قمــة “الإيرانوفوبيــا”.. للضغط على إيران وابتــزاز الخليــج

أحمد الشرقاوي
خاص: بانوراما الشرق الأوسط
قمـة “الإيرانوفوبيـا”، هي التسمية التي أطلقها مستشار قائد الثورة الإسلامية للعلاقات الخارجية السيد ‘علي أكبر ولايتي’ في مقابلة الأربعاء مع صحيفة ‘الفايننشال تايمز’، عند حديثه عن لقاء ‘كامب ديفيد’ بين الرئيس ‘أوباما’ وعملائه في الخليج، مشددا على أن القمة لن تأتي بأي نتيجة تذكر، خاصة مع غياب “خائن الحرمين الشريفين” (والتعبير للسيد بروجردي)..
لكن قبل الحديث عن نجاح أو فشل القمة، علينا ابتداءا ملاحظة أن من وجه الدعوة للقاء ‘كامب ديفيد’ هو الرئيس ‘أوباما’ وليست “السعودية” التي تقول أنها تتزعم اليوم كتلة خليجية تمثل قوة إقليمية وازنة ومتجانسة، وهو الأمر الذي ليس صحيحا بالنظر إلى الخلافات العميقة التي يعرفها الخاص والعام بين مكونات مشيخات الخليج حول أكثر من ملف وقضية.
وكون العاهل ‘سلمان’ تخلف عن حضور القمة بسبب ما قيل أنه تعبير عن امتعاضه من موقف الرئيس ‘أوباما’ بسبب تخليه عن عملائه كـ’بن علي’ في تونس و’مبارك’ في مصر لتمكين الإخوان المسلمين من السلطة بعد الربيع العربي دعما للنفوذ التركي، وعدم إسقاطه للنظام السوري عسكريا في دمشق صيف 2013 بعد الاتفاق مع الروسي حول الكيماوي.. فالأمر لا يعدو أن يكون محاولة لحجب الشمس بالغربال والقول أن “السعودية” تتعامل مع الإدارة الأمريكية بندية واستقلالية، في حين يعلم الجميع أن حكام المملكة هم مجرد عملاء يأتمرون بأوامر سيدهم في البيت الأبيض وينفذون ما يطلب منهم، سواء أكان الرئيس أوباما أم غيره.
لكننا نتفق أن الامتعاض الحقيقي الذي تشعر به السعودية هو بسبب رفض الرئيس ‘أوباما” توقيع اتفاقية للدفاع المشترك مع مشيخات الخليج بنفس مستوى الاتفاقية التي تجمع واشنطن بتل أبيب، ورفضه أيضا تمتيع مشيخات الخليج بالمظلة الأطلسية كما هو حال تركيا، وفضل مقابل ذلك، اعتبار دويلات الخليج “حليف إستراتيجي” فقط، وهي عبارة فضفاضة تعني أن أمريكا قد تتدخل عسكريا لحماية الخليج في حال تعرض لهجوم خارجي، لكن في إطار القانون الدولي وبعد استصدار قرار من مجلس الأمن.
وحيث أن معضلة “السعودية” الحقيقية تكمن أساسا في خشيتها من النفوذ الإيراني ما بعد الاتفاق النووي، وتعمل على إنشاء قوة عسكرية “لقيطـة” للدفاع عن ما تقول أنه الأمن القومي العربي المهدد من قبل إيران، من دون أن تكون فلسطين المحتلة من ضمن أولويات هذا الأمن القومي “العربي”، فقد أوضح أوباما وللمرة الثانية من واشنطن، أن الخطر الحقيقي على دول الخليج لن يأتي من إيران، بل من داخل المشيخات تحديدا.. لأنه إذا كانت أمريكا مستعدة للدفاع عن أمنهم من أي تهديد خارجي، إلا أنها لا تستطيع حمايتهم من شعوبهم..
وسبب رفض الرئيس ‘أوباما’ لطلب مشيخات الخليج في ما له علاقة بالمظلة الأمنية، هو إدراكه أن مشكلة هذه الدويلات القبلية الرجعية تكمن في الإصلاحات السياسية لا في التهديدات الخارجية الافتراضية التي لا وجود لها على أرض الواقع، والتي تتطلب حزمة من الإجراءات الدستورية لضمان المشاركة الشعبية في الحياة السياسية، والشفافية في توزيع وإدارة الثروات، والمحاسبة على قدر المسؤولية، واستقلال القضاء، ومراجعة منظومات القوانين، ومناهج التعليم وخصوصا الدينية، والمنظومة الصحية، واحترام حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير، وحقوق المرأة، وتطوير المجتمع المدني، وتطوير البنى التحتية الأساسية، وإقامة مشاريع للتنمية الشاملة المستدامة لفائدة المستضعفين تحميهم من الارتماء في أحضان المنظمات الإرهابية..
لكن، ولتبديد هواجسهم الأمنية، لا مانع لدى الإدارة الأمريكية من تطوير منظومة أمنية وعسكرية جديدة في الخليج، وتزويدهم بأسلحة متطورة ودرع صاروخية وخلافه، بعد أن لم تنفع 500 مليار دولار من التسليح خلال العشر سنوات الأخيرة في ضمان أمنهم، الأمر الذي سيمكن شركات السلاح والأمن الأمريكية من عقد صفقات بمليارات الدولارات لاستنزاف مذخرات هذه المشيخات في البنوك الغربية، لكن شريطة أن لا يقوموا بأية مغامرة عسكرية من دون موافقة مسبقة من واشنطن.. فعن أي ندية وسيادة واستقلالية القرار يتحدث الأعراب؟..
وسبب هذا الشرط، هو إدراك الولايات المتحدة أن “السعودية” تبحث عن بطولات وهمية، وقد تقدم على مغامرات مجنونة كالتي أقدمت عليها في اليمن، في إطار ما تسميه حربها على إيران ونفوذها في المنطقة، وهو أمر قد يؤدي إلى انفجار المنطقة وتوريط أمريكا في حرب لا ترغب فيها ويستحيل أن تخوضها وفق الأجندة “السعودية”، وتفضل حل مشاكلها مع طهران بالحوار.
وبهذا المعنى، تكون القمة قد فشلت بالفعل كما توقع السيد ‘ولايتي’، خصوصا بعد أن تبين أن الهدف من قمة ‘كامب ديفيد’ لم يكن التحضير لإرساء السلام في المنطقة، بل فضل الرئيس أوباما تحت عنوان “إدارة الأزمات من الخلف بدل المغامرات العسكرية المباشرة” زرع المزيد من الصواعق لاستنزاف محور المقاومة بالوكالة، ودعك من ما ورد في البيان الختامي من أوهام، صيغت بعبارات ديبلوماسية منمقة تعد الخليجيين بالحماية من دون أن تضمن لهم أمنا..
لقد اقتنع حكام الخليج أخيرا، أن ما يحكم السياسة الأمريكية هي المصالح لا الصداقات، والمصالح لا تعني بالضرورة صفقات السلاح على أهميتها، لأن ما تسعى للحصول عليه أمريكا من اتفاقها مع إيران من الناحية الإستراتيجية السياسية والاقتصادية أكبر بكثير من قدرة مشيخات الخليج على توفيره، ويتجاوز المنطقة العربية لما هو أبعد، وخصوصا ما يتعلق بمنطقة آسيــا، لكنها في ذات الوقت لا تريد أن تفقد أدواتها، ولا ترغب في مراجعة دورهم وتعديل سياساتهم بما يضمن الأمن والسلام في الشرق الأوسط المشتعل في أكثر من جبهة..
ذلك، أن أمريكا تسعى من خلال سياسة استنزاف محور المقاومة، كسب أوراق ضغط لاستعمالها ضد إيران وجرها إلى طاولة المفاوضات بعد الاتفاق النووي حول ملفات المنطقة بما فيها القضية الفلسطينية، خصوصا بعد أن أعلنت القيادة الإيرانية أنها لا تثق بالنوايا الأمريكية، وقد لا تفاوض أمريكا بشأن النزاعات القائمة، لأن مستقبل اليمن وسورية والعراق وغيرها، يجب أن تحدده شعوبها لا القوى الخارجية..
وللتوضيح، فرهان أمريكا على إيران يقوم على فكرة مفادها، أن عقد اتفاق “مالطا” مصغر مع طهران بشأن الشرق الأوسط وأفغانستان بعد الاتفاق النووي، هو أهم من عقد اتفاق “مالطا” موسع مع روسيا و الصين، يسمح لهما بلعب دور أساسي على المسرح الدولي في إطار تعدد القطبية، والدرع الصاروخية الخليجية هي ورقة ضغط إضافية على إيران وفق هذه الرؤية..
والمدخل لمثل هذا الرهان يمر حتما من خلال توقيع الإتفاق النووي، والذي يعطي، وفق الحسابات الأمريكية، دعما سياسيا كبيرا للجناح المعتدل الذي يمثله حسن روحاني ومحمد ظريف، ويقلل من نفوذ الجناح المتشدد حين يشعر الشباب الإيراني بمزايا الانفتاح على النظام الليبرالي العالمي، ما سيؤدي إلى تغيير جذري في الموقف من الإديولوجية الثورية، وتبدل نوعي في السياسات على المدى المتوسط والبعيد، وتكون من نتائجه الإيجابية، انتزاع إيران من الحضن الروسي – الصيني بعد رحيل الإمام الخامنئي (أطال الله عمره).
ناهيك عن أن مكاسب الشركات الأمريكية والأوروبية من السوق الإيرانية الضخمة، والتي قال عنها خبراء اقتصاديون أنها بمثابة الاستثمار في كوكب كبير كالمريخ، يجعل من السوق الخليجية سوقا ثانوية، وفي ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها الغرب عموما، ليس من العقلانية التخلي عن هذه الكعكة الضخمة لجبر خاطر “السعودية “، فمصالح أمريكا وأوروبا فوق الاعتبارات القبلية والحسابات الجاهلية..
ومن أجل ذلك، لا ترى الولايات المتحدة مشكلة في أن تمتلك إيران قنبلتها النووية بعد عشر سنوات، بل ولا تستطيع أمريكا أو غيرها منعها من ذلك في المدى المنظور إن هي قررت تغيير سياستها الأمنية، والحرب في هذه المرحلة ليست حلا عقلانيا، ولن تكون نتائجها في مصلحة أحد..
هذا ما أشار إليه الرئيس أوباما أثناء مؤتمره الصحفي من حديقة البيت الأبيض الخميس، وعليه، فالأولوية بالنسبة لأمريكا هي أن تحرس على أن تلتزم إيران بتعهداتها بإخضاع برنامجها لآليات الرقابة الأممية لا أكثر ولا أقل، وهذا يعني، نهاية فزاعة النووي أو “الإيرانوفوبيــا”، وبداية فزاعة “الشيعوفوبيا” التي تعني محاصرة المد “الشيعي” في المنطقة وضرب النفوذ الإيراني في العراق وسورية واليمن ولبنان من خلال قلب المعادلات على الأرض بعواصف الوهم والضغوط السياسية.,
وفي إطار الضغوط التي نتحدث عنها، اتفق أوباما مع الوفد الخليجي على أن يكون الحب سلميا في اليمن، لكن تحت الرعاية السعودية في الرياض و وفق المبادرة الخليجية.. كما اتفق معهم على أن يكون الحل في سورية سياسيا أيضا، لكن وفق آلية لانتقال السلطة لا تضمن بقاء الأسد، مع الاستمرار في دعم “المعارضة المسلحة المعتدلة”، وطبعا سينال العراق نفس نصيب سورية من الاستنزاف حتى القبول بإبعاد الحشد الشعبي “الإيراني”، وتسليح المكون السني والكردي لمواجهة “داعش” بإشراف أمريكي..
أما لبنان، فقد تبين أن سبب معارضة سماسرة 14 الشهر لدخول حزب الله معركة القلمون،يعود لتعهد من الإدارة الأمريكية يقضي بدخول التحالف الدولي لقتال “الجهاديين” إن هم قرروا مهاجمة لبنان، وهذا يعني أن لبنان يجب أن يضل في الثلاجة إلى غاية الانتهاء من الموضوع السوري للتفرغ لحزب الله..
كيف لا.. وخطة محاربة الإرهاب في المنطقة التي وضعا البنتاغون ستكلف 600 مليار دولار للسنوات القادمة، ستدفعها مشيخات الخليج مقابل أن تتمتع “السعودية” بالزعامة العربية والإسلامية السنية في المنطقة من اليمن إلى لبنان مرورا بالعراق وسورية وليبيا أيضا..
أما مصر، فالملك ‘سلمان’ يعتبر ‘السيسي’ من أخطاء العاهل المقبور ‘عبد الله’، وفق ما أفاد ‘ديفيد هيرست’ في مقال نشره بموقع “ميدل إيست أي” الأربعاء، وبالتالي، سيقوم بتصحيحه في الوقت المناسب، لذلك يفضل في هذه المرحلة التحالف مع تركيا العثمانية في معركة استعادة الأمن القومي “العربي” بدل المحروسة.
ومهما يكن من أمر، فما يدور في رأس الجمل يعرفه الجمال، وإذا كانت أمريكا قد حولت المنطقة إلى حقل تجارب لاستراتيجياتها الفاشلة، فإن إيران وحلفائها وخصوصا روسيا والصين، لا يمكن وصفهم بالمتفرجين على ما يحدث من تغيرات جيوستراتيجية كبيرة تمس مصالحهم..
وها هي الأنباء تتحدث اليوم عن سعي الرئيس بوتين لضم إيران للدرع الصاروخية لمنظمة ‘شانغهاي’ كرد على الدرع الصاروخية الخليجية، هذا بالإضافة إلى الترتيبات القائمة لإلحاق إيران كعضو كامل في نفس المنظمة بالإضافة لمجموعة ‘البريكس’ الاقتصادية، وقد سبق لإيران أن حددت خيارها حين صرح مسؤولوها بالقول أن الثقل الإستراتيجي الدولي هو في منطقة آسيا اليوم.
كما وأن روسيا بصدد تسليح سورية بأسلحة نوعية تصل تباعا للاذقية في إطار التحضير للرد على أي مغامرة تركية محتملة، هذا علما أن حلف المقاومة وضع إستراتيجية شاملة، ستشعل ساحات المنطقة بكاملها من اليمن إلى سورية مرورا بالعراق سواء من ناحية الأسلحة النوعية الجديدة أو الحشود المقاتلة التي تتدرب في إيران، وأن التحضيرات قائمة على قدم وساق، وما معركة القلمون والإنجازات النوعية السريعة والمدهشة إلا تحضير لما ستشهده المنطقة في القادم من الأيام..
لذلك قلنا في مقالة تحليلية لخطاب سماحة السيد الأخير، أنه كان بمثابة أمر عمليات لإشعال كل الساحات، ولننتظر خطاب السبت لنقف على الخبر اليقين من لسان صاحب الكلمة الفصل والوعد الصادق.

أحمد الشرقاوي
خاص: بانوراما الشرق الأوسط
قمـة “الإيرانوفوبيـا”، هي التسمية التي أطلقها مستشار قائد الثورة الإسلامية للعلاقات الخارجية السيد ‘علي أكبر ولايتي’ في مقابلة الأربعاء مع صحيفة ‘الفايننشال تايمز’، عند حديثه عن لقاء ‘كامب ديفيد’ بين الرئيس ‘أوباما’ وعملائه في الخليج، مشددا على أن القمة لن تأتي بأي نتيجة تذكر، خاصة مع غياب “خائن الحرمين الشريفين” (والتعبير للسيد بروجردي)..
لكن قبل الحديث عن نجاح أو فشل القمة، علينا ابتداءا ملاحظة أن من وجه الدعوة للقاء ‘كامب ديفيد’ هو الرئيس ‘أوباما’ وليست “السعودية” التي تقول أنها تتزعم اليوم كتلة خليجية تمثل قوة إقليمية وازنة ومتجانسة، وهو الأمر الذي ليس صحيحا بالنظر إلى الخلافات العميقة التي يعرفها الخاص والعام بين مكونات مشيخات الخليج حول أكثر من ملف وقضية.
وكون العاهل ‘سلمان’ تخلف عن حضور القمة بسبب ما قيل أنه تعبير عن امتعاضه من موقف الرئيس ‘أوباما’ بسبب تخليه عن عملائه كـ’بن علي’ في تونس و’مبارك’ في مصر لتمكين الإخوان المسلمين من السلطة بعد الربيع العربي دعما للنفوذ التركي، وعدم إسقاطه للنظام السوري عسكريا في دمشق صيف 2013 بعد الاتفاق مع الروسي حول الكيماوي.. فالأمر لا يعدو أن يكون محاولة لحجب الشمس بالغربال والقول أن “السعودية” تتعامل مع الإدارة الأمريكية بندية واستقلالية، في حين يعلم الجميع أن حكام المملكة هم مجرد عملاء يأتمرون بأوامر سيدهم في البيت الأبيض وينفذون ما يطلب منهم، سواء أكان الرئيس أوباما أم غيره.
لكننا نتفق أن الامتعاض الحقيقي الذي تشعر به السعودية هو بسبب رفض الرئيس ‘أوباما” توقيع اتفاقية للدفاع المشترك مع مشيخات الخليج بنفس مستوى الاتفاقية التي تجمع واشنطن بتل أبيب، ورفضه أيضا تمتيع مشيخات الخليج بالمظلة الأطلسية كما هو حال تركيا، وفضل مقابل ذلك، اعتبار دويلات الخليج “حليف إستراتيجي” فقط، وهي عبارة فضفاضة تعني أن أمريكا قد تتدخل عسكريا لحماية الخليج في حال تعرض لهجوم خارجي، لكن في إطار القانون الدولي وبعد استصدار قرار من مجلس الأمن.
وحيث أن معضلة “السعودية” الحقيقية تكمن أساسا في خشيتها من النفوذ الإيراني ما بعد الاتفاق النووي، وتعمل على إنشاء قوة عسكرية “لقيطـة” للدفاع عن ما تقول أنه الأمن القومي العربي المهدد من قبل إيران، من دون أن تكون فلسطين المحتلة من ضمن أولويات هذا الأمن القومي “العربي”، فقد أوضح أوباما وللمرة الثانية من واشنطن، أن الخطر الحقيقي على دول الخليج لن يأتي من إيران، بل من داخل المشيخات تحديدا.. لأنه إذا كانت أمريكا مستعدة للدفاع عن أمنهم من أي تهديد خارجي، إلا أنها لا تستطيع حمايتهم من شعوبهم..
وسبب رفض الرئيس ‘أوباما’ لطلب مشيخات الخليج في ما له علاقة بالمظلة الأمنية، هو إدراكه أن مشكلة هذه الدويلات القبلية الرجعية تكمن في الإصلاحات السياسية لا في التهديدات الخارجية الافتراضية التي لا وجود لها على أرض الواقع، والتي تتطلب حزمة من الإجراءات الدستورية لضمان المشاركة الشعبية في الحياة السياسية، والشفافية في توزيع وإدارة الثروات، والمحاسبة على قدر المسؤولية، واستقلال القضاء، ومراجعة منظومات القوانين، ومناهج التعليم وخصوصا الدينية، والمنظومة الصحية، واحترام حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير، وحقوق المرأة، وتطوير المجتمع المدني، وتطوير البنى التحتية الأساسية، وإقامة مشاريع للتنمية الشاملة المستدامة لفائدة المستضعفين تحميهم من الارتماء في أحضان المنظمات الإرهابية..
لكن، ولتبديد هواجسهم الأمنية، لا مانع لدى الإدارة الأمريكية من تطوير منظومة أمنية وعسكرية جديدة في الخليج، وتزويدهم بأسلحة متطورة ودرع صاروخية وخلافه، بعد أن لم تنفع 500 مليار دولار من التسليح خلال العشر سنوات الأخيرة في ضمان أمنهم، الأمر الذي سيمكن شركات السلاح والأمن الأمريكية من عقد صفقات بمليارات الدولارات لاستنزاف مذخرات هذه المشيخات في البنوك الغربية، لكن شريطة أن لا يقوموا بأية مغامرة عسكرية من دون موافقة مسبقة من واشنطن.. فعن أي ندية وسيادة واستقلالية القرار يتحدث الأعراب؟..
وسبب هذا الشرط، هو إدراك الولايات المتحدة أن “السعودية” تبحث عن بطولات وهمية، وقد تقدم على مغامرات مجنونة كالتي أقدمت عليها في اليمن، في إطار ما تسميه حربها على إيران ونفوذها في المنطقة، وهو أمر قد يؤدي إلى انفجار المنطقة وتوريط أمريكا في حرب لا ترغب فيها ويستحيل أن تخوضها وفق الأجندة “السعودية”، وتفضل حل مشاكلها مع طهران بالحوار.
وبهذا المعنى، تكون القمة قد فشلت بالفعل كما توقع السيد ‘ولايتي’، خصوصا بعد أن تبين أن الهدف من قمة ‘كامب ديفيد’ لم يكن التحضير لإرساء السلام في المنطقة، بل فضل الرئيس أوباما تحت عنوان “إدارة الأزمات من الخلف بدل المغامرات العسكرية المباشرة” زرع المزيد من الصواعق لاستنزاف محور المقاومة بالوكالة، ودعك من ما ورد في البيان الختامي من أوهام، صيغت بعبارات ديبلوماسية منمقة تعد الخليجيين بالحماية من دون أن تضمن لهم أمنا..
لقد اقتنع حكام الخليج أخيرا، أن ما يحكم السياسة الأمريكية هي المصالح لا الصداقات، والمصالح لا تعني بالضرورة صفقات السلاح على أهميتها، لأن ما تسعى للحصول عليه أمريكا من اتفاقها مع إيران من الناحية الإستراتيجية السياسية والاقتصادية أكبر بكثير من قدرة مشيخات الخليج على توفيره، ويتجاوز المنطقة العربية لما هو أبعد، وخصوصا ما يتعلق بمنطقة آسيــا، لكنها في ذات الوقت لا تريد أن تفقد أدواتها، ولا ترغب في مراجعة دورهم وتعديل سياساتهم بما يضمن الأمن والسلام في الشرق الأوسط المشتعل في أكثر من جبهة..
ذلك، أن أمريكا تسعى من خلال سياسة استنزاف محور المقاومة، كسب أوراق ضغط لاستعمالها ضد إيران وجرها إلى طاولة المفاوضات بعد الاتفاق النووي حول ملفات المنطقة بما فيها القضية الفلسطينية، خصوصا بعد أن أعلنت القيادة الإيرانية أنها لا تثق بالنوايا الأمريكية، وقد لا تفاوض أمريكا بشأن النزاعات القائمة، لأن مستقبل اليمن وسورية والعراق وغيرها، يجب أن تحدده شعوبها لا القوى الخارجية..
وللتوضيح، فرهان أمريكا على إيران يقوم على فكرة مفادها، أن عقد اتفاق “مالطا” مصغر مع طهران بشأن الشرق الأوسط وأفغانستان بعد الاتفاق النووي، هو أهم من عقد اتفاق “مالطا” موسع مع روسيا و الصين، يسمح لهما بلعب دور أساسي على المسرح الدولي في إطار تعدد القطبية، والدرع الصاروخية الخليجية هي ورقة ضغط إضافية على إيران وفق هذه الرؤية..
والمدخل لمثل هذا الرهان يمر حتما من خلال توقيع الإتفاق النووي، والذي يعطي، وفق الحسابات الأمريكية، دعما سياسيا كبيرا للجناح المعتدل الذي يمثله حسن روحاني ومحمد ظريف، ويقلل من نفوذ الجناح المتشدد حين يشعر الشباب الإيراني بمزايا الانفتاح على النظام الليبرالي العالمي، ما سيؤدي إلى تغيير جذري في الموقف من الإديولوجية الثورية، وتبدل نوعي في السياسات على المدى المتوسط والبعيد، وتكون من نتائجه الإيجابية، انتزاع إيران من الحضن الروسي – الصيني بعد رحيل الإمام الخامنئي (أطال الله عمره).
ناهيك عن أن مكاسب الشركات الأمريكية والأوروبية من السوق الإيرانية الضخمة، والتي قال عنها خبراء اقتصاديون أنها بمثابة الاستثمار في كوكب كبير كالمريخ، يجعل من السوق الخليجية سوقا ثانوية، وفي ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها الغرب عموما، ليس من العقلانية التخلي عن هذه الكعكة الضخمة لجبر خاطر “السعودية “، فمصالح أمريكا وأوروبا فوق الاعتبارات القبلية والحسابات الجاهلية..
ومن أجل ذلك، لا ترى الولايات المتحدة مشكلة في أن تمتلك إيران قنبلتها النووية بعد عشر سنوات، بل ولا تستطيع أمريكا أو غيرها منعها من ذلك في المدى المنظور إن هي قررت تغيير سياستها الأمنية، والحرب في هذه المرحلة ليست حلا عقلانيا، ولن تكون نتائجها في مصلحة أحد..
هذا ما أشار إليه الرئيس أوباما أثناء مؤتمره الصحفي من حديقة البيت الأبيض الخميس، وعليه، فالأولوية بالنسبة لأمريكا هي أن تحرس على أن تلتزم إيران بتعهداتها بإخضاع برنامجها لآليات الرقابة الأممية لا أكثر ولا أقل، وهذا يعني، نهاية فزاعة النووي أو “الإيرانوفوبيــا”، وبداية فزاعة “الشيعوفوبيا” التي تعني محاصرة المد “الشيعي” في المنطقة وضرب النفوذ الإيراني في العراق وسورية واليمن ولبنان من خلال قلب المعادلات على الأرض بعواصف الوهم والضغوط السياسية.,
وفي إطار الضغوط التي نتحدث عنها، اتفق أوباما مع الوفد الخليجي على أن يكون الحب سلميا في اليمن، لكن تحت الرعاية السعودية في الرياض و وفق المبادرة الخليجية.. كما اتفق معهم على أن يكون الحل في سورية سياسيا أيضا، لكن وفق آلية لانتقال السلطة لا تضمن بقاء الأسد، مع الاستمرار في دعم “المعارضة المسلحة المعتدلة”، وطبعا سينال العراق نفس نصيب سورية من الاستنزاف حتى القبول بإبعاد الحشد الشعبي “الإيراني”، وتسليح المكون السني والكردي لمواجهة “داعش” بإشراف أمريكي..
أما لبنان، فقد تبين أن سبب معارضة سماسرة 14 الشهر لدخول حزب الله معركة القلمون،يعود لتعهد من الإدارة الأمريكية يقضي بدخول التحالف الدولي لقتال “الجهاديين” إن هم قرروا مهاجمة لبنان، وهذا يعني أن لبنان يجب أن يضل في الثلاجة إلى غاية الانتهاء من الموضوع السوري للتفرغ لحزب الله..
كيف لا.. وخطة محاربة الإرهاب في المنطقة التي وضعا البنتاغون ستكلف 600 مليار دولار للسنوات القادمة، ستدفعها مشيخات الخليج مقابل أن تتمتع “السعودية” بالزعامة العربية والإسلامية السنية في المنطقة من اليمن إلى لبنان مرورا بالعراق وسورية وليبيا أيضا..
أما مصر، فالملك ‘سلمان’ يعتبر ‘السيسي’ من أخطاء العاهل المقبور ‘عبد الله’، وفق ما أفاد ‘ديفيد هيرست’ في مقال نشره بموقع “ميدل إيست أي” الأربعاء، وبالتالي، سيقوم بتصحيحه في الوقت المناسب، لذلك يفضل في هذه المرحلة التحالف مع تركيا العثمانية في معركة استعادة الأمن القومي “العربي” بدل المحروسة.
ومهما يكن من أمر، فما يدور في رأس الجمل يعرفه الجمال، وإذا كانت أمريكا قد حولت المنطقة إلى حقل تجارب لاستراتيجياتها الفاشلة، فإن إيران وحلفائها وخصوصا روسيا والصين، لا يمكن وصفهم بالمتفرجين على ما يحدث من تغيرات جيوستراتيجية كبيرة تمس مصالحهم..
وها هي الأنباء تتحدث اليوم عن سعي الرئيس بوتين لضم إيران للدرع الصاروخية لمنظمة ‘شانغهاي’ كرد على الدرع الصاروخية الخليجية، هذا بالإضافة إلى الترتيبات القائمة لإلحاق إيران كعضو كامل في نفس المنظمة بالإضافة لمجموعة ‘البريكس’ الاقتصادية، وقد سبق لإيران أن حددت خيارها حين صرح مسؤولوها بالقول أن الثقل الإستراتيجي الدولي هو في منطقة آسيا اليوم.
كما وأن روسيا بصدد تسليح سورية بأسلحة نوعية تصل تباعا للاذقية في إطار التحضير للرد على أي مغامرة تركية محتملة، هذا علما أن حلف المقاومة وضع إستراتيجية شاملة، ستشعل ساحات المنطقة بكاملها من اليمن إلى سورية مرورا بالعراق سواء من ناحية الأسلحة النوعية الجديدة أو الحشود المقاتلة التي تتدرب في إيران، وأن التحضيرات قائمة على قدم وساق، وما معركة القلمون والإنجازات النوعية السريعة والمدهشة إلا تحضير لما ستشهده المنطقة في القادم من الأيام..
لذلك قلنا في مقالة تحليلية لخطاب سماحة السيد الأخير، أنه كان بمثابة أمر عمليات لإشعال كل الساحات، ولننتظر خطاب السبت لنقف على الخبر اليقين من لسان صاحب الكلمة الفصل والوعد الصادق.