الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين
تقدم في وقت سابق حديث لنا عن الولاية بعنوان ( الولاية بين الحقائق والأوهام ) وأحببت في هذا اليوم أن أتحدث عن البراءة بين الحقائق والأوهام ، وما معنى البراءة ؟
حيث أصبحت المزايدات العلمية والعملية على معنى الولاية والبراءة من الأمور البارزة ، وقد تتدخل عناوين متعددة مثل العاطفة والمكاسب المادية والمعنوية والسياسية في تحديد مفهومي الولاية والبراءة ويحاول البعض عامدا أو غير عامد أن يخرج من مذهب أهل البيت من اختلف معه في مفهوميهما بحجة ثوابت المذهب وضرورياته وأن يدخل فيه من يتفق معه في رأيه ( في معنى الولاية والبراءة ) .
ومهما كان الأمر فنقول :
البراءة من أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء أهل البيت عليهم السلام من الأمور الواجبة التي لا شك فيها وتعد ضمن فروع الدين ، والبراءة والتبري ضد الولاية والتولي وقد اتفق على ذلك عموم المسلمين .
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ما معنى البراءة الواجبة التي يجب على الإنسان المسلم أن يلتزم بها وإذا لم يلتزم فسوف يؤاخذ على تركها ؟ فهل ترجع إلى الجانب اللفظي فقط ؟ أو ترجع إلى جانب الاعتقاد والعمل على طبق ذلك الاعتقاد ؟
من الأوهام الخطيرة
الجواب الأول : يتصور البعض أن البراءة هي السب واللعن وأن التبري من الأعداء خصوصاً أعداء أهل البيت هو سبهم ولعنهم بل وتكفيرهم في كثير من الحالات والذي لا يسلك هذا المسلك ولا يعمل عليه فقد خرج من ولاية أهل البيت ودخل في ولاية أعدائهم وحينئذ تتخذ البراءة ذريعة للإرهاب الفكري والاجتماعي وتصفية حسابات وتحقيق مكاسب مادية أو معنوية .
وهذه الظاهرة في الواقع خطيرة وكبيرة وأول ما تعود بالضرر على مذهب أهل البيت وشيعتهم وهي في نفس الوقت دخيلة على مدرسة أهل البيت عليهم السلام وأن هذا المعنى للبراءة مخالف للمعاجم اللغوية والروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وعن أهل بيته المعصومين ولم نر موردا واحدا في رواياتهم أو المعاجم اللغوية ، أن البراءة هي السب واللعن . فالبراءة شيء والسب واللعن شيء آخر .
البراءة في اللغة :
ونحن إذا رجعنا إلى معاجم اللغة نراها تحدد معنى البراءة بانقطاع العصمة وقطع العلقة التي توجب رفع المطالبة وذلك كالبراءة من الدَّين والبراءة من العيب في البيع و التفصي والانقطاع عن شيء يكرهه وبالخلاء والابتعاد عن عمل يراه الشخص غير صحيح في عقيدته أو في فكره ويلتزم الابتعاد عنه .
قال الخليل بن أحمد الفراهيدي : والبراءة من العيب والمكروه ، ولا يقال إلا بَرِئ يبرأ ، وفاعله بَرِيء ، كما ترى ، وبراء ، وامرأة بَراء ونسوة بَراء ، في كل ذلك على السواء .
وبُرءاء على قياس ( فُعَلاء ) جمع البريء ، ومن ترك الهمز قال : بُرَاء .
ويقال : بارأتُ الرجل ، أي بَرِئ إليَّ ، وبرئتُ إليه مثل ، بارأتُ المرأة أي صالحتها على المفارقة . [1]
وقال الراغب : أصل البُرْء والبَراء والتبري : التفصي مما يكره مجاورته ، ولذلك قيل بَرَأتُ من المرض وبَرَأتُ من فلان وتَبَرَّأتُ وأبْرَأتُهُ من كذا وبَرَأتُهُ ورجل بريء وقوم برآءُ وبريئون قال عز وجل ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ التوبة /1 ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ التوبة / 3 [2]
قال الطريحي :
وفي الحديث : " من نام على سطح غير محجر فقد برئت منه الذمة " ومعناه : أن لكل أحد من الله عهدا بالحفظ والكلاءة ، فإذا ألقى بيده إلى التهلكة أو فعل ما حرم أو خالف ما أمر به خذلته ذمة الله [3].
وقال ابن منظور : و " برئ فلان من فلان " إذا تبرأ منه و " الله منه بريء " أي متبرئ ، وهو من باب الوعيد .
و " أنا منه براء " أي برئ عن مساواته في الحكم وأن أقاس به ، ولم يرد براءة الإيمان والولاية . وفي حديث الطب والتطير : " فليطلب من وليه البراء " كأنه يريد البراءة من الضمان عند عروض التلف .
أبرأ براءة ، وبرئت إليك من فلان أبرأ براءة ، فليس فيها غير هذه اللغة .
وقوله عز وجل : ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ، قال : في رفع براءة قولان : أحدهما على خبر الابتداء ، المعنى : هذه الآيات براءة من الله ورسوله ، والثاني براءة ابتداء والخبر إلى الذين عاهدتم . قال : وكلا القولين حسن [4] .
قال : وكذلك في الدين والعيوب برئ إليك من حقك براءة وبراء وبرؤا وتبرؤا ، وأبرأك منه وبرأك .
وفي التنزيل العزيز : ﴿فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا﴾[5] . وأنا برئ من ذلك وبراء ، والجمع براء ، مثل كريم وكرام ، وبرآء ، مثل فقيه وفقهاء ، وأبراء ، مثل شريف وأشراف ، وأبرياء ، مثل نصيب وأنصباء ، وبريئون وبراء .
وقال الفارسي : البراء جمع برئ ، وهو من باب رخل ورخال . وحكى الفراء في جمعه : براء غير مصروف على حذف إحدى الهمزتين .
وقال اللحياني : أهل الحجاز يقولون : أنا منك براء . قال : وفي التنزيل العزيز : ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾[6] . وتبرأت من كذا وأنا براء منه . [7]
ولغة تميم وغيرهم من العرب : أنا بَريء وفي غير موضع من القرآن ﴿إِنِّي بَرِيءٌ﴾ الانعام : 78 [8]
وقال ابن الأعرابي : بريء إذا تخلص ، وبريء إذا تنزه وتباعد ، وبريء ، إذا أعذر وأنذر ، ومنه قوله تعالى : ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ، أي إعذار وإنذار .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما دعاه عمر إلى العمل فأبى ، فقال عمر : إن يوسف قد سأل العمل . فقال : إن يوسف مني بريء وأنا منه براء أي برئ عن مساواته في الحكم وأن أقاس به ، ولم يرد براءة الولاية والمحبة لأنه مأمور بالإيمان به ، والبراء والبرئ سواء .
وليلة البراء ليلة يتبرأ القمر من الشمس ، وهي أول ليلة من الشهر .[9]
ومعنى براءة الذمة منه لأنه عرض نفسه للهلاك ولم يحترز لها [10].
وكانت سورة براءة تسمى الحافرة ، وذلك أنها حفرت عن قلوب المنافقين ، وذلك أنه لما فرض القتال تبين المنافق من غيره ومن يوالي المؤمنين ممن يوالي أعداءهم [11] .
فالمتحصل أن البراءة تكون في الأعمال التي يعتقدها الشخص غير صحيحة حتى ولو صدرت من أي شخص ، وهو يريد الابتعاد عنها ، أو يتهم بصدور بعض الأفعال منه ولكنه ينفي ويتبرأ من ذلك . فأين هذا المعنى من السب واللعن والتكفير الذي يدعى أن هذه الأمور هي البراءة ؟
تعليق