السؤال: 1 ـ ما مدى صحّة الحديث القدسي الذي يقول: (عبدي أطعني تكن مثلي، تقل للشيء كن فيكون) من حيث السند والمتن؟ (السيد).
2 ـ ألا يُثبت حديث: (عبد أطعني تكن مثلي..) الولايةَ التكوينية؟ (عبدالمحسن).
الجواب: الكلام في هذا الحديث الذي ورد بصيغ متعدّدة مختلفة فيما بينها بعض الشيء، يمكن أن نجعله ـ باختصار ـ في مراحل:
المرحلة الأولى: في استعراض مصادر هذا الحديث وطرقه، ولعلّ من أقدم المصادر التي تنقل هذا النصّ أو شبهه، هو الرسالة الرابعة من رسائل إخوان الصفا، حيث جاء فيها: (يا ابن آدم، أنا الله حيٌّ لا يموت، إن أطعتني وقبلت وصيّتي جعلتك حيّاً لا تموت. يا ابن آدم أنا الله أقول للشيء: كن فيكون، أطعني أجعلك تقول للشيء: كن فيكون) (رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا 1: 158)، ورغم أنّه لم ينسبها إخوان الصفا هنا إلى النبي، بل ذكروها من كلامهم، الأمر الذي قد يشي بأنّ أصل هذه المقولة صوفيٌّ باطني. إلا أنّهم في الرسالة التاسعة من رسائلهم، صرّحوا بأنّها موجودة في بعض كتب بني إسرائيل، حيث قالوا: (كما ذكر في بعض كتب أنبياء بني إسرائيل، قال الله تعالى: يا بن آدم، خلقتك للأبد، وأنا حيّ لا أموت، أطعني فيما أمرتك به وانتهِ عمّا نهيتك عنه، أجعلك حيّاً لا تموت أبداً. يا بن آدم، أنا قادر على أن أقول للشيء كن فيكون، أطعني فيما أمرتك به وانتهِ عمّا نهيتك عنه أجعلك قادراً على أن تقول للشيء كن فيكون) (رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا 1: 298).
وبعد إخوان الصفا، جاء الدَّيْلَمِيُّ (ق 8هـ) فِي (إِرْشَادِ الْقُلُوبِ 1: 75)، فقال: (ورُوِيَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا حَيٌّ لَا أَمُوتُ أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ حَتَّى أَجْعَلَكَ حَيّاً لَا تَمُوتُ. يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا أَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلْكَ تَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ) وهذا الحديث ذكره الحرّ العاملي أيضاً ـ نقلاً عن ابن فهد ـ في (الجواهر السنيّة في الأحاديث القدسيّة: 713)؛ ونقله المحدّث النوري في (مستدرك الوسائل 11: 258 ـ 259)، عن الديلمي.
وقد جاء بعد الديلمي، الحافظ رجب البرسي (813هـ)، فذكر في (مشارق أنوار اليقين: 100) هذا الحديث حيث قال: (ورد في الحديث القدسي عن الربّ العليّ أنّه يقول: عبدي أطعني أجعلك مثلي، أنا حيّ لا أموت، أجعلك حيّاً لا تموت، أنا غنيّ لا أفتقر، أجعلك غنيّاً لا تفتقر، أنا مهما أشأ يكن، أجعلك مهما تشأ يكن). وقد نقل كثيرون هذا الحديث عن البرسي، ومنهم الحرّ العاملي في كتابه (الجواهر السنيّة في الأحاديث القدسيّة: 361).
وبعد البرسي، جاء ابنُ فهد الحلي (841هـ)، فذكر في كتابه (عدّة الداعي ونجاح الساعي: 291) هذا الحديث بالنصّ التالي: (وفي هذا المعنى ما ورد في الحديث القدسي: يا ابن آدم، أنا فقير (غنيّ) لا أفتقر، أطعني فيما أمرتك أجعلك غنيّاً لا تفتقر. يا ابن آدم، أنا حيّ لا أموت، أطعني فيما أمرتك أجعلك حيّاً لا تموت. يا ابن آدم، أنا أقول للشيء: كن فيكون، أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء: كن فيكون).
ثم جاء البيّاضي النباطي (877هـ)ن فذكر في كتابه (الصراط المستقيم 1: 169)، ما يلي: (وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله: إنّ لله عباداً أطاعوا الله فأطاعهم، يقولون للشيء بأمره كن فيكون). وهذا النصّ من البيّاضي النباطي لعلّه أوّل نصّ يصرّح بأنّ الحديث منقول عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فنحن لو نظرنا في الكتب السابقة على النباطي ـ وكثير من الكتب اللاحقة أيضاً ـ لرأينا أنّ هذا الحديث إمّا ينقل بلا نسبةٍ للنبي أو أحد من أهل بيته، أو ينقل عن كتب بني إسرائيل، أو يوصف فقط بأنّه حديثٌ قدسي، دون أن نعرف هل أتانا هذا الحديث القدسيّ عن النبي أو عن كتب بني إسرائيل نفسها عبر رواة مثل كعب الأحبار أو غيرهم؟ وفي هذه الحال لا نتمكّن حتى من التأكّد من اعتبار هذا الحديث مرويّاً عن النبي وأهل بيته وصحابته، بينما في نصّ النباطي هناك تصريح بالنقل عن النبي في هذا المجال.
وقال صدر الدين الشيرازي (1050هـ) في (الحكمة المتعالية 8: 9): (ورد في بعض الصحف المنزلة من الكتب السماويّة، أنّه قال سبحانه: يا بن آدم خلقتك للبقاء وأنا حيّ لا أموت، أطعني فيما أمرتك وانتهِ عمّا نهيتك، أجعلك مثلي حيّاً لا تموت).
ثم جاء ذكر هذا الحديث عند العلامة المجلسي (1111هـ) في كتابه (بحار الأنوار 90: 376)، فقال: (وفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا غَنِيٌّ لَا أَفْتَقِرُ، أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلْكَ غَنِيّاً لَا تَفْتَقِرْ، يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا حَيٌّ لَا أَمُوتُ، أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلْكَ حَيّاً لَا تَمُوتُ، يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا أَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلْكَ تَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ).
وقد حضر هذا الحديث بصيغه المتعدّدة ـ ومنها صيغ رائجة شائعة اليوم لم أعثر لها على مصدر أساساً ـ عند الكثير جداً من المتصوّفة والعرفاء، وكذلك الشيعة، حتى بات واحداً من الأحاديث المشهورة للغاية في أدبيّات التصوّف والعرفان وعند كثير من الشيعة المتأخّرين، ونقله كثيرون في الكتب المتأخّرة خلال القرون الثلاثة الأخيرة (لو غضضنا الطرف عن أمثال ابن عربي في الفتوحات، وسيّد حيدر الآملي في جامع الأسرار)، ولا أستطيع حصرهم لكثرتهم، لكن أذكر على سبيل المثال: الشيخ النراقي، والسيد بحر العلوم، والسيد علي البهبهاني في الفوائد العلية، والشيخ الأراكي في المكاسب المحرّمة، وحبيب الله الخوئي في منهاج البراعة، والحائري في شجرة طوبى، والملا هادي السبزواري في شرح الأسماء الحسنى، وكذا في شرحه للمثنوي، والسيد حسن اللواساني في كتاب نور الأفهام، والميرزا جواد ملكي التبريزي في كتاب أسرار الصلاة وغيرهم. أمّا في الوسط السنّي فلا وجود لهذا الحديث عند غير المتصوّفة، ولم نعثر له على نقل حديثي بعد التتبّع الكثير.
المرحلة الثانية: في قيمة هذا الحديث على مستوى إثباته الصدوري، وقد لاحظنا أنّ هذا الحديث لا ذكر له، ولا عين له ولا أثر في القرون السبعة الهجريّة الأولى، عند غير المتصوّفة وبعض الباطنيّة، ولم يرد ـ في حدود تتبعنا ـ في كتب الحديث عند المسلمين لا السنّة ولا الشيعة على الإطلاق، وفي جميع الكتب التي ورد فيها جاء غالباً إمّا موصوفاً بأنّه حديث قدسي ـ دون تحديد مصدره، وأنّه النبيّ وأهل بيته أم كتب أهل الكتاب ـ أو منسوباً إلى كتب بني اسرائيل، ونادراً للغاية ـ كما رأينا ـ وجدنا نسبته إلى النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فيما لم أجده منسوباً إلى أحد من الصحابة أو أهل البيت النبوي. وهذا كلّه يعني أنّ هذا الحديث لا يمكن الاتكاء عليه؛ لضعف مصادره للغاية، بل غالب مصادره التي جاءت بعد القرن السابع الهجري هي إمّا كتب تصوّف وعرفان أو فلسفة وكلام أو كتب حديث جَمَّاعَة متأخّرة كالجواهر السنيّة وبحار الأنوار، أو كتب تُحسب على مدرسة الغلوّ كمشارق أنوار اليقين، كما رأينا، الأمر الذي لا يسمح بالتأكّد من صدور هذا الحديث عن أحد المعصومين ليُخبرنا بأنّ الله قد قاله فعلاً (بعد التوقّف في قيمة نسبة بني إسرائيل أنفسهم هذا الحديث إلى أنبيائهم). ولو صرفنا النظر عن هذا، فإنّ الحديث في جميع مصادره ومراجعه لا يُذكر له مصدر في التاريخ الإسلامي ولا سند أصلاً، فمن هذه الجهة أيضاً هو فاقد للإسناد تماماً. وهذا الجوّ بأكمله قد يسمح لباحثٍ أن يقول بأنّ أصول هذا الحديث يتوقّع جداً أن تكون إسرائيليّةً، ويكون هذا الحديث من الروايات الإسرائيليّة التي نفذت إلى كتب المسلمين الحديثية والدينية عبر كتب أهل الكتاب. هذا كلّه بصرف النظر عن بعض المناقشات المتنيّة التي ذُكرت حول الحديث، وسنتعرّض لها قريباً بإذن الله تعالى.
ومع هذا، حاول بعض العلماء تصحيح هذا الحديث عبر طريقين:
الطريق الأوّل: ما ذكره بعضهم، من أنّ هذا الحديث مشهور ومعروف، وأنّه قد تلقّاه العلماء بالقبول، فيمكن تصحيحه على هذا الأساس، ولعلّه قد ذكر شيئاً من هذا السيد محمّد صادق الروحاني حفظه الله أيضاً.
لكنّ هذا الطريق غير صحيح؛ فالحديث غير مشهور أبداً، ولا يُعرف إلا في القرون المتأخّرة، وغالباً في بعض الأوساط كالوسط الصوفي والعرفاني بشكل أكبر، ولا قيمة لهذه الشهرة، فهذا لا يصنّف بأنّه مشهور بالمعنى الحديثي لهذه الكلمة، إذ لم تتداوله الكتب الحديثية القديمة، ولم يقع في روايات طرق وأسانيد المحدّثين والرواة، ولا يوجد دليل أصلاً على تلقّي العلماء في القرون السبعة الهجريّة الأولى له بالقبول. وموافقة بعض المتأخّرين عليه لا تنفع كما هو واضح، بل نحن نشكّ أصلاً في كونه منقولاً عن النبي ومنسوباً إليه، حيث غالب المصادر الأساسيّة التي نقلته ذكرته منقولاً عن كتب بني إسرائيل أو أطلقت كلمة (الحديث القدسي) عليه، دون نسبةٍ للنبي، فكيف نتعامل مع هكذا حديث بأنّه مشهور؟! وهل هذا متوافق مع أصول إثبات الحديث الشريف حقّاً؟!
الطريق الثاني: إنّ مضمون هذا الحديث قد ورد في روايات أخرى معتبرة السند، مثل حديث قرب النوافل، ففي خبر حماد بن بشير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام، يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: (قال الله عز وجل: من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي، وما تقرّب إليّ عبد بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله كتردّدي عن موت المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته) (الكافي 2: 352؛ وانظر أيضاً: صحيح البخاري 7: 190).
ولكن بصرف النظر عن تقويم حديث قرب النوافل وأمثاله، ولا أريد أن نخوض فيه الآن، فهناك كلام يمكن طرحه حوله وحول معناه أساساً.. لا يصحّ بهذه الطريقة إثبات صحّة الحديث الذي نحن فيه، فهذا خطأ منهجيّ يقع فيه كثيرون اليوم، فأنت لا تصحّح صدور حديث بحديث آخر، بل أنت تصحّح القاسم المشترك بين الحديثين بانضمام الثاني إلى الأوّل، فالتصحيح إنّما هو لصدور المضمون المشترك؛ لأنّ مجرّد وجود حديث صحيح إلى جانب الحديث الضعيف لا يجعل الحديث الضعيف صحيحاً في نفسه (وتعبير الصحيح لغيره أو الحسن لغيره لا معنى له إلا بالطريقة التي قلناها)، بل يجعل المقدار المشترك ثابتاً بانضمام الاثنين إلى بعضهما، وهذا يعني أنّ الأشياء التي يختصّ بها الحديث الضعيف لا يمكن إثباتها بالحديث الصحيح. وهذه نكتة ظريفة مهمّة وبابٌ مفيد في دراسة الحديث، خلافاً لتعاطي كثيرين اليوم مع الحديث وقواعد إثباته. وهذا الحديث الذي بين أيدينا الآن يحتوي على تعابير ذات خصوصيات إضافيّة محتملة، مثل تعبير (مثلي) وتعبير (تقل للشيء كن فيكون)، وعليه فنحن هنا لا نريد إثبات فكرةٍ ما بالحديثين معاً، ولسنا بصدد بحث القاسم المشترك بين الحديثين، بل نريد تحديد فرص التأكّد من صدور هذا الحديث الذي بين أيدينا الآن بما يحمله من خصوصيّات.
والنتيجة ـ بصرف النظر عن المناقشات المتنيّة ـ لم يثبت صدور هذا الحديث أصلاً، بل إنّني أشكّ في كونه حديثاً نبويّاً أساساً ولو ضعيف السند، ومن الواضح أيضاً أنّ قاعدة التسامح ـ لو ثبتت ـ لا تجري في مثل هذه الموارد التي لا علاقة لها بالأمور العمليّة.
المرحلة الثالثة: في دراسة معنى هذا الحديث ودلالاته، ومن ثمّ تقويم متنه، فقد تمّ تفسير هذا الحديث بأكثر من طريقة، أبرزها:
الطريقة الأولى: وهي الطريقة التي ترى أنّ معنى هذا الحديث هو منح الولاية التكوينية للعبد نتيجة طاعته لله، وبهذا يكون هذا الحديث من الأحاديث المثبتة للولاية التكوينيّة في الجملة، ومن حيث المبدأ، ولهذا نرى أنّ الكثير ممّن كتب في الولاية التكوينيّة من المتأخّرين والمعاصرين قد استحضروا هذا الحديث بوصفه من الأحاديث المثبتة لهذه النظريّة، فعلى سبيل المثال، جاء في بعض الأسئلة الموجّهة للشيخ جواد التبريزي رحمه الله، ما يلي: (ما معنى قوله تعالى في الحديث القدسي: (عبدي أطعني تكن مثلي، أقول للشيء كن فيكون، وأنت تقول للشيء كن فيكون)؟ فهل العلماء يستطيعون الوصول إلى مرتبة مثل اللّٰه؟ ليس كمثله شيء. وهل بهذه المرتبة يستطيعون أن يحيوا الموتى يخلقون ويرزقون؟ مع ملاحظة هذه الرواية (لو قرأت سورة الفاتحة على ميت لأحييته)؟ الجواب: بسمه تعالى، ظاهر هذا الحديث ـ على فرض ثبوته ـ أنّ الإطاعة لله إذا خلصت له سبحانه، فإنّ اللّٰه سبحانه يمكّنه ويسلّطه على الأشياء ويسخّر الأشياء له، وهو معنى الولاية التكوينيّة الثابتة للأنبياء والمعصومين عليهم السلام، إلا أنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام لم يستعملوا هذه الولاية إلا في موارد خاصّة اقتضتها المصلحة والحكمة، واللّٰه العالم) (التبريزي، صراط النجاة 10: 424 ـ 425). فالشيخ التبريزي فهم من الحديث فكرة الولاية التكوينية، مع الإشارة إلى أنّ مطلع جوابه يوحي وكأنّه لم يثبت عنده هذا الحديث.
وإذا صحّ تفسير هذا الحديث بالولاية التكوينية، فهو لا يعني الولاية التكوينية بمعنى الواسطة في الفيض، خاصّةً الواسطة التامّة، بل يعني الولاية التكوينية بمعنى قدرة الوليّ على التدخّل في العالم ساعة يشاء كما هو واضح، فلا يُثبت هذا الحديث ـ لو سلّمنا بدلالته على الولاية التكوينيّة ـ غير هذا المعنى للولاية لا المعاني الأخرى فليُنتبه جيداً، ولهذا ختم الشيخُ التبريزي كلامَه بأنّ أهل البيت لم يستعملوا هذه الولاية إلا في مواضع خاصّة، فإنّ الواسطة في الفيض إذا فُهمت بالمعنى التام لا يمكن أن نصفها بهذه الطريقة كما هو معلوم.
وقد اقترب العلامة السيد محمّد حسين فضل الله رحمه الله من هذا التفسير، لكن بطريقة أنّ الحديث يريد أن يقول بأنّ الله يجعل هذا العبد مثل عيسى بن مريم، فيقول للشيء: كن، فيكون بأمر الله (فضل الله، للإنسان والحياة: 329 ـ 330)، وهذا المعنى الذي يطرحه السيد فضل الله كأنّه يرتبط بجانب الإطلاق في الحديث، فالحديث لا يقول بأنّ هذا العبد يصبح العالم كلّه بيده، بل يقول بأنّه سيصبح مثل الله في بعض الحالات، تماماً مثل عيسى بن مريم، غايته أنّه يكون ذلك بأمر الله وإذنه وتمكينه.
الطريقة الثانية: وهي الطريقة التي تعتبر هذا الحديث من الأحاديث المخبرة عن وقائع الآخرة وليس الدنيا، وهذا ما يطرحه الشيخ محمّد جواد مغنيّة، حيث قدّم تفسيراً مختلفاً لهذا الحديث فقال: (كنت من قبل في شكّ من حديثين تردّدا كثيراً على سمعي، أوّلهما هذا الحديث القدسي: يا عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون. وثانيهما هذا الحديث النبوي: إنّ للَّه عباداً إذا أرادوا أراد. شككت في سند هذين الحديثين؛ لأني لم أجد لهما أيّ أثر في هذه الحياة.. ثم أدركت، وأنا أفسّر آي الذكر الحكيم أنّ موضوع الحديثين الآخرة لا الدنيا، فزال الشك، وأيقنت أنّ كلاً من الحديث القدسي والنبوي هو تفسير وبيان لقوله تعالى: (والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)، ونحوه من الآيات) (التفسير الكاشف 6: 520 ـ 521؛ وانظر له: في ظلال نهج البلاغة 1: 424).
ولعلّ ما يساعد على تفسير الشيخ مغنيّة بعض صيغ هذا الحديث ممّا لم نُشِرْ له من قبل، وهو ما قاله ابن عربي في (الفتوحات المكيّة 3: 295): (وورد الخبر في أهل الجنّة أنّ الملك يأتي إليهم، فيقول لهم، بعد أن يستأذن في الدخول عليهم، فإذا دخل ناولهم كتاباً من عند الله بعد أن يسلّم عليهم من الله، فإذا في الكتاب لكلّ إنسان يخاطب به: من الحيّ القيوم الذي لا يموت إلى الحيّ القيوم الذي لا يموت، أما بعد فإنّي أقول للشيء كن فيكون، وقد جعلتك تقول للشيء كن فيكون، فقال (ص): فلا يقول أحد من أهل الجنّة للشيء كن إلا ويكون) (وانظر في هذا الحديث: السبزواري، شرح الأسماء الحسنى 2: 80؛ والملا صدرا، تفسير القرآن الكريم 5: 15؛ والحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة 8: 9 ـ 10؛ والسيد الخميني، آداب نماز: 33؛ ومصباح الهداية: 53 و..).
وتفسير الشيخ مغنية محتمل، رغم أنّه ليست هناك في الحديث أيّة إشارة لموضوع الآخرة، لكنّ سكوت الحديث عن زمان تحقّق (كن فيكون) للعبد، يبقي احتمال الشيخ مغنيّة مفتوحاً في كثير من صيغ هذا الحديث على الأقلّ. وبهذه الطريقة يصبح الحديث أجنبيّاً تماماً عن استخداماته المتداولة عند الأغلب اليوم.
الطريقة الثالثة: وهي الطريقة التي تفسّر الحديث بأنّ المؤمن بوصوله إلى هذه المرتبة من الطاعة يصبح مستجابَ الدعوة، فما يريده يمكنه تحقيقه بطلبه من الله، واستجابة الله له، ومن ثمّ فالموضوع ليس موضوع ولاية تكوينيّة على الأشياء ولا غير ذلك، بل هو موضوع تحقّق غايات المؤمن باستجابة الله لرغباته ودعائه، بلا فرق بين الدنيا والآخرة.
ولكنّ هذه الطريقة لا تنسجم مع هذا الحديث، فإنّ كلمة (مثلي)، ثم كلمة (تقل) للشيء كن فيكون، لا يفهم منها هذا المعنى أبداً، فيكون هذا التفسير محضاً من التكلّف والتأويل، ويفتقر إلى القرينة، نعم، هذا التفسير مطروح بقوّةٍ احتماليّة أكبر في حديث قرب النوافل أخذاً بقرينة ذيل ذلك الحديث، وتفصيله في محلّه.
الطريقة الرابعة: أن يُفهم هذا الحديث على أنّه يفترض أنّ العبد بالطاعة يصبح إلهاً مثل الله، فيقول للشيء كن فيكون، وفيه تنزيلٌ للعبد منزلة الله، وجعلاً للشريك له.
وهذا التفسير هو الذي فهمه بعض نقّاد هذا الحديث متناً، فعلى سبيل المثال جاء في نقد هذا الحديث متناً، وأنّه موضوع، في (فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 4: 372)، ما يلي: (س: سمعت من بعض الناس يقول حديثاً قدسيّاً عبارته: عبدي أطعني تكن عبداً ربانيّاً يقول للشيء: كن، فيكون، هل هذا حديث قدسي صحيح أم غير صحيح؟ ج: هذا الحديث لم نعثر عليه في شيء من كتب السنّة، ومعناه يدلّ على أنّه موضوع، إذ إنّه ينزّل العبد المخلوق الضعيف منزلة الخالق القويّ سبحانه، أو يجعله شريكاً له، تعالى الله عن أن يكون له شريك في ملكه. واعتقاده شركٌ وكفر؛ لأنّ الله سبحانه هو الذي يقول للشيء: كن، فيكون، كما في قوله عز وجل: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
ومنطلق كثير من الناقدين هنا هو تعبير (مثلي) سواء قرأناه بفتح الميم والثاء، أم بكسر الميم وسكون الثاء، فإنّ هذا التعبير مناقض للقرآن، أو فقل: بعيدٌ عن لغة القرآن والحديث وغريب عنها، فحتى من لديه ولاية تكوينية لا نقول عنه بأنّه مثل الله، وأنّه يقول للأشياء كن فتكون.
وقد حاول السيد محمّد حسين فضل الله في كتاب (للإنسان والحياة: 329، 330) أن يتجاوز مشكلة كلمة (مثلي) في هذا الحديث، فذكر أنّ الأحاديث المنقولة عن بعض كتب أهل الكتاب، ربما تكون بعد نقلها إلى العربية قد تعرّضت لبعض التغيّرات الناتجة عن فعل الترجمة، فظهرت كلمة (مثلي) والتي قد لا تكون بهذا المعنى في الأصل غير العربي، وبالتالي علينا أن لا نتشدّد كثيراً في هذه الكلمة، ولنتخطّاها نحو الفكرة الرئيسيّة التي يتحدّث عنها الحديث، والتي هي أنّ المؤمن قد يصل لمرتبةٍ يُقدره الله فيها على التصرّف بالطبيعة هنا أو هناك لمصالح، كما حصل لعيسى بن مريم عليهما السلام.
وهذه المداخلة من السيد فضل الله مهمّة جداً، وتفتح على ضرورة وجود دراسات مقارنة ولغويّة جادّة في النصوص التي نُقلت من كتب أهل الكتاب، والغريب أنّ بعض الناقدين للسيد فضل الله حمّله هنا قولاً لم يقله، فاعتبر أنّ السيد فضل الله كأنّه يتهم الأئمّة بممارسة ترجمة غير دقيقة، وهذا نقضٌ لعصمتهم! مع أنّ كلام السيد فضل الله صريحٌ في أنّه بصدد الحديث عن ما نقل عن الكتب السابقة، لا عمّا رواه النبي وأهل البيت عن تلك الكتب، لاسيما ـ كما قلنا ـ أنّ هذا الحديث الذي بين أيدينا لا يُحرز كونه مرويّاً عن النبي وأهل البيت أساساً، وربما تنبّه لهذا العلامة فضل الله، فعلّق على هذا الحديث بهذا الكلام؛ لعلمه بأنّ هذا الحديث منقولٌ عن الكتب السابقة، لا أنّ النبي والأئمّة نقلوه عن الصحف السابقة، فليس كلّ حديث قدسي نقل عن الكتب السابقة فهو مروي عن النبي والأئمّة، وهذا من الأخطاء الشائعة بين بعض الناس، فلاحظ وانتبه.
وعلى أيّة حال، فمداخلة العلامة فضل الله محتملة هنا، لكن من الصعب التأكّد منها قبل إجراء مقارنات لغويّة دقيقة، ولهذا فإنّني أعتقد بأنّ هذا الحديث قد لا يناقض الأصول القرآنية؛ لأنّه لا يقول بأنّ العبد يصبح مثل الله تماماً من جميع الجهات، بل يبيّن المماثلة في جهةٍ من الجهات، وهي جهة التمكّن من فعل أيّ شيء في العالم، غايته لابدّ من تقييد الحديث بالإذن والتمكين الإلهي، كما هو ظاهر من الكثير من صيغه أنّ الله يُقدره على ذلك، لا أنّه يستقلّ بذلك عن الله، نعم أدبيات هذا الحديث ولغته ليست متوالمة أو متماهية مع طبيعة التراكيب القرآنية التي يبدو عليها التشدّد في توصيف الله وحده بالهيمنة على العالم وفعل ما يريد وتحقّقه بمقام (كن فيكون)، لاسيما لو ضممنا تعابير مثل: (أجعلك غنيّاً لا تفتقر) و (من الحي القيوم الذي لا يموت إلى الحيّ القيوم الذي لا يموت).
والنتيجة: إنّ هذا الحديث غير ثابت إطلاقاً، وهو ضعيف للغاية، بل لا يعلم كونه حديثاً نبويّاً أساساً، وغالب الظنّ أنّه استُقي من أصول إسرائيليّة، ونفذ إلى الثقافات الباطنيّة والصوفيّة عند المسلمين، ومنها إلى الثقافة الشيعيّة في القرون المتأخّرة، وأمّا مضمونه فقد تضعف قوّة دلالته على الولاية التكوينيّة بعد وجود مثل احتمال الشيخ مغنيّة، إن لم نقل بغرابته عن اللغة القرآنية، وأمّا دلالته على الولاية بمعنى الواسطة في الفيض فبعيدة جدّاً، والعلم عند الله.
جواب سماحة الشيخ حيدر حب الله (حفظه الله )
http://hobbollah.com/questions/حديث-...دلالات/
2 ـ ألا يُثبت حديث: (عبد أطعني تكن مثلي..) الولايةَ التكوينية؟ (عبدالمحسن).
الجواب: الكلام في هذا الحديث الذي ورد بصيغ متعدّدة مختلفة فيما بينها بعض الشيء، يمكن أن نجعله ـ باختصار ـ في مراحل:
المرحلة الأولى: في استعراض مصادر هذا الحديث وطرقه، ولعلّ من أقدم المصادر التي تنقل هذا النصّ أو شبهه، هو الرسالة الرابعة من رسائل إخوان الصفا، حيث جاء فيها: (يا ابن آدم، أنا الله حيٌّ لا يموت، إن أطعتني وقبلت وصيّتي جعلتك حيّاً لا تموت. يا ابن آدم أنا الله أقول للشيء: كن فيكون، أطعني أجعلك تقول للشيء: كن فيكون) (رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا 1: 158)، ورغم أنّه لم ينسبها إخوان الصفا هنا إلى النبي، بل ذكروها من كلامهم، الأمر الذي قد يشي بأنّ أصل هذه المقولة صوفيٌّ باطني. إلا أنّهم في الرسالة التاسعة من رسائلهم، صرّحوا بأنّها موجودة في بعض كتب بني إسرائيل، حيث قالوا: (كما ذكر في بعض كتب أنبياء بني إسرائيل، قال الله تعالى: يا بن آدم، خلقتك للأبد، وأنا حيّ لا أموت، أطعني فيما أمرتك به وانتهِ عمّا نهيتك عنه، أجعلك حيّاً لا تموت أبداً. يا بن آدم، أنا قادر على أن أقول للشيء كن فيكون، أطعني فيما أمرتك به وانتهِ عمّا نهيتك عنه أجعلك قادراً على أن تقول للشيء كن فيكون) (رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا 1: 298).
وبعد إخوان الصفا، جاء الدَّيْلَمِيُّ (ق 8هـ) فِي (إِرْشَادِ الْقُلُوبِ 1: 75)، فقال: (ورُوِيَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا حَيٌّ لَا أَمُوتُ أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ حَتَّى أَجْعَلَكَ حَيّاً لَا تَمُوتُ. يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا أَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلْكَ تَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ) وهذا الحديث ذكره الحرّ العاملي أيضاً ـ نقلاً عن ابن فهد ـ في (الجواهر السنيّة في الأحاديث القدسيّة: 713)؛ ونقله المحدّث النوري في (مستدرك الوسائل 11: 258 ـ 259)، عن الديلمي.
وقد جاء بعد الديلمي، الحافظ رجب البرسي (813هـ)، فذكر في (مشارق أنوار اليقين: 100) هذا الحديث حيث قال: (ورد في الحديث القدسي عن الربّ العليّ أنّه يقول: عبدي أطعني أجعلك مثلي، أنا حيّ لا أموت، أجعلك حيّاً لا تموت، أنا غنيّ لا أفتقر، أجعلك غنيّاً لا تفتقر، أنا مهما أشأ يكن، أجعلك مهما تشأ يكن). وقد نقل كثيرون هذا الحديث عن البرسي، ومنهم الحرّ العاملي في كتابه (الجواهر السنيّة في الأحاديث القدسيّة: 361).
وبعد البرسي، جاء ابنُ فهد الحلي (841هـ)، فذكر في كتابه (عدّة الداعي ونجاح الساعي: 291) هذا الحديث بالنصّ التالي: (وفي هذا المعنى ما ورد في الحديث القدسي: يا ابن آدم، أنا فقير (غنيّ) لا أفتقر، أطعني فيما أمرتك أجعلك غنيّاً لا تفتقر. يا ابن آدم، أنا حيّ لا أموت، أطعني فيما أمرتك أجعلك حيّاً لا تموت. يا ابن آدم، أنا أقول للشيء: كن فيكون، أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء: كن فيكون).
ثم جاء البيّاضي النباطي (877هـ)ن فذكر في كتابه (الصراط المستقيم 1: 169)، ما يلي: (وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله: إنّ لله عباداً أطاعوا الله فأطاعهم، يقولون للشيء بأمره كن فيكون). وهذا النصّ من البيّاضي النباطي لعلّه أوّل نصّ يصرّح بأنّ الحديث منقول عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فنحن لو نظرنا في الكتب السابقة على النباطي ـ وكثير من الكتب اللاحقة أيضاً ـ لرأينا أنّ هذا الحديث إمّا ينقل بلا نسبةٍ للنبي أو أحد من أهل بيته، أو ينقل عن كتب بني إسرائيل، أو يوصف فقط بأنّه حديثٌ قدسي، دون أن نعرف هل أتانا هذا الحديث القدسيّ عن النبي أو عن كتب بني إسرائيل نفسها عبر رواة مثل كعب الأحبار أو غيرهم؟ وفي هذه الحال لا نتمكّن حتى من التأكّد من اعتبار هذا الحديث مرويّاً عن النبي وأهل بيته وصحابته، بينما في نصّ النباطي هناك تصريح بالنقل عن النبي في هذا المجال.
وقال صدر الدين الشيرازي (1050هـ) في (الحكمة المتعالية 8: 9): (ورد في بعض الصحف المنزلة من الكتب السماويّة، أنّه قال سبحانه: يا بن آدم خلقتك للبقاء وأنا حيّ لا أموت، أطعني فيما أمرتك وانتهِ عمّا نهيتك، أجعلك مثلي حيّاً لا تموت).
ثم جاء ذكر هذا الحديث عند العلامة المجلسي (1111هـ) في كتابه (بحار الأنوار 90: 376)، فقال: (وفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا غَنِيٌّ لَا أَفْتَقِرُ، أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلْكَ غَنِيّاً لَا تَفْتَقِرْ، يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا حَيٌّ لَا أَمُوتُ، أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلْكَ حَيّاً لَا تَمُوتُ، يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا أَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلْكَ تَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ).
وقد حضر هذا الحديث بصيغه المتعدّدة ـ ومنها صيغ رائجة شائعة اليوم لم أعثر لها على مصدر أساساً ـ عند الكثير جداً من المتصوّفة والعرفاء، وكذلك الشيعة، حتى بات واحداً من الأحاديث المشهورة للغاية في أدبيّات التصوّف والعرفان وعند كثير من الشيعة المتأخّرين، ونقله كثيرون في الكتب المتأخّرة خلال القرون الثلاثة الأخيرة (لو غضضنا الطرف عن أمثال ابن عربي في الفتوحات، وسيّد حيدر الآملي في جامع الأسرار)، ولا أستطيع حصرهم لكثرتهم، لكن أذكر على سبيل المثال: الشيخ النراقي، والسيد بحر العلوم، والسيد علي البهبهاني في الفوائد العلية، والشيخ الأراكي في المكاسب المحرّمة، وحبيب الله الخوئي في منهاج البراعة، والحائري في شجرة طوبى، والملا هادي السبزواري في شرح الأسماء الحسنى، وكذا في شرحه للمثنوي، والسيد حسن اللواساني في كتاب نور الأفهام، والميرزا جواد ملكي التبريزي في كتاب أسرار الصلاة وغيرهم. أمّا في الوسط السنّي فلا وجود لهذا الحديث عند غير المتصوّفة، ولم نعثر له على نقل حديثي بعد التتبّع الكثير.
المرحلة الثانية: في قيمة هذا الحديث على مستوى إثباته الصدوري، وقد لاحظنا أنّ هذا الحديث لا ذكر له، ولا عين له ولا أثر في القرون السبعة الهجريّة الأولى، عند غير المتصوّفة وبعض الباطنيّة، ولم يرد ـ في حدود تتبعنا ـ في كتب الحديث عند المسلمين لا السنّة ولا الشيعة على الإطلاق، وفي جميع الكتب التي ورد فيها جاء غالباً إمّا موصوفاً بأنّه حديث قدسي ـ دون تحديد مصدره، وأنّه النبيّ وأهل بيته أم كتب أهل الكتاب ـ أو منسوباً إلى كتب بني اسرائيل، ونادراً للغاية ـ كما رأينا ـ وجدنا نسبته إلى النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فيما لم أجده منسوباً إلى أحد من الصحابة أو أهل البيت النبوي. وهذا كلّه يعني أنّ هذا الحديث لا يمكن الاتكاء عليه؛ لضعف مصادره للغاية، بل غالب مصادره التي جاءت بعد القرن السابع الهجري هي إمّا كتب تصوّف وعرفان أو فلسفة وكلام أو كتب حديث جَمَّاعَة متأخّرة كالجواهر السنيّة وبحار الأنوار، أو كتب تُحسب على مدرسة الغلوّ كمشارق أنوار اليقين، كما رأينا، الأمر الذي لا يسمح بالتأكّد من صدور هذا الحديث عن أحد المعصومين ليُخبرنا بأنّ الله قد قاله فعلاً (بعد التوقّف في قيمة نسبة بني إسرائيل أنفسهم هذا الحديث إلى أنبيائهم). ولو صرفنا النظر عن هذا، فإنّ الحديث في جميع مصادره ومراجعه لا يُذكر له مصدر في التاريخ الإسلامي ولا سند أصلاً، فمن هذه الجهة أيضاً هو فاقد للإسناد تماماً. وهذا الجوّ بأكمله قد يسمح لباحثٍ أن يقول بأنّ أصول هذا الحديث يتوقّع جداً أن تكون إسرائيليّةً، ويكون هذا الحديث من الروايات الإسرائيليّة التي نفذت إلى كتب المسلمين الحديثية والدينية عبر كتب أهل الكتاب. هذا كلّه بصرف النظر عن بعض المناقشات المتنيّة التي ذُكرت حول الحديث، وسنتعرّض لها قريباً بإذن الله تعالى.
ومع هذا، حاول بعض العلماء تصحيح هذا الحديث عبر طريقين:
الطريق الأوّل: ما ذكره بعضهم، من أنّ هذا الحديث مشهور ومعروف، وأنّه قد تلقّاه العلماء بالقبول، فيمكن تصحيحه على هذا الأساس، ولعلّه قد ذكر شيئاً من هذا السيد محمّد صادق الروحاني حفظه الله أيضاً.
لكنّ هذا الطريق غير صحيح؛ فالحديث غير مشهور أبداً، ولا يُعرف إلا في القرون المتأخّرة، وغالباً في بعض الأوساط كالوسط الصوفي والعرفاني بشكل أكبر، ولا قيمة لهذه الشهرة، فهذا لا يصنّف بأنّه مشهور بالمعنى الحديثي لهذه الكلمة، إذ لم تتداوله الكتب الحديثية القديمة، ولم يقع في روايات طرق وأسانيد المحدّثين والرواة، ولا يوجد دليل أصلاً على تلقّي العلماء في القرون السبعة الهجريّة الأولى له بالقبول. وموافقة بعض المتأخّرين عليه لا تنفع كما هو واضح، بل نحن نشكّ أصلاً في كونه منقولاً عن النبي ومنسوباً إليه، حيث غالب المصادر الأساسيّة التي نقلته ذكرته منقولاً عن كتب بني إسرائيل أو أطلقت كلمة (الحديث القدسي) عليه، دون نسبةٍ للنبي، فكيف نتعامل مع هكذا حديث بأنّه مشهور؟! وهل هذا متوافق مع أصول إثبات الحديث الشريف حقّاً؟!
الطريق الثاني: إنّ مضمون هذا الحديث قد ورد في روايات أخرى معتبرة السند، مثل حديث قرب النوافل، ففي خبر حماد بن بشير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام، يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: (قال الله عز وجل: من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي، وما تقرّب إليّ عبد بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله كتردّدي عن موت المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته) (الكافي 2: 352؛ وانظر أيضاً: صحيح البخاري 7: 190).
ولكن بصرف النظر عن تقويم حديث قرب النوافل وأمثاله، ولا أريد أن نخوض فيه الآن، فهناك كلام يمكن طرحه حوله وحول معناه أساساً.. لا يصحّ بهذه الطريقة إثبات صحّة الحديث الذي نحن فيه، فهذا خطأ منهجيّ يقع فيه كثيرون اليوم، فأنت لا تصحّح صدور حديث بحديث آخر، بل أنت تصحّح القاسم المشترك بين الحديثين بانضمام الثاني إلى الأوّل، فالتصحيح إنّما هو لصدور المضمون المشترك؛ لأنّ مجرّد وجود حديث صحيح إلى جانب الحديث الضعيف لا يجعل الحديث الضعيف صحيحاً في نفسه (وتعبير الصحيح لغيره أو الحسن لغيره لا معنى له إلا بالطريقة التي قلناها)، بل يجعل المقدار المشترك ثابتاً بانضمام الاثنين إلى بعضهما، وهذا يعني أنّ الأشياء التي يختصّ بها الحديث الضعيف لا يمكن إثباتها بالحديث الصحيح. وهذه نكتة ظريفة مهمّة وبابٌ مفيد في دراسة الحديث، خلافاً لتعاطي كثيرين اليوم مع الحديث وقواعد إثباته. وهذا الحديث الذي بين أيدينا الآن يحتوي على تعابير ذات خصوصيات إضافيّة محتملة، مثل تعبير (مثلي) وتعبير (تقل للشيء كن فيكون)، وعليه فنحن هنا لا نريد إثبات فكرةٍ ما بالحديثين معاً، ولسنا بصدد بحث القاسم المشترك بين الحديثين، بل نريد تحديد فرص التأكّد من صدور هذا الحديث الذي بين أيدينا الآن بما يحمله من خصوصيّات.
والنتيجة ـ بصرف النظر عن المناقشات المتنيّة ـ لم يثبت صدور هذا الحديث أصلاً، بل إنّني أشكّ في كونه حديثاً نبويّاً أساساً ولو ضعيف السند، ومن الواضح أيضاً أنّ قاعدة التسامح ـ لو ثبتت ـ لا تجري في مثل هذه الموارد التي لا علاقة لها بالأمور العمليّة.
المرحلة الثالثة: في دراسة معنى هذا الحديث ودلالاته، ومن ثمّ تقويم متنه، فقد تمّ تفسير هذا الحديث بأكثر من طريقة، أبرزها:
الطريقة الأولى: وهي الطريقة التي ترى أنّ معنى هذا الحديث هو منح الولاية التكوينية للعبد نتيجة طاعته لله، وبهذا يكون هذا الحديث من الأحاديث المثبتة للولاية التكوينيّة في الجملة، ومن حيث المبدأ، ولهذا نرى أنّ الكثير ممّن كتب في الولاية التكوينيّة من المتأخّرين والمعاصرين قد استحضروا هذا الحديث بوصفه من الأحاديث المثبتة لهذه النظريّة، فعلى سبيل المثال، جاء في بعض الأسئلة الموجّهة للشيخ جواد التبريزي رحمه الله، ما يلي: (ما معنى قوله تعالى في الحديث القدسي: (عبدي أطعني تكن مثلي، أقول للشيء كن فيكون، وأنت تقول للشيء كن فيكون)؟ فهل العلماء يستطيعون الوصول إلى مرتبة مثل اللّٰه؟ ليس كمثله شيء. وهل بهذه المرتبة يستطيعون أن يحيوا الموتى يخلقون ويرزقون؟ مع ملاحظة هذه الرواية (لو قرأت سورة الفاتحة على ميت لأحييته)؟ الجواب: بسمه تعالى، ظاهر هذا الحديث ـ على فرض ثبوته ـ أنّ الإطاعة لله إذا خلصت له سبحانه، فإنّ اللّٰه سبحانه يمكّنه ويسلّطه على الأشياء ويسخّر الأشياء له، وهو معنى الولاية التكوينيّة الثابتة للأنبياء والمعصومين عليهم السلام، إلا أنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام لم يستعملوا هذه الولاية إلا في موارد خاصّة اقتضتها المصلحة والحكمة، واللّٰه العالم) (التبريزي، صراط النجاة 10: 424 ـ 425). فالشيخ التبريزي فهم من الحديث فكرة الولاية التكوينية، مع الإشارة إلى أنّ مطلع جوابه يوحي وكأنّه لم يثبت عنده هذا الحديث.
وإذا صحّ تفسير هذا الحديث بالولاية التكوينية، فهو لا يعني الولاية التكوينية بمعنى الواسطة في الفيض، خاصّةً الواسطة التامّة، بل يعني الولاية التكوينية بمعنى قدرة الوليّ على التدخّل في العالم ساعة يشاء كما هو واضح، فلا يُثبت هذا الحديث ـ لو سلّمنا بدلالته على الولاية التكوينيّة ـ غير هذا المعنى للولاية لا المعاني الأخرى فليُنتبه جيداً، ولهذا ختم الشيخُ التبريزي كلامَه بأنّ أهل البيت لم يستعملوا هذه الولاية إلا في مواضع خاصّة، فإنّ الواسطة في الفيض إذا فُهمت بالمعنى التام لا يمكن أن نصفها بهذه الطريقة كما هو معلوم.
وقد اقترب العلامة السيد محمّد حسين فضل الله رحمه الله من هذا التفسير، لكن بطريقة أنّ الحديث يريد أن يقول بأنّ الله يجعل هذا العبد مثل عيسى بن مريم، فيقول للشيء: كن، فيكون بأمر الله (فضل الله، للإنسان والحياة: 329 ـ 330)، وهذا المعنى الذي يطرحه السيد فضل الله كأنّه يرتبط بجانب الإطلاق في الحديث، فالحديث لا يقول بأنّ هذا العبد يصبح العالم كلّه بيده، بل يقول بأنّه سيصبح مثل الله في بعض الحالات، تماماً مثل عيسى بن مريم، غايته أنّه يكون ذلك بأمر الله وإذنه وتمكينه.
الطريقة الثانية: وهي الطريقة التي تعتبر هذا الحديث من الأحاديث المخبرة عن وقائع الآخرة وليس الدنيا، وهذا ما يطرحه الشيخ محمّد جواد مغنيّة، حيث قدّم تفسيراً مختلفاً لهذا الحديث فقال: (كنت من قبل في شكّ من حديثين تردّدا كثيراً على سمعي، أوّلهما هذا الحديث القدسي: يا عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون. وثانيهما هذا الحديث النبوي: إنّ للَّه عباداً إذا أرادوا أراد. شككت في سند هذين الحديثين؛ لأني لم أجد لهما أيّ أثر في هذه الحياة.. ثم أدركت، وأنا أفسّر آي الذكر الحكيم أنّ موضوع الحديثين الآخرة لا الدنيا، فزال الشك، وأيقنت أنّ كلاً من الحديث القدسي والنبوي هو تفسير وبيان لقوله تعالى: (والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)، ونحوه من الآيات) (التفسير الكاشف 6: 520 ـ 521؛ وانظر له: في ظلال نهج البلاغة 1: 424).
ولعلّ ما يساعد على تفسير الشيخ مغنيّة بعض صيغ هذا الحديث ممّا لم نُشِرْ له من قبل، وهو ما قاله ابن عربي في (الفتوحات المكيّة 3: 295): (وورد الخبر في أهل الجنّة أنّ الملك يأتي إليهم، فيقول لهم، بعد أن يستأذن في الدخول عليهم، فإذا دخل ناولهم كتاباً من عند الله بعد أن يسلّم عليهم من الله، فإذا في الكتاب لكلّ إنسان يخاطب به: من الحيّ القيوم الذي لا يموت إلى الحيّ القيوم الذي لا يموت، أما بعد فإنّي أقول للشيء كن فيكون، وقد جعلتك تقول للشيء كن فيكون، فقال (ص): فلا يقول أحد من أهل الجنّة للشيء كن إلا ويكون) (وانظر في هذا الحديث: السبزواري، شرح الأسماء الحسنى 2: 80؛ والملا صدرا، تفسير القرآن الكريم 5: 15؛ والحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة 8: 9 ـ 10؛ والسيد الخميني، آداب نماز: 33؛ ومصباح الهداية: 53 و..).
وتفسير الشيخ مغنية محتمل، رغم أنّه ليست هناك في الحديث أيّة إشارة لموضوع الآخرة، لكنّ سكوت الحديث عن زمان تحقّق (كن فيكون) للعبد، يبقي احتمال الشيخ مغنيّة مفتوحاً في كثير من صيغ هذا الحديث على الأقلّ. وبهذه الطريقة يصبح الحديث أجنبيّاً تماماً عن استخداماته المتداولة عند الأغلب اليوم.
الطريقة الثالثة: وهي الطريقة التي تفسّر الحديث بأنّ المؤمن بوصوله إلى هذه المرتبة من الطاعة يصبح مستجابَ الدعوة، فما يريده يمكنه تحقيقه بطلبه من الله، واستجابة الله له، ومن ثمّ فالموضوع ليس موضوع ولاية تكوينيّة على الأشياء ولا غير ذلك، بل هو موضوع تحقّق غايات المؤمن باستجابة الله لرغباته ودعائه، بلا فرق بين الدنيا والآخرة.
ولكنّ هذه الطريقة لا تنسجم مع هذا الحديث، فإنّ كلمة (مثلي)، ثم كلمة (تقل) للشيء كن فيكون، لا يفهم منها هذا المعنى أبداً، فيكون هذا التفسير محضاً من التكلّف والتأويل، ويفتقر إلى القرينة، نعم، هذا التفسير مطروح بقوّةٍ احتماليّة أكبر في حديث قرب النوافل أخذاً بقرينة ذيل ذلك الحديث، وتفصيله في محلّه.
الطريقة الرابعة: أن يُفهم هذا الحديث على أنّه يفترض أنّ العبد بالطاعة يصبح إلهاً مثل الله، فيقول للشيء كن فيكون، وفيه تنزيلٌ للعبد منزلة الله، وجعلاً للشريك له.
وهذا التفسير هو الذي فهمه بعض نقّاد هذا الحديث متناً، فعلى سبيل المثال جاء في نقد هذا الحديث متناً، وأنّه موضوع، في (فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 4: 372)، ما يلي: (س: سمعت من بعض الناس يقول حديثاً قدسيّاً عبارته: عبدي أطعني تكن عبداً ربانيّاً يقول للشيء: كن، فيكون، هل هذا حديث قدسي صحيح أم غير صحيح؟ ج: هذا الحديث لم نعثر عليه في شيء من كتب السنّة، ومعناه يدلّ على أنّه موضوع، إذ إنّه ينزّل العبد المخلوق الضعيف منزلة الخالق القويّ سبحانه، أو يجعله شريكاً له، تعالى الله عن أن يكون له شريك في ملكه. واعتقاده شركٌ وكفر؛ لأنّ الله سبحانه هو الذي يقول للشيء: كن، فيكون، كما في قوله عز وجل: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
ومنطلق كثير من الناقدين هنا هو تعبير (مثلي) سواء قرأناه بفتح الميم والثاء، أم بكسر الميم وسكون الثاء، فإنّ هذا التعبير مناقض للقرآن، أو فقل: بعيدٌ عن لغة القرآن والحديث وغريب عنها، فحتى من لديه ولاية تكوينية لا نقول عنه بأنّه مثل الله، وأنّه يقول للأشياء كن فتكون.
وقد حاول السيد محمّد حسين فضل الله في كتاب (للإنسان والحياة: 329، 330) أن يتجاوز مشكلة كلمة (مثلي) في هذا الحديث، فذكر أنّ الأحاديث المنقولة عن بعض كتب أهل الكتاب، ربما تكون بعد نقلها إلى العربية قد تعرّضت لبعض التغيّرات الناتجة عن فعل الترجمة، فظهرت كلمة (مثلي) والتي قد لا تكون بهذا المعنى في الأصل غير العربي، وبالتالي علينا أن لا نتشدّد كثيراً في هذه الكلمة، ولنتخطّاها نحو الفكرة الرئيسيّة التي يتحدّث عنها الحديث، والتي هي أنّ المؤمن قد يصل لمرتبةٍ يُقدره الله فيها على التصرّف بالطبيعة هنا أو هناك لمصالح، كما حصل لعيسى بن مريم عليهما السلام.
وهذه المداخلة من السيد فضل الله مهمّة جداً، وتفتح على ضرورة وجود دراسات مقارنة ولغويّة جادّة في النصوص التي نُقلت من كتب أهل الكتاب، والغريب أنّ بعض الناقدين للسيد فضل الله حمّله هنا قولاً لم يقله، فاعتبر أنّ السيد فضل الله كأنّه يتهم الأئمّة بممارسة ترجمة غير دقيقة، وهذا نقضٌ لعصمتهم! مع أنّ كلام السيد فضل الله صريحٌ في أنّه بصدد الحديث عن ما نقل عن الكتب السابقة، لا عمّا رواه النبي وأهل البيت عن تلك الكتب، لاسيما ـ كما قلنا ـ أنّ هذا الحديث الذي بين أيدينا لا يُحرز كونه مرويّاً عن النبي وأهل البيت أساساً، وربما تنبّه لهذا العلامة فضل الله، فعلّق على هذا الحديث بهذا الكلام؛ لعلمه بأنّ هذا الحديث منقولٌ عن الكتب السابقة، لا أنّ النبي والأئمّة نقلوه عن الصحف السابقة، فليس كلّ حديث قدسي نقل عن الكتب السابقة فهو مروي عن النبي والأئمّة، وهذا من الأخطاء الشائعة بين بعض الناس، فلاحظ وانتبه.
وعلى أيّة حال، فمداخلة العلامة فضل الله محتملة هنا، لكن من الصعب التأكّد منها قبل إجراء مقارنات لغويّة دقيقة، ولهذا فإنّني أعتقد بأنّ هذا الحديث قد لا يناقض الأصول القرآنية؛ لأنّه لا يقول بأنّ العبد يصبح مثل الله تماماً من جميع الجهات، بل يبيّن المماثلة في جهةٍ من الجهات، وهي جهة التمكّن من فعل أيّ شيء في العالم، غايته لابدّ من تقييد الحديث بالإذن والتمكين الإلهي، كما هو ظاهر من الكثير من صيغه أنّ الله يُقدره على ذلك، لا أنّه يستقلّ بذلك عن الله، نعم أدبيات هذا الحديث ولغته ليست متوالمة أو متماهية مع طبيعة التراكيب القرآنية التي يبدو عليها التشدّد في توصيف الله وحده بالهيمنة على العالم وفعل ما يريد وتحقّقه بمقام (كن فيكون)، لاسيما لو ضممنا تعابير مثل: (أجعلك غنيّاً لا تفتقر) و (من الحي القيوم الذي لا يموت إلى الحيّ القيوم الذي لا يموت).
والنتيجة: إنّ هذا الحديث غير ثابت إطلاقاً، وهو ضعيف للغاية، بل لا يعلم كونه حديثاً نبويّاً أساساً، وغالب الظنّ أنّه استُقي من أصول إسرائيليّة، ونفذ إلى الثقافات الباطنيّة والصوفيّة عند المسلمين، ومنها إلى الثقافة الشيعيّة في القرون المتأخّرة، وأمّا مضمونه فقد تضعف قوّة دلالته على الولاية التكوينيّة بعد وجود مثل احتمال الشيخ مغنيّة، إن لم نقل بغرابته عن اللغة القرآنية، وأمّا دلالته على الولاية بمعنى الواسطة في الفيض فبعيدة جدّاً، والعلم عند الله.
جواب سماحة الشيخ حيدر حب الله (حفظه الله )
http://hobbollah.com/questions/حديث-...دلالات/
تعليق