قريباً من النهاية .. نبوءة ألليندي تتحقّق:
في مايو 1983 بدأت المعارضة والحركات العمالية بتنظيم الإضرابات والعصيانات المدنية، وأثارت هذه الحركات ردود فعل عنيفة من قبل مسؤولي تشيلي الحكوميين. في 1986 اكتشفت قوات الأمن مخزناً للأسلحة التي هُرّبت إلى البلاد بواسطة جبهة مانويل رودريغز الوطنية (FPMR)، الجناح العسكري للحزب الشيوعي المحظور.
في سبتمبر من العام ذاته، استُخدم بعض من هذه الأسلحة في محاولة فاشلة لاغتيال الديكتاتور بينوشيه قامت بها جبهة مانويل رودريغز الوطنية. وعلى الرغم من نجاة بينوشيه بجروح طفيفة، إلّا أن خمسة من حراسه الشخصيين العسكريين قُتلوا في المحاولة. قبل ذلك بأيام كان الديكتاتور قد توعّد معارضيه بتصريح قال فيه: "نبقي عيوننا مفتوحة على بعض السادة." وتلت محاولة الاغتيال الفاشلة اغتيالات لمعارضي الديكتاتور.
أدّى قطع رؤوس الشيوعيين الثلاثة: خوسيه مانويل بارادا، مانويل غويريرو، وسانتياغو ناتيني من قبل الشرطة العسكرية (الكارابينيروس) إلى استقالة الجنرال ميندوزا من الزمرة في 1985. و طبقاً لدستور 1980 الانتقالي، والذي صوت له 75% من الناخبين، نُظم استفتاء غير اعتيادي، وغير ديموقراطي لصالح بينوشيه كمرشح أوحد، غير أن المحكمة العُليا حكمت ببطلانه، ونظّمت عملية الانتخاب والتصويت، وحدّدت أوقات الإعلانات التلفزيونية، المجانية والمشروطة بوقت وقواعد معينة. كنتيجة لقرار المحكمة نشرت المعارضة بقيادة ريكاردو لاغوس إعلانات مستبشرة وزاهية تحرّض الناس على رفض بينوشيه، ووجد بينوشيه نفسه مُطالباً بالإجابة عن أسئلة تتعلق بالذين اختفوا، وقُتلوا، أو عُذبوا. في الاستفتاء العام، ربح محامو (لا) التصويت بنسبة 55% مقابل 42% قالوا (تعم)، وبناء على نتائج الاستفتاء كان على بينوشيه أن يرحل عن السلطة، وحكمت المحكمة العليا بانتخابات الكونجرس في العام التالي، وتلتها الانتخابات الرئاسية العامة التي فازت بها الطبيبة "باتريشيو آيلوين"، وفي الحادي عشر من مارس 1990 ترك بينوشيه رئاسة الدولة.
إبنة الضحيّة تهزم الجلّاد:
لقد خاضت الانتخابات التي أطاحت ببينوشيه سيّدتان: الأولى هي "إيفلين ماتيل" ابنة الجنرال فرناندو ماتيل، الذي اشترك في انقلاب بينوشيه، وعمل معه طوال مدة حكمه، والثانية المتقدمة على الأولى هي الطبيبة "ميشيل باتشيلي"، ابنة الجنرال ألبرتو باتشيلي، الذي رفض الانقلاب على الليندي، فاعتقله الطغاة وأودع السجن في 11 أيلول / سبتمبر عام 1973، وعذّبه نظام بينوشيه في السجن حتى الموت. واعتقلت ميشيل باتشيلي ووالدتها وعُذّبتا، وأبعدتا، فهربتا إلى استراليا، ثم إلى ألمانيا الديمقراطية آنذاك، وظلّت ميشيل منفيّة في الأرجنتين 16 عاماً .
وفي ذكرى الانقلاب قالت باتشيلي وسط دموعها: إن الجروح لم تندمل بعد. وقرظت «أولئك اليمينيين» الذين لم يعتذروا بعد ولم يعترفوا بمسئوليتهم عما جرى في عهد بينوشيه. ومن بين تلك الجروح بالطبع، جرح غائر سبّبته أمريكا.
النهاية السوداء، الديكتاتور في قفص الإتهام:
في عام 2002، سافر رجل تشيلي القوي، الحاكم الديكتاتور العجوز الذي بقي يتمتع بنفوذ هائل على الحياة السياسية في تشيلي إلى بريطانيا لإجراء فحوص طبية، وبينما كان هناك، أعتقل بتفويض قضائي أصدره القاضي الإسباني "بالتاسار جارسون"، وبقي قيد الإقامة الجبرية لأكثر من سنة، قبل أن يتم إطلاق سراحة لأسباب طبية، عاد إلى تشيلي، وترك مقعده كسيناتور، بعد قرار من المحكمة العليا بأنه يعاني من ((خَرَف وعائي)) لا يمكن معه أن يُحاكم لأفعاله، ثم في آيار من عام 2004 حكمت محكمة تشيلي العُليا بناء على تصرفاته بإنّه قادرٌ على الصمود في محاكمة، وبدأت محاكمته في كانون الأول من العام نفسه لتهم تتعلق بحقوق الإنسان.
لقد سقطت حصانته باعتقاله في لندن. وتسبّبت في بدء محاكمته والتنقيب في حساباته في الخارج حيث اكتشفت حساباته في الولايات المتحدة بملايين الدولارات من أموال شعب تشيلي.
كيسنجر يدعو لاجتثاث الشعب لصالح الديمقراطية:
وعندما نَقَل السفير الأمريكي صورةً عن التعذيب الذي يجري هناك إلى كيسنجر صار الأخير عصبيّاً ووبّخه قائلا:
"لا تُلقي عليّ محاضرات من هذا النوع بعد الآن، فلا يهمنا التعذيب".
ما كان يشغله هو منع انتقال العدوى إلى أماكن أخرى منها جنوب أوروبا حيث الأحزاب الإشتراكية الأوروبية . وقال كيسنجر:
"يجب علينا التأكد من مقدرتنا على الفصل بين نظام الإدارة والسياسة . فإذا كان الناس لا يحسّون بالمسؤولية، يجب، عندها، اجتثاثهم من النظام" .
وهذا يتفق تماماً مع قول كيسنجر السابق عن عدم شعور الشعب الشيلي بالمسؤولية !!
الشيطان الأميركي يعترف، ولا يعتذر ولا يحاسبه أحد كالعادة:
بعد ان تولّى الجنرال "بينوشيه" السلطة في شيلى أخبر وزير الخارجية الأمريكية هنرى كيسينجر – وهو السفّاح القاتل وأوقح وأشرس كذّاب في السياسة الدوليّة كما سنرى مستقبلاً الرئيس الامريكى بأنّ الولايات المتحدة لم "تفعلها"، ولكنها ساعدت بتهيئة الظروف للقيام بالانقلاب. مؤخّرا في فترة تولى بيل كلينتون للرئاسة الأمريكية تمّ رفع السرّية عن بعض الوثائق التي أكّدت سعي الولايات المتحدة للإنقلاب على سيلفادور أليندى في عام 1970 قبل توليه السلطة.
خلال فترة حكم بيل كلينتون التالية قامت المخابرات الأمريكية باصدار وثيقة تعترف فيها بلعبها دورا في الحياة السياسية الشيلية مباشرة قبل الانقلاب العسكرى في شيلى، وأن الولايات المتحدة لم تكن متورطة بشكل مباشر في عملية الانقلاب والتي كانت على علم به قبل يومين من الانقلاب.
كما أصدرت الولايات المتحدة مؤخرا وثيقة تعترف فيها بقيامها بلعب دور بصورة غير مباشرة في تمويل الإضراب الذي قام به سائقو الشاحنات والذي تفاقم ليخلق وضعا اقتصاديا فوضويا مباشرة قبل القيام بالانقلاب العسكرى.
وقد ثبت تمويل المخابرات الأمريكية لقتل الجنرال التشيلي "رينيه شنايدر"، الذي رفض تدخل الجيش لمنع الكونجرس التشيلي من تنصيب الليندي رئيسًا عام 1970، فضلاً عن مكافأتها للقتلة بأموال ضخمة بعد تنفيذ المهمة، وهو الدور الذي اعترفت به المخابرات الأمريكية رسميًّا، بعد افتضاح أمرها.
وبفضل الصحفي الأمريكي "بيتر كورنبلو" أُجبرت الحكومة الأمريكية على الإفراج عن (23000) وثيقة أخرى، كشفت الدور الذي لعبه البيت الأبيض والمخابرات الأمريكية في الانقلاب، حيث كشفت عن دور المخابرات في دعم نظام بينوشيه وتمويله سرًّا منذ اللحظة الأولى.
وكان موقف إدارة نيكسون من المذابح التي كان يرتكبها نظام بينوشيه، لا يزيد عن كلمات علنية جوفاء إذا ما اضطرت إلى ذلك، ثم مطالبته سرًّا "بالحذر لئلا تؤدي قضايا صغيرة بجعل تعاوننا أكثر صعوبة".
ومن أبرز ما كشفت عنه هذه الوثائق التمويلات الضخمة التي قدمتها الإدارة الأمريكية لإدواردو فيري، المرشح المنافس لأليندي، والتي بلغت 20 مليون دولار، وقيام الاستخبارات الأمريكية بعمليات تشويه دعائية ضد أليندي وتحالف الجبهة الشعبية أثناء السباق الرئاسي.
ولا رئيس أميركي اعتذر:
والحقيقة هي أنه ولا رئيس أمريكي واحد اعتذر عمّا قامت به بلاده من التدخل في شؤون الغير والإطاحة برئيس دولة مُنتخب ديمقراطيا. الحكومة الأمريكية ووسائل الإعلام تستخدم معايير مختلفة لقياس المعاناة. هذا هو بالضبط النفاق وهذه هي المعايير المزدوجة التي تجعل بقية دول العالم تدين وتستنكر سلوك الولايات المتحدة في أجزاء مختلفة من العالم. فحتى وسائل الإعلام مع الأسف الشديد تركز على أشياء وتهمل أشياء أخرى أكثر أهمية. فأجندة الأخبار الدولية تحدّدها إمبراطوريات إعلامية مرتبطة ارتباطا شديدا بالقوى العظمى ومصالحها السياسية والاقتصادية، بل هذه الإمبراطوريات الإعلامية أصبحت جزءا لا يتجزأ من الشركات المتعددة الجنسية وإمبراطوريات المال والأعمال والسياسة. فمن يُصدّق مثلاً أن شركة "جنرال الكتريك" هي التي تمتلك أشهر قناة أمريكية وعالمية هي الـ CNN !! (ستكون لنا وقفة مقبلة عند هذا الموضوع).
مدرسة الأميركيتين للإرهاب من جديد:
في أغلب الحلقات السابقة المتعلقة بالنشاط الإرهابي للولايات المتحدة الأميركية في أمريكا الجنوبية، تتكشّف لنا حقائق جديدة عن "مدرسة الأميركيتين" للتدريب العسكري التي كانت في بنما وطردها عمر توريخوس إلى الولايات المتحدة لتستقر في جيورجيا بعد أن بدأت الناس تسمّيها بمدرسة الإرهاب والإنقلابات (راجع الحلقات الخاصة ببنما وغواتيمالا وفنزويلا) .
فقد قيل الكثير عن معسكرات تدريب القاعدة في أفغانستان، وهي الأهداف التي قصفتها الطائرات الأميركية. لكن هذه المعسكرات رياض أطفال إذا ما قورنت بجامعة الإرهاب الرائدة عالمياً في فورت بيننغ بجورجيا كانت تعرف حتى عهد قريب باسم كلية الأميركيتين، وقد دربت نحو 60000 جندي وشرطي وشبه عسكري وعميل استخبارات من أميركا الجنوبية. وتخرج منها 40 بالمئة من الوزراء الذين عملوا في أنظمة الإبادة الجماعية لـ” لوكاس غارسيا وريوس مونت ومنحيا فيكتوريس في غواتيمالا”.
في سنة 1993 سمّت لجنة التحقيقات التابعة للأمم المتحدة في السلفادور الضباط الذين ارتكبوا أسوأ الفظاعات في الحرب الأهلية، وتبيّن أن ثلثيهم تدربوا في فورت بيننغ. ومنهم روبرتو دي أوبويسون، قائد فرق الموت وقتلة رئيس الأساقفة أوسكار روميرو ومجموعة من القساوسة اليسوعيين (راجع حلقة: صَلْب السلفادور) . وفي تشيلي، أدار خريجو الكلية شرطة بينوشيه السرية وثلاثة معسكرات اعتقال رئيسية. وفي سنة 1996، أجبرت الحكومة الأميركية على الإفراج عن نسخ من أدلة التدريب في الكلية. وكانت هذه توصي الإرهابيين الطامحين بالابتزاز والتعذيب والقتل واعتقال أقارب الشهود.
أعيدت تسمية الكلية لتصبح معهد نصف الكرة الغربي للتعاون الأمني، ويغفل موقع الكلية على الويب صفحات "التاريخ" .
كم 11 أيلول مُدمّر سبّبه الشيطان الأمريكي للشعوب؟:
نستنتج الآن أن هناك إثنين 11 أيلول: واحد في شيلي قُتل فيه رئيس مُنتخب وذُبحت فيه آمال شعب، وآخر في الولايات المتحدة ضُرب فيهمركز التجارة العالمي في نيويورك، وقد قلنا مراراً قبل سنوات، وكرّرنا أن الولايات المتحدة نفسها تقف وراء تفجير مركز تجارتها . والآن تتردّد أنباء عن أن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لديه معلومات مؤكّدة عن أن الإدارة الأميركية هي المسؤولة عن تفجير مركز التجارة العالمي. أنّ هذا الـ 11 أيلول الذي ضرب أمريكا وحشّدت الولايات المتحدة من أجله الجيوش وماكنة الدعاية الهائلة وأجبرت العالم كلّه على أن يبكي من أجل ضحاياها لم تجعل العالم يسمع ولو كلمة أويذرف دمعة عن سلسلة جرائمها الوحشية المدمّرة التي مزّقت بها الشعوب وقتلت أضعاف قتلى مركز التجارة، وكلّها حصلت في يوم 11 أيلول .
تقول "آمي جودمان" مؤلفة كتاب: "شوكة في حلق المتحكّمين":
(من المفارقات الغريبة ان احد الموضوعات التي كنا نتناولها حين كانت الطائرات تضرب مركز التجارة العالمي، هو العلاقة بين 11 سبتمبر والارهاب.. أعني 11 سبتمبر 1973 فهذا اليوم هو اليوم الذي قتل فيه سلفادور الليندي، الزعيم التشيلي المنتخب ديمقراطيا في قصره الرئاسي في سنتياجو حين استولى الجنرال أوجستو بينوشيه والجيش التشيلي على السلطة، وكانت قوات بينوشيه مدعومة من قبل ريتشارد نيكسون، الرئيس الأمريكي يومئذ، ووزير خارجيته هنري كيسنجر، كما كانت تتلقى الدعم المالي من شركتين متعددتي الجنسية تعملان في تشيلي هما "اناكوندا كوبر" و"آي تي تي" اللتان كانتا كلتاهما على صلة وثيقة بالإدارة الأمريكية الجمهورية).
وهذه سلسلة مآسي سبّبتها الولايات المتحدة في 11 أيلول ولم يلتفت إليها أحد تقدّمها المؤلّفة أيمي جودمان:
- 11 سبتمبر/ أيلول 1973 في التشيلي، حيث قُتل الرئيس سلفادور الليندي المنتخب ديمقراطياً خلال انقلاب عسكري عليه، مدعوم من المخابرات المركزية الأمريكية راح ضحيته 3 آلاف مواطن وتعرّض للتعذيب والإحتفاء أكثر من 30000 مواطن .
- 11 سبتمبر/ أيلول 1977 في جنوب افريقيا، حيث نُقل الزعيم المناوئ للتمييز العنصري "ستيفن بيكو"، مطروحاً على أرضية عربة للشرطة، فاقداً الوعي، مسافة ألف كيلومتر، الى بريتوريا، حيث أسلم الروح في اليوم التالي.
- 11 سبتمبر/ أيلول 1990 في جواتيمالا، حيث قُتلت عالمة الاجتماع الجواتيمالية "ميرنا ماك" على أيدي الجيش المدعوم من قبل الولايات المتحدة.
- 1113 سبتمبر/ أيلول 1971 في نيويورك، حيث حدثت انتفاضة في سجن اتيكا، التي قتلت فيها شرطة خيالة ولاية نيويورك 39 رجلاً، وجرحت 88 رجلاً آخر.
فهناك إذن اثنان 11 سبتمبر/ أيلول: الأول اعتدت أمريكا من خلاله على سيادة دولة مستقلة (11 سبتمبر 1973)، والثاني تم من خلاله الاعتداء على أمريكا (11سبتمبر 2001)، لكن للإعلام وصانعي الرأي العام رأياً آخر حيث إن سبتمبر الأمريكي يحظى بالإعلام والعلنية والحضور، وسبتمبر شيلي تناساه الزمن، وهناك القلة القليلة التي تعرف الحقيقة عنه.
تقريض رومانسي:
(لم يدخل الرئيس الشيلي سلفادور ألندي إلى التاريخ بسبب موته، بل جراء حياته. موته، وطّد الأسطورة. ونتيجة لحِسِّه السياسي وواقعيته التاريخية، استطاع أن يحقق رمزيا "رؤية مختلفة" في تبنّي الاشتراكية، إبان عهد بدأت تتضح معالم أزمة الاشتراكيات الواقعية.
مع هذا الموقف المعاكس، وللحفاظ على بقائه تحت وابل القصف، ورفضه الانهزام بدون مقاومة، حاول أليندي البحث عن أفضل مَخرَج سياسي. استبعد النفي، وهيّأ الجواب الأكثر ملاءمة، المُعبِر بشكلٍ جيّد عن مُثلِه العليا، ويُلزِم بالعواقب الأكثر شؤماً، من تسبّب في مأساة الشيلي. لقد أقدم على الإنتحار، فلوّث الجنرال بدمٍ سيبقى إلى الأبد جرحاً لن يندمل.
لحظة انتصار الجنرال، بدأ يطوي الخطوات نحو زاوية، انتهى بين أركانها إلى مجرد جندي بدون شرف، تملّص من واجباته، وأصبح يعيش اعتماداً على حِيَل أوجد لها كساءً شرعيا. هل حقّق شيئا؟ طبعا عمل على تسوية المجتمع الشيلي، لكنه لن يلامس أبدا قاعدة تمثال البطل .
لكن، لماذا تصرف بينوشيه، هكذا؟ لقد كان شرِهاً اتجاه سلطة لم يفوضها لها "الأب"، الذي عيّنه قائدا. هذا الاندفاع اللاواعي غير القابل للتحديد، قاده إلى ارتكاب خطأ: الخوف أكثر من أليندي حيا، قياسا لأليندي وهو ميت. هذا القتل الرمزي للأب، حقيقة جعل منها أليندي مصيراً. لكن، أليندي لم يمت، بل اختار موته الذاتي.
كما هو الحال في مسرحية جان بول سارتر، فقد أحدق الذباب بالجنرال بينوشيه، لذا سيتنكر له فيما بعد أتباعه وأنصاره. رفض ضباطه علانية انتهاكاته لحقوق الإنسان، وعليهم القيام بذلك من أجل تبرير شرعية ما للنظام. لقد أرادوا منّا، نسيان بأن هذا نتاج قوة ميكيافيلية لسلطة دون قيود، وكذا الرعب الذي ساد مع بينوشيه .
خسر أليندي أولى معارك الاشتراكية الجديدة، لكنه ليس وهما للاستهلاك، بل سيستمر رمز نضال يستعاد لاشتراكية الغد) .
في مايو 1983 بدأت المعارضة والحركات العمالية بتنظيم الإضرابات والعصيانات المدنية، وأثارت هذه الحركات ردود فعل عنيفة من قبل مسؤولي تشيلي الحكوميين. في 1986 اكتشفت قوات الأمن مخزناً للأسلحة التي هُرّبت إلى البلاد بواسطة جبهة مانويل رودريغز الوطنية (FPMR)، الجناح العسكري للحزب الشيوعي المحظور.
في سبتمبر من العام ذاته، استُخدم بعض من هذه الأسلحة في محاولة فاشلة لاغتيال الديكتاتور بينوشيه قامت بها جبهة مانويل رودريغز الوطنية. وعلى الرغم من نجاة بينوشيه بجروح طفيفة، إلّا أن خمسة من حراسه الشخصيين العسكريين قُتلوا في المحاولة. قبل ذلك بأيام كان الديكتاتور قد توعّد معارضيه بتصريح قال فيه: "نبقي عيوننا مفتوحة على بعض السادة." وتلت محاولة الاغتيال الفاشلة اغتيالات لمعارضي الديكتاتور.
أدّى قطع رؤوس الشيوعيين الثلاثة: خوسيه مانويل بارادا، مانويل غويريرو، وسانتياغو ناتيني من قبل الشرطة العسكرية (الكارابينيروس) إلى استقالة الجنرال ميندوزا من الزمرة في 1985. و طبقاً لدستور 1980 الانتقالي، والذي صوت له 75% من الناخبين، نُظم استفتاء غير اعتيادي، وغير ديموقراطي لصالح بينوشيه كمرشح أوحد، غير أن المحكمة العُليا حكمت ببطلانه، ونظّمت عملية الانتخاب والتصويت، وحدّدت أوقات الإعلانات التلفزيونية، المجانية والمشروطة بوقت وقواعد معينة. كنتيجة لقرار المحكمة نشرت المعارضة بقيادة ريكاردو لاغوس إعلانات مستبشرة وزاهية تحرّض الناس على رفض بينوشيه، ووجد بينوشيه نفسه مُطالباً بالإجابة عن أسئلة تتعلق بالذين اختفوا، وقُتلوا، أو عُذبوا. في الاستفتاء العام، ربح محامو (لا) التصويت بنسبة 55% مقابل 42% قالوا (تعم)، وبناء على نتائج الاستفتاء كان على بينوشيه أن يرحل عن السلطة، وحكمت المحكمة العليا بانتخابات الكونجرس في العام التالي، وتلتها الانتخابات الرئاسية العامة التي فازت بها الطبيبة "باتريشيو آيلوين"، وفي الحادي عشر من مارس 1990 ترك بينوشيه رئاسة الدولة.
إبنة الضحيّة تهزم الجلّاد:
لقد خاضت الانتخابات التي أطاحت ببينوشيه سيّدتان: الأولى هي "إيفلين ماتيل" ابنة الجنرال فرناندو ماتيل، الذي اشترك في انقلاب بينوشيه، وعمل معه طوال مدة حكمه، والثانية المتقدمة على الأولى هي الطبيبة "ميشيل باتشيلي"، ابنة الجنرال ألبرتو باتشيلي، الذي رفض الانقلاب على الليندي، فاعتقله الطغاة وأودع السجن في 11 أيلول / سبتمبر عام 1973، وعذّبه نظام بينوشيه في السجن حتى الموت. واعتقلت ميشيل باتشيلي ووالدتها وعُذّبتا، وأبعدتا، فهربتا إلى استراليا، ثم إلى ألمانيا الديمقراطية آنذاك، وظلّت ميشيل منفيّة في الأرجنتين 16 عاماً .
وفي ذكرى الانقلاب قالت باتشيلي وسط دموعها: إن الجروح لم تندمل بعد. وقرظت «أولئك اليمينيين» الذين لم يعتذروا بعد ولم يعترفوا بمسئوليتهم عما جرى في عهد بينوشيه. ومن بين تلك الجروح بالطبع، جرح غائر سبّبته أمريكا.
النهاية السوداء، الديكتاتور في قفص الإتهام:
في عام 2002، سافر رجل تشيلي القوي، الحاكم الديكتاتور العجوز الذي بقي يتمتع بنفوذ هائل على الحياة السياسية في تشيلي إلى بريطانيا لإجراء فحوص طبية، وبينما كان هناك، أعتقل بتفويض قضائي أصدره القاضي الإسباني "بالتاسار جارسون"، وبقي قيد الإقامة الجبرية لأكثر من سنة، قبل أن يتم إطلاق سراحة لأسباب طبية، عاد إلى تشيلي، وترك مقعده كسيناتور، بعد قرار من المحكمة العليا بأنه يعاني من ((خَرَف وعائي)) لا يمكن معه أن يُحاكم لأفعاله، ثم في آيار من عام 2004 حكمت محكمة تشيلي العُليا بناء على تصرفاته بإنّه قادرٌ على الصمود في محاكمة، وبدأت محاكمته في كانون الأول من العام نفسه لتهم تتعلق بحقوق الإنسان.
لقد سقطت حصانته باعتقاله في لندن. وتسبّبت في بدء محاكمته والتنقيب في حساباته في الخارج حيث اكتشفت حساباته في الولايات المتحدة بملايين الدولارات من أموال شعب تشيلي.
كيسنجر يدعو لاجتثاث الشعب لصالح الديمقراطية:
وعندما نَقَل السفير الأمريكي صورةً عن التعذيب الذي يجري هناك إلى كيسنجر صار الأخير عصبيّاً ووبّخه قائلا:
"لا تُلقي عليّ محاضرات من هذا النوع بعد الآن، فلا يهمنا التعذيب".
ما كان يشغله هو منع انتقال العدوى إلى أماكن أخرى منها جنوب أوروبا حيث الأحزاب الإشتراكية الأوروبية . وقال كيسنجر:
"يجب علينا التأكد من مقدرتنا على الفصل بين نظام الإدارة والسياسة . فإذا كان الناس لا يحسّون بالمسؤولية، يجب، عندها، اجتثاثهم من النظام" .
وهذا يتفق تماماً مع قول كيسنجر السابق عن عدم شعور الشعب الشيلي بالمسؤولية !!
الشيطان الأميركي يعترف، ولا يعتذر ولا يحاسبه أحد كالعادة:
بعد ان تولّى الجنرال "بينوشيه" السلطة في شيلى أخبر وزير الخارجية الأمريكية هنرى كيسينجر – وهو السفّاح القاتل وأوقح وأشرس كذّاب في السياسة الدوليّة كما سنرى مستقبلاً الرئيس الامريكى بأنّ الولايات المتحدة لم "تفعلها"، ولكنها ساعدت بتهيئة الظروف للقيام بالانقلاب. مؤخّرا في فترة تولى بيل كلينتون للرئاسة الأمريكية تمّ رفع السرّية عن بعض الوثائق التي أكّدت سعي الولايات المتحدة للإنقلاب على سيلفادور أليندى في عام 1970 قبل توليه السلطة.
خلال فترة حكم بيل كلينتون التالية قامت المخابرات الأمريكية باصدار وثيقة تعترف فيها بلعبها دورا في الحياة السياسية الشيلية مباشرة قبل الانقلاب العسكرى في شيلى، وأن الولايات المتحدة لم تكن متورطة بشكل مباشر في عملية الانقلاب والتي كانت على علم به قبل يومين من الانقلاب.
كما أصدرت الولايات المتحدة مؤخرا وثيقة تعترف فيها بقيامها بلعب دور بصورة غير مباشرة في تمويل الإضراب الذي قام به سائقو الشاحنات والذي تفاقم ليخلق وضعا اقتصاديا فوضويا مباشرة قبل القيام بالانقلاب العسكرى.
وقد ثبت تمويل المخابرات الأمريكية لقتل الجنرال التشيلي "رينيه شنايدر"، الذي رفض تدخل الجيش لمنع الكونجرس التشيلي من تنصيب الليندي رئيسًا عام 1970، فضلاً عن مكافأتها للقتلة بأموال ضخمة بعد تنفيذ المهمة، وهو الدور الذي اعترفت به المخابرات الأمريكية رسميًّا، بعد افتضاح أمرها.
وبفضل الصحفي الأمريكي "بيتر كورنبلو" أُجبرت الحكومة الأمريكية على الإفراج عن (23000) وثيقة أخرى، كشفت الدور الذي لعبه البيت الأبيض والمخابرات الأمريكية في الانقلاب، حيث كشفت عن دور المخابرات في دعم نظام بينوشيه وتمويله سرًّا منذ اللحظة الأولى.
وكان موقف إدارة نيكسون من المذابح التي كان يرتكبها نظام بينوشيه، لا يزيد عن كلمات علنية جوفاء إذا ما اضطرت إلى ذلك، ثم مطالبته سرًّا "بالحذر لئلا تؤدي قضايا صغيرة بجعل تعاوننا أكثر صعوبة".
ومن أبرز ما كشفت عنه هذه الوثائق التمويلات الضخمة التي قدمتها الإدارة الأمريكية لإدواردو فيري، المرشح المنافس لأليندي، والتي بلغت 20 مليون دولار، وقيام الاستخبارات الأمريكية بعمليات تشويه دعائية ضد أليندي وتحالف الجبهة الشعبية أثناء السباق الرئاسي.
ولا رئيس أميركي اعتذر:
والحقيقة هي أنه ولا رئيس أمريكي واحد اعتذر عمّا قامت به بلاده من التدخل في شؤون الغير والإطاحة برئيس دولة مُنتخب ديمقراطيا. الحكومة الأمريكية ووسائل الإعلام تستخدم معايير مختلفة لقياس المعاناة. هذا هو بالضبط النفاق وهذه هي المعايير المزدوجة التي تجعل بقية دول العالم تدين وتستنكر سلوك الولايات المتحدة في أجزاء مختلفة من العالم. فحتى وسائل الإعلام مع الأسف الشديد تركز على أشياء وتهمل أشياء أخرى أكثر أهمية. فأجندة الأخبار الدولية تحدّدها إمبراطوريات إعلامية مرتبطة ارتباطا شديدا بالقوى العظمى ومصالحها السياسية والاقتصادية، بل هذه الإمبراطوريات الإعلامية أصبحت جزءا لا يتجزأ من الشركات المتعددة الجنسية وإمبراطوريات المال والأعمال والسياسة. فمن يُصدّق مثلاً أن شركة "جنرال الكتريك" هي التي تمتلك أشهر قناة أمريكية وعالمية هي الـ CNN !! (ستكون لنا وقفة مقبلة عند هذا الموضوع).
مدرسة الأميركيتين للإرهاب من جديد:
في أغلب الحلقات السابقة المتعلقة بالنشاط الإرهابي للولايات المتحدة الأميركية في أمريكا الجنوبية، تتكشّف لنا حقائق جديدة عن "مدرسة الأميركيتين" للتدريب العسكري التي كانت في بنما وطردها عمر توريخوس إلى الولايات المتحدة لتستقر في جيورجيا بعد أن بدأت الناس تسمّيها بمدرسة الإرهاب والإنقلابات (راجع الحلقات الخاصة ببنما وغواتيمالا وفنزويلا) .
فقد قيل الكثير عن معسكرات تدريب القاعدة في أفغانستان، وهي الأهداف التي قصفتها الطائرات الأميركية. لكن هذه المعسكرات رياض أطفال إذا ما قورنت بجامعة الإرهاب الرائدة عالمياً في فورت بيننغ بجورجيا كانت تعرف حتى عهد قريب باسم كلية الأميركيتين، وقد دربت نحو 60000 جندي وشرطي وشبه عسكري وعميل استخبارات من أميركا الجنوبية. وتخرج منها 40 بالمئة من الوزراء الذين عملوا في أنظمة الإبادة الجماعية لـ” لوكاس غارسيا وريوس مونت ومنحيا فيكتوريس في غواتيمالا”.
في سنة 1993 سمّت لجنة التحقيقات التابعة للأمم المتحدة في السلفادور الضباط الذين ارتكبوا أسوأ الفظاعات في الحرب الأهلية، وتبيّن أن ثلثيهم تدربوا في فورت بيننغ. ومنهم روبرتو دي أوبويسون، قائد فرق الموت وقتلة رئيس الأساقفة أوسكار روميرو ومجموعة من القساوسة اليسوعيين (راجع حلقة: صَلْب السلفادور) . وفي تشيلي، أدار خريجو الكلية شرطة بينوشيه السرية وثلاثة معسكرات اعتقال رئيسية. وفي سنة 1996، أجبرت الحكومة الأميركية على الإفراج عن نسخ من أدلة التدريب في الكلية. وكانت هذه توصي الإرهابيين الطامحين بالابتزاز والتعذيب والقتل واعتقال أقارب الشهود.
أعيدت تسمية الكلية لتصبح معهد نصف الكرة الغربي للتعاون الأمني، ويغفل موقع الكلية على الويب صفحات "التاريخ" .
كم 11 أيلول مُدمّر سبّبه الشيطان الأمريكي للشعوب؟:
نستنتج الآن أن هناك إثنين 11 أيلول: واحد في شيلي قُتل فيه رئيس مُنتخب وذُبحت فيه آمال شعب، وآخر في الولايات المتحدة ضُرب فيهمركز التجارة العالمي في نيويورك، وقد قلنا مراراً قبل سنوات، وكرّرنا أن الولايات المتحدة نفسها تقف وراء تفجير مركز تجارتها . والآن تتردّد أنباء عن أن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لديه معلومات مؤكّدة عن أن الإدارة الأميركية هي المسؤولة عن تفجير مركز التجارة العالمي. أنّ هذا الـ 11 أيلول الذي ضرب أمريكا وحشّدت الولايات المتحدة من أجله الجيوش وماكنة الدعاية الهائلة وأجبرت العالم كلّه على أن يبكي من أجل ضحاياها لم تجعل العالم يسمع ولو كلمة أويذرف دمعة عن سلسلة جرائمها الوحشية المدمّرة التي مزّقت بها الشعوب وقتلت أضعاف قتلى مركز التجارة، وكلّها حصلت في يوم 11 أيلول .
تقول "آمي جودمان" مؤلفة كتاب: "شوكة في حلق المتحكّمين":
(من المفارقات الغريبة ان احد الموضوعات التي كنا نتناولها حين كانت الطائرات تضرب مركز التجارة العالمي، هو العلاقة بين 11 سبتمبر والارهاب.. أعني 11 سبتمبر 1973 فهذا اليوم هو اليوم الذي قتل فيه سلفادور الليندي، الزعيم التشيلي المنتخب ديمقراطيا في قصره الرئاسي في سنتياجو حين استولى الجنرال أوجستو بينوشيه والجيش التشيلي على السلطة، وكانت قوات بينوشيه مدعومة من قبل ريتشارد نيكسون، الرئيس الأمريكي يومئذ، ووزير خارجيته هنري كيسنجر، كما كانت تتلقى الدعم المالي من شركتين متعددتي الجنسية تعملان في تشيلي هما "اناكوندا كوبر" و"آي تي تي" اللتان كانتا كلتاهما على صلة وثيقة بالإدارة الأمريكية الجمهورية).
وهذه سلسلة مآسي سبّبتها الولايات المتحدة في 11 أيلول ولم يلتفت إليها أحد تقدّمها المؤلّفة أيمي جودمان:
- 11 سبتمبر/ أيلول 1973 في التشيلي، حيث قُتل الرئيس سلفادور الليندي المنتخب ديمقراطياً خلال انقلاب عسكري عليه، مدعوم من المخابرات المركزية الأمريكية راح ضحيته 3 آلاف مواطن وتعرّض للتعذيب والإحتفاء أكثر من 30000 مواطن .
- 11 سبتمبر/ أيلول 1977 في جنوب افريقيا، حيث نُقل الزعيم المناوئ للتمييز العنصري "ستيفن بيكو"، مطروحاً على أرضية عربة للشرطة، فاقداً الوعي، مسافة ألف كيلومتر، الى بريتوريا، حيث أسلم الروح في اليوم التالي.
- 11 سبتمبر/ أيلول 1990 في جواتيمالا، حيث قُتلت عالمة الاجتماع الجواتيمالية "ميرنا ماك" على أيدي الجيش المدعوم من قبل الولايات المتحدة.
- 1113 سبتمبر/ أيلول 1971 في نيويورك، حيث حدثت انتفاضة في سجن اتيكا، التي قتلت فيها شرطة خيالة ولاية نيويورك 39 رجلاً، وجرحت 88 رجلاً آخر.
فهناك إذن اثنان 11 سبتمبر/ أيلول: الأول اعتدت أمريكا من خلاله على سيادة دولة مستقلة (11 سبتمبر 1973)، والثاني تم من خلاله الاعتداء على أمريكا (11سبتمبر 2001)، لكن للإعلام وصانعي الرأي العام رأياً آخر حيث إن سبتمبر الأمريكي يحظى بالإعلام والعلنية والحضور، وسبتمبر شيلي تناساه الزمن، وهناك القلة القليلة التي تعرف الحقيقة عنه.
تقريض رومانسي:
(لم يدخل الرئيس الشيلي سلفادور ألندي إلى التاريخ بسبب موته، بل جراء حياته. موته، وطّد الأسطورة. ونتيجة لحِسِّه السياسي وواقعيته التاريخية، استطاع أن يحقق رمزيا "رؤية مختلفة" في تبنّي الاشتراكية، إبان عهد بدأت تتضح معالم أزمة الاشتراكيات الواقعية.
مع هذا الموقف المعاكس، وللحفاظ على بقائه تحت وابل القصف، ورفضه الانهزام بدون مقاومة، حاول أليندي البحث عن أفضل مَخرَج سياسي. استبعد النفي، وهيّأ الجواب الأكثر ملاءمة، المُعبِر بشكلٍ جيّد عن مُثلِه العليا، ويُلزِم بالعواقب الأكثر شؤماً، من تسبّب في مأساة الشيلي. لقد أقدم على الإنتحار، فلوّث الجنرال بدمٍ سيبقى إلى الأبد جرحاً لن يندمل.
لحظة انتصار الجنرال، بدأ يطوي الخطوات نحو زاوية، انتهى بين أركانها إلى مجرد جندي بدون شرف، تملّص من واجباته، وأصبح يعيش اعتماداً على حِيَل أوجد لها كساءً شرعيا. هل حقّق شيئا؟ طبعا عمل على تسوية المجتمع الشيلي، لكنه لن يلامس أبدا قاعدة تمثال البطل .
لكن، لماذا تصرف بينوشيه، هكذا؟ لقد كان شرِهاً اتجاه سلطة لم يفوضها لها "الأب"، الذي عيّنه قائدا. هذا الاندفاع اللاواعي غير القابل للتحديد، قاده إلى ارتكاب خطأ: الخوف أكثر من أليندي حيا، قياسا لأليندي وهو ميت. هذا القتل الرمزي للأب، حقيقة جعل منها أليندي مصيراً. لكن، أليندي لم يمت، بل اختار موته الذاتي.
كما هو الحال في مسرحية جان بول سارتر، فقد أحدق الذباب بالجنرال بينوشيه، لذا سيتنكر له فيما بعد أتباعه وأنصاره. رفض ضباطه علانية انتهاكاته لحقوق الإنسان، وعليهم القيام بذلك من أجل تبرير شرعية ما للنظام. لقد أرادوا منّا، نسيان بأن هذا نتاج قوة ميكيافيلية لسلطة دون قيود، وكذا الرعب الذي ساد مع بينوشيه .
خسر أليندي أولى معارك الاشتراكية الجديدة، لكنه ليس وهما للاستهلاك، بل سيستمر رمز نضال يستعاد لاشتراكية الغد) .
تعليق