[FONT='Arial','sans-serif'][/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']قراءة في عالم الشباب[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']لم تعد مسألة التربية وأثرها في السلوك المستقبلي للانسان، مسألة علمية، أو عملية غامضة، فهي من أوضح القضايا في منطق العلم. فالعناصر التربوية في الحياة المدرسية لها أكبر الاثر في تكوين الشخصية، وتشكيل هويتها.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']فالطفل في عالمنا المعاصر يقضي الشطر الهام من حياته في أجواء المدرسة، فهو يبدأ حياته في أحضانها، ومنذ دور الحضانة ورياض الاطفال يتدرج في مراحل حياته بين المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعة، فهو يقضي حياة الطفولة والمراهقة والشباب في نظام حياتي مخطط ومصمم وفق اُسس وأهداف ومنهج محدد.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']لذا فهو ينشأ وينمو وتتكون شخصيته وفق فلسفة التربية والنظرية الحياتية التي تتبناها المدرسة، سواء المدارس التي تديرها الدولة، أو الافراد والمؤسسات، فهي تعمل على صياغة نمط الشخصية، ولون السلوك. [/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']فالمدرسة التي تتبنى الفكر المادي من خلال منهجها، والاجواء التربوية فيها وطريقة الممارسات السلوكية المختلفة وتربي الفردية والاباحية ولاتعتني بقيم الاخلاق والايمان بالله، فإنها تنتج شخصية اباحية، تبحث على مستوى السلوك الفردي عن اللذة والمتعة، وتنساق وراء الشهوات والدوافع الغريزية الشاذة من غير ضوابط، وهي على الصعيد الاجتماعي والسياسي تنتج عقلية مادية رأسمالية.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']لذا فإن الاصلاح والتغيير العام، يبدأ بشكل اساس من المدرسة في فلسفتها التربوية، ومناهجها وطرق الحياة فيها، وشخصية المعلم الممارس للتعليم.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']فإن العناصر المدرسية ـ المنهج واسلوب الحياة والتعامل داخل المدرسة والمعلم ـ تساهم بمجموعها بتكوين وبناء الشخصية.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']فالمدرسة تربي الطالب على ان يعيش مع عشرات، أو مئات من الطلبة، ويتعامل مع مختلف الشرائع والاذواق والطبائع، ويكتسب منهم.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']كما تقوم المدرسة التي تبني الحياة التربوية فيها على اُسس فلسفة محددة بغربلة الاوضاع الاجتماعية، وانتخاب ما يوافق فلسفتها، ورفض ما لا ينسجم وأهدافها، لذا فهي نموذج مصغر لمجتمع ودولة.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']وليس هذا فحسب، فالمدرسة تشكل بالنسبة الى الطالب، ومنذ يبدأ بالاحساس بفهم شخصيته، ونمو التفكير بالمستقبل الذي يأخذ بالسيطرة على تفكيره وطموحاته، تكون بالنسبة اليه هي الوسيلة الاساسية التي يحقق من خلالها أهدافه الحياتية، وطموحاته المستقبلية.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']لذا فإن استطلاع الرأي العام وسط الطلبة، يوفر لنا قراءة للامال والاتجاهات والميول التي يحملها الطلبة، وتحديد نمط المستقبل الذي يراودهم، كما وأن الفشل في الدراسة ينتج مشكلة كبرى للكثير منهم، تنعكس على سلوكهم، ومستقبل حياتهم، بل وعلى اُسرهم ومجتمعهم؛ لذا تنبغي دراسة مشاكل الطفل والمراهق المدرسية، قبل أن تستفحل ويصعب حلها فيترك الدراسة في المرحلة الابتدائية أو المتوسطة أو الثانوية، دون ان يكتسب الثقافة، أو المهارة والخبرة العلمية التي تحقق آماله المعقولة.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']وكثيراً ما يكون للمعلم، واُسلوب التربية في المدرسة، أو طريقة التعامل الاثر الكبير في حصول المشاكل للطفل والناشئ والمراهق، مما اقتضى ان يكون في المدرسة باحث اجتماعي ونفسي لدراسة مشكلة الطالب، حسب سنّه وظروفه، ومشاكله من الطفولة والصبا والمراهقة، وحلها بالطرق والوسائل العلمية، قبل أن تتحول الى مشكلة وعقدة تشرد الطالب، وتجني على مستقبله الدراسي، وقد اخذت المدارس الحديثة بهذا الاسلوب.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']كما وتساهم الظروف الاقتصادية السيئة مساهمة كبيرة في ترك الطالب في هذه السن للدراسة، وتوجهه لطلب العيش، أو يتركها بسبب العجز عن تغطية نفقات الدراسة.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']كما ويساهم أصدقاء السوء مساهمة كبيرة في حصول الفشل الدراسي. فالطفل والمراهق يسهل جذبه في هذه المرحلة الى ممارسات اللهو والانشغال، وتحويل الاهتمام من الجدية والتفكير في المستقبل المحترم الى التردي والتسكع والتشرد والعبث.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']ولثقافة الابوين، وتقديرهم لمستقبل أبنائهم، وحرصهم عليهم، ولاسلوبهم في التعامل معهم من التشجيع والتوجيه، أو سوء التعامل والاهمال، الاثر الكبير في الفشل الدراسي، أو تحقيق النجاح والتفوق.[/FONT]
[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']يتبع
[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']قراءة في عالم الشباب[/FONT]
1 ـ مراحل النمو البشري
(هوَ الذي خلقكُم مِنْ ترابٍ ثمَّ مِنْ نطفةٍ ثمَّ مِنْ علقةٍ ثمَّ يخرجكُم طفلاً ثمَّ لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون) (غافر / 67)
(ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطواراً). (نوح/13 ـ 14))
وهكذا أبدع خالق الوجود هذا الكائن المعقّد التكوين والفاعلية، فقد انطلقت حركة الحياة بقدرة خالقها من تراب الارض، لتمر عبر مراحل من التكوين والنمو والتطور العضوي والنفسي والعقلي. ان عظمة الله
تتجلى في بيان هذه الاية، تتجلى في كيفية نشأة هذا الانسان من تراب الارض.
نشأة الجسم بأجهزته وأعضائه المعقَّدة التكوين والاداء والنشاط، تتجلى بتكوينه النفسي، وبحالاته الانفعالية والعاطفية من الحب والكراهية والرضا والسخط والشهوة والغضب والخوف والحزن والفرح.
تتجلى بتكوينه العقلي، بالادراك الحسي والتجريدي وبالخيال والقدرة على التفكير بالغائب والمجهول، وموقفه النفسي منه، وقدرته على اكتشافه والاعداد والتخطيط له.
انها عظمة الله تتجلى فى خلق الانسان التي يتحدث عنها القرآن في هذه الاية، ليبرز أهم ثلاث مراحل في حياته، تمثل التحولات الجسدية والعقلية والنفسية الاساسية في حياته، وهي:
1 ـ مرحلة الطفولة.
2 ـ مرحلة بلوغ الشدة (القوة).
3 ـ مرحلة الشيخوخة.
ولقد اجرى علماء الطب والنفس دراسات علمية تجريبية على التكوين الانساني المتعلقة بمرحلة الطفولة وخصائصها، كما درسوا المرحلة الثانية باطوارها الثلاثة: المراهقة، الشباب، الكهولة.
وفي الخطاب الاسلامي للانسان تجد التمييز في التربية والتكليف والتوجيه والتعامل بين أفراد الانسان في المراحل والاطوار. وهذا المنهج يكشف عن رؤية علمية، وتشخيص موضوعي دقيق لتكوين الانسان النفسي والعقلي والجسدي، وبناء التعامل على هذا الاساس.
وفي بحثنا هذا نريد أن نتحدث عن مرحلة الشباب لاهميتها في حياة الانسان، لانها مرحلة القوة والحيوية والنشاط الغريزي وتفتّح الطاقات والمؤهلات، ولانها مرحلة محفوفة بالمخاطر والمآزق النفسية والعاطفية والغريزية.
فطاقة الشباب الجسدية والعقلية والنفسية كأية طاقة حرَّة في هذا الوجود، كالطاقة المائية والطاقة النووية، يمكن أن توجه لخدمة الانسان وخير البشرية، كما أنها قابلة لان تتحول الى طاقة هدم ومشاكل ومعاناة للفرد نفسه وللمجتمع.
2 ـ العوامل المؤثرة في سلوك الفرد
يشكل السلوك الانساني وحدة موضوعية مترابطة، وهو نتيجة لتفاعل وتداخل عوامل وعناصر عديدة، فموقف الانسان، كالرحمة والصدق والعدل، والنطق بالكلمة الطيبة، أو الكذب والنفاق وجريمة القتل، وتناول المخدر، وممارسة الاحتكار، هو في حقيقته مرآة يعكس لنا عدداً من العوامل والعناصر التي تفاعلت فيما بينها، فصنعت من ذلك الانسان انساناً رحيماً أو مجرماً محترفاً للاجرام، أو محتكراً جشعاً، أو انساناً متوازن الشخصية، أو معقداً يعاني من مرض نفسي أو عصبي.
ان الدراسات النفسية وبحوث علماء الطب والفسيولوجيا والاجرام وعلم النفس استطاعت أن تقدم لنا تحليلاً للسلوك الانساني، وترجعه الى عوامله ودوافعه الاولى، فكشفت تلك البحوث والدراسات عن أن الموقف السلوكي ـ الخيّر منه والشرير ـ هو مركَّب من تفاعل عدة دوافع وعوامل ونوازع ذاتية وبيئية ووراثية واجتماعية... الخ.
ومن المفيد أن نلخص تلك العوامل بشكل موجز لنقدم توضيحاً لحالات المواقف لاسيما الازمات والعقد والمشاكل النفسية، وحالات الانحراف والممارسات السلوكية غير الطبيعية التي تظهر على مساحات واسعة من جيل الشباب.
فظاهرة التمرد على الاعراف والقانون السليم، والشذوذ الجنسي، والاجرام والسرقة والعدوانية، وانحلال الشخصية والتسكع، وتناول الكحول والمخدرات، والانتحار والامراض العصبية والنفسية، التي كثيراً ما تتحول الى امراض جسدية. ان كلّ تلك الظواهر والحالات يمكن ارجاعها الى العوامل الاساسية التي كونت الشخصية.
ومهما نتحدث عن تلك العوامل، ينبغي ان ندرك ان الانسان كائن ذو ارادة وقدرة على التغيير، واختيار المواقف السوية، بدلاً من المواقف الانحرافية؛ لذا شرعت التوبة، وشُرّع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما العوامل التي تشترك في صنع سلوك الفرد فهي:
1 ـ الاسرة وظروف التربية الاُولى.
2 ـ البنية التكوينية.
3 ـ التربية المدرسية.
4 ـ الاعلام.
5 ـ السلطة والقوى السياسية.
6 ـ الثقافة والمعتقد الذي يؤمن به الشاب.
وسنعرّف بدور كل تلك العناصر والعوامل، وأثرها في سلوك الشباب بصورة خاصة.
وان مثل هذه التوعية تضع الشاب أمام حالة من التأمل والمناقشة، والمحاكمة للنوازع والدوافع الغريزية والعاطفية والبواعث السلوكية، قبل أن يستجيب لها، ويقدم على فعل أو موقف.
وكم هو رائع ودقيق ذلك التوجيه النبوي الكريم القائل:
«اذا هممت بامر فتدبر عاقبته، فإن كان خيراً فاسرع اليه، وان كان شراً فإنته عنه»(1).
ولابد من أن نعرف أن من أهم أسباب المشاكل السلوكية في مرحلة الشباب، هو الانسياق غير الواعي وراء الدوافع والرغبات النفسية، والرضوخ لضغوط الغريزة والانفعالات التي تضغط على شخصية الشاب بوعي وبغير وعي.
ويمكننا أن نفهم هذا التوضيح من تحليل العلاقة بين الفكر والوعي والسلوك تحليلاً علمياً، كما أننا نجد ذلك مشخصاً في البحوث والتقارير الميدانية، والارقام والاحصاءات الدالة على تفشِّي الجريمة والانحراف والممارسات الشاذة في الاوساط التي يخيِّم عليها الجهل، والتخلف الفكري والثقافي، والكفر بالله، الذي هو نتيجة اخرى من نتائج الجهل البشري، وعدم فهم هذا العالم وتفسيره تفسيراً سليماً.
1ـ الاُسرة وظروف التربية الاُولى
ان النظرة العلمية التي ينظرها الاسلام لنشأة ونمو وتكوين الانسان عبر مراحل وجوده تتجلى في مقومات الربط بين تلك المراحل، ومنذ انعقاد النطفة، وحتى بلوغه مراحل الشيخوخة.
فقد ربط الاسلام بين أنواع الاغذية التي يتناولها الوالدان، وبين النطفة التي يتكون منها الجنين، كما ربط بين تعامل الوالدين مع الطفل في نشأته الاولى، ومايحيط به من أجواء وظروف ومحيط، وبين تكون شخصيته.
لذا نجد الرسول الكريم (ص) يوضح أن اعتناق الانسان لفكرة معينة وسلوك معين بمرحلة البلوغ والمسؤولية، انّما يساهم في تكوينه الابوان في مرحلة النشأة والتعليم.
فالانسان عندما يكون مسلماً مستقيم السلوك والشخصية، أو عنصراً منحرفاً، انّما يشارك في ذلك تأثير الابوين والنشأة الاولى. فالانسان يولد على الفطرة النقية الصافية المتجهة نحو الاستقامة في أصل نشأتها.
الاّ أن هذه الفطرة قابلة للتكيّف، وتقبل مختلف صور الفكر والسلوك، فتتشكل الذات، وتتكون الشخصية في مرحلة النشأة الاولى .. يتضح ذلك من قول الرسول الكريم محمد (ص) : «كل
مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصّرانه ويمجسانه»(2).
ويتحدث القرآن عن هذه الحقيقة، حقيقة العلاقة بين التربية الاولى التي يتولاّها الآباء، وبين سلوك الانسان بعد مرحلة البلوغ والتكامل العقلي والجسدي.
قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أُمهاتكم لاتعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون). (النحل / 78)
(ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة).(التحريم / 6)
فبذا يربط القرآن بين ما يتعلمه ويكتسبه الانسان في نشأته الاولى، مما يسمع ويرى ويعقل، وبين ما تؤول اليه الشخصية فيما بعد؛ لذا دعا الآباء الى تربية أبنائهم تربية صالحة، وحذّرهم من نتيجة الاهمال.
ويربط الامام علي (ع) بين ما يكتسبه الانسان في مرحلة الطفولة، وبين ما تستقر عليه شخصيته من أوضاع فكرية ونفسية وسلوكية في مرحلة البلوغ في وصيته لولده الامام الحسن السبط(ع) قال:
«انّما قلب الحدث كالارض الخالية؛ ما أُلقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالادب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك، لتستقبل بجدِّ رأيك من الامر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كُفيت مؤونة الطلب، وعُوفيت من علاج التجربة»(3).
ان الامام المربي يثبت لنا بذلك مبدأ تربوياً هاماً، وهو المبادرة الى تربية الطفل تربية صالحة (قبل أن يقسو قلبه، ويشتغل لبه).
ان هذا المبدأ التربوي القائم على أُسس علمية يدعونا الى المبادرة لتربية الطفل، وتعليمه قبل أن تتشكل شخصيته، وتأخذ صيغتها، وتمتلئ بالتجارب والمعلومات غير السويّة، وتتطبّع على انماط من السلوك يحتاج التخلص منها الى اعادة التربية، وتشكيل الشخصية مرة اُخرى. وفي اعادة التصحيح والاصلاح جهد ومعاناة، وتحمّل للتبعات والمشاكل التي يرتكبها الناشئ والشاب.
وربما تعذر حلّ بعضها، وذهب الانسان ضحيتها؛ ذهب ضحية المشاكل التي واجهها في تربيته واُسرته الاولى.
فإن منشأ الكثير من العقد والامراض النفسية والمشاكل السلوكية، هو مرحلة الطفولة غير السوية، التي تنشأ تحت وطأة المشاكل والاجواء المضطربة والمتأزمة، والتعامل غير السليم.
ان دراسة أُجريت على 7598 جانحاً في الولايات المتحدة الاميركية من نزلاء المؤسسات الاصلاحية سنة 1910 أظهرت أن 7ر50% أتوا من اُسر متصدِّعة. وأن 5ر50% من نزلاء المدارس الاصلاحية في انجلترا، واسكتلندا أتوا من بيوت متصدعة. وان أحصاءً قام به أحد باحثي المانيا الغربية على 144 من المجرمين الاحداث بيَّنَ أنهم جميعاً ينتمون الى اُسر متصدعة.
كما أجرى أحد الباحثين في المانيا الغربية احصاءً على 2000 حدث مجرمين تبيَّن من خلاله أن 26% منهم ينتمون الى اُسر انفصل فيها الابوان عن حياتهما الزوجية لسبب وآخر.
وأجرى باحث فرنسي عام 1942 في مدينة باريس دراسة على الاحداث المنحرفين فتبيّن أن 88% منهم كانت اُسرهم متفككة)(4).
كما ان سبب العادات الحسنة بشكل أساس هو التربية البيتية، كذلك فإن كثيراً من الحالات الانحرافية والعقد والامراض النفسية التي يعاني منها الفرد في مرحلة الشباب، مثل الحقد والشعور بالنقص، والكسل، والاتكالية، والانانية، والعدوانية، والبذاءة، وحالات الشذوذ الجنسي، والخمور، والمخدرات، والتسكع، والكذب، والسرقة، والنفاق، وسوء معاشرة الاخرين، والكسل، والانطوائية، والجبن، تعود نشأتها الى التربية البيتية في مرحلة الطفولة، فتنشأ مع الانسان عاداته وأخلاقه وصفاته، وتشب وتبقى تلازمه. وان كان التخلص منها والانتصار عليها أمر ممكن.
فالانسان كائن ذو ارادة واختيار، وقدرة على التغيير، الاّ ان ذلك يكلّفه مشقّة ومعاناة، كما انّ البعض يذهب ضحية تلك التربية.
لذا فإن من أسباب فهم الانسان لشخصيته، وللحالات التي يعاني منها، أو الاخرى الايجابية في شخصيته أن يستذكر طبيعة نشأته الاولى، ويدرس ظروف الطفولة التي نشأ فيها، ليعرف منشأ المشكلة، أو الايجابية في شخصيته.
2ـ البنية التكوينية
تفيد الدراسات والابحاث الميدانية التي اُجريت على سلوك الافراد، لاسيما السلوك الشاذ غير الطبيعي، كالمصابين بالشذوذ الجنسي، والعقد والامراض النفسية والعصبية والمجرمين القتلة... الخ.
تفيد تلك الدراسات أن هناك عوامل بيولوجية وفسيولوجية، بعضها وراثي، تؤثر في سلوك الفرد، كما تؤثر عوامل التربية والمحيط، والاكتساب الاجتماعي.
فقد ثبت علمياً أن لافرازات الغدد الصماء ـ الهرمونات ـ تأثيراً بالغاً على الشخصية، وتزداد فاعلية وتأثير تلك الهرمونات في مرحلة المراهقة والشباب ـ ذكوراً واناثاً ـ وبكيفيات تناسب طبيعة الجنس.
غير أن الانسان بقدرته الارادية، يستطيع ان يُغيِّر مواقفه، ويتصرف في المثيرات والمحفزات والرغبات والشهوات الشخصية.
وتؤكد الدراسات العلمية أن نوع التكوين الانساني، والتركيب الجسمي له تأثير في نوعية السلوك والتصرف البشري.
فالفتاة والشاب، يؤثر في سلوكهما طبيعة تركيبهما الجسدي، من الجمال والقوة، أو الضعف وبساطة الشكل، أو فقدان عناصر الجمال.
كما يؤثر الانتماء الطبقي، ومستوى الموقع الاجتماعي للفرد في سلوكه وممارساته وشدة الرجولة والانوثة، أو ضمورها في الشخص حسب انتمائه الجنسي؛ بل وللون البشرة وحجم بعض الاعضاء، كالنهدين والشعر في الفتاة، والعضلات وطول القامة في الشاب، واللباقة الكلامية، تأثير في السلوك والتعامل، والنظرة للذات ولقيمتها عند الاخرين.
وانطلاقاً من أن تكوين الانسان الجسدي، يؤثر في سلوكه وتعامله وثقته بنفسه، بل وفي نشوء الحالات السلوكية غير الصحيحة، كالغرور والتكبر، أو الشعور بالنقص، والغيرة والحسد، وربما نشوء روح الانتقام من الاخرين عندما يشعر بتخلف الحالة الجسدية، أو الجمالية عنده، عالج الاسلام تلك المسألة معالجة خاصة فحذر من الغرور والكبرياء، كما حذر من الغيرة والحسد والشعور بالنقص، وأوضح ان قيمة الانسان بأفكاره وسلوكه وخلقه.
فالانسانية قيمة ومعنى، وذات متقوّمة بالفكر والمشاعر والوجدان والاخلاق والارادة، وليس بالظواهر الجسدية، ولا بالشكل المادي المغري للانسان. جاء ذلك في قوله تعالى: (انّ اُكرمكم عند الله اتقاكم). (الحجرات / 13)
كما جاء التحذير من الانخداع بالشكل الظاهر الجسدي، الذي لا يحمل المحتوى الانساني السوي، في وصفه للمنافقين في قوله تعالى: (واذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وان يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون). (المنافقون / 4)
وقال محذراً من الغرور في وصية لقمان لابنه:
(ولاتمش في الارض مرحاً انك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولاً).(الاسراء /37)
وفي حديث الرسول الكريم محمد (ص) بيان وتوعية وتثقيف، وتعريف بقيمة الاعمال والصور الجسدية، قال (ص):
«ان الله تعالى لاينظر الى صوركم واموالكم، ولكن انما ينظر الى قلوبكم وأعمالكم»(5).
وكما جاء التحذير، والدعوة الى عدم الغرور والتعالي، أو الاغترار بالشكل والجسم والمظاهر الجسدية، كاللباقة الكلامية، والقوة والصحة... الخ، قام بتوعية اخرى لمن يفقدون بعض الملكات الجسدية، ويشعرون بالنقص، وروح الغيرة والحسد، وربما يدفعهم ذلك الى الشعور بالنقص والخجل، أو يولد في البعض روح الانتقام.
قال تعالى: (قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق* ومن شر غاسق اذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد* ومن شر حاسد اذا حسد(6)). (الفلق / 1 ـ 5)
وقال تعالى: (ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وَسْألوا الله من فضله انّ الله كان بكلِّ شيء عليماً). (النساء / 32)
وتتجسد الدعوة الى التكامل النفسي، والنظر الى الذات نظراً متوازناً، بعيداً عن الشعور بالنقص، أو نتيجة لما يتمتع به الانسان من مواصفات، في دعاء الامام زين العابدين، علي بن الحسين (ع): «اللهم واجعل غناي في نفسي»(7).
فالدعاء يلخّص أرقى تعامل تكاملي مع الذات، ويجنّبها الاحساس بالنقص، أو الشعور بالحقد والحسد والغيرة.
ففي كل انسان مواصفات وقابليات وملكات يتمتع بها، كافية لان تجعل منه انساناً مقتنعاً بشخصيته لو أحسن الاستفادة منها، وذلك عدل الله سبحانه، وتلك حكمته في الخلق، والشعور بتفوق الاخرين
دافع نحو العمل والابداع والاحساس من الجميع بالحاجة الى الاخرين. وضّح القرآن ذلك بقوله: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتّخذ بعضهم بعضاً سخرياً).(الزخرف / 32)
ونجد تلك التوعية على معالجة تلك المشكلة النفسية التي تنشأ بسب الوضع الجسدي للانسان واردة في عموم ما بيَّنه الرسول (ص)من صفات الانسان المؤمن، جاء ذلك في قوله (ص): «ولايجتمعان في قلب عبد، الايمان والحسد»(8).
[FONT='Arial','sans-serif']3ـ التربية المدرسية[/FONT][FONT='Arial','sans-serif'](هوَ الذي خلقكُم مِنْ ترابٍ ثمَّ مِنْ نطفةٍ ثمَّ مِنْ علقةٍ ثمَّ يخرجكُم طفلاً ثمَّ لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون) (غافر / 67)
(ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطواراً). (نوح/13 ـ 14))
وهكذا أبدع خالق الوجود هذا الكائن المعقّد التكوين والفاعلية، فقد انطلقت حركة الحياة بقدرة خالقها من تراب الارض، لتمر عبر مراحل من التكوين والنمو والتطور العضوي والنفسي والعقلي. ان عظمة الله
تتجلى في بيان هذه الاية، تتجلى في كيفية نشأة هذا الانسان من تراب الارض.
نشأة الجسم بأجهزته وأعضائه المعقَّدة التكوين والاداء والنشاط، تتجلى بتكوينه النفسي، وبحالاته الانفعالية والعاطفية من الحب والكراهية والرضا والسخط والشهوة والغضب والخوف والحزن والفرح.
تتجلى بتكوينه العقلي، بالادراك الحسي والتجريدي وبالخيال والقدرة على التفكير بالغائب والمجهول، وموقفه النفسي منه، وقدرته على اكتشافه والاعداد والتخطيط له.
انها عظمة الله تتجلى فى خلق الانسان التي يتحدث عنها القرآن في هذه الاية، ليبرز أهم ثلاث مراحل في حياته، تمثل التحولات الجسدية والعقلية والنفسية الاساسية في حياته، وهي:
1 ـ مرحلة الطفولة.
2 ـ مرحلة بلوغ الشدة (القوة).
3 ـ مرحلة الشيخوخة.
ولقد اجرى علماء الطب والنفس دراسات علمية تجريبية على التكوين الانساني المتعلقة بمرحلة الطفولة وخصائصها، كما درسوا المرحلة الثانية باطوارها الثلاثة: المراهقة، الشباب، الكهولة.
وفي الخطاب الاسلامي للانسان تجد التمييز في التربية والتكليف والتوجيه والتعامل بين أفراد الانسان في المراحل والاطوار. وهذا المنهج يكشف عن رؤية علمية، وتشخيص موضوعي دقيق لتكوين الانسان النفسي والعقلي والجسدي، وبناء التعامل على هذا الاساس.
وفي بحثنا هذا نريد أن نتحدث عن مرحلة الشباب لاهميتها في حياة الانسان، لانها مرحلة القوة والحيوية والنشاط الغريزي وتفتّح الطاقات والمؤهلات، ولانها مرحلة محفوفة بالمخاطر والمآزق النفسية والعاطفية والغريزية.
فطاقة الشباب الجسدية والعقلية والنفسية كأية طاقة حرَّة في هذا الوجود، كالطاقة المائية والطاقة النووية، يمكن أن توجه لخدمة الانسان وخير البشرية، كما أنها قابلة لان تتحول الى طاقة هدم ومشاكل ومعاناة للفرد نفسه وللمجتمع.
2 ـ العوامل المؤثرة في سلوك الفرد
يشكل السلوك الانساني وحدة موضوعية مترابطة، وهو نتيجة لتفاعل وتداخل عوامل وعناصر عديدة، فموقف الانسان، كالرحمة والصدق والعدل، والنطق بالكلمة الطيبة، أو الكذب والنفاق وجريمة القتل، وتناول المخدر، وممارسة الاحتكار، هو في حقيقته مرآة يعكس لنا عدداً من العوامل والعناصر التي تفاعلت فيما بينها، فصنعت من ذلك الانسان انساناً رحيماً أو مجرماً محترفاً للاجرام، أو محتكراً جشعاً، أو انساناً متوازن الشخصية، أو معقداً يعاني من مرض نفسي أو عصبي.
ان الدراسات النفسية وبحوث علماء الطب والفسيولوجيا والاجرام وعلم النفس استطاعت أن تقدم لنا تحليلاً للسلوك الانساني، وترجعه الى عوامله ودوافعه الاولى، فكشفت تلك البحوث والدراسات عن أن الموقف السلوكي ـ الخيّر منه والشرير ـ هو مركَّب من تفاعل عدة دوافع وعوامل ونوازع ذاتية وبيئية ووراثية واجتماعية... الخ.
ومن المفيد أن نلخص تلك العوامل بشكل موجز لنقدم توضيحاً لحالات المواقف لاسيما الازمات والعقد والمشاكل النفسية، وحالات الانحراف والممارسات السلوكية غير الطبيعية التي تظهر على مساحات واسعة من جيل الشباب.
فظاهرة التمرد على الاعراف والقانون السليم، والشذوذ الجنسي، والاجرام والسرقة والعدوانية، وانحلال الشخصية والتسكع، وتناول الكحول والمخدرات، والانتحار والامراض العصبية والنفسية، التي كثيراً ما تتحول الى امراض جسدية. ان كلّ تلك الظواهر والحالات يمكن ارجاعها الى العوامل الاساسية التي كونت الشخصية.
ومهما نتحدث عن تلك العوامل، ينبغي ان ندرك ان الانسان كائن ذو ارادة وقدرة على التغيير، واختيار المواقف السوية، بدلاً من المواقف الانحرافية؛ لذا شرعت التوبة، وشُرّع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما العوامل التي تشترك في صنع سلوك الفرد فهي:
1 ـ الاسرة وظروف التربية الاُولى.
2 ـ البنية التكوينية.
3 ـ التربية المدرسية.
4 ـ الاعلام.
5 ـ السلطة والقوى السياسية.
6 ـ الثقافة والمعتقد الذي يؤمن به الشاب.
وسنعرّف بدور كل تلك العناصر والعوامل، وأثرها في سلوك الشباب بصورة خاصة.
وان مثل هذه التوعية تضع الشاب أمام حالة من التأمل والمناقشة، والمحاكمة للنوازع والدوافع الغريزية والعاطفية والبواعث السلوكية، قبل أن يستجيب لها، ويقدم على فعل أو موقف.
وكم هو رائع ودقيق ذلك التوجيه النبوي الكريم القائل:
«اذا هممت بامر فتدبر عاقبته، فإن كان خيراً فاسرع اليه، وان كان شراً فإنته عنه»(1).
ولابد من أن نعرف أن من أهم أسباب المشاكل السلوكية في مرحلة الشباب، هو الانسياق غير الواعي وراء الدوافع والرغبات النفسية، والرضوخ لضغوط الغريزة والانفعالات التي تضغط على شخصية الشاب بوعي وبغير وعي.
ويمكننا أن نفهم هذا التوضيح من تحليل العلاقة بين الفكر والوعي والسلوك تحليلاً علمياً، كما أننا نجد ذلك مشخصاً في البحوث والتقارير الميدانية، والارقام والاحصاءات الدالة على تفشِّي الجريمة والانحراف والممارسات الشاذة في الاوساط التي يخيِّم عليها الجهل، والتخلف الفكري والثقافي، والكفر بالله، الذي هو نتيجة اخرى من نتائج الجهل البشري، وعدم فهم هذا العالم وتفسيره تفسيراً سليماً.
1ـ الاُسرة وظروف التربية الاُولى
ان النظرة العلمية التي ينظرها الاسلام لنشأة ونمو وتكوين الانسان عبر مراحل وجوده تتجلى في مقومات الربط بين تلك المراحل، ومنذ انعقاد النطفة، وحتى بلوغه مراحل الشيخوخة.
فقد ربط الاسلام بين أنواع الاغذية التي يتناولها الوالدان، وبين النطفة التي يتكون منها الجنين، كما ربط بين تعامل الوالدين مع الطفل في نشأته الاولى، ومايحيط به من أجواء وظروف ومحيط، وبين تكون شخصيته.
لذا نجد الرسول الكريم (ص) يوضح أن اعتناق الانسان لفكرة معينة وسلوك معين بمرحلة البلوغ والمسؤولية، انّما يساهم في تكوينه الابوان في مرحلة النشأة والتعليم.
فالانسان عندما يكون مسلماً مستقيم السلوك والشخصية، أو عنصراً منحرفاً، انّما يشارك في ذلك تأثير الابوين والنشأة الاولى. فالانسان يولد على الفطرة النقية الصافية المتجهة نحو الاستقامة في أصل نشأتها.
الاّ أن هذه الفطرة قابلة للتكيّف، وتقبل مختلف صور الفكر والسلوك، فتتشكل الذات، وتتكون الشخصية في مرحلة النشأة الاولى .. يتضح ذلك من قول الرسول الكريم محمد (ص) : «كل
مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصّرانه ويمجسانه»(2).
ويتحدث القرآن عن هذه الحقيقة، حقيقة العلاقة بين التربية الاولى التي يتولاّها الآباء، وبين سلوك الانسان بعد مرحلة البلوغ والتكامل العقلي والجسدي.
قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أُمهاتكم لاتعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون). (النحل / 78)
(ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة).(التحريم / 6)
فبذا يربط القرآن بين ما يتعلمه ويكتسبه الانسان في نشأته الاولى، مما يسمع ويرى ويعقل، وبين ما تؤول اليه الشخصية فيما بعد؛ لذا دعا الآباء الى تربية أبنائهم تربية صالحة، وحذّرهم من نتيجة الاهمال.
ويربط الامام علي (ع) بين ما يكتسبه الانسان في مرحلة الطفولة، وبين ما تستقر عليه شخصيته من أوضاع فكرية ونفسية وسلوكية في مرحلة البلوغ في وصيته لولده الامام الحسن السبط(ع) قال:
«انّما قلب الحدث كالارض الخالية؛ ما أُلقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالادب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك، لتستقبل بجدِّ رأيك من الامر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كُفيت مؤونة الطلب، وعُوفيت من علاج التجربة»(3).
ان الامام المربي يثبت لنا بذلك مبدأ تربوياً هاماً، وهو المبادرة الى تربية الطفل تربية صالحة (قبل أن يقسو قلبه، ويشتغل لبه).
ان هذا المبدأ التربوي القائم على أُسس علمية يدعونا الى المبادرة لتربية الطفل، وتعليمه قبل أن تتشكل شخصيته، وتأخذ صيغتها، وتمتلئ بالتجارب والمعلومات غير السويّة، وتتطبّع على انماط من السلوك يحتاج التخلص منها الى اعادة التربية، وتشكيل الشخصية مرة اُخرى. وفي اعادة التصحيح والاصلاح جهد ومعاناة، وتحمّل للتبعات والمشاكل التي يرتكبها الناشئ والشاب.
وربما تعذر حلّ بعضها، وذهب الانسان ضحيتها؛ ذهب ضحية المشاكل التي واجهها في تربيته واُسرته الاولى.
فإن منشأ الكثير من العقد والامراض النفسية والمشاكل السلوكية، هو مرحلة الطفولة غير السوية، التي تنشأ تحت وطأة المشاكل والاجواء المضطربة والمتأزمة، والتعامل غير السليم.
ان دراسة أُجريت على 7598 جانحاً في الولايات المتحدة الاميركية من نزلاء المؤسسات الاصلاحية سنة 1910 أظهرت أن 7ر50% أتوا من اُسر متصدِّعة. وأن 5ر50% من نزلاء المدارس الاصلاحية في انجلترا، واسكتلندا أتوا من بيوت متصدعة. وان أحصاءً قام به أحد باحثي المانيا الغربية على 144 من المجرمين الاحداث بيَّنَ أنهم جميعاً ينتمون الى اُسر متصدعة.
كما أجرى أحد الباحثين في المانيا الغربية احصاءً على 2000 حدث مجرمين تبيَّن من خلاله أن 26% منهم ينتمون الى اُسر انفصل فيها الابوان عن حياتهما الزوجية لسبب وآخر.
وأجرى باحث فرنسي عام 1942 في مدينة باريس دراسة على الاحداث المنحرفين فتبيّن أن 88% منهم كانت اُسرهم متفككة)(4).
كما ان سبب العادات الحسنة بشكل أساس هو التربية البيتية، كذلك فإن كثيراً من الحالات الانحرافية والعقد والامراض النفسية التي يعاني منها الفرد في مرحلة الشباب، مثل الحقد والشعور بالنقص، والكسل، والاتكالية، والانانية، والعدوانية، والبذاءة، وحالات الشذوذ الجنسي، والخمور، والمخدرات، والتسكع، والكذب، والسرقة، والنفاق، وسوء معاشرة الاخرين، والكسل، والانطوائية، والجبن، تعود نشأتها الى التربية البيتية في مرحلة الطفولة، فتنشأ مع الانسان عاداته وأخلاقه وصفاته، وتشب وتبقى تلازمه. وان كان التخلص منها والانتصار عليها أمر ممكن.
فالانسان كائن ذو ارادة واختيار، وقدرة على التغيير، الاّ ان ذلك يكلّفه مشقّة ومعاناة، كما انّ البعض يذهب ضحية تلك التربية.
لذا فإن من أسباب فهم الانسان لشخصيته، وللحالات التي يعاني منها، أو الاخرى الايجابية في شخصيته أن يستذكر طبيعة نشأته الاولى، ويدرس ظروف الطفولة التي نشأ فيها، ليعرف منشأ المشكلة، أو الايجابية في شخصيته.
2ـ البنية التكوينية
تفيد الدراسات والابحاث الميدانية التي اُجريت على سلوك الافراد، لاسيما السلوك الشاذ غير الطبيعي، كالمصابين بالشذوذ الجنسي، والعقد والامراض النفسية والعصبية والمجرمين القتلة... الخ.
تفيد تلك الدراسات أن هناك عوامل بيولوجية وفسيولوجية، بعضها وراثي، تؤثر في سلوك الفرد، كما تؤثر عوامل التربية والمحيط، والاكتساب الاجتماعي.
فقد ثبت علمياً أن لافرازات الغدد الصماء ـ الهرمونات ـ تأثيراً بالغاً على الشخصية، وتزداد فاعلية وتأثير تلك الهرمونات في مرحلة المراهقة والشباب ـ ذكوراً واناثاً ـ وبكيفيات تناسب طبيعة الجنس.
غير أن الانسان بقدرته الارادية، يستطيع ان يُغيِّر مواقفه، ويتصرف في المثيرات والمحفزات والرغبات والشهوات الشخصية.
وتؤكد الدراسات العلمية أن نوع التكوين الانساني، والتركيب الجسمي له تأثير في نوعية السلوك والتصرف البشري.
فالفتاة والشاب، يؤثر في سلوكهما طبيعة تركيبهما الجسدي، من الجمال والقوة، أو الضعف وبساطة الشكل، أو فقدان عناصر الجمال.
كما يؤثر الانتماء الطبقي، ومستوى الموقع الاجتماعي للفرد في سلوكه وممارساته وشدة الرجولة والانوثة، أو ضمورها في الشخص حسب انتمائه الجنسي؛ بل وللون البشرة وحجم بعض الاعضاء، كالنهدين والشعر في الفتاة، والعضلات وطول القامة في الشاب، واللباقة الكلامية، تأثير في السلوك والتعامل، والنظرة للذات ولقيمتها عند الاخرين.
وانطلاقاً من أن تكوين الانسان الجسدي، يؤثر في سلوكه وتعامله وثقته بنفسه، بل وفي نشوء الحالات السلوكية غير الصحيحة، كالغرور والتكبر، أو الشعور بالنقص، والغيرة والحسد، وربما نشوء روح الانتقام من الاخرين عندما يشعر بتخلف الحالة الجسدية، أو الجمالية عنده، عالج الاسلام تلك المسألة معالجة خاصة فحذر من الغرور والكبرياء، كما حذر من الغيرة والحسد والشعور بالنقص، وأوضح ان قيمة الانسان بأفكاره وسلوكه وخلقه.
فالانسانية قيمة ومعنى، وذات متقوّمة بالفكر والمشاعر والوجدان والاخلاق والارادة، وليس بالظواهر الجسدية، ولا بالشكل المادي المغري للانسان. جاء ذلك في قوله تعالى: (انّ اُكرمكم عند الله اتقاكم). (الحجرات / 13)
كما جاء التحذير من الانخداع بالشكل الظاهر الجسدي، الذي لا يحمل المحتوى الانساني السوي، في وصفه للمنافقين في قوله تعالى: (واذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وان يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون). (المنافقون / 4)
وقال محذراً من الغرور في وصية لقمان لابنه:
(ولاتمش في الارض مرحاً انك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولاً).(الاسراء /37)
وفي حديث الرسول الكريم محمد (ص) بيان وتوعية وتثقيف، وتعريف بقيمة الاعمال والصور الجسدية، قال (ص):
«ان الله تعالى لاينظر الى صوركم واموالكم، ولكن انما ينظر الى قلوبكم وأعمالكم»(5).
وكما جاء التحذير، والدعوة الى عدم الغرور والتعالي، أو الاغترار بالشكل والجسم والمظاهر الجسدية، كاللباقة الكلامية، والقوة والصحة... الخ، قام بتوعية اخرى لمن يفقدون بعض الملكات الجسدية، ويشعرون بالنقص، وروح الغيرة والحسد، وربما يدفعهم ذلك الى الشعور بالنقص والخجل، أو يولد في البعض روح الانتقام.
قال تعالى: (قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق* ومن شر غاسق اذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد* ومن شر حاسد اذا حسد(6)). (الفلق / 1 ـ 5)
وقال تعالى: (ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وَسْألوا الله من فضله انّ الله كان بكلِّ شيء عليماً). (النساء / 32)
وتتجسد الدعوة الى التكامل النفسي، والنظر الى الذات نظراً متوازناً، بعيداً عن الشعور بالنقص، أو نتيجة لما يتمتع به الانسان من مواصفات، في دعاء الامام زين العابدين، علي بن الحسين (ع): «اللهم واجعل غناي في نفسي»(7).
فالدعاء يلخّص أرقى تعامل تكاملي مع الذات، ويجنّبها الاحساس بالنقص، أو الشعور بالحقد والحسد والغيرة.
ففي كل انسان مواصفات وقابليات وملكات يتمتع بها، كافية لان تجعل منه انساناً مقتنعاً بشخصيته لو أحسن الاستفادة منها، وذلك عدل الله سبحانه، وتلك حكمته في الخلق، والشعور بتفوق الاخرين
دافع نحو العمل والابداع والاحساس من الجميع بالحاجة الى الاخرين. وضّح القرآن ذلك بقوله: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتّخذ بعضهم بعضاً سخرياً).(الزخرف / 32)
ونجد تلك التوعية على معالجة تلك المشكلة النفسية التي تنشأ بسب الوضع الجسدي للانسان واردة في عموم ما بيَّنه الرسول (ص)من صفات الانسان المؤمن، جاء ذلك في قوله (ص): «ولايجتمعان في قلب عبد، الايمان والحسد»(8).
[FONT='Arial','sans-serif']لم تعد مسألة التربية وأثرها في السلوك المستقبلي للانسان، مسألة علمية، أو عملية غامضة، فهي من أوضح القضايا في منطق العلم. فالعناصر التربوية في الحياة المدرسية لها أكبر الاثر في تكوين الشخصية، وتشكيل هويتها.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']فالطفل في عالمنا المعاصر يقضي الشطر الهام من حياته في أجواء المدرسة، فهو يبدأ حياته في أحضانها، ومنذ دور الحضانة ورياض الاطفال يتدرج في مراحل حياته بين المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعة، فهو يقضي حياة الطفولة والمراهقة والشباب في نظام حياتي مخطط ومصمم وفق اُسس وأهداف ومنهج محدد.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']لذا فهو ينشأ وينمو وتتكون شخصيته وفق فلسفة التربية والنظرية الحياتية التي تتبناها المدرسة، سواء المدارس التي تديرها الدولة، أو الافراد والمؤسسات، فهي تعمل على صياغة نمط الشخصية، ولون السلوك. [/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']فالمدرسة التي تتبنى الفكر المادي من خلال منهجها، والاجواء التربوية فيها وطريقة الممارسات السلوكية المختلفة وتربي الفردية والاباحية ولاتعتني بقيم الاخلاق والايمان بالله، فإنها تنتج شخصية اباحية، تبحث على مستوى السلوك الفردي عن اللذة والمتعة، وتنساق وراء الشهوات والدوافع الغريزية الشاذة من غير ضوابط، وهي على الصعيد الاجتماعي والسياسي تنتج عقلية مادية رأسمالية.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']لذا فإن الاصلاح والتغيير العام، يبدأ بشكل اساس من المدرسة في فلسفتها التربوية، ومناهجها وطرق الحياة فيها، وشخصية المعلم الممارس للتعليم.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']فإن العناصر المدرسية ـ المنهج واسلوب الحياة والتعامل داخل المدرسة والمعلم ـ تساهم بمجموعها بتكوين وبناء الشخصية.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']فالمدرسة تربي الطالب على ان يعيش مع عشرات، أو مئات من الطلبة، ويتعامل مع مختلف الشرائع والاذواق والطبائع، ويكتسب منهم.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']كما تقوم المدرسة التي تبني الحياة التربوية فيها على اُسس فلسفة محددة بغربلة الاوضاع الاجتماعية، وانتخاب ما يوافق فلسفتها، ورفض ما لا ينسجم وأهدافها، لذا فهي نموذج مصغر لمجتمع ودولة.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']وليس هذا فحسب، فالمدرسة تشكل بالنسبة الى الطالب، ومنذ يبدأ بالاحساس بفهم شخصيته، ونمو التفكير بالمستقبل الذي يأخذ بالسيطرة على تفكيره وطموحاته، تكون بالنسبة اليه هي الوسيلة الاساسية التي يحقق من خلالها أهدافه الحياتية، وطموحاته المستقبلية.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']لذا فإن استطلاع الرأي العام وسط الطلبة، يوفر لنا قراءة للامال والاتجاهات والميول التي يحملها الطلبة، وتحديد نمط المستقبل الذي يراودهم، كما وأن الفشل في الدراسة ينتج مشكلة كبرى للكثير منهم، تنعكس على سلوكهم، ومستقبل حياتهم، بل وعلى اُسرهم ومجتمعهم؛ لذا تنبغي دراسة مشاكل الطفل والمراهق المدرسية، قبل أن تستفحل ويصعب حلها فيترك الدراسة في المرحلة الابتدائية أو المتوسطة أو الثانوية، دون ان يكتسب الثقافة، أو المهارة والخبرة العلمية التي تحقق آماله المعقولة.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']وكثيراً ما يكون للمعلم، واُسلوب التربية في المدرسة، أو طريقة التعامل الاثر الكبير في حصول المشاكل للطفل والناشئ والمراهق، مما اقتضى ان يكون في المدرسة باحث اجتماعي ونفسي لدراسة مشكلة الطالب، حسب سنّه وظروفه، ومشاكله من الطفولة والصبا والمراهقة، وحلها بالطرق والوسائل العلمية، قبل أن تتحول الى مشكلة وعقدة تشرد الطالب، وتجني على مستقبله الدراسي، وقد اخذت المدارس الحديثة بهذا الاسلوب.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']كما وتساهم الظروف الاقتصادية السيئة مساهمة كبيرة في ترك الطالب في هذه السن للدراسة، وتوجهه لطلب العيش، أو يتركها بسبب العجز عن تغطية نفقات الدراسة.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']كما ويساهم أصدقاء السوء مساهمة كبيرة في حصول الفشل الدراسي. فالطفل والمراهق يسهل جذبه في هذه المرحلة الى ممارسات اللهو والانشغال، وتحويل الاهتمام من الجدية والتفكير في المستقبل المحترم الى التردي والتسكع والتشرد والعبث.[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']ولثقافة الابوين، وتقديرهم لمستقبل أبنائهم، وحرصهم عليهم، ولاسلوبهم في التعامل معهم من التشجيع والتوجيه، أو سوء التعامل والاهمال، الاثر الكبير في الفشل الدراسي، أو تحقيق النجاح والتفوق.[/FONT]
[/FONT]
[FONT='Arial','sans-serif']يتبع
[/FONT]
تعليق