الأزهـر.. دفاعــا عـن الكهنــوت

أحمد الشرقاوي
خاص: بانوراما الشرق الأوسط
خرج شيخ الأزهر في أول جمعة من شهر رمضان المعظم، ليفتن بين المسلمين ويحذر من ما أسماه بـ”الحملة المحمومة” التي تستهدف الشباب المصري لتحويله عن المذهب السني نحو المذهب الشيعي، وذلك لضرب وحدة واستقرار مصر من خلال التبشير والغزو الثقافي الذي يتشح بوشاح الإسلام وفق زعمه..
شيخ الأزهر حذر شعب مصر من مغبة أن يتسلل أحد إليهم من بوابة محبة آل البيت، بصيغة تبدو وكأنها دعوة لدين آخر غير الإسلام، هذا علما أن محبة آل البيت نعتبر من ثوابت عقيدة المؤمن بنص القرآن، ولم يفته التذكير ومن باب التعميم المغرض، بموقف من أسماهم بـ”الشيعة” من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتعهد بالدفاع عنهم من خلال تخصيص حلقات شهر رمضان لموضوع “منزلة الصحابة الكرام وبيان عقيدة أهل السنة والجماعة فيهم”.
هذه ليست المرة الأولى التي يفتن فيها هذا الشيخ المتقلب بين المسلمين، فكثيرة هي المناسبات التي رصدنا له فيها تصريحات تخرج عن إطار الخطاب الإسلامي الجامع، وتبث سموم الحقد وتكسر جسور التواصل بين مختلف مكونات الأمة خدمة لأجندات مشبوهة، كان آخرها تحريضه على الحشد الشعبي العراقي المجاهد واعتباره مليشيا شيعية متطرفة، مقابل رشوة بمبلغ 3 مليون دولار لقاء بيان الإدانة، وفق ما أوردته وكالة ‘فارس’ للأنباء بتاريخ 19-03-2015.
وبذلك أصبح واضحا بالنسبة لشرفاء الأمة اليوم أن “داعش” تحول إلى تنظيم عالمي في خدمة المحفل الصهيوني والماسوني، بوجه متوحش واضح وظاهر للعيان في الميدان، ووجه خفي منافق يمثل الأزهر إحدى تجلياته، فيما تمثل السعودية الرحم العفـن الذي منه ولد التطرف والفكر التكفيري وثقافة الحقد والكراهية والخراب.
نقول هذا لسبب رئيس كثيرا ما يتم تجاهله من باب التضليل، ومؤداه، أن الفكر الشيعي لا يمكن نشره من خلال حملة ماركتينغ ترويجية كما هو الحال مع الفكر السني عموما والوهابي على وجه الخصوص، لأن الفرق بين المذاهب السنية والفكر الشيعي (ولا أقول مذهب لأنه ليس كذلك)، هو كالفرق بين الظاهر والباطن، بين القشور والجوهر، بين النقل والعقل، بين تكرار مقولات نمطية سخيفة اعتاد على اجترارها فقهاء السلاطين من أهل السنة والجماعة من جهة، وانتاج معرفة جديدة بطرق تفكير شجاعة تتجاوز أدوات العقل لتصبر أغوار الحقيقة الثاوية في النص المسطور بلغة الرمز والإشارة الربانية من جهة أخرى.. وهو ما يمكن اختزاله في ثنائية “الشريعة و الحقيقة”..
وكون شيخ الأزهر قرر تخصيص شهر رمضان المبارك للحديث عن الصحابة الكرام وبيان عقيدة أهل السنة والجماعة منهم، فالسؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة من باب الجدوى وهاجس المعرفة هو: – ما الذي يمكن أن يستفيده المسلمون من أثر الصحابة الكرام في العصر الحديث؟..
نقول هذا، مع احترامنا لتجربتهم الخاصة جدا، لأنهم لم يتركوا لنا موروثا دينيا نوعيا يعتد به كمرجع إن على مستوى الشريعة أو الحقيقة، لأنه وباستثناء الفلسفة النبوية أو علم القلوب الذي تركه الإمام (ع) ذخرا للأمة الإسلامية في نهج البلاغة الذي يعتبر موسوعة في العرفان، لا يوجد شيئ يذكر تركه لنا الخليفة ابو بكر أو عمر أو عثمان، وبالتالي، فما الفائدة التي يرجى جنيها من تجربتهم الخاصة في الدين والسياسة مثلا؟..
هل ترك لنا أبو بكر الصديق (ر)، كتابا في نظام الحكم الإسلامي نهتدي به في إقامة دولة المؤسسات الإسلامية على أساس الشورى الشعبية، أم أن تجربته الخاصة جدا، كانت إلى حد بعيد نسخة طبق الأصل من ديمقراطية نبلاء قريش على شاكلة نبلاء روما؟
وماذا عن الخليفة عمر بن الخطاب (ر)، هل ترك لما كتابا جامعا في التشريع نهتدي به لإقامة العدل بين الناس، أم أن منتهى العدل هو أن نحرص على توزيع حصص القمح على الجياع ليلا، بدل توفير فرص الشغل الكريم لهم ومساواتهم مع بقية أفراد المجتمع في توزيع الثروات؟
وهل كانت تجربة الخليفة عثمان بن عفان (ر) رشيدة ليحتدى بها في إدارة شؤون الأمة، أم أن البذخ والإسراف في الإنفاق والمحسوبية دفعت بدواعش العصر الرشيد (الخوارج) لقتله بتحريض من عائشة (ر) التي رفعت قميص محمد صلى الله عليه وآله، متهمة عثمان بتبديل سنة النبي قبل أن يبلى قميصه؟..
أليست هذه الواقعة هي بداية الفتنة الصغرى التي أعقبتها الفتنة الكبرى عندما رفعت عائشة (ر) مرة أخرى قميص عثمان مطالبة بالثأر لدمه، وهو الأمر الذي استغله معاوية بن أبي سفيان في فرض أحقيته في الخلافة التي انتزعها من الإمام علي (ع) بالخديعة، وكانت تلك بداية الفتنة الكبرى التي أنتجت كربلاء وقسمت ظهر الأمة وفرقتها إلى طوائف ومذاهب وملل ونحل لا نزال نعيش تداعياتها الكارثية على حساب العقيدة إلى اليوم؟..
وهل كانت خلافة راشدة على هدي النبوة حقا تلك التي حاربت مانع الزكاة بحد السيف باعتباره مرتدا عن الدين، بالرغم من تحريم القرآن للإكراه في الدين؟.. وحتى لو سلمنا جدلا بصوابية القرار من باب المحاججة العقلية ليس إلا، فلماذا لم يحارب الخليفة الأول تارك الصلاة مثلا علما أن فريضة الصلاة مقدمة على فرض الزكاة؟..
وهل كانت الفتوحات التي أمر بها الخليفة الثاني إسلامية حقا هدفها نشر الإسلام بحد السيف ضدا في شريعة السماء أم أن دافعها كان الغنيمة كما تؤكد أحداث التاريخ التي لا يسع المجال للتوسع فيها في هذه العجالة؟..
لا نريد طرح مزيد من الأسئلة التي تؤرق عقل الباحث حول تلك الحقبة المبكرة من تاريخ الأمة انظلاقا من مشروعية سؤال المعرفة، ونفضل القول مع القرآن، أن تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما اكتسبتم، ولا تسألون عما كانوا يفعلون.. فلماذا الإصرار على جرنا لماضي لن يفيدنا في تغيير الحاضر لبناء المستقبل؟..
وبدل أن نبحث عن القمر في عز الظهر، لنلتفت قليلا إلى ما نراه واقعا جليا قائما في حاضرنا، ونتسائل مع الذين يريدون أن يفهموا ويسعون إلى المعرفة الحقيقية فنقول: – لماذا فشل “أهل السنة والجماعة” فيما نجح “الشيعة” أيما نجاح في تطوير فكرهم السياسي، وهو ما ساعدهم على تأسيس دولة محورية قوية بطموحات حضارية عالمية، خصوصا بعد أن حققوا الإكتفاء الذاتي في كل مجالات الإنتاج الحيوية بالإضافة إلى أنهم أخذوا بأسباب القوة، وسجلوا قفزة علمية مدهشة في المجالات التي ظلت حكرا على الغرب ومحرمة على المسلمين، وهو ما مكنهم من الحفاظ على استقلاليتهم وحرية قرارهم السيادي؟..
هذا في الوقت الذي ظلت فيه الدول السنية ضعيفة، جاهلة، متخلفة، وفاسدة، خاضعة، مستسلمة للغرب الإستعماري بلا سيادة ولا كرامة، ومنها “السعودية” ومصر التي بدل أن ينتقذ شيخ الأزهر تحالف نظامها السياسي العميل مع تل أبيب والفساد الذي يضرب مفاصل الدولة، ما أدى إلى انتاج أجيال من شباب عاطل، جائع ومتخلف.. نراه يهرب إلى الأمام لحجب الشمس بالغربال ومهاجمة إيران التي تنشر التشيع وفق زعمه..
لم يرى شيخ الأزهر ما يحدث في مصر من كوارث خطيرة تهدد وجود الأمة ومصيرها، من ردة عن الإسلام بسبب عجز هذا المحفل الماسوني المقنع الذي تحكمت فيه على امتداد التاريخ الحكومات البريطانية المتعاقبة، أقول عجزه عن إنتاج خطاب حداثي جديد بلغة جذابة ومضامين مقنعة، ولا نتحدث عن حملات التبشير والتنصير المنظمة، ولا عن حملات تشجيع الحرية الجنسية والمثلية وعبادة الشيطان وما إلى ذلك.. وحده التشيع يمثل خطرا داهما على شباب مصر السني، فيا للغرابة..
لكن السؤال الأهم الذي على شيخ الأزهر الجواب عنه هو التالي: – ما قيمة أن يكون عدد المسلمين في العالم زهاء مليار ونصف مسلم من بينهم من 10 إلى 13 في المائة فقط شيعة فيما 84 إلى 90 في المائة سنة؟..
وعلى مستوى مصر مثلا، أي خطر يمكن أن يمثله الفكر الشيعي على مجتمع يمثل فيه السنة 99 في المائة فيما الشيعة لا يتجاوزون نسبة 1 في المائة فقط لا غير أو أقل قليلا؟..
أهمية السؤال لا تنبع من العدد الذي هو غثاء كغثاء السيل لا قيمة حقيقية ولا تأثير له، لا في السياسة ولا في الحضارة ولا في التاريخ.. بل تكمن في الكيف، في القيمة والنوعية والجودة، ولا حاجة لنا هنا لمقارنة انجازات إيران الشيعية بإنجازات العرب السنة مثلا، لنكتشف أنه لا يمكن مقارنة الثرى بالثريا.
إن المعضلة في مصر والعالم العربي عموما، لا تكمن في خطر الفكر الشيعي المتوهم، والذي لا أساس له من الصحة، لأن من يريد التشيع عليه أن يسعى لمعرفة الحقيقة بالجهد والمجاهدة والصبر والمثابرة.. بل الخطر الحقيقي يكمن في من حولوا الإسلام إلى عقيدة دوغمائية ليحولوا بين المسلم والفهم الحقيقي لتعاليم السماء، وأرغموه على قراءة القرآن من باب التبرك فقط لا التدبر بالعقل والقلب..
هذا يعني، أن المؤسسة الفقهية العربية تحولت إلى مؤسسة كهنوتية تحتكر إنتاج المعنى الحرفي وفق أهواء الحكام، وتمارس الرقابة على عقول المؤمنين، والوصاية على عقيدتهم وما يجب أن يختزل في قلوبهم، لأن المعنى الروحاني الذي يعطيه النص المقدس يكون دائما ثوريا محفزا على التغيير، في حين أن المعنى الذي ينتجه فقهاء السلاطين لا يعدو أن يكون نمطيا وفق قوالب جامدة تحيل بين الإنسان وربه، وهذا هو عين الرهبنة التي نهى الله عباده عنها، لأنها تبعدهم عن فضائه الرحب الجميل وتسجنهم في فضاء الكهنوت الضيق، لدرجة أن الإنسان لا يستطيع أن يتصالح مع نفسه وعالمه ومع الأخر، فيعيش ضائعا تائها بين الدين كواقعة تاريخية لا تهتم بتجربته الأرضية الخاصة، وبين الدين كواقعة لا تاريخية من عالم الغيب ما بعد الموت لا يعرف عنها شيئا، سوى ما يتفضل عليه به الفقهاء من تفاسير عجائبية وغرائبية تشبه إلى حد بعيد لغة السحرة..
إن ما نتحدث عنه هنا وللتذكير هو موضوع غاية في الخطورة والأهمية، وعليه يتوقف مستقبل الأمة، وقد آن الأوان ليعرف الناس الفرق بين الشريعة والحقيقة، لأن الدين ليس شريعة فحسب بل لا تمثل الشريعة فيه سوى الظاهر الذي يخفي الحقيقة، والوصول إليها هي غاية كل مؤمن يريد أن يعيش معراج الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى عوالم السماء المخفية..
ذلك أن التشيع بمعناه العميق، هو شعور الإنسان بحضورة في رحاب ملكوت ربه، وإدراكه لحقيقة نفسه والعالم، همه الوصول إلى معنى الوحي من خلال تفكيك رموز وإشارات اللغة الإلهية التي تخفيها العبارات الظاهرة، ومن كان هذا مسلكه، لا يمكنه اعتبار التشيع كمذهب خامس يهتم بالشريعة كظاهر على حساب الحقيقة الباطنة التاوية في النص المقدس.
وستكون لنا عودة لتفصيل القول في ثنائية “الشريعة و الحقيقة” لتبيان التزامن بينهما، ودور الرسول في تبليغ الرسالة، والنبي في الهداية، والإمام الولي في تبيان الحقيقة التي أتت بها الشريعة..
وبهذا المعنى، يلتقي التشيع مع التسنن في مسألة الشريعة التي أتت بها الرسالة، لكنه يتميز عنه ليلتقي مع التصوف في الإرث الروحي للنبوة الممثل للحقيقة الإلهية المخفية إلا على الذين سلكوا معراج العرفـان.

أحمد الشرقاوي
خاص: بانوراما الشرق الأوسط
خرج شيخ الأزهر في أول جمعة من شهر رمضان المعظم، ليفتن بين المسلمين ويحذر من ما أسماه بـ”الحملة المحمومة” التي تستهدف الشباب المصري لتحويله عن المذهب السني نحو المذهب الشيعي، وذلك لضرب وحدة واستقرار مصر من خلال التبشير والغزو الثقافي الذي يتشح بوشاح الإسلام وفق زعمه..
شيخ الأزهر حذر شعب مصر من مغبة أن يتسلل أحد إليهم من بوابة محبة آل البيت، بصيغة تبدو وكأنها دعوة لدين آخر غير الإسلام، هذا علما أن محبة آل البيت نعتبر من ثوابت عقيدة المؤمن بنص القرآن، ولم يفته التذكير ومن باب التعميم المغرض، بموقف من أسماهم بـ”الشيعة” من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتعهد بالدفاع عنهم من خلال تخصيص حلقات شهر رمضان لموضوع “منزلة الصحابة الكرام وبيان عقيدة أهل السنة والجماعة فيهم”.
هذه ليست المرة الأولى التي يفتن فيها هذا الشيخ المتقلب بين المسلمين، فكثيرة هي المناسبات التي رصدنا له فيها تصريحات تخرج عن إطار الخطاب الإسلامي الجامع، وتبث سموم الحقد وتكسر جسور التواصل بين مختلف مكونات الأمة خدمة لأجندات مشبوهة، كان آخرها تحريضه على الحشد الشعبي العراقي المجاهد واعتباره مليشيا شيعية متطرفة، مقابل رشوة بمبلغ 3 مليون دولار لقاء بيان الإدانة، وفق ما أوردته وكالة ‘فارس’ للأنباء بتاريخ 19-03-2015.
وبذلك أصبح واضحا بالنسبة لشرفاء الأمة اليوم أن “داعش” تحول إلى تنظيم عالمي في خدمة المحفل الصهيوني والماسوني، بوجه متوحش واضح وظاهر للعيان في الميدان، ووجه خفي منافق يمثل الأزهر إحدى تجلياته، فيما تمثل السعودية الرحم العفـن الذي منه ولد التطرف والفكر التكفيري وثقافة الحقد والكراهية والخراب.
نقول هذا لسبب رئيس كثيرا ما يتم تجاهله من باب التضليل، ومؤداه، أن الفكر الشيعي لا يمكن نشره من خلال حملة ماركتينغ ترويجية كما هو الحال مع الفكر السني عموما والوهابي على وجه الخصوص، لأن الفرق بين المذاهب السنية والفكر الشيعي (ولا أقول مذهب لأنه ليس كذلك)، هو كالفرق بين الظاهر والباطن، بين القشور والجوهر، بين النقل والعقل، بين تكرار مقولات نمطية سخيفة اعتاد على اجترارها فقهاء السلاطين من أهل السنة والجماعة من جهة، وانتاج معرفة جديدة بطرق تفكير شجاعة تتجاوز أدوات العقل لتصبر أغوار الحقيقة الثاوية في النص المسطور بلغة الرمز والإشارة الربانية من جهة أخرى.. وهو ما يمكن اختزاله في ثنائية “الشريعة و الحقيقة”..
وكون شيخ الأزهر قرر تخصيص شهر رمضان المبارك للحديث عن الصحابة الكرام وبيان عقيدة أهل السنة والجماعة منهم، فالسؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة من باب الجدوى وهاجس المعرفة هو: – ما الذي يمكن أن يستفيده المسلمون من أثر الصحابة الكرام في العصر الحديث؟..
نقول هذا، مع احترامنا لتجربتهم الخاصة جدا، لأنهم لم يتركوا لنا موروثا دينيا نوعيا يعتد به كمرجع إن على مستوى الشريعة أو الحقيقة، لأنه وباستثناء الفلسفة النبوية أو علم القلوب الذي تركه الإمام (ع) ذخرا للأمة الإسلامية في نهج البلاغة الذي يعتبر موسوعة في العرفان، لا يوجد شيئ يذكر تركه لنا الخليفة ابو بكر أو عمر أو عثمان، وبالتالي، فما الفائدة التي يرجى جنيها من تجربتهم الخاصة في الدين والسياسة مثلا؟..
هل ترك لنا أبو بكر الصديق (ر)، كتابا في نظام الحكم الإسلامي نهتدي به في إقامة دولة المؤسسات الإسلامية على أساس الشورى الشعبية، أم أن تجربته الخاصة جدا، كانت إلى حد بعيد نسخة طبق الأصل من ديمقراطية نبلاء قريش على شاكلة نبلاء روما؟
وماذا عن الخليفة عمر بن الخطاب (ر)، هل ترك لما كتابا جامعا في التشريع نهتدي به لإقامة العدل بين الناس، أم أن منتهى العدل هو أن نحرص على توزيع حصص القمح على الجياع ليلا، بدل توفير فرص الشغل الكريم لهم ومساواتهم مع بقية أفراد المجتمع في توزيع الثروات؟
وهل كانت تجربة الخليفة عثمان بن عفان (ر) رشيدة ليحتدى بها في إدارة شؤون الأمة، أم أن البذخ والإسراف في الإنفاق والمحسوبية دفعت بدواعش العصر الرشيد (الخوارج) لقتله بتحريض من عائشة (ر) التي رفعت قميص محمد صلى الله عليه وآله، متهمة عثمان بتبديل سنة النبي قبل أن يبلى قميصه؟..
أليست هذه الواقعة هي بداية الفتنة الصغرى التي أعقبتها الفتنة الكبرى عندما رفعت عائشة (ر) مرة أخرى قميص عثمان مطالبة بالثأر لدمه، وهو الأمر الذي استغله معاوية بن أبي سفيان في فرض أحقيته في الخلافة التي انتزعها من الإمام علي (ع) بالخديعة، وكانت تلك بداية الفتنة الكبرى التي أنتجت كربلاء وقسمت ظهر الأمة وفرقتها إلى طوائف ومذاهب وملل ونحل لا نزال نعيش تداعياتها الكارثية على حساب العقيدة إلى اليوم؟..
وهل كانت خلافة راشدة على هدي النبوة حقا تلك التي حاربت مانع الزكاة بحد السيف باعتباره مرتدا عن الدين، بالرغم من تحريم القرآن للإكراه في الدين؟.. وحتى لو سلمنا جدلا بصوابية القرار من باب المحاججة العقلية ليس إلا، فلماذا لم يحارب الخليفة الأول تارك الصلاة مثلا علما أن فريضة الصلاة مقدمة على فرض الزكاة؟..
وهل كانت الفتوحات التي أمر بها الخليفة الثاني إسلامية حقا هدفها نشر الإسلام بحد السيف ضدا في شريعة السماء أم أن دافعها كان الغنيمة كما تؤكد أحداث التاريخ التي لا يسع المجال للتوسع فيها في هذه العجالة؟..
لا نريد طرح مزيد من الأسئلة التي تؤرق عقل الباحث حول تلك الحقبة المبكرة من تاريخ الأمة انظلاقا من مشروعية سؤال المعرفة، ونفضل القول مع القرآن، أن تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما اكتسبتم، ولا تسألون عما كانوا يفعلون.. فلماذا الإصرار على جرنا لماضي لن يفيدنا في تغيير الحاضر لبناء المستقبل؟..
وبدل أن نبحث عن القمر في عز الظهر، لنلتفت قليلا إلى ما نراه واقعا جليا قائما في حاضرنا، ونتسائل مع الذين يريدون أن يفهموا ويسعون إلى المعرفة الحقيقية فنقول: – لماذا فشل “أهل السنة والجماعة” فيما نجح “الشيعة” أيما نجاح في تطوير فكرهم السياسي، وهو ما ساعدهم على تأسيس دولة محورية قوية بطموحات حضارية عالمية، خصوصا بعد أن حققوا الإكتفاء الذاتي في كل مجالات الإنتاج الحيوية بالإضافة إلى أنهم أخذوا بأسباب القوة، وسجلوا قفزة علمية مدهشة في المجالات التي ظلت حكرا على الغرب ومحرمة على المسلمين، وهو ما مكنهم من الحفاظ على استقلاليتهم وحرية قرارهم السيادي؟..
هذا في الوقت الذي ظلت فيه الدول السنية ضعيفة، جاهلة، متخلفة، وفاسدة، خاضعة، مستسلمة للغرب الإستعماري بلا سيادة ولا كرامة، ومنها “السعودية” ومصر التي بدل أن ينتقذ شيخ الأزهر تحالف نظامها السياسي العميل مع تل أبيب والفساد الذي يضرب مفاصل الدولة، ما أدى إلى انتاج أجيال من شباب عاطل، جائع ومتخلف.. نراه يهرب إلى الأمام لحجب الشمس بالغربال ومهاجمة إيران التي تنشر التشيع وفق زعمه..
لم يرى شيخ الأزهر ما يحدث في مصر من كوارث خطيرة تهدد وجود الأمة ومصيرها، من ردة عن الإسلام بسبب عجز هذا المحفل الماسوني المقنع الذي تحكمت فيه على امتداد التاريخ الحكومات البريطانية المتعاقبة، أقول عجزه عن إنتاج خطاب حداثي جديد بلغة جذابة ومضامين مقنعة، ولا نتحدث عن حملات التبشير والتنصير المنظمة، ولا عن حملات تشجيع الحرية الجنسية والمثلية وعبادة الشيطان وما إلى ذلك.. وحده التشيع يمثل خطرا داهما على شباب مصر السني، فيا للغرابة..
لكن السؤال الأهم الذي على شيخ الأزهر الجواب عنه هو التالي: – ما قيمة أن يكون عدد المسلمين في العالم زهاء مليار ونصف مسلم من بينهم من 10 إلى 13 في المائة فقط شيعة فيما 84 إلى 90 في المائة سنة؟..
وعلى مستوى مصر مثلا، أي خطر يمكن أن يمثله الفكر الشيعي على مجتمع يمثل فيه السنة 99 في المائة فيما الشيعة لا يتجاوزون نسبة 1 في المائة فقط لا غير أو أقل قليلا؟..
أهمية السؤال لا تنبع من العدد الذي هو غثاء كغثاء السيل لا قيمة حقيقية ولا تأثير له، لا في السياسة ولا في الحضارة ولا في التاريخ.. بل تكمن في الكيف، في القيمة والنوعية والجودة، ولا حاجة لنا هنا لمقارنة انجازات إيران الشيعية بإنجازات العرب السنة مثلا، لنكتشف أنه لا يمكن مقارنة الثرى بالثريا.
إن المعضلة في مصر والعالم العربي عموما، لا تكمن في خطر الفكر الشيعي المتوهم، والذي لا أساس له من الصحة، لأن من يريد التشيع عليه أن يسعى لمعرفة الحقيقة بالجهد والمجاهدة والصبر والمثابرة.. بل الخطر الحقيقي يكمن في من حولوا الإسلام إلى عقيدة دوغمائية ليحولوا بين المسلم والفهم الحقيقي لتعاليم السماء، وأرغموه على قراءة القرآن من باب التبرك فقط لا التدبر بالعقل والقلب..
هذا يعني، أن المؤسسة الفقهية العربية تحولت إلى مؤسسة كهنوتية تحتكر إنتاج المعنى الحرفي وفق أهواء الحكام، وتمارس الرقابة على عقول المؤمنين، والوصاية على عقيدتهم وما يجب أن يختزل في قلوبهم، لأن المعنى الروحاني الذي يعطيه النص المقدس يكون دائما ثوريا محفزا على التغيير، في حين أن المعنى الذي ينتجه فقهاء السلاطين لا يعدو أن يكون نمطيا وفق قوالب جامدة تحيل بين الإنسان وربه، وهذا هو عين الرهبنة التي نهى الله عباده عنها، لأنها تبعدهم عن فضائه الرحب الجميل وتسجنهم في فضاء الكهنوت الضيق، لدرجة أن الإنسان لا يستطيع أن يتصالح مع نفسه وعالمه ومع الأخر، فيعيش ضائعا تائها بين الدين كواقعة تاريخية لا تهتم بتجربته الأرضية الخاصة، وبين الدين كواقعة لا تاريخية من عالم الغيب ما بعد الموت لا يعرف عنها شيئا، سوى ما يتفضل عليه به الفقهاء من تفاسير عجائبية وغرائبية تشبه إلى حد بعيد لغة السحرة..
إن ما نتحدث عنه هنا وللتذكير هو موضوع غاية في الخطورة والأهمية، وعليه يتوقف مستقبل الأمة، وقد آن الأوان ليعرف الناس الفرق بين الشريعة والحقيقة، لأن الدين ليس شريعة فحسب بل لا تمثل الشريعة فيه سوى الظاهر الذي يخفي الحقيقة، والوصول إليها هي غاية كل مؤمن يريد أن يعيش معراج الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى عوالم السماء المخفية..
ذلك أن التشيع بمعناه العميق، هو شعور الإنسان بحضورة في رحاب ملكوت ربه، وإدراكه لحقيقة نفسه والعالم، همه الوصول إلى معنى الوحي من خلال تفكيك رموز وإشارات اللغة الإلهية التي تخفيها العبارات الظاهرة، ومن كان هذا مسلكه، لا يمكنه اعتبار التشيع كمذهب خامس يهتم بالشريعة كظاهر على حساب الحقيقة الباطنة التاوية في النص المقدس.
وستكون لنا عودة لتفصيل القول في ثنائية “الشريعة و الحقيقة” لتبيان التزامن بينهما، ودور الرسول في تبليغ الرسالة، والنبي في الهداية، والإمام الولي في تبيان الحقيقة التي أتت بها الشريعة..
وبهذا المعنى، يلتقي التشيع مع التسنن في مسألة الشريعة التي أتت بها الرسالة، لكنه يتميز عنه ليلتقي مع التصوف في الإرث الروحي للنبوة الممثل للحقيقة الإلهية المخفية إلا على الذين سلكوا معراج العرفـان.
تعليق