هدفها اجتثاث كل معارضة ضد هذه الحكومات . ويُقدر عدد ضحايا هذه العملية أكثر من 60000 ضحية . وقد ساهمت فيها حكومات الأرجنتين، تشيلي، أورغواي، بوليفيا، والبرازيل . وساهمت فيها حكومتا البيرو والإكوادور أيضاً بصورة غير مباشرة . وقد قدّمت الولايات المتحدة المساعدات العسكرية والتقنية للمشاركين حتى عام 1978 وخصوصا في ظل حكومة كارتر (كارتر المسيح الجديد المُدافع عن حقوق الإنسان وهو القاتل الشرس كما سنرى في حلقة مقبلة) .

                                وما هي عمليّة كولومبو؟:
                                اما العملية الثانية فتُعرف باسم عملية كولومبو التي نُفِّذت عام 1975 والتي قتل خلالها (119) معارضا تشيليا.
                                بدأ نظام بينوشيه بملاحقة خصومه السياسيين من المنتمين لتيار اليسار والمتعاطفين معهم عن طريق ما عُرف آنذاك بـ "قوافل الموت"، وهي عبارة عن عمليات عسكرية مُمنهجة لاستئصال المعارضة السياسية خلال الشهور الأولى من الحكم الديكتاتوري، والتي أدت إلى إعدام حوالي (75) من رموز المعارضة خلال شهر واحد فقط من الانقلاب.
                                كذلك أنشأ بينوشيه وحدة استخباراتية خاصة، عُرفت بالإدارة الوطنية للاستخبارات (DINA) كما قلنا، وعُهد إليها بعمل ملفات حاسوبية لكل المعارضين ونشر الرعب في البلاد من خلال القيام ببعض العمليات السرية المنظمة. وكشفت وثائق رُفِعت عنها السرّية من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في سبتمبر عام 2000 عن أن رئيس "دي أي إن أيه" "مانويل كونتريراس" في عام 1975 كان "قد استخدم من قبل أصول ماليّة لوكالة المخابرات المركزية". جهاز الـ "دي أي إن أيه" كان ضالعا في عملية كوندور، وكذلك عملية كولومبو.
                                في تموز / يوليو 1976، نشرت مجلتان في الأرجنتين والبرازيل أسماء 119 من المعارضين اليساريين الشيليين، وزعمتا أنهم قد قُتلوا في نزاعات داخلية ولا علاقة لنظام بينوشيه بمقتلهم. تلكما المجلتان سوف تختفيان بعد هذه القضية الوحيدة فقط. سأل القاضي "خوان جوزمان تابيا" في النهاية القضاة التشيليين لرفع الحصانة عن بينوشيه في هذه الحالة التي سُمّيت بـ " عملية كولومبو ". وبعد أن تراكمت الأدلة ظهر أن بينوشيه أمر "دي أي إن أيه" بزرع هذا التضليل، وذلك للتستر على" الاختفاء "والقتل من قبل الشرطة السرية التشيلية لهؤلاء الـ 119 معارضاً. في ايلول / سبتمبر 2005، قبلت المحكمة العليا في شيلي رفع الحصانة عن بينوشيه بشأن هذه القضية. القاضي فيكتور مونتيجليو، الذي تولى القضية بعد خوان جوزمان تابيا تقاعد قبل بضعة أشهر. وهذا القاضي، ويدعم من قوانين العفو العسكرية، كان قد منح العفو لمانويل كونتريراس، رئيس الجهاز، والذي كان قد حُكم بعقوبة السجن في عام 2004 في محاكمة عملية كولومبو.
                                عملت "دي أي إن أيه" مع وكلاء المافيا الدوليين، مثل مايكل تاونلي، واغتالت الوزير التشيلي السابق "اورلاندو ليتيليير" ومعاونه في واشنطن العاصمة في عام 1976، وكذلك الجنرال "كارلوس براتس" في بوينس آيرس، الأرجنتين، في عام 1974. ووفقا لوثيقة سرّية رُفعت عنها السرّية في عام 2000، ذكر مايكل تاونلي: "كانت هناك اجتماعات بينه وبين مانويل كونتريراس، والديكتاتور بينوشيه، والإيطاليين في إسبانيا بعد وفاة فرانكو. كما أنها نفذت العديد من عمليات التجسس العسكري في أوروبا وفي بيرو والأرجنتين ". وصف مايكل تاونلي العديد من الاجتماعات بين بينوشيه والجواسيس والارهابيين الإيطاليين فضلا عن لقاءات بينوشيه مع الكوبيين المناهضين لكاسترو .
                                عمل مايكل تاونلي مع "يوجينيو بيريوس" على إنتاج غاز السارين في عام 1970، كان في بيت تابع لـ "دي أي إن أيه" في حي لو كورو، سانتياجو دي شيلي. "يوجينيو بيريوس" هذا اغتيل في عام 1995، وكان أيضا مرتبطاً مع مهرّبي المخدرات وعناصر من وكالة مكافحة المخدرات الأميركية.
                                تصوّر عناصر من وكالات استخباريّة تصنّع اسلحة كيمياوية في البيوت !!!
                                هل يتم هذا دون علم الوايات المتحدة الأميركية؟!

                                ما الذي حقّقه بينوشيه؟:
                                بدأ أوغستو بينوشيه عهده العسكري بقتل الرئيس، وتعليق الدستور، وأعلن المجلس العسكري حاكما لتشيلي واستمر حاكماً سبعة عشر عاماً، كان فيها العدوّ الأول لكل مفكري وكتّاب أمريكا اللاتينية. وحرّم الأحزاب السياسية اليسارية التي شكلت تحالف ألليندي الحاكم، منع أي نشاط سياسي، ومارس الإرهاب السياسي. طارد اليساريين في كل أنحاء البلاد، ونتيجة لأفعال المجلس العسكري، قُتل أكثر من ثلاثة آلاف تشيلي أو اختفوا، كما عُذب وسُجن أكثر من سبعة وثلاثين ألفاً، ونُفي الكثيرون، أو هربوا طالبين اللجوء السياسي، ومنهم السياسية التشيلية "إيزابيل ألليندي – بوسي" ابنة سلفادور ألليندي، والروائية التشيلية الأعظم "إيزابيل ألليندي يونا" ابنة أخيه. وشهد عهده اغتيال الجنرال "عمر توريخوس" رجل بنما، والذي كان عائقاً في وجه الهيمنة الأمريكية الشاملة على القناة، وشكل مع نوريجا الحاكم البديل لبنما ورافاييل ليونداس تروخيليو حاكم الدومينيكان أسوأ وجوه الديكتاتورية التابعة لأمريكا في عالم شهد ديكتاتوريات عديدة، كسالازار في البرتغال، وفرانكو في إسبانيا، وتشاوشيسكو في رومانيا.

                                طريق بينوشيه: طريق "فتيان شيكاغو" إلى الإشتراكية:
                                تبنّى بينوشيه الطروحات الاقتصادية الرأسمالية، واقتصاد السوق المفتوح، وأعلن صراحة بأنه يطمح لـ: "جعل تشيلي أمة من رجال الأعمال، لا البروليتاريين"، ولتنفيذ سياسته اعتمد في رسم اقتصاده على "فتيان شيكاغو – Chicago boys" كما يُلقّب تكنوقراطيو تلك التجربة المدّعون من خريجي الجامعات الأمريكية، المتأثرون بسياسات "ميلتون فريدمان" (منظّر اقتصادي أميركي رأسمالي) الاقتصادية، ومن تلامذته في الدراسة الجامعية بجامعة شيكاغو الذين تولّوا بعد ذلك التخطيط وإدارة الملف الاقتصادي لتشيلي، بتكليف من الجنرال.
                                أطلق بينوشيه عصر إلغاء التنظيم، والخصخصة الاقتصادية، ولإنجاز أهدافه، ألغى الحد الأدنى من الأجور، أبطل حقوق اتحاد العمال، خصخص نظام الراتب التقاعدي، والصناعات الرسمية، والبنوك، وخفض الضرائب على الثروات والأرباح.
                                مؤيدو هذه السياسات (من بينهم ميلتون فريدمان نفسه) لقّبوه بـ "معجزة تشيلي"، بسبب 35% من الزيادة لحصة كل فرد في الناتج المحلي الإجمالي من 1960 إلى 1980.
                                ويعارض المعارضون مثل "نعوم تشومسكي" (المفكر العالمي الحر، والمشهور بتأملاته في الحالة الأمريكية المعاصرة، الذي وصل العداء بينه وبين سدنة الإمبراطورية الأمريكية إلى حد مُطالبة البعض بتجريده من جنسيته الأمريكية) هذه العناوين، مشيراً إلى أن معدل البطالة ارتفع من 4.3% في 1973 إلى 22% في عام 1983، بينما هبطت الأجور الحقيقية بنسبة 40%.
                                الخصخصة، تخفيض الإنتاج الوطني، وسياسات العمل الحرة، كلها أثر سلباً على طبقة تشيلي العاملة، لكنه حتماً أراح الطبقة الثرية وأطلق لها المجال لتثري دون حد.
                                تُعبر إيزابيل ألليندي عن هذه الحالة في رواية بيت الأرواح على لسان الحفيدة بالقول: " "لم يكن جدي قادراً على متابعة ثرواته، كان يكفي أن يتركها في البنوك لتتضاعف وحدها".
                                فالمجلس العسكري برئاسة الجنرال أوغستو بينوشيه أمر برفع سعر الخبز من 11 إلى 40 إسكودو، بزيادة كبيرة جدا وفي زمن قياسي، وصلت إلى 264٪. هذا "العلاج بالصدمة الاقتصادية" قد تم تصميمه من قبل مجموعة "شيكاغو بويز" كما قلنا . ففي الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار المواد الغذائية بنسب خيالية، تم تجميد الأجور لضمان "الاستقرار الاقتصادي ودرء الضغوط التضخمية". فبين عشية وضحاها دخلت شيلي في براثن الفقر. في أقل من سنة ارتفع سعر الخبز في شيلي ستة وثلاثين مرة 3700٪. كما أنه بفضل الانقلاب العسكري الأمريكي أصبح 85% من الشيليين يعيشون تحت خط الفقر باسم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
                                في عهد بينوشيه سيطرت الشركات المتعددة الجنسيات على الاقتصاد . بيع القطاع العام إلى الخاص والشركات المربحة إلى هذه الشركات . قدمت الدولة 600 مليون دولار لدعم المستثمرين خلال خصخصة المشاريع الحكومية خصوصا المُدارة جيداً والناجحة والتي تُقدم فائضا، وخفض هذا الناتج الحكومي بمقدار 100 – 165 مليون دولار . خلال 1980 لم يصل الناتج المحلي الخام للفرد إلى ما كان عام 1970 (وقت أليندي) . هبطت الرعاية الصحية للنصف في فترة 1973 – 1985 . فانفجرت أمراض الحُمّى التيفية والتهاب الكبد الفيروسي . ومنذ 1973 انخفض استهلاك الـ 20% الأكثر فقرا في تشيلي بمقدار 30% وازداد استهلاك الـ 20% الأكثر غنى بمقدار 15% . تُقدم المشافي الخاصة خدماتها للأغنياء، وتعطي المشافي العامة مواعيد للأمّهات الحوامل تصل شهورا طويلة وتصف لهن أدوية لا يستطعن شراءها . أما التعليم الذي كان مجانيا أيام اليندي فقد أصبح مُكلفاً . وتُعتبر سانتياغو العاصمة أكثر المدن تلوّثا في العالم، وذلك حسب الشعار القائل "إنتج، إنتج، إنتج" وليكن ما يكون، حيث أقذر المصانع في العالم . لقد تلوثت مياه الشرب ودُمّرت البيئة، وتم "جعل الإقتصاد يبكي" كما صرّح بذلك الأميركيون . وازدادت نسبة السكان الذين تراجعوا إلى ما دون خط الفقر (أي الدخل الأدنى الضروري لأساسيات الطعام والسكن) من 20% إلى 44% منذ عام 1987 .

                                دور الطغاة العسكريين يُسلّم للتكنوقراط بإشراف البنك الدولي !:
                                بفضل الطغاة العسكريين، أصبح اقتصاد امريكا اللاتينية ذا اتجاه واحد، تحيط به تبعية سياسية بسبب قوة الضغط السياسي على السلطات، الذي يتمثل أحيانا كثيرة برفض الاقراض، أو العزوف عن الاستثمار بتوجيه من النك الدولي وإحصائياته .
                                وتابعت الولايات المتحدة، بعد ذلك هدفها في تحقيق حرّية السوق، بوسائل أخرى، غير استخدام الطغاة العسكريين . لقد أصبح مقبولا، وصول حكام منتخبين إلى السلطة، مع استبدال الارهاب الحكومي بالفساد . وهكذا شهدنا ارتقاء قادة منتخبين كراسي الحكم مثل كولور في البرازيل، ومنعم في الارجنتين . وبعد استبدال الجنرالات الخونة، طُلِب إلى الحكام الجدد من التكنوقراط مهمة واحدة هي أن يقوموا بتسديد القروض وفوائدها التي عقدها الطغاة العسكريون ونسيان جرائمهم .

                                بينوشيه يحقّق الخراب الشامل:
                                منذ قيام الانقلاب العسكري التشيلي المدعوم من الأقلية المحلية ووكالة المخابرات المركزية C.I.A في 11 أيلول 1973 ضد الرئيس الليندي تم تدمير مجالس النقابات. واستبدل تدريجياً القطاع الصناعي الذي لم يكن مُوجّهاً نحو التصدير أي لم يكن جزءاً من نظام حصص البنك الدولي للعمل بصناعات معتمدة من قبل صندوق النقد الدولي حسب متطلبات واشنطن. أدّت الدولة الديكتاتورية إذاً مهمتها فضمنت عن طريق التواجد البوليسي حرية العمل وامتيازات الأغنياء في حين أن القرارات السياسية المُفرغة من بعدها الاجتماعي كانت تُتخذ خارج البلاد. كان على البلاد أن تواجه عملياً مشكلة انسجام اجتماعي هش. وبالنظر لمعدل وجود المشاريع المتدني بعد بوليفيا (15%) فإن أكثر من 30% من الشعب يعيش تحت عتبة الفقر حتى لو كان عدد الفقراء في خمس سنوات تراجع من 5 ملايين إلى 4 ملايين. ولم يترافق نجاح النخبة الاقتصادية أبداً مع توزيع عادل للأرباح. وقد تمت التضحية بقطاعات الخدمات العامة التي تشكّل الهدف المفضل لصندوق النقد الدولي لصالح زيادة العائدات. لهذا السبب لم يعد القطاع الصحّي يكلّف أكثر من 1.2% من الناتج المحلي الصافي في الوقت الذي كان يتمتع بـ 3.2% منه أيام الليندي، وكانت تُحسم النسبة 1.2% من المشتركين في الضمان. رغم تبديل نظام الضمان الاجتماعي الذي أُسِّس عام 1952 بنظام آخر عام 1981 وأصبح يعتمد على الاشتراكات الفردية الخاصة، لذا كان هناك نظام طبي له اتجاهان. ففي حين أن 23.7% من الشعب كانوا يتمتعون بالخدمات الطبية الخاصة (كانوا يعتبرون إذاً زبائن لا مرضى) ويتصرّفون بـ 230 دولار سنوياً من العلاج للفرد، كان هناك 63.4% يكتفون بالقطاع الصحي العام الذي لا يُنفق أكثر من 130 دولار، فكانت له خدمات طبية بالحدود الدنيا ومتواضعة. في عام 1996 حدثت مجابهات في داخل اليمين بسبب قضايا مؤسساتية وضعت الرئيس "إدوارد فري Eduardo Frei" في موقع صعب. فإن كانت النتائج الاقتصادية تدعو للتفاؤل كـ "أرقام" إلّا أن عدم المساواة لم تنخفض نسبته مع سوء للتوزيع لم يسبق له مثيل. ولم تشكل البرامج التي وضعتها الحكومة لمكافحة الفقر المدقع إلّا علاجاً آنياً.
                                أما رقم الديون في التشيلي أثناء حكم بينوشيه فكان ١٥٠٠ دولار لكل مواطن . ولكن بينوشيه يحتفظ بسجل آخر أيضاً، فقد حقق اوسع وأشمل حرية لاقتصاد السوق بما فيها سوق العملات، من خلال نظام خصخصة مهيأ بذلك شروطا مثالية شاملة للشركات متعددة الجنسيات لتتسلط على اقتصاد البلاد . واستطاع أن يحقق ذلك بضمانة "الديمقراطية الأمريكية " العظيمة . واستطاعت سيطرة صندوق النقد الدولي أن تتجذّر بدون مخاطر في هذه البلاد التي قيّدتها الديون، وأصبح اقتصادها في أيدي مؤسسات أجنبية . ويستطيع صندوق النقد الدولي أن يفرض دون عواقب نظام "تنمية أكثر ملائمة للمتروبول العالمي "، ليس على العالم الثالث فقط، بل على العالم كله: ويتمثل هذا التوجه بتنمية زراعات أحادية، ومنتجات أحادية، والتراجع عن الزراعات الحيوية والحرف الوطنية التي تؤمّن للمواطنين قوت يومهم، وتتحقق بذاك التبعية، والاستغلال المتزايد لليد العاملة، وتفاقم الديون، بسبب تضخم الاستيراد . والنتيجة الإجمالية، نتيجة قاطعة: فمنذ بداية الثمانينات، انخفض دخل الفرد في أمريكا اللاتينية ١٥ % وفي أفريقيا ٢٠% ويحمل نظام الهيمنة هذا اسما شائعا هو "خطة التصحيح البنيوي " وبموجبها لا تُمنح القروض والمساعدات إلا في ظل شروط سياسية قاسية . وعندما تُطبّق برامج صندوق النقد الدولي بحرفيتها في بلد ما، تتمتع حكومته حينئذ بالمعاملة المتميزة من جانب الولايات المتحدة واتباعها الأوروبيين. وهذا ما حقّقته الولايات المتحدة لشعب شيلي من "معجزات".
                                والمشكلة أن كل هذا الأرث الثقيل سوف يكسر ظهر الشعب الشيلي بعد رحيل الديكتاتورية، ولكن في ظل خطط "عقلانية" جديدة يضعها التكنوقراطيون.

                                الديكتاتور بينوشيه حبيب حماة الديمقراطية: ريغان وتاتشر:
                                وخلال كل هذه الجرائم البشعة وإلى زمن طويل بعدها، كان بينوشيه محل تشريف كبير من جانب رونالد ريغان ومارغريت تاتشر على وجه الخصوص، إنما على نطاق أوسع من ذلك بكثير . كانا يستقبلانه في مقرّاتهما الرئاسية بكل حفاوة واحترام ويشيدان به وبجهوده الديمقراطية . غير أن اغتيال الدبلوماسي التشيلي المحترم "أورلاندو لتولييه" قائد المعارضة التشيلية في قلب واشنطن العاصمة عام 1976 كان يتعدى الحد المسموح به فكان أن عُلّقت "عملية كوندور" . لكن السمّ استمر بالإنتشار . ولسوف تقع اشنع الفظائع بعدُ في الأرجنتين، هذا إلى جانب امتداد إرهاب الدولة إلى أميركا الوسطى على أيدي المسؤولين يومها في واشنطن ومرشديهم المباشرين .

                                بينوشيه مكروه المثقفين:
                                ومنذ بدايته، كسب بينوشيه عداء كُتاب أمريكا اللاتينية الأشهر، كالحائز على نوبل الكولومبي "غابرييل غارسيا ماركيز" الذي كتب كتاباً عن نظامه أسماه (مهمة سرّية في تشيلي)، واستلهم سيرته في روايته الشهيرة (خريف البطريرك). وكذلك الروائية التشيلية الأعظم "إيزابيل ألليندي" التي استعادت انقلابه العسكري في روايتها (بيت الأرواح) وكتبت عن فظائع نظامه، بالإضافة إلى البيروفي "ماريو بارغاس ليوسا"، وحتى الكاتب الإنجليزي الشهير "غراهام غرين" الذي كان من أكبر مُعاديه، وبإيجاز، كان بينوشيه ونظامه العدو الأكبر للصف الأول من المثقفين والأدباء العالميين. ولم يفعل هو ما من شأنه تخفيف هذا العداء بل إنه أمعن في تحويل تشيلي إلى سجن كبير.

                                ديكتاتور .. حتى الموت:
                                على الصعيد الدستوري قام بينوشيه بإجراء عدد من التعديلات على دستور 1925 (كان هذا الدستور إحدى العقبات الهامة أمام التحولات البنيوية في السنوات الثلاث التي أمضاها سلفادور أليندي في الحكم)، وبالفعل صدر الدستور الجديد في عام 1980، وبالرغم من أنه تضمّن العودة إلى المسار الديمقراطي، إلا أنه ضمن فترة رئاسية جديدة (ثماني سنوات مقابل ست سنوات في دستور 1925) لبينوشيه، يعقبها استفتاء على ولايته لفترة أخرى، أو في حال فشله (وهو ما حدث) تجرى انتخابات رئاسية تنافسية للرئاسة والبرلمان معًا عام 1989، وتنصيب الإدارة الجديدة للبلاد عام 1990. كذلك تضمّن هذا الدستور تحصين بينوشيه ضد التقاضي، وذلك بالنص على "تنصيب الرئيس كسيناتور بالكونجرس التشيلي مدى الحياة بعد انقضاء ولايته الرئاسية"، إلا أن التعديلات الدستورية التي أجريت عام 1990 ألغت هذه المادة.
                                لكن البلاد التي كانت تمور بالكراهية لنظام بينوشيه، والضغوط الدولية المتزايدة، أعادت القاعدة المدنية إلى البلاد، منذ العام 1988، حين رفض الكونجرس إقرار دستور يتيح لبينوشيه حكم البلاد طوال حياته، وفضل بينوشيه الذي كان لا يزال محتفظاً بنفوذه الكبير سياسياً وعسكرياً أن يتنازل عن رئاسة البلاد لـ "باتريشيو أيلوين" الرئيس المنتخب ديموقراطياً عام 1989، وذلك في العام 1990، لكنه حافظ على منصبه كقائد للجيش حتى 1998، حين أخذ مقعداً في مجلس الشيوخ طبقاً لتعديلات دستورية أقرّت في 1980 وبموجبها يتمتع الرئيس السابق بحصانة دائمة حين يتحوّل إلى عضويّة مجلس الشيوخ آليّاً .

                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                x

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة

                                اقرأ في منتديات يا حسين

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 09:44 PM
                                استجابة 1
                                10 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                                بواسطة ibrahim aly awaly
                                 
                                أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 07:21 AM
                                ردود 2
                                12 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                                بواسطة ibrahim aly awaly
                                 
                                يعمل...
                                X