إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

دروس في علوم القران 1

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    دروس في علوم القران 15

    - الإخبار عن الغيب:
    تحدّى القرآن الكريم بالإخبار عن بعض الغيب بآيات كثيرة، ما كان للناس أن يعلموها ولا من شأنهم أن يطّلعوا عليها لولا إخبار القرآن الكريم بها، ومن هذه الإخبارات الغيبية:
    أ- إخبار القرآن عن بعض الحوادث الماضية الخافي أمرها وحقيقتها عن الناس، منها:
    - قوله تعالى بعد سرد قصّة النبي نوح عليه السلام وقومه:
    ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ1.
    - قوله تعالى بعد سرد قصّة النبي يوسف عليه السلام وأخوته
    ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ2.
    - قوله تعالى بعد سرد قصة مريم عليها السلام:
    ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ3.
    231
    ب- الإخبار عن بعض الحوادث المستقبلية الخافي أمرها وحقيقتها عن الناس، منها:
    - قوله تعالى في انغلاب الروم ثمّ غلبتهم:
    ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ4.
    - قوله تعالى في رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة بعد الهجرة:
    ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ5، وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا6.

    إلى غير ذلك من الآيات التي تبيّن حقائق علمية مجهولة للناس زمن نزول القرآن، كشف عنها العلم الحديث في عصرنا الحاضر، أو أخبار تنبّئ عن الحوادث العظيمة التي تستقبل الأمّة الإسلامية أو الدنيا عامّة بعد نزول القرآن7.

    2- الكشف عن حقائق علمية:

    كشف القرآن الكريم عن معارف وحقائق كونيّة وقوانين طبيعية لا سبيل إلى معرفتها في زمن نزول القرآن إلا عبر الوحي الإلهي، وبعض هذه الحقائق لم يتّضح للناس إلا بعد توافر العلوم وتقدّم البشرية وتطوّرها في فترة متأخّرة، وبعضها الآخر لا يزال مجهولاً بالنسبة إليهم حتى الآن. ومن هذه الحقائق التي كشف عنها الوحي الإلهي، وتنبّه لها العلم الحديث، ما يلي8:

    232
    أ- دور الرياح في تلقيح النبات والأشجار: قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ...9، حيث أثبت العلم الحديث أنّ النباتات والأشجار تحتاج إلى اللقاح لكي تثمر، وعملية التلقيح هذه تحصل بواسطة الرياح التي تحمل اللقاح من مكان إلى آخر.

    ب- ظاهرة الزوجية: قال تعالى:
    ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ10، ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ11،﴿...وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ...12، حيث تصرّح هذه الآيات بعموميّة ظاهرة الزوجية التكوينية لكلّ شيء أوجده الله تعالى في هذا الكون.

    ج- حركة الأرض ودورانها: قال تعالى:
    ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا...13، حيث تصوّر هذه الآية الأرض على شكل مهد بالنسبة لمن عليها، وهذه الحالة ناجمة عن الحركة الموضعية والانتقالية للأرض، ومثلما تكون حركة المهد سبباً لسكينة الطفل ونموه, كذلك تؤدّي حركة الأرض إلى تكامل الإنسان وتطوّره.

    د- كرويّة الأرض: قال تعالى:
    ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا...14، ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ15، ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ. حيث إنّنا لو فرضنا أنّ الأرض مسطّحة, فلا يمكن أن يكون لها أكثر من مشرق ومغرب في وقت واحد, إلا على فرض كرويّتها وتبدّل أوضاعها وحالاتها بالنسبة إلى الشمس.
    233
    3- الفصاحة والبلاغة (البيان):
    من أبعاد إعجاز القرآن فصاحته وبلاغته، حيث تحدّى بهما العرب الذين بلغوا مبلغاً لم يذكره التاريخ لواحدة من الأمم المتقدّمة عليهم أو المتأخّرة عنهم، ووطئوا موطئاً لم تطأه أقدام غيرهم, في كمال البيان، وجزالة النظم، ووفاء اللفظ، ورعاية المقام، وسهولة المنطق16:
    قال تعالى:
    ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ17.

    وقال تعالى:
    ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ18.

    وقد طالت مدّة التحدّي، وتمادى زمان الاستنهاض, فلم يجيبوه إلا بالتجافي، ولم يزدهم إلا العجز، ولم يكن منهم إلا الاستخفاء والفرار:
    ﴿أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ19.

    ويمكن الإشارة إلى بعض خصائص هذا الإعجاز20، في ما يلي:
    أ- دقيق تعبير القرآن ورقيق تحبيره: حيث وضع القرآن كلّ لفظٍ موضعه الأخصّ، إذا أُبدل بغيره جاء منه فساد معنى الكلام أو سقوط رونقه، من قبيل: تقديم السمع على البصر في قوله تعالى:
    ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ
    234
    تَشْكُرُونَ21, لأنّ السمع أرقى وأعقد وأدقّ وأرهف من جهاز البصر.

    ب- طرافة سبك القرآن وغرابة أُسلوبه: فسبكه جديد، وأُسلوبه فريد، لا هو شعر كشعر العرب، ولا هو نثر كنثرهم، ولا فيه تكلّف أهل السجع والكهانة، على أنّه جَمَع بين مزايا أنواع الكلام الرفيع, فيه أناقة الشعر، وطلاقة النثر، وجزالة السجع الرصين، وجميع آيات القرآن تشهد بذلك.

    ج- عذوبة ألفاظ القرآن وسلاسة عباراته: حيث تبتهج له الأرواح وتنشرح له الصدور، في رونق جذّاب وروعة خلاّبة, حتى أنّ بعض الألفاظ الغريبة في نفسها, إذا ما استعملها القرآن الكريم بدت غاية في الحسن في النظم، من قبيل: لفظة "ضِيزَى" في قوله تعالى:
    ﴿تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى22، حيث إنّ الآية في معرض الإنكار على العرب بجعلهم الملائكة والأصنام بنات لله - والعياذ بالله - مع وأدهم البنات، فقال تعالى: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى23، فكانت غرابة اللفظ أشدّ الأشياء ملائمة لغرابة هذه القِسمة التي أنكرها عليهم، وكانت الجملة كلّها كأنّها تصوّر في هيئة النطق بها، الإنكار في الأُولى والتهكّم في الأُخرى، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة.

    د- تناسق نظم القرآن وتناسب نغمه: حيث يجد السامع لذّةُ، بل وتعتريه نشوةٌ, إذا ما طرق سمعه جواهر حروف القرآن، من قبيل قوله تعالى:
    ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى
    235
    أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى * أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى24. فهذه فواصل متساوية في الوزن تقريباً ـ على نظام غير نظام الشعر العربي ـ متّحدة في حرف التقفية تماماً، ذات إيقاع موسيقي متّحد نابع من تآلف الحروف في الكلمات، وتناسق الكلمات في الجمل، ومردّه إلى الحسّ الداخلي والإدراك الموسيقي، الذي يَفرق بين إيقاع موسيقي وآخر.

    هـ- تجسيد معاني القرآن في أجراس حروفه: حيث تتواءم أجراس حروفه مع صدى معانيه، ويتلاءم لحن بيانه مع صميم مراميه, مِن وعد أو وعيد، وترغيب أو ترهيب، من قبيل قوله تعالى:
    ﴿مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ25، وكأنّك تحسّ بسمعك صوت هذه الريح العاتية، ولها صرير وصراخ وقعقعة وهياج، تَنسف وتُدمّر كلّ شيء, فتُصوّر وقع عذاب شديد ألمّ بقوم ظالمين.

    و- الترابط والتناسق المعنوي في القرآن: فالقرآن منتظم السياق، متلاحم الألفاظ والمعاني، متواصل الأهداف والمباني, حيث إنّك تجد ذلك في ترابط الكلمات داخل الآية الواحدة، وترابط الآيات داخل السورة الواحدة، وترابط السور داخل القرآن, ضمن تناسق معنوي معجز وباهر.

    ز- حسن تشبيهات القرآن وجمالُ تصويراته: فتشبيهاته من أمتن التشبيهات الواقعة في فصيح الكلام، وأجمعهنّ لمحاسن البديع، وأوفاهنّ بدقائق التصوير، ورقائق

    236
    التعبير، ورحائق التحبير، من قبيل قوله تعالى: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا26, حيث إنّه شبّه انتشار الشيب باشتعال النار في سرعة التهابه، وتعذّر تلافيه، وفي عظم الألم في القلب به، وأنّه لم يبقَ بعده إلاّ الخمود! فهذه أوصاف أربعة جامعة بين المشبَّه والمشبَّه به.

    ح- جودة استعارات القرآن وروعةُ تخييلاته: حيث أبدع القرآن فيها وأجاد إجادةَ البصير المُبدع، وأفاد إفادةَ الخبير المضطلع، في إحاطة بالغة لم يعهد لها نظير، ولم يخلفه أبداً بديل، من قبيل قوله تعالى:
    ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ27, ففي استعارة النطق من الإنسان إلى الأرض والسماء وهما من الجماد، والنطق إنّما هو للإنسان لا للجماد.

    ط- لطيف كنايات القرآن وظريف تعريضاته: فكناياته أوفى الكنايات وأدقّهنّ وأرقّهنّ، حيث لم تفته لطافةٌ في كناية، ولا ظرافةٌ في تعريض، من قبيل قوله تعالى:
    ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ28, هذا مَثل ضَربه الله للحقّ وأهله والباطل وحزبه، فكنّى بالماء عن العِلم، وبالأدوية عن القلوب، وبالزَبد عن الضلال. وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ29, فإنّ سؤالها لإهانة قاتلها وتوبيخه.
    237
    4- التصوير الفنّي:
    يشكّل التصوير الفنّي وجهاً إعجازياً من وجوه القرآن الإعجازية, وذلك بفعل خصائص القرآن الكريم في تصوير المشاهد والمعاني المختلفة، وفق تخييل فنّي فائق الروعة، يجذب القلوب والأبصار ويأسرها بسحره وجماله. وقد تجلّى ذلك من خلال تصويره لمشاهد الطبيعة الحيّة، وآثار الفضائل والرذائل والمحاسن والمساوىء، وقصص الماضين من الأنبياء عليهم السلام وأممهم، وضرب الأمثال، وأحوال المعاد والقيامة والحساب...، حيث يجد من يعالجها قمة في الجمال وروعة في التصوير الفنّي, حتى كأنّه يشاهدها حاضرة عنده30.

    ومن المشاهد الفنّية التي صوّرها القرآن الكريم، ما يلي:
    أ- مشاهدة يوم القيامة: قال تعالى:
    ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ31، حيث تصوّر هاتان الآيتان مشهداً مزدحماً بذلك الحشد المتماوج، تكاد العين تبصره بينما الخيال يتملاّه، والهول الشاخص يذهله، فلا يكاد يبلغ أقصاه، وهو هول لا يُقاس بالحجم والضخامة، ولا يمكن أن يعبّر عن عظمته بحسر كلماته وأسلوبه الخاصّ... المرضعات الذاهلات عمّا أرضعن، والحاملات الملقيات حملهنّ، والسكارى وما هم بسكارى، ولكنّ عذاب الله شديد32.
    238
    ب- حبط أعمال الكافرين: قال تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ33, تصوير حبط أعمال الكافرين بمشهد حركة الريح في يوم عاصف, تذرو الرماد، فتذهب به بدداً، إلى حيث لا يجتمع أبداً34.

    ج- عاقبة الشرك بالله: قوله تعالى:
    ﴿... وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ35. هكذا في ومضة، يخرّ من السماء من حيث لا يدري احد، فلا يستقرّ على الأرض لحظة، إنّ الطير لتخطفه، أو إنّ الريح لتهوي به... وتهوي به في مكان سحيق! حيث لا يدري احد كذلك! وذلك هو المقصود36.


    يتبع

    239


    تعليق


    • #32
      مصادر الدرس ومراجعه 1- القرآن الكريم.
      2- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص64-65، 68.
      3- الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص67-77.
      4- معرفة، التمهيد في علوم القرآن، ج5، ص10-422.
      5- سيّد قطب، التصوير الفنّي في القرآن، ص36-37، 39، 43، 62.

      هوامش 1- سورة هود، الآية: 49.
      2- سورة يوسف، الآية: 102.
      3- سورة آل عمران، الآية: 44.
      4- سورة الروم، الآيات: 2-4.
      5- سورة القصص، الآية: 85.
      6- سورة الفتح، الآية: 27.
      7- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص64-65, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص67-70.
      8- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص70-77.
      9- سورة الحجر، الآية: 22.
      10- سورة الذاريات، الآية: 49.
      11- سورة يس، الآية: 36.
      12- سورة الرعد، الآية: 3.
      13- سورة طه، الآية: 53.
      14- سورة الأعراف، الآية: 137.
      15- سورة المعارج، الآية: 40.
      16- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص68.
      17- سورة هود، الآيتان: 13-14.
      18- سورة يونس، الآيتان: 38-39.
      19- سورة هود، الآية: 5.
      20- لمزيد من التفصيل، انظر: معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج5، ص10-422.
      21- سورة النحل، الآية: 78.
      22- سورة النجم، الآية: 22. والضيز: الجَور, أي فهي قِسمة جائرة.
      23- سورة النجم، الآيتان: 21-22.
      24- سورة النجم، الآيات: 1-22.
      25- سورة آل عمران، الآية: 117.
      26- سورة مريم، الآية: 4.
      27- سورة فصّلت، الآية: 11.
      28- سورة الرعد، الآية: 17.
      29- سورة التكوير، الآيتان: 8-9.
      30- انظر: الشاذلي، إبراهيم (سيد قطب): التصوير الفنّي في القرآن، ط16، القاهرة، دار الشروق، 1423هـ.ق/ 2002م، ص36-37.
      31- سورة الحج، الآيتان: 1-2.
      32- انظر: سيد قطب، التصوير الفنّي في القرآن، م.س، ص62.
      33- سورة إبراهيم، الآية: 18.
      34- انظر: سيد قطب، التصوير الفنّي في القرآن، م.س، ص39.
      35- سورة الحج، الآيةّ: 31.
      36- انظر: سيد قطب، التصوير الفنّي في القرآن، م.س، ص43.
      37- انظر: معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج4، ص138-191.

      تعليق


      • #33
        دروس في علوم القران 16

        - معنى التحريف:
        أ- المعنى اللغوي:
        الحاء والراء والفاء ثلاثة أصول: حدّ الشيء، والعدول، وتقدير الشيء.. والأصل الثاني: الانحراف عن الشيء. يُقال: انحرف عنه ينحرف انحرافاً. وحرفته أنا عنه, أي عدلت به عنه, وذلك كتحريف الكلام, وهو عدله عن جهته"1. "وتَحريفُ الشيء: إمالته, كتحريف القلم. وتحريف الكلام: أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين، قال عزّ وجلّ:
        ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾2،و ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾3، و ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾4"5.

        وعليه، فالتحريف لغة هو: تغيير معنى الكلمة والعدول بها عن مقصدها الحقيقي, وهو مختصّ بالتحريف المعنوي.

        ب- المعنى الاصطلاحي:
        هو وقوع التغيير في ألفاظ القرآن وحروفه وحركاته,

        247
        تبديلاً وترتيباً, ونقصاً وزيادةً6.

        وتجدر الإشارة إلى إنّ القرآن لم يستخدم مفهوم التحريف إلا بمعناه اللغوي، في حين أنّ محور بحث صيانة القرآن عن التحريف يختصّ بالتحريف بمعناه الاصطلاحي.

        2- أقسام التحريف:
        أ- التحريف المعنوي:
        وهو المعنى اللغوي نفسه للتحريف، ويُراد به: تفسير القرآن بغير حقيقته، وحمله على غير معناه. ولا شكّ في وقوع هذا القسم من التحريف في القرآن, وهو ما أشارت إليه الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام, والتي ذمّت مَنْ فَعَلَه:
        عن الإمام علي عليه السلام: "... إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهّالاً، ويموتون ضلّالاً ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب, إذا تلي حقّ تلاوته، ولا سلعة أنفق بيعاً ولا أغلى ثمناً من الكتاب, إذا حرِّف عن مواضعه..."7.

        وعن الإمام الباقر عليه السلام: "... وكان من نبذهم الكتاب: أن أقاموا حروفه، وحرّفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية..."8.

        ب- التحريف اللفظي:
        وهو المعنى الاصطلاحي نفسه، ويُتَصوّر وقوعه على أنحاء9، هي:

        248
        - النحو الأوّل: التغيير في الحركات والحروف. وهذا القسم واقع في القرآن حتماً، ومثاله: تعدّد القراءات، حيث قرأ حمزة (عليهِمْ): عليهُمْ. وقرأ أبو جعفر ونافع (يُغْفَر لكم)، والباقون(نَغْفِر لكم).

        - النحو الثاني: النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين، أو إبدال كلمة بكلمة. وهذا التحريف على فرض وقوعه, فإنّه قد وقع قبل الجمع، ولكن بعد الجمع لا يوجد تحريف كهذا, فإنّ القرآن الذي جُمِعَ هو القرآن الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتّفاق المسلمين وتسالمهم عليه. ومثاله: ما رواه الطبري: أنّ أبا الدرداء كان يُقرىء رجلاً:
        ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ, قال: فجعل الرجل يقول: (إنّ شجرة الزقوم طعام اليتيم). قال: فلمّا أكثر عليه أبو الدرداء فرآه لا يفهم، قال: (إنّ شجرة الزقوم طعام الفاجر)10. والرواية في نفسها ضعيفة.

        - النحو الثالث: التحريف بالزيادة والنقيصة في الآية والسورة. ومثاله: البسملة، حيث اتّفقوا على قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها قبل كلّ سورة إلا براءة، واتّفق الشيعة على
        قرآنيّتها، واختلف السنّة في قرآنيّتها.

        - النحو الرابع: التحريف باشتمال القرآن على الزيادة. وهذا مجمع على عدم وقوعه بين المسلمين قاطبة.

        - النحو الخامس: التحريف بالنقيصة, بمعنى ضياع شيء من القرآن وعدم وصوله إلينا. والتحريف بهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف, فأثبته قوم، ونفاه آخرون.

        3- آراء علماء الإماميّة في المسألة:

        من المتسالم عليه بين المسلمين عدم وقوع التحريف في القرآن لا بالزيادة

        249
        ولا بالنقيصة، وأنّ الموجود ما بين أيدينا هو جميع القرآن المنزل على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم, وقد صرّح بذلك كثير من كبار أعلام الشيعة الإماميّة، منهم:
        - الشيخ محمد بن علي بن الحسين بن بابويه الصدوق القمي (ت: 381هـ): "اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك... ومن نسب إلينا أنّا نقول: إنّه أكثر من ذلك, فهو كاذب"11.

        - السيد المرتضى علم الهدى (ت: 436هـ): "إنّ العلم بصحّة نقل القرآن, كالعلم بالبلدان، والحوادث الكبار، والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة, فإنّ العناية اشتدّت، والدواعي توافرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حدٍّ لم يبلغه في ما ذكرناه, لأنّ القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية. وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتى عرفوا كلّ شيء اختُلِفَ فيه, من إعرابه، وقراءته، وحروفه، وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً أو منقوصاً، مع العناية الصادقة، والضبط الشديد"12.

        - الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت: 460هـ): "وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه (أي القرآن) فمّما لا يليق به أيضاً, لأنّ الزيادة فيه مُجمَع على بطلانها، والنقصان منه، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا"13.

        - الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت: 548هـ): "الكلام في زيادة القرآن ونقصانه, فإنّه لا يليق بالتفسير. فأمّا الزيادة فيه: فمجمع على بطلانه.

        250
        وأما النقصان منه: فقد روى جماعة من أصحابنا، وقوم من حشوية العامّة أنّ في القرآن تغييراً أو نقصاناً، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه"14.

        - الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت: 1228هـ): "لا ريبَ في أنّه مَحفوظ من النقصان, بحفظ الملك الديّان, كما دلّ عليه صريح القرآن، وإجماع العلماء في جميع الأزمان، ولا عبرة بالنادر. وما ورد من أخبار النقيصة تَمنع البديهة من العمل بظاهرها، ولا سيّما ما فيه نقص ثلث القرآن، أو كثير منه، فإنّه لو كان ذلك, لتواتر نقله لتوفّر الدواعي عليه، ولاتّخذه غير أهل الإسلام من أعظم المطاعن على الإسلام وأهله. ثمّ كيف يكون ذلك، وكانوا شديدي المحافظة على ضبط آياته وحروفه"15.

        - الشيخ محمد جواد البلاغي (ت: 1352هـ): "وممّا ألصقوه بالقرآن المجيد: ما نقله في فصل الخطاب عن كتاب (دبستان المذاهب) أنّه نُسِبَ إلى الشيعة أنّهم يقولون: إنّ إحراق المصاحف سبب إتلاف سور من القرآن نزلت في فضل علي عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام, منها: هذه السورة، وذكر كلاماً يضاهي خمساً وعشرين آية في الفواصل، قد لُفِّقَ من فقرات القرآن الكريم على أسلوب آياته، فاسمع ما في ذلك من الغلط، فضلاً عن ركاكة أسلوبه الملفَّق... فيا للعجب من صاحب (دبستان المذاهب) من أين جاء بنسبة هذه الدعوى إلى الشيعة، وفي أيّ كتاب لهم وجدها. أفهكذا يكون النقل في الكتب، ولكن لا عجب، فكم نقلوا عن الشيعة مثل هذا النقل الكاذب, كما في كتاب الملل للشهرستاني، ومقدّمة ابن خلدون، وغير ذلك ممّا كتبه بعض الناس في هذه السنين، والله المستعان"16.

        251
        - السيد محسن الأمين العاملي (ت: 1371هـ): "لا يقول أحد من الإمامية, لا قديماً ولا حديثاً: إنّ القرآن مزيد فيه قليل أو كثير، فضلاً عن كلّهم، بل كلّهم متّفقون على عدم الزيادة، ومن يعتد بقوله من محقّقيهم متّفقون على أنّه لم ينقص منه"17.

        - الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت: 1373هـ): "والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذّة، وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً، فإمّا أن تأوّل بنحو من الاعتبار، أو يُضرَب بها الجدار"18.

        - السيد عبد الحسين شرف الدين (ت: 1377هـ): "والقرآن الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنّما هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس، لا يزيد حرفاً، ولا ينقص حرفاً، ولا تبديل فيه لكلمة بكلمة، ولا لحرف بحرف، وكلّ حرف من حروفه متواتر في كلّ جيل, تواتراً قطعياً إلى عهد الوحي والنبوة"19.

        - السيد محمد حسين الطباطبائي (ت: 1402هـ): "من ضروريات التاريخ: أنّ النبي العربي محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء قبل أربعة عشر قرناً تقريباً، وادّعى النبوة، وانتهض للدعوة، وآمن به أمّة من العرب وغيرهم، وأنّه جاء بكتاب يسمّيه القرآن، وينسبه إلى ربّه، متضمّن لجمل المعارف، وكلّيّات الشريعة التي كان يدعو إليها، وكان يتحدّى به، ويعدّه آية لنبوته، وأنّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به وقرأه على الناس المعاصرين له في الجملة, بمعنى: أنّه لم يَضِعْ مِن أصله,

        252
        بأن يُفقَد كلّه، ثمّ يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه، وينسب إليه، ويشتهر بين الناس بأنّه القرآن النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم . فهذه أمور لا يَرتاب في شيء منها إلا مصاب في فهمه، ولا احتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين والمؤالفين"20.

        - السيد روح الله الموسوي الخميني (ت: 1410هـ): "منع وقوع التحريف فيه جدّاً (أي في القرآن)، كما هو مذهب المحقّقين من علماء العامّة والخاصّة... وبالجملة: ففساد هذا القول الفظيع(أي القول بالتحريف)، والرأي الشنيع، أوضح من أن يخفى على ذي مسكة، إلا أنّ هذا الفساد قد شاع على رغم علماء الإسلام وحفّاظ شريعة سيد الأنام"21.

        - السيد أبو القاسم الخوئي (ت: 1413هـ): "المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف في القرآن، وأنّ الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم, وقد صرّح بذلك كثير من الأعلام... وجملة القول: أنّ المشهور بين علماء الشيعة ومحقّقيهم، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف... والحق، بعد هذا كلّه: أنّ التحريف بالمعنى الذي وقع النزاع فيه غير واقع في القرآن أصلاً"22.

        4- أهمّيّة إثبات صيانة القرآن عن التحريف:

        إنّ لإثبات مسألة صيانة القرآن عن التحريف آثار وفوائد مهمّة وحسّاسة23، أبرزها:

        253
        أ- إمكانية الاستفادة من القرآن, لأنّه مع ثبوت التحريف لا يمكن الاستدلال بالقرآن أو الاستنباط منه.
        ب- إثبات النبوّة والرسالة, لأنّ فرض ثبوت التحريف يستلزم نفي الإعجاز والتحدّي بالإتيان بمثل القرآن، وبالتالي انتفاء صفة الإعجاز عن الأمر الرئيس المُثبِت لنبوّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحقّانيّة رسالته.
        ج- إنّ القرآن ميزان اعتبار الروايات وقد أمرنا أهل البيت عليهم السلام بعرضها على القرآن، وبثبوت تحريفه, لا يمكن عرض الروايات عليه, فيتعطّل بذلك الأخذ بها.



        يتبع

        تعليق


        • #34
          مصادر الدرس ومراجعه
          1- القرآن الكريم.
          2- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج2، ص42-43.
          3- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص228-229.
          4- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج12، ص104، 10
          5- الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص197-207.
          6- الشريف الرضي، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، الخطبة17، ص54.
          7- الكليني، الكافي، ج8، كتاب الروضة، ح16، ص53.
          8- الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج25، ح24094، ص169.
          9- ابن بابويه، الاعتقادات في دين الإماميّة، ص84.
          10- الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج1، ص42-43.
          11- الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج1، ص3.
          12- كاشف الغطاء، كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء، ج3، ص453-454.
          13- البلاغي، آلاء الرحمن في تفسير القرآن، ج1، ص24-25.
          14- الأمين، أعيان الشيعة، ج1، ص41.
          15- كاشف الغطاء، أصل الشيعة وأصولها، ص220.
          16- شرف الدين، الفصول المهمّة في تأليف الأئمّة، ص175.
          17- الخميني، أنوار الهداية، ج1، ص243-247.
          18- نجارزادكان، سلامة القرآن من التحريف وتفنيد الافتراءات على الشيعة الإماميّة...، ص15-16.

          هوامش
          1- انظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة"حرف"، ص42-43.
          2- سورة النساء، الآية: 46.
          3- سورة المائدة، الآية:41.
          4- سورة البقرة، الآية: 75.
          5- انظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة"حرف"، ص228-229.
          6- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص108, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص198-190.
          7- الشريف الرضي، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، م.س، الخطبة17، ص54.
          8- الشيخ الكليني، الكافي، م.س، ج8، كتاب الروضة، ح16، ص53.
          9- انظر: السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص197-200, السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص104.
          10- الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، م.س، ج25، ح24094، ص169.
          11- ابن بابويه، محمد بن علي بن الحسين (الصدوق): الاعتقادات في دين الإماميّة، تحقيق عصام عبد السيد، ط2، بيروت، دار المفيد، 1414هـ.ق/ 1993م، ص84.
          12- الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص43.
          13- الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص3.
          14- الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص42-43.
          15- كاشف الغطاء، جعفر: كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء، تحقيق ونشر مكتب الإعلام الإسلامي، ط1، قم المقدّسة، 1422هـ.ق/ 1380هـ.ش، ج3، ص453-454.
          16- البلاغي، آلاء الرحمن في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص24-25.
          17- الأمين، محسن: أعيان الشيعة، تحقيق وتخريج حسن الأمين، لاط، بيروت، دار التعارف، لات، ج1، ص41.
          18- كاشف الغطاء، محمد حسين: أصل الشيعة وأصولها، تحقيق علاء آل جعفر، ط1، مؤسّسة الإمام علي عليه السلام, مطبعة ستاره، 1415هـ.ق، ص220.
          19- شرف الدين، عبد الحسين: الفصول المهمّة في تأليف الأئمّة، ط1، لام، نشر قسم الإعلام الخارجي لمؤسّسة البعثة، لات، ص175.
          20- السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص104.
          21- الإمام الخميني، روح الله: أنوار الهداية، تحقيق ونشر مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، ط1، إيران، مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، 1413هـ.ق/ 1372هـ.ش، ج1، ص243-247.
          22- السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص200-207.
          23- لمزيد من التفصيل، انظر: المحمّدي، فتح الله(نجارزادكان): سلامة القرآن من التحريف وتفنيد الافتراءات على الشيعة الإماميّة...، لاط، طهران، نشر مؤسّسة فرهنكي وهنري مشعر، 1424هــ.ق، ص15-16.
          24- انظر: الإمام الخميني، أنوار الهداية، م.س، ج1، ص244-247

          تعليق


          • #35
            دروس في علوم القران 17

            المحتوى التفصيلي: أبرز أدلّة صيانة القرآن عن التحريف:
            ذكر الباحثون في علوم القرآن والمفسّرون أدلّة عدّة على صيانة القرآن عن التحريف، أبرزها التالي:
            1- الدليل القرآني:
            أ- قوله تعالى:
            ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾1. من أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه أنّه ذِكْر لله, فإنّه يذكِّر به تعالى, بما أنّه آية دالّة عليه, حيّة خالدة. وتفيد هذه الآية أنّ الله تعالى هو حافظ هذا القرآن في مرحلتي التنزيل والبقاء، حيث أُطلِقَ الذِكْر وأُطلِقَ الحِفظ, فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كلّ زيادة ونقيصة وتغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذِكريّة ويُبطِل كونه ذكراً لله سبحانه بوجه. وقد وُضِعَت كلّ عوامل التأكيد بعضها إلى جانب بعضها الآخر, لبيان هذه الحقيقة المهمّة والخالدة2.
            263
            ب- قوله تعالى: ﴿...وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ...3. العزيز: عديم النظير أو المنيع الممتنع من أن يُغلَب، والمعنى الثاني أنسب, لما يتعقّبه من قوله تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ.... والمدلول هو: أنّه لا تناقض في بياناته، ولا كذب في أخباره، ولا بطلان يتطرّق إلى معارفه وحكمه وشرائعه، ولا يُعارَض ولا يُغيَّر, بإدخال ما ليس منه فيه، أو بتحريف آية من وجه إلى وجه. وكيف لا يكون كذلك؟! وهو منزَّل من حكيم متقِن في فعله، لا يشوب فعله وهن، محمود على الإطلاق. فهذه الآية تنفي أيّ احتمال للتحريف بالزيادة أو التحريف بالنقصان، وتشير إلى أنّ خاصّيّة الحفظ جاءت من داخل القرآن, بفعل تماسك بنيانه4.

            وغيرهما آيات كثيرة تدلّ على صيانة القرآن عن التحريف5.
            إشكال: إنّ الاستدلال بالقرآن على عدم حصول تحريف في القرآن، لا يصحّ إلا إذا ثبت أنّ ما يُستدلّ به من آيات هي من القرآن، فمن أين نعلم أنّها من القرآن، وأنّها ليست محرّفة؟

            والجواب عنه:

            - إنّ مدّعي التحريف لا يذهب إلى القول بالتحريف بالزيادة. وعليه، فإنّ عدم الزيادة في القرآن أمر متّفق عليه, فيمكن عندها الاستدلال بالقرآن نفسه على صيانته عن التحريف.
            - عدم ورود هذه الآيات المستدلّ بها على التحريف في نصوص الروايات التي ادّعي دلالتها على التحريف.

            264
            - ظهور هذه الآيات ينفي الادّعاء الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن.
            - إنّ الآيات الدالّة على صيانة القرآن عن التحريف تثبت عدم وجود نقص في القرآن، بعد الفراغ عن قرآنيّتها, ولازم ذلك صيانة القرآن عن التحريف مطلقاً.

            2- الدليل الروائي:
            أ- روايات الثقلين
            6: ومفاد هذه الروايات: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما, لن تضلّوا بعدي أبداً، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض". ووجه الاستدلال بها:
            أنّ القول بالتحريف يستلزم عدم وجوب التمسّك بالكتاب المنزل, لضياعه على الأمّة, بسبب وقوع التحريف، ولكن وجوب التمسّك بالكتاب باقٍ إلى يوم القيام, لصريح حديث الثقلين, فيكون القول بالتحريف باطلاً جزماً. وقد دلّت هذه الروايات على اقتران العترة بالكتاب، وعلى أنّهما باقيان في الناس إلى يوم القيامة، فلا بدّ من وجود شخص يكون قريناً للكتاب، ولا بدّ من وجود الكتاب ليكون قريناً للعترة, حتى يردا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحوض، وليكون التمسّك بهما حفظا للأمّة عن الضلال7.

            ب- روايات التمسّك بالقرآن
            8: حيث توصينا هذه الروايات بالرجوع إلى القرآن عند الفتن والشدائد، وتصف القرآن بأنّه ملاذ حصين. فإذا كان الكتاب نفسه لم يسلم من فتن الزمان, كيف يمكنه حماية الآخرين من أضرار الفتن؟

            ج- روايات العرض على القرآن
            9: وردت روايات عن أهل البيت عليهم السلام جاء فيها: "إنّ

            265
            على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه"، "كلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"، "ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف"، "اعرضوها (أي الروايات) على كتاب الله، فما وافى كتاب الله عزّ وجلّ, فخذوه، وما خالف كتاب الله, فردّوه".

            ويفهم من مجموع هذه الروايات أنّ القرآن هو الميزان الحقّ الذي يعتمد عليه في كشف الحقّ من الباطل والتمييز بينهما. وعليه، فكلّ رواية تشير إلى تحريف القرآن، إذا تعذّر تأويلها وتوجيهها, تكون باطلة وموضوعة ولا اعتبار لها10.

            د- أمر الأئمّة عليهم السلام بقراءة سورة كاملة بعد الفاتحة في الصلاة:
            فلو كان القرآن محرّفاً, لما صحّ الأمر بالقراءة منه، ولكان الأمر بالقراءة منه لغواً وتكليفاً بغير المقدور للمكلّف. وهذا ما لا يلتزم به القائلون بالتحريف11.

            نعم، إنّ هذه الروايات لا تنهض بنفي دعوى وقوع نقص في القرآن بسورة كاملة أو أكثر من سورة.

            هـ- روايات تلاوة القرآن وفضلها وثوابها
            12: إنّ مجموع هذه الروايات يفيد أنّ القرآن الموجود بين أيدينا غير محرّف, وإلا لكانت هذه الروايات لغواً، غير مقدور تحصيل ثوابها للمكلّف13.

            و- روايات صيانة القرآن عن التحريف المرويّة عن الأئمّة عليهم السلام:
            حيث تدلّ هذه الروايات على صيانة القرآن عن التحريف، ومنها:

            - ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "... وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه

            266
            وحرفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية..."14.

            - ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما بين الدفتين قرآن"15.

            - ما روي عن الإمام العسكري عليه السلام: "اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك: أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع فرقها، فهم في حالة الإجماع عليه مصيبون، وعلى
            تصديق ما أنزل الله مهتدون..."
            16.

            3- الدليل العقلي:
            ذكر الباحثون والمحقّقون في مجال علوم القرآن والتفسير عدّة تقريبات للدليل العقلي على صيانة القرآن عن التحريف17. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه التقريبات ليست عقليّة بحتة, لأنّها تتضمّن مقدّمات متسالم عليها بين المسلمين، وليس عقلية يقينية خالصة. ومن هذه التقريبات: التقريب التالي, وهو يتألّف من مقدّمات عدّة، هي:
            أ- إنّ القرآن كتاب هداية للعالمين.
            ب- القرآن كتاب خاتم، كما أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رسول خاتم.
            ج- إذا حرّف القرآن يترتّب على ذلك إضلال الناس.
            د- مقتضى حكمة الله تعالى أن ينزّل كتاباً آخر ويُرسل رسولاً آخر, وهذا يلزم منه: إمّا تكذيب الله سبحانه, لأنّه أخبر بأنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الرسل ورسالته خاتمة الرسالات، وإمّا نسبة الجهل إليه تعالى على فرض اكتشافه ضرورة إرسال

            267
            نبي آخر ورسالة أخرى.

            النتيجة
            : إذن، القرآن لم يحرّف.

            4- الإعجاز القرآني:

            ويقوم هذا الدليل على مقدّمات عدّة18، هي:
            أ- ثبوت التحدّي بالقرآن تاريخياً في عصر الرسالة والدعوة.
            ب- القرآن الموجود بين أيدينا هو في الجملة القرآن الموجود في عصر الدعوة.
            ج- مواصفات القرآن الموجود بين أيدينا هي نفسها المواصفات المنقولة عن القرآن الموجود في عصر الدعوة, لجهة التحدّي بالوجوه الإعجازية المختلفة.
            د- لو كان القرآن الموجود بين أيدينا محرّفاً, لما انطبقت عليه هذه الصفات والوجوه الإعجازية.
            النتيجة: إذن القرآن لم يحرّف.

            وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الدليل لا ينهض بمفرده في إثبات عدم وقوع التحريف بالنقيصة، وإن كان يثبت عدم وقوع التحريف بالزيادة.
            وعليه، يمكن أن يُتمَّم هذا الدليل بضميمة ما ثبتت قرآنيّته من الآيات الدالّة على صيانة القرآن عن التحريف مطلقاً.

            5- الشواهد التاريخية:

            يوجد شواهد تاريخية كثيرة تدلّ بوضوح على صيانة القرآن الكريم عن التحريف19، منها:
            أ- من ضروريات التاريخ: أنّ النبي العربي محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء قبل أربعة عشر قرناً

            268
            تقريباً، وادّعى النبوة، وانتهض للدعوة، وآمن به أمّة من العرب وغيرهم، وأنّه جاء بكتاب يسمّيه القرآن، وينسبه إلى ربّه، متضمّن لجمل المعارف، وكلّيّات الشريعة التي كان يدعو إليها، وكان يتحدّى به، ويعدّه آية لنبوته، وأنّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به وقرأه على الناس المعاصرين له.

            ب- توافر الدواعي على نقله وحراسته وصيانته, لأنّ القرآن معجزة النبوة ودليل الرسالة الخاتمة، ولا سيما في وجه أصحاب البدع والتحريف، الذين يترصّدون شرّاً بالإسلام والقرآن.

            ج- شدّة عناية المسلمين بحفظ القرآن وتلاوته، وضبطهم الشديد في هذا الصدد.

            د- لو كان القرآن محرّفاً, لاتّخذه غير أهل الإسلام من أعظم المطاعن على الإسلام وأهله.

            هـ- وجود بعض الأخطاء في رسم المصحف حتى يومنا هذا، مع التفات المسلمين لها بعد توحيد المصاحف, مؤشّر واضح على شدّة عنايتهم بحفظ القرآن وعدم المساس به.



            يتبع

            تعليق


            • #36
              مصادر الدرس ومراجعه
              1- القرآن الكريم.
              2- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج12، ص104-108, ج17، ص398-399.
              3- الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص43-45، 200-211، 214-215.
              4- الصفّار، بصائر الدرجات، ج8، باب 17 في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إنّي تارك فيكم الثقلين"، ح1-6، ص433-43
              5- ابن حنبل، مسند أحمد، ج3، ص1
              6- النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص14
              7- المتّقي الهندي، كنز العمّل في سنن الأقوال والأفعال، ج1، ح943-955، ص185-187.
              8- الكليني، الكافي، ج1، المقدّمة، ص8, كتاب فضل العلم، باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب، ح1-5، ص69, ج2، كتاب فضل القرآن، باب في تمثّل القرآن وشفاعته لأهله، ح1-14،
              ص598-602, باب فضل حامل القرآن، ح1-11، ص603-606, باب من يتعلّم القرآن بمشقّة، ح1-3، ص606-607, باب ثواب قراءة القرآن، ح1-7، ص611-613, ج8، كتاب الروضة، ح16، ص53.
              9- مجموعة من المحدّثين، الأصول الستّة عشر، أصل حسين بن عثمان بن شريك العامري، ص111.
              10- الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص251.
              11- نجارزادكان، سلامة القرآن من التحريف...، ص34-37.
              12- الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج1، ص43.

              هوامش
              1- سورة الحجر، الآية: 9.
              2- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص106, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص207-209.
              3- سورة فصّلت، الآيتان: 41-42.
              4- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج17، ص398-399, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص210-211.
              5- قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (البقرة: 2), ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (السجدة: 2), ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (يونس: 37), ﴿إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (الفرقان: 30), ...
              6- تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الروايات متواترة تواتراً معنوياً بين المسلمين, وهي منقولة في كتب السنّة والشيعة. انظر: الصفّار، بصائر الدرجات، م.س، ج8، باب 17 في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إنّي تارك فيكم الثقلين"، ح1-6، ص433-434, ابن حنبل، مسند أحمد، م.س، ج3، ص14, النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، م.س، ج3، ص148, المتّقي الهندي، كنز العمّل في سنن الأقوال والأفعال، م.س، ج1، ح943-955، ص185-187.
              7- انظر: السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص211, السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص107.
              8- انظر: الشيخ الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب فضل القرآن، باب في تمثّل القرآن وشفاعته لأهله، ح1-14، ص598-602.
              9- انظر: الشيخ الكليني، الكافي، م.س، ج1، المقدّمة، ص8, كتاب فضل العلم، باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب، ح1-5، ص69.
              10- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص107-108.
              11- انظر: السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص214-215.
              12- انظر: الشيخ الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب فضل القرآن، باب فضل حامل القرآن، ح1-11، ص603-606, باب من يتعلّم القرآن بمشقّة، ح1-3، ص606-607, باب ثواب قراءة القرآن،
              ح1-7، ص611-613, ...
              13- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص108.
              14- الشيخ الكليني، الكافي، م.س، ج8، كتاب الروضة، ح16، ص53.
              15- انظر: مجموعة من المحدّثين: الأصول الستّة عشر، أصل حسين بن عثمان بن شريك العامري، ط2، قم المقدّسة، دار الشبستري للمطبوعات, مطبعة مهديه، 1405/ 1363هـ.ش، ص111.
              16- انظر: الطبرسي، الفضل بن الحسن: الاحتجاج، تعليق محمد باقر الخرسان، لاط، النجف الأشرف، دار النعمان، 1386هـ.ق/ 1966م، ج2، ص251.
              17- انظر: المحمّدي، سلامة القرآن من التحريف...، م.س، ص37, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص43-45.
              18- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص104-107.
              19- انظر: الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص43, السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص104, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص200 -207, المحمّدي، سلامة القرآن من التحريف...، م.س، ص34-36.
              20- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص106-107.
              21- سورة الحجر، الآية: 9.
              22- سورة فصّلت، الآيات: 40-42.

              تعليق


              • #37
                دروس في علوم القران 18

                شبهات في وقوع التحريف:
                1- الشبهة الأولى: دعوى دلالة طوائف من الروايات على وقوع التحريف:
                أ- الطائفة الأولى: الروايات التي تتحدّث عن مصحف الإمام علي عليه السلام, منها:
                - ما روي عن الإمام علي عليه السلام: "ولقد أحضروا الكتاب كملاً مشتملاً على التأويل والتنزيل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، لم يسقط منه حرف ألف ولا لام، فلمّا وقفوا على ما بيّنه الله من أسماء أهل الحقّ والباطل، وأنّ ذلك إن أُظْهِرَ نقص ما عهدوه، قالوا: لا حاجة لنا فيه، نحن مستغنون عنه بما عندنا"1.

                - ما رواه جابر عن الإمام الباقر عليه السلام: "ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أُنزِلَ إلا كذّاب، وما جمعه وحفظه كما نزَّله الله تعالى, إلا علي بن أبي طالب عليه السلام والأئمّة من بعده عليهم السلام ""ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه, ظاهره وباطنه، غير الأوصياء"3.

                277
                الجواب عنها: الإجماع عند الشيعة والسنّة على أنّ الزائد فيه إنّما هو التأويل والتنزيل, شرحاً للمراد4.

                ب- الطائفة الثانية:
                الروايات التي جاء فيها لفظ التحريف صريحاً، منها:
                - ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "أصحاب العربية يحرفون الكلم عن مواضعه"5.

                - ما رواه علي بن سويد: كتبت إلى أبي الحسن الأوّل (الإمام موسى الكاظم عليه السلام) وهو في الحبس، فذكر عليه السلام في جوابه: "... اؤتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدّلوه..."6.

                - ما رواه ابن شهر آشوب بإسناده إلى الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام يوم عاشوراء: "إنّما أنتم من طواغيت الأمّة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، وعصبة الآثام، ومحرّفي الكتاب"7.

                - ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "... وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية..."8.

                الجواب عنها:
                المقصود بالتحريف فيها هو خصوص التحريف المعنوي، أو اختلاف القراءات وإعمال الاجتهاد فيها9.

                ج- الطائفة الثالثة:
                الروايات التي تشير إلى قراءات منسوبة إلى بعض الأئمّة عليهم السلام, منها:

                278
                - ما رواه غالب بن الهذيل: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ على الخفض هي أم على النصب؟ قال عليه السلام: "بل هي على الخفض"10.
                - ما رواه حريز: أنّ الإمام الصادق عليه السلام قرأ:
                ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ (من) ثِيَابَهُنَّ.
                - ما رواه أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام: أنّه قرأ قوله تعالى:
                ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ قرأها يُنْطَق11.

                الجواب عنها
                12:
                - هي أخبار آحاد لا يُعتدّ بها.
                - إنّ الاختلاف في القراءة لا يسري إلى الاختلاف في المعنى المُوحَى.

                د- الطائفة الرابعة:
                روايات الفساطيط: هي روايات وردت بشأن فساطيط تضرب ظهر الكوفة أيام ظهور الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف لتعليم الناس قراءة القرآن وفق ما جمعه أمير المؤمنين عليه السلام, منها:
                - ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "إذا قام قائم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضرب فساطيط لمن يعلّم الناس القرآن، على ما أنزل الله. فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم, لأنّه يخالف فيه التأليف"13.

                - ما رواه سالم بن مسلمة: قرأ رجل على أبي عبدالله عليه السلام وأنا استمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرأه الناس، فقال عليه السلام: "كفّ عن هذه القراءة، اقرأ كما

                279
                يقرأ الناس, حتى يقوم القائم، فإذا قام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف قرأ كتاب الله عزّ وجلّ على حدّه، وأخرج المصحف الذي كتبه علي عليه السلام"14.

                الجواب عنها
                15: ما يعلّم للناس في الفساطيط هو هذا المصحف, بترتيب نزول مصحف الإمام علي عليه السلام.

                هـ- الطائفة الخامسة: روايات ورد فيها ذِكْر بعض أسماء الأئمّة عليهم السلام في القرآن، منها:
                - ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "نزل القرآن أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام"16.
                - ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "لو قد قرىء القرآن كما أنزل, لألفيتنا فيه مسمّين"17.
                - ما روي عن الإمام الرضا عليه السلام: "ولاية علي عليه السلام مكتوبة في جميع صحف الأنبياء..."18.

                - الجواب عنها
                19:
                - إنّهم مذكورون فيه بصفاتهم ونعوتهم الدالّة عليهم وعلى فضائلهم المختصّة بهم.
                - التاريخ لم يذكر لنا أبداً أنّ أحداً احتجّ على غاصبي الخلافة بهذه الآيات المفترضة، وإلا لكانت أحقّ بالاحتجاج.

                280
                - الروايات واردة فيهم على نحو التفسير للمراد، فتكون على نحو الجري والتطبيق ومعرفة المصداق الحقيقي للآيات.

                و- الطائفة السادسة:
                روايات التحريف بالنقيصة، منها:
                - ما روي عن الإمام علي عليه السلام: أنّه قرأ قوله تعالى:
                ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ (بظلمه وسوء سريرته) وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ20.

                - ما رواه عمّار الساباطي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ الله تعالى قال بشأن الإمام علي عليه السلام:
                ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ (أنّ محمداً رسول الله) وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (أنّ محمداً رسول الله وأنّه ساحر كذّاب) إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ، ثمّ قال عليه السلام: هذا تأويله يا عمّار21.

                - روي أنّه قرأ رجل عند الإمام الصادق عليه السلام:
                ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فقال عليه السلام: "ليس هكذا هي، إنّما هي والمأمونون، فنحن المأمونون"22.

                - ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ القرآن الذي جاء به جبرائيل إلى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم سبعة عشر ألف آية"23.

                الجواب عنها بالترتيب
                24:
                - الأولى: فيها دلالة واضحة على كونه شرحاً وتفسيراً للمراد من الآية.
                - الثانية: إنّ ورود ألفاظ التنزيل والتأويل، يُحمَل على الشرح للمراد، وبيان معانيه ومصاديقه.

                281
                - الثالثة: هي بصدد بيان أبرز المصاديق وأكملها.
                - الرابعة: ورد في نسخة مصحّحة من الكافي، وفي كتاب الوافي للفيض الكاشاني: أنّه يوجد زيادة للفظ عشرة, فيكون الحديث سبعة آلاف آية، وليس سبعة عشرة ألف آية. أضف إلى
                ذلك أنّ مسألة عظيمة كهذه لا بدّ من بيانها بشكل واضح, فلا تثبت بخبر الواحد.

                ز- الطائفة السابعة:
                روايات كثيرة بلغت حدّ التواتر نقلها الشيعة والسنة، مفادها: أنّ كلّ ما وقع في الأمم السابقة، لا بدّ وأن يقع مثله في هذه الأمّة، وبما أنّ كتبهم السماوية قد حُرِّفت، فلا بدّ من وقوع التحريف في القرآن أيضاً، وإلا فلن تكون هذه الأحاديث صحيحة، ومنها: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كلّ ما كان في الأمم السالفة، فإنّه يكون في هذه الأمّة مثله، حذو النعل بالنعل، والقُذّة بالقُذّة"25.

                الجواب عنها26:
                - إنّ هذا الدليل لو تمّ لكان دالاً على وقوع الزيادة في القرآن - أيضاً -, كما وقعت في التوراة والإنجيل. ومن الواضح بطلان ذلك, للتسالم والاتّفاق على عدم وقوع التحريف بالزيادة.

                - يوجد كثير من الحوادث وقعت في الأمم السابقة لم يصدر مثلها في هذه الأمّة, كالتثليث، وعبادة العجل، وقصّة السامري، وغرق فرعون، ورفع النبي عيسى عليه السلام إلى السماء،
                والتحريف بالزيادة في كتبهم، وما شابه ذلك. وعليه، فالمراد من ذلك المشابهة في بعض الوجوه، وليس التطابق في كلّ الأمور.

                - يكفي للتشابه مع الأمم السالفة, وقوع التحريف المعنوي, بتضييع حدود القرآن

                282
                الكريم، وتفسيره بالرأي.

                - إنّ كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المتقدّم عامّ يمكن تخصيصه واستثناء تحريف القرآن منه, استناداً إلى قوله تعالى:
                ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ27.

                2- الشبهة الثانية:
                كيفية جمع القرآن في صدر الإسلام وزمن الصحابة, تستلزم عادة وقوع التغيير والتحريف فيه, بسبب بدائة الخط، وعدم توافر الأدوات اللازمة للكتابة.

                الجواب عنها: إنّ الجمع حصل في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضمن سور، ثمّ على يد الإمام علي عليه السلام ضمن مصحف، ثمّ على يد الصحابة ضمن مصاحف، ثمّ توحيد الرسم في زمن عثمان, وفي جميع هذه المحطّات كانت الدواعي متوافرة لحفظ القرآن وصيانته، وكان هناك تشديداً قلّ نظيره على حفظ القرآن وتدوينه, هذا مع كونه محفوظاً بالصدور إلى عهد يُتَيَقّن قبله تدوين القرآن, بناء على اختلاف الآراء في جمع القرآن وتدوينه28.

                3- الشبهة الثالثة:
                إنّ أكثر العامّة وجماعة من الخاصّة ذكروا في أقسام الآيات المنسوخة ما نسخت تلاوتها دون حكمها، وما نسخت تلاوتها وحكمها معاً.

                الجواب عنها
                29:
                - لا يوجد في روايات الإمامية آية منسوخة التلاوة, سوى آية الرجم، وهي جاءت بخبر واحد سنداً، تعارضها روايات كثيرة مستفيضة تنفي نسخ التلاوة.
                - إنّ نظرية نسخ التلاوة مع الحكم أو من دونه لا حقيقة لها.

                283
                4- الشبهة الرابعة: وجود مصاحف لدى الصحابة تختلف عن المصحف الموجود, لجهة اشتمالها على الزيادة.

                الجواب عنها:
                إنّ هذه الزيادات هي زيادات تفسيرية شارحة ومبيّنة للمراد، بعد فرض التسليم بثبوت نسبة ما هو مدّعى زيادته في هذه المصاحف إلى الصحابة30.

                5- الشبهة الخامسة:
                اختلاف القراءات يستلزم كون الموجود بين أيدينا من القرآن هو غير ما أُنزِلَ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

                الجواب عنها
                : إنّ اختلاف القراءات والقرّاء لا يضرّ بالمعنى والمضمون المُوحَى، وإن أثّر أثره في كيفية أداء قراءة القرآن31.

                6- الشبهة السادسة:
                الأخبار الكثيرة الواردة في كتب أهل السنّة، والتي تثبت وقوع التحريف باللحن والخطأ في القرآن (دعوى وجود أخطاء نحوية)، وبالنقيصة والتبديل (إسقاط آية "مثل: آية الرجم"، أو سورة "مثل: سورة النورين، أو سورة الولاية"، أو حذف بعض الكلمات أو تبديلها)، وبالزيادة (الفاتحة والمعوذتين).

                الجواب عنها
                32:
                - ضعف هذه الأخبار سنداً.
                - تهافتها في ما بينها.
                - إمكانية حمل دلالة بعضها على غير المدّعى, بأنّها من باب التفسير، والشرح، وبيان المراد، وبعض المصاديق وأكملها.
                - معارضتها بأخبار صحيحة ومتواترة تنفي وقوع التحريف.
                - عدم نهوضها أمام الأدلّة المُثبِتَة لصيانة القرآن عن التحريف.



                يتبع

                تعليق


                • #38
                  مصادر الدرس ومراجعه
                  1- القرآن الكريم.
                  2- الطبرسي، الاحتجاج، ج1، ص383.
                  3- الكليني، الكافي، ج1، كتاب الحجّة، باب أنّه لم يجمع القرآن...، ح1-2، ص228, باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح62، ص424, باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية، ح6، ص437, ج2، كتاب فضل العلم، باب النوادر، ح4، ص628, ح23، ص633, ح28، ص634, ج8، كتاب الروضة، ح11، ص50, ح16، ص53, ح246، ص204-205, ح435، ص289.
                  4- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج12، ص108-118.
                  5- الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص220-232، 232-259، 285-286.
                  6- نجارزادكان، سلامة القرآن من التحريف...، ص64-91، 99-109، 111-118.
                  7- النوري، مستدرك الوسائل، ج4، باب 74 من أبواب قراءة القرآن...، ح8، ص280.
                  8- المجلسي، بحار الأنوار، ج2، باب من يجوز أخذ العلم منه...، ص82, ج45، باب ما جرى على الإمام الحسين عليه السلام...، ص8.
                  9- الطوسي، تهذيب الأحكام، ج1، باب صفة الوضوء...، ح37، ص70-7
                  10- العكبري، الإرشاد، ج2، ص386.
                  11- العياشي، تفسير العياشي، ج1، ما عنى به الأئمّة عليهم السلام من القرآن، ح4، ص
                  12- الخميني، أنوار الهداية، ج1، ص243-24
                  13- الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص530.

                  هوامش
                  1- الطبرسي، الاحتجاج، م.س، ج1، ص383.
                  2- الشيخ الكليني، الكافي، م.س، ج1، كتاب الحجّة، باب أنّه لم يجمع القرآن...، ح1، ص228.
                  3- م. ن، ح2، ص228.
                  4- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص108-118, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص222-226, المحمّدي، سلامة القرآن من التحريف...، م.س، ص64-72، 103-104.
                  5- النوري، حسين: مستدرك الوسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لاط، بيروت، لات، ج4، باب 74 من أبواب قراءة القرآن...، ح8، ص280.
                  6- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج2، باب من يجوز أخذ العلم منه...، ص82.
                  7- م. ن، ج45، باب ما جرى على الإمام الحسين عليه السلام بعد بيعة الناس...، ص8.
                  8- الشيخ الكليني، الكافي، م.س، ج8، كتاب الروضة، ح16، ص53.
                  9- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص108-118, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص226-229, المحمّدي، سلامة القرآن من التحريف...، م.س، ص72-75.
                  10- الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن: تهذيب الأحكام، تحقيق وتعليق حسن الموسوي الخرسان، ط3، طهران، دار الكتب الإسلامية, مطبعة خورشيد، 1364هـ.ش، ج1، باب صفة الوضوء...، ح37، ص70-71.
                  11- الشيخ الكليني، الكافي، م.س، ج8، روضة، كتاب الح11، ص50.
                  12- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص108-118, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص232-235, المحمّدي، سلامة القرآن من التحريف، م.س، ص75-77.
                  13- العكبري، محمد بن النعمان (المفيد): الإرشاد، تحقيق مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث، ط2، بيروت، دار المفيد، 1414هـ.ق/ 1993م، ج2، ص386.
                  14- الشيخ الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب فضل العلم، باب النوادر، ح23، ص633.
                  15- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص108-118, المحمّدي، سلامة القرآن من التحريف، م.س، ص77-79.
                  16- الشيخ الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب فضل القرآن، باب النوادر، ح4، ص628.
                  17- العياشي، تفسير العياشي، م.س، ج1، ما عنى به الأئمّة عليهم السلام من القرآن، ح4، ص13.
                  18- الشيخ الكليني، الكافي، م.س، ج1، كتاب الحجّة، باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية، ح6، ص437.
                  19- لمزيد من التفصيل، انظر: الإمام الخميني، أنوار الهداية، م.س، ج1، ص243-245, السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص108-118, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص229-232, المحمّدي، سلامة القرآن من التحريف، م.س، ص79-84.
                  20- الشيخ الكليني، الكافي، م.س، ج8، كتاب الروضة، ح435، ص289.
                  21- م. ن، ح246، ص204-205.
                  22- م. ن، ج1، كتاب الحجّة، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح62، ص424.
                  23- الشيخ الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب فضل العلم، باب النوادر، ح28، ص634.
                  24- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص108-118, المحمّدي، سلامة القرآن من التحريف، م.س، ص84-91.
                  25- الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، م.س، ص530.
                  26- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص110-118, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص220-222, المحمّدي، سلامة القرآن من التحريف، م.س، ص99-100.
                  27- الحجر: 9.
                  28- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص108-118, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص235-259, المحمّدي، سلامة القرآن من التحريف، م.س، ص100-102.
                  29- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص108-118, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص285-286, المحمّدي، سلامة القرآن من التحريف، م.س، ص102-103.
                  30- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص108-118, المحمّدي، سلامة القرآن من التحريف، م.س، ص104-109.
                  31- م. ن، ص111-116.
                  32- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج12، ص108-118, المحمّدي، سلامة القرآن من التحريف، م.س، ص109، 116-118.
                  33- هذه الدعوى موجودة في المجامع الحديثية عند أهل السنّة.
                  34- انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج1، ص178.
                  35- انظر: م. ن، ص190.
                  36- انظر: الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص36-37.
                  37- انظر: السيوطي، جلال الدين: الدر المنثور في تفسير القرآن بالمأثور، لاط، بيروت، دار المعرفة، لات، ج3، ص208.
                  38- انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج1، ص177.
                  39- انظر: السيوطي، الدر المنثور في تفسير القرآن بالمأثور، م.س، ج5، ص180.

                  تعليق


                  • #39
                    دروس في علوم القران 19

                    - معنى النسْخ:
                    أ- المعنى اللغوي:
                    "النون والسين والخاء: أصل واحد, إلا أنّه مُختَلف في قياسه. قال قوم: قياسه رفع شيء وإثبات غيره مكانه. وقال آخرون: قياسه تحويل شيء إلى شيء. قالوا: النسخ نسخ الكتاب. والنسخ: أمر كان يُعمَل به مِن قبل، ثمّ يُنسَخ بحادث غيره, كالآية ينزل فيها أمر، ثمّ تنسخ بآية أخرى. وكلّ شيء خلف شيئاً, فقد انتسخه"1. و"النَّسْخُ: إزالةُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ يَتَعَقَّبُه، فَتَارَةً يُفْهَمُ منه الإزالة، وتَارَةً يُفْهَمُ منه الإثباتُ، وتَارَةً يُفْهَم منه الأَمْرَانِ"2. وعليه، فإنّ المعنى الحقيقي للنسخ هو الإزالة، وقد استُخدم مجازاً بمعنى النقل والتحويل, لما فيهما من معنى الإزالة.

                    ب- المعنى الاصطلاحي:
                    النسخ هو: رفع تشريع3 سابق ـ كان يقتضي الدوام حسب ظاهره ـ بتشريعٍ لاحِق, سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من غيرها من الأمور التي ترجع

                    293
                    إلى الله تعالى بما أنّه شارع، بحيث لا يمكن اجتماع التشريعين معاً، إمّا ذاتاً, إذا كان التنافي بينهما بيّناً، وإمّا بدليل خاصّ, من إجماعٍ، أو نصٍّ صريح4.

                    2- إمكان النسخ ووقوعه:

                    تسالم العقلاء في ما بينهم على إمكان وقوع النسخ في التقنين, بإزالة حكم أو قانون واستبداله بآخر، في ما لو كان الحكم أو القانون الثاني الناسخ مشتملاً على مصلحة لا يشتمل عليها الحكم أو القانون الأوّل المنسوخ، أو في ما لو تبيّن للمقنّن أنّ الحكم أو القانون الأوّل لم يكن مشتملاً على المصلحة المطلوبة, ما دعاه إلى تقنينٍ آخر يستوفي تلك المصلحة.

                    وخالف في ذلك اليهود والنصارى في مجال الشرعيّات والتكوينيّات, لوجود شبهة لديهم في المسألة, حيث ادّعوا استحالة وقوع النسخ, لاستلزامه عدم حكمة الناسخ، أو جهله بوجه الحكمة، وكلا هذين اللازمين مستحيل في حقّه تعالى. وحقيقة الأمر في دحض هذه الشبهة:

                    أ- أنّ الحكم المجعول من قِبَل الشارع الحكيم قد لا يُراد منه البعث، أو الزجر الحقيقيين, كالأوامر التي يقصد بها الامتحان، وهذا النوع من الأحكام يمكن إثباته أولاً، ثمّ رفعه، ولا مانع من ذلك, فإنّ كلاً من الإثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة وحكمة، فلا يلزم منه خلاف الحكمة.

                    ب- قد يكون الحكم المجعول حكماً حقيقياً، ومع ذلك يُنسَخ بعد زمان، لا بمعنى أنّ الحكم بعد ثبوته يُرفع في الواقع ونفس الأمر, كي يكون مستحيلاً على الحكيم العالم بالواقعيّات، بل هو بمعنى: أن يكون الحكم المجعول مقيّداً بزمان خاصّ معلوم عند الشارع منذ البداية، مجهول عند الناس, لمصلحة مرعية عند الشارع، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان, لانتهاء أمده الذي قُيِّدَ به واقعاً. والنسخ

                    294
                    بهذا المعنى ممكن قطعاً, لبداهة دخالة خصوصيّات الزمان في مناطات الأحكام بما لا يشكّ فيه أيّ عاقل. فالنسخ في الحقيقة تقييد لإطلاق الحكم من حيث الزمان، ولا تلزم منه مخالفة الحكمة، ولا البداء بالمعنى المستحيل في حقّه تعالى.

                    ولا خلاف بين المسلمين في وقوع النسخ بين الشرائع السابقة واللاحقة, كنسخ الشريعة الإسلاميّة للشرائع السماوية السابقة عليها زماناً، وداخل الشريعة الواحدة نفسها, كتحويل القبلة.

                    وقد صرّح القرآن الكريم في آيات عدّة بوقوع النسخ، منها:
                    - قوله تعالى:
                    ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾5.
                    - قوله تعالى:
                    ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾6.
                    - قوله تعالى:
                    ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾7.

                    وعليه، فإنّ النسخ ممكن الوقوع، وقد وقع فعلاً، ولكنّه نسخ بالمعنى المجازي لا بالمعنى الحقيقي للنسخ - أي بمعنى نشأة رأي جديد -، فهو حكم مؤقّت وتشريع محدود واضح أمره للمشرّع منذ بداية تشريعه، ولكن لمصلحة في التكليف أخفى الشارع المقدّس بيان أمد الحكم عن الناس، ومع انتهاء أمده شرَّع حكماً آخر مكانه. ولعلّ وجه الحكمة من هذا الإخفاء، يكمن في حثّ المكلّفين على الانبعاث لامتثال الحكم, كما لو أنّه حكماً مطلق الأمد8.

                    295
                    3- ضرورة معرفة الناسخ والمنسوخ:
                    إنّ لمعرفة الناسخ والمنسوخ أثر جلي في فهْم التشريع الإسلامي، بحيث لا يمكن للمجتهد استنباط حكم شرعيّ ما لم يكن له حظّ وافر من معرفة الناسخ والمنسوخ.

                    وقد شدّد الروايات المأثورة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام على ضرورة معرفة الناسخ والمنسوخ، منها:
                    أ- روي أنّ الإمام علي عليه السلام مرّ على قاضٍ، فقال له عليه السلام: هل تعرف الناسخ عن المنسوخ؟ فقال: لا، فقال عليه السلام: "هلكتَ وأهلكتَ، تأويل كلّ حرف من القرآن على وجوه"9.

                    ب- روي أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال لأبي حنيفة: "أنت فقيه أهل العراق؟" قال: نعم، قال عليه السلام: "فبِمَ تُفتيهم؟" قال: بكتاب الله وسنّة نبيّه، فقال له الإمام عليه السلام: "أتعرف كتاب الله حقّ معرفته، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟" قال: نعم، قال عليه السلام: "لقد ادّعيت عِلماً. ويلك! ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أُنزِلَ عليهم. ويلك! ولا هو إلا عند الخاصّ من ذرّيّة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم"10.

                    4- الفرق بين النسخ والتخصيص:

                    يكمن الفرق بين النسخ والتخصيص في النقاط التالية:
                    أ- مقتضى النسخ انتهاء التشريع السابق، بعد أن عَمِل به المكلّفون لفترة من الزمن، بينما مقتضى التخصيص قصر الحكم العامّ على بعض أفراد الموضوع دون تمامها، وإخراج بقيّة الأفراد عن دائرة شمول الحكم, وذلك قبل أن يعمَل المكلّفون بعموم التكليف. فالنسخ هو نوع اختصاص للحكم ببعض الأزمان، والتخصيص

                    296
                    نوع اختصاص له ببعض الأفراد.

                    ب- الرافع للتنافي بين الناسخ والمنسوخ بعد استقراره بينهما، بحسب الظهور اللفظي, هو الحكمة والمصلحة الموجودة بينهما، بخلاف الرافع للتنافي بين العامّ والخاصّ, فإنه قوّة الظهور اللفظي الموجود في الخاصّ، المفسّر للعامّ بالتخصيص.

                    ويُعدّ كل ّ من الناسخ والمخصِّص وسيلة للكشف عن المراد الحقيقي للمشرّع11.

                    5- شروط النسخ:

                    ذُكِرَت شروط عدّة للنسخ الاصطلاحي12، أهمّها:
                    أ- وجود تنافي ذاتي بين الحكمين، بحيث لا يمكن اجتماعهما معاً في الوقت نفسه, كما في آيات وجوب الصفح مع وجوب آيات القتال، أو وجود تنافي بينهما ناتج عن دليل قطعي دلّ على نقض الحكم السابق بحكم لاحق, كما في حكم الاعتداد المبيّن في آية الإمتاع إلى الحول:
                    ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾13، مع حكم الاعتداد المبيّن في آية الاعتداد بأربعة أشهر وعشرة أيام: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾14.
                    297
                    ب- أن يكون التنافي كلّيّاً على الإطلاق، لا جزئيّاً وفي بعض الجوانب, فإنّ الثاني تخصيص في الحكم العامّ، وليس من النسخ في شيء, فآية القواعد من النساء: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾15 لا تصلح ناسخة لآية غضّ البصر:﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾16، بعد أن كانت الأولى أخصّ من الثانية، والخاصّ لا ينسخ العامّ، بل يخصِّصه بما عداه من أفراد الموضوع.

                    ج- عدم تحديد أمد الحكم السابق, تصريحاً أو تلويحاً، حيث يرتفع الحكم بنفسه عند انتهاء أمده، من دون حاجة إلى نسخ, فقوله تعالى:
                    ﴿...فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ...﴾17 لا يصدق عليه النسخ عندما تفيء الفئة الباغية وترجع إلى رشدها والتسليم لحكم الله.
                    298
                    د- تعلّق النسخ بالتشريعيّات18، فلا نسخ في ما يتعلّق بالأخبار. فقوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ﴾19 لا يصلح ناسخاً لقوله: ﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ﴾20.

                    هـ- وحدة الموضوع في الحكمين, لأنّ تغيّر الموضوع يستلزم تغيّر الحكم, فلا نسخ مع تغيّر الموضوع.

                    و- اشتمال الناسخ على ما في المنسوخ من كمال ومصلحة.



                    يتبع

                    تعليق


                    • #40
                      مصادر الدرس ومراجعه
                      1- القرآن الكريم.
                      2- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج5، ص424.
                      3- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص801.
                      4- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص249-253, ج11، ص375-382, ج12، ص345-346.
                      5- الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص277-280.
                      6- العياشي، تفسير العياشي، ج1، في تفسير الناسخ والمنسوخ...، ح9، ص12.
                      7- الصدوق، علل الشرائع، ج1، باب81، ح5، ص89-90.
                      8- الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج2، ص141-143، 145-146.
                      9- معرفة، التمهيد في علوم القرآن، ج2، ص269-274.

                      هوامش
                      1- انظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة"نسخ"، ص424.
                      2- انظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة"نسخ"، ص801.
                      3- ذهب العلامة السيد الطباطبائي قدس سره إلى أنّ النسخ غير مختصّ بالتشريعيات، بل يعمّ التكوينيّات أيضاً. انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص252.
                      4- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص249-253, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص277-278.
                      5- سورة البقرة، الآية: 106.
                      6- سورة النحل، الآية: 101.
                      7- سورة الرعد، الآية: 39.
                      8- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص249-253, ج12، ص345-346, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص279-280.
                      9- العياشي، تفسير العياشي، م.س، ج1، في تفسير الناسخ والمنسوخ...، ح9، ص12.
                      10- ابن بابويه، محمد بن علي بن الحسين(الصدوق): علل الشرائع، تقديم محمد صادق بحر العلوم، لاط، النجف الأشرف، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها، 1385هـ.ق/ 1966م، ج1، باب81، ح5، ص89-90.
                      11- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص253, الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص145-146, معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج2، ص271-272.
                      12- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان، م.س، ج1، ص252-253, الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص141, معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج2، ص272-274.
                      13- سورة البقرة، الآية: 240.
                      14-سورة البقرة، الآية: 234.
                      15- سورة النور، الآية: 60.
                      16- سورة النور، الآية: 31.
                      17- سورة الحجرات، الآية: 9.
                      18- يرى السيد الطباطبائي قدس سره أنّ النسخ يتعلّق بالتكوينيّات فضلاً عن التشريعيّات، ولعلّ مُرَاده بالنسخ بالتكوينيّات هو البَدَاء. انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص252.
                      19- سورة الواقعة، الآيتان: 39-40.
                      20- سورة الواقعة، الآيتان: 13-14.
                      21- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج11، ص375-382, الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص142-143, معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج2، ص269-270.
                      22- سورة الرعد، الآية: 39.

                      تعليق


                      • #41
                        دروس في علوم القران 20

                        - أقسام النسخ:
                        ذكر الباحثون والمحقّقون ثلاثة أقسام للنسخ، هي:
                        أ- نسخ الحكم والتلاوة معاً: وهو زوال آية من القرآن ذات حكم تشريعي، تداولها المسلمون الأوائل وقرأوها وعملوا بحكمها، ثمّ نُسِخَت وتعطّل حكمها وزالت من القرآن. ومن الأمثلة التي أوردوها على وقوع هذا القسم من النسخ: ما روي عن عائشة أنّها قالت: كان في ما أُنزِلَ من القرآن (عشر رضعات معلومات يحرّمن)، ثمّ نسخنَ بخمس معلومات، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهنّ في ما يُقرأ من القرآن1.

                        وهذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن للأمور التالية2:
                        - إجماع المسلمين على عدم ثبوت النسخ بخبر الواحد.
                        - ابتلاء أغلب هذه الأخبار التي تتحدّث عن وقوعه بالضعف والإرسال.
                        - القرآن الكريم لا يثبت بأخبار الآحاد.
                        - استلزام هذا القسم من النسخ للتحريف بالنقيصة.

                        ب- نسْخ التلاوة دون الحُكم: وهو زوال آية من القرآن قرأها المسلمون الأوائل

                        305
                        وعملوا بحكمها، ثمّ نُسِيَت وزالت من القرآن، مع بقاء حكمها معمولاً به. ومن الأمثلة التي أوردوها على هذا القسم من النسخ: ما رواه زر بن حبيش، قال: قال لي أُبَي بن كعب: كم آية تعدّ سورة الأحزاب؟ قلت: اثنتين وسبعين آية، أو ثلاثة وسبعين آية. قال: إن كانت لتعدل سورة البقرة، وإنّا كنّا لنقرأ فيها آية الرجم. قلت: وما آية الرجم. قال: (إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم)3.

                        وهذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن للأمور التالية4:
                        - منافاة هذا النسخ لمصلحة نزول الآية, إذ لو كانت المصلحة الّتي كانت تقتضي نزولها هي اشتمالها على حكم تشريعيّ ثابت، فلماذا تُرفَع الآية وحدها، مع كونها سنداً للحكم الشرعي المذكور؟
                        - ابتلاء أغلب هذه الأخبار التي تتحدّث عن وقوعه بالضعف والإرسال.
                        - القرآن الكريم لا يثبت بأخبار الآحاد.
                        - استلزام هذا القسم من النسخ للتحريف بالنقيصة.

                        ج- نسْخ الحُكم دون التلاوة: وهو بقاء الآية ثابتة في القرآن يقرأها المسلمون عِبر العصور، مع زوال حكمها بعد أن عمل بها المسلمون فترة من الزمن, بفعل مجيء الناسخ القاطع لحُكمها.

                        وهذا القسم من النسْخ هو المعروف بين العلماء والمفسّرين، واتّفق الجميع على جوازه إمكاناً، وإن اختلفوا في وقوعه فعلاً، حيث ذهب البعض إلى أنّ في القرآن آيات ناسخة وآيات منسوخة5.

                        306
                        2- أنحاء النسخ:
                        اختُلِفَ في أنحاء نسخ القرآن على أقوال متعدّدة، يمكن إيجازها ضمن التالي:
                        أ- نسخ القرآن بالقرآن: وقد اتّفق الباحثون والمحقّقون في إمكانية وقوع هذا النحو من النسخ، واختلفوا في فعلية وقوعه على أقوال6، يمكن إيجازها بالتالي:
                        - نسخ مفاد آية بمفاد آية أخرى، مع كون الثانية ناظرة إلى الأُولى ورافعة لحُكمها بالتنصيص، ولولا ذلك لم يكن موقع لنزول الثانية وكانت لغواً. مثال: آية النجوى:
                        ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ...7 التي أوجبت التصدّق بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ونَسخَتها آية الإشفاق: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ8. وهذا النحو لم يختلف فيه أحد.

                        - نسخ مفاد آية بمفاد آية أخرى، من دون أن تكون إحداهما ناظرة إلى الأخرى، مع وجود تنافٍ بينهما، بحيث لم يمكن الجمْع بينهما تشريعياً, فتكون الآية الثانية المتأخّرة نزولاً ناسخة للأُولى. ويشترط في صحّة هذا الوجه من النسخ9:
                        - وجود نصٍّ صحيح وأثر قطعيّ صريح يدعمه الإجماع, إذ من الصعب جدّاً الوقوف على تاريخ نزول آية في تقدّمها وتأخّرها.
                        - وجود تنافٍ على وجه التباين الكلّي بين مفاد الآيتين. وهذا لا يمكن القطع به بين آيتين قرآنيّتين سوى عن نصّ معصوم, لأنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ومحكَماً ومتشابهاً، وليس من السهل الوقوف على كُنه آية مهما كانت محكَمة.

                        307
                        ب- نسخ القرآن بالسنّة: وقد اختُلِفَ في إمكانية وقوع هذا النحو من النسخ10, فذهب البعض إلى عدم إمكانية وقوعه, نظراً لكونه مخالفاً للأخبار المتواترة بعرض الأخبار على الكتاب وطرح ما خالفه والرجوع إليه11. وذهب آخرون إلى إمكانية وقوعه, لأنّ السنّة وحي من الله, كما أنّ القرآن كذلك، ولا مانع من نسخ وحي بوحي, لقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى12, فلا لا مانع عقلي ولا شرعي من نسخ الكتاب بالسنّة13.

                        وقد اختلف القائلون بإمكانية وقوع هذا النحو من النسخ، في فعليّة وقوعه, فذهب بعضهم إلى عدم وقوعه فعلاً14، وذهب آخرون إلى وقوعه فعلاً، من قبيل: آية الإمتاع إلى الحَول بشأن المتوفّى عنها زوجها, فإنّها ـ بظاهرها ـ لا تتنافى وآية العِدَد والمواريث، غير أنّ السُنّة القطعية وإجماع المسلمين أثبتا نسخها بآية العِدَد والمواريث15. نعم إنّ نسخ مفاد آية بآخبار آحاد غير ممكن في نفسه, لأنّ من شروط الدليل الناسخ أن يكون بمستوى الدليل المنسوخ16.

                        3- شُبهات في النسخ:

                        أ- الشبهة الأولى: إنّ وجود آية منسوخة في القرآن ربّما يسبّب اشتباه المكلّفين، فيظنّونها آية محكَمة يعملون بها أو يلتزمون بمفادها، الأمر الذي يكون إغراءً بالجهْل, وهو قبيح.
                        الجواب عنها: إنّ مضاعفات جهل كلّ إنسان تعود إلى نفسه، ولم يكن الجهل

                        308
                        يوماً ما عُذراً مقبولاً لدى العقلاء, فإذا كانت المصلحة تستدعي نسْخ تشريع سابق بتشريع لاحِق، فعلى المكلّفين أن يتنبّهوا هم إلى هذا الاحتمال في التشريع، ولا سيّما إذا كان التشريع في بدْء حركة إصلاحيّة آخذة في التدرّج نحو الكمال. وهكذا كان في القرآن: ناسخ ومنسوخ، وعامّ وخاصّ، ومطلق ومقيّد، ومحكَم ومتشابه، وليس لأحد الأخذ بآية حتّى يتحقّق من أمرها17.

                        ب- الشبهة الثانية:
                        إنّ الالتزام بوجود آيات ناسخة ومنسوخة في القرآن يستدعي وجود تنافٍ بين آياته الكريمة, الأمر الذي يناقضه قوله تعالى:
                        ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا18.

                        الجواب عنها:
                        إنّ الاختلاف الذي تنفيه الآية هو الاختلاف الواقعي، لا الظاهري الشكلي, الذي يرتفع في مورد الناسخ والمنسوخ، بعد ملاحظة زمن نزولهما والمناسبات والمصالح المستدعية لنزول الأولى ثمّ الثانية19.

                        ج- الشبهة الثالثة:
                        ما هي الحكمة وراء ثبت آية في المصحف هي منسوخة الحكم, لتبقى مجرّد ألفاظ مقرؤة؟

                        الجواب عنها:
                        إنّ الحكمة وراء وجود آيات منسوخة تكمن في الوقوف على مرونة الشريعة ومجاراتها للبيئة الاجتماعية، على اختلاف الزمان والمكان، في تدرّج تصاعدي, حتى يتسنّى للناس الالتزام بها والسير مع تدرّجها سيراً يسيراً غير طفروي.

                        أضف إلى ذلك أنّ الاستفادة من الآية المنسوخة ليست محصورة في خصوص كونها دليلاً على الحكم الشرعي فقط، بل لها حقائق عظيمة وبواطن جليلة خافية علينا لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم20.

                        309
                        4- عدد الآيات الناسخة والمنسوخة:
                        اختُلِفَ في عدد الآيات الناسخة والمنسوخة, تبعاً لاختلاف الأقوال في إمكانية وقوع النسخ وفعليّة وقوعه وشروطه وأقسامه وأنحائه, على أقوال هي:
                        أ- عدم وجود آيات ناسخة أو منسوخة في القرآن21.

                        ب- وجود عدد قليل من الآيات الناسخة والمنسوخة، من هذه الأقوال:
                        - آية النجوى فقط22.
                        - 10 آيات، هي: آية النجوى، وآية عدد المقاتلين، وآية الإمتاع، وآية جزاء الفحشاء، وآية التوارث بالإيمان، وآيات الصفح، وآيات المعاهدة، وآيات تدريجية تشريع القتال23.
                        - 21 آية، منها: الآيات المتقدّم ذِكْرُها24.

                        ج- وجود عدد كبير من الآيات الناسخة والمنسوخة في القرآن25.



                        يتبع

                        تعليق


                        • #42
                          مصادر الدرس ومراجعه
                          1- القرآن الكريم.
                          2- النيسابوري، صحيح مسلم، ج4، ص17
                          3- الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج2، ص32، 35، 37-39.
                          4- السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج2، ص56، 58-66.
                          5- الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص285-287، 373-380.
                          6- معرفة، التمهيد في علوم القرآن، ج2، ص275-287، 292-295.
                          7- ابن حنبل، مسند أحمد، ج5، ص132.
                          8- الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج2، ص152-153، 169-170، 184-190، 197-212.
                          9- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج5، ص275-276.
                          10- الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص273-274.

                          هوامش
                          1- انظر: النيسابوري، صحيح مسلم، م.س، ج4، ص176, الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص39, السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص58.
                          2- انظر: السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص285-286, معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج2، ص275-279.
                          3- انظر: ابن حنبل، مسند أحمد، م.س، ج5، ص132, الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص35, السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص66.
                          4- انظر: السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص285-286, معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج2، ص279-282.
                          5- انظر: الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص37-39, السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج2، ص58-66, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص286.
                          6- انظر: الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص32, السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص56, الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص184, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص286-287, معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج2، ص283-285.
                          7- سورة المجادلة، الآية: 12.
                          8- سورة المجادلة، الآية: 13.
                          9- انظر: السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص286-287, معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج2، ص283-285.
                          10- انظر: الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص32, السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص56, الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص184-189.
                          11- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج5، ص275-276.
                          12- سورة النجم، الآيتان: 3-4.
                          13- انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص56, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص286.
                          14- انظر: الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص188-190.
                          15- انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص60, معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج2، ص283.
                          16- انظر: معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج2، ص283.
                          17- انظر: الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص170, معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج2، ص292-293.
                          18- سورة النساء، الآية: 82.
                          19- انظر: معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج2، ص293-294.
                          20- انظر: الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص152-153، 169-170, معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج2، ص294-295.
                          21- انظر: معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج2، ص295.
                          22- انظر: السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص373-380.
                          23- الصالح، مباحث في علوم القرآن، م.س، ص273-274.
                          24- انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص60-65, الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص199-212.
                          25-انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص58-60, الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص197.
                          26- سورة البقرة، الآية: 109.
                          27- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص257.
                          28- سورة التوبة، الآية: 29.
                          29-سورة البقرة، الآية: 234.
                          30- سورة البقرة، الآية: 240.
                          31- سورة النساء، الآية: 12.
                          32- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م. س، ج 2، ص 247.
                          33- سورة المجادلة، الآية: 12.
                          34- سورة المجادلة، الآية: 13.
                          35- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج19، ص189, السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص373-380.

                          تعليق


                          • #43
                            دروس في علوم القران 21

                            - معنى المحكم:
                            أ- المعنى اللغوي:
                            الحاء والكاف والميم أصل واحد, وهو: "المنع"1. و"المحكم": ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى2. وعليه، فالمحكم هو ما كان ذا دلالة واضحة، بحيث لا يحتمل وجوهاً من المعاني.

                            ب- المعنى الاصطلاحي:
                            ذُكِرَت للمحكم تحديدات عدّة، منها: ما أنبأ لفظه عن معناه من غير أن ينضم إليه أمر لفظ يبيّن معناه, سواء أكان اللفظ لغوياً أم عرفياً، ولا يحتاج إلى ضرب من ضروب التأويل3. والمحكم ما استقلّ بنفسه4. والمحكمات هي آيات واضحة المُراد، ولا تشتبه بالمعنى غير المُراد، ويجب الإيمان بهذا النوع من الآيات والعمل بها... والآيات المحكمات مشتملة على أمّهات المطالب، ومطالب بقية الآيات متفرّعة ومترتّبة عليها5، وغيرها من التحديدات6.

                            317
                            2- معنى المتشابه:
                            أ- المعنى اللغوي:
                            "الشين والباء والهاء أصل واحد يدلّ على تشابه الشيء وتشاكله لوناً ووصفاً... والمشبّهات من الأمور المشكلات، واشتبه الأمران إذا أشكلا"7. و"الْمُتَشَابِه من القرآن: ما أُشكِلَ تفسيره لمشابهته بغيره, إمّا من حيث اللَّفظ، وإمّا من حيث المعنى"8.

                            ب- المعنى الاصطلاحي:
                            ذُكِرَت للمتشابه تحديدات عدّة، منها: "ما كان المراد به لا يُعرَف بظاهره، بل يحتاج إلى دليل, وهو ما كان محتملاً لأمور كثيرة أو أمرين، ولا يجوز أن يكون الجميع مراداً, فإنّه من باب المتشابه"9. و"المتشابه ما لا يستقلّ بنفسه إلا بردّه إلى غيره"10. و"الآيات المتشابهة هي آيات ظاهرها ليس مُراداً، ومُرادها الواقعي الذي هو تأويلها لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، ويجب الإيمان بها، والتوقّف عن اتّباعها، والامتناع عن العمل بها... والآيات المتشابهة منجهة المدلول والمُراد ترجع للآيات المحكمة، وبمعرفة المحكمات يُعرَف معناها الواقعي... فالمتشابه هو الآية التي لا استقلال لها في إفادة مدلولها، ويظهر بواسطة الردّ إلى المحكمات، لا أنّه ما لا سبيل إلى فهم مدلوله"11، وغيرها من التحديدات12.

                            3- تحقيق وجود آيات متشابهات
                            :
                            وقع الاختلاف في أصل وجود آيات متشابهات في القرآن13، ويمكن الكلام فيه بالتالي:

                            318
                            أ- عدم وجود المتشابهات في القرآن: إنّ القرآن كتاب هداية عامّة لكلّ الناس:
                            ﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ﴾14، ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾15, فلا وجود فيه لآيٍ متشابهة بالذات. وأمّا التعبير بالتشابه في آيِ القرآن, فهو بمعنى التشابه بالنسبة إلى أُولئك الزائغين الذين يحاولون تحريف الكلِم عن مواضعه.

                            والواقع:
                            أنّ اشتمال الآية على ذِكْر التفصيل بعد الإحكام دليل على أنّ المراد بالإحكام حال من حالات الكتاب كان عليها قبل النزول, وهي كونه واحداً لم يطرأ عليه التجزّي والتبعّض بعد, بتكثّر الآيات, فهو إتقانه قبل وجود التبعّض. فهذا الإحكام وصف لتمام الكتاب، بخلاف وصف الإحكام والإتقان الذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر, من جهة امتناعها عن التشابه في المراد. قال تعالى:
                            ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فلمّا كان قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ مشتملاً على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي: المحكم والمتشابه، علمنا به أنّ المراد بالإحكام غير الإحكام الذي وُصِفَ به جميع الكتاب في قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. وكذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الذي وُصِفَ به جميع الكتاب في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا﴾16 17.

                            ب- وجود المتشابهات في القرآن
                            : يشتمل القرآن الكريم على آيات متشابهات, كما هو مشتمل على آيات محكَمات، لقوله تعالى:
                            ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، وقد تقدّم وجه دلالتها على وجود المحكم والمتشابه من الآيات.
                            319
                            وادّعى البعض أنّ جميع آي القرآن متشابهات، مستدلاً بقوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا﴾18.

                            والواقع:
                            أنّ المراد بالتشابه في الآية السابقة هو كون آيات الكتاب ذات نسق واحد, من حيث جزالة النظم، وإتقان الأسلوب، وبيان الحقائق، والحكم، والهداية إلى صريح الحقّ, كما تدلّ عليه القيود المأخوذة في الآية. فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب، وأمّا التشابه المذكور في قوله تعالى:
                            ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فمقابلته لقوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وذِكْر اتباع الذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل, كل ذلك يدلّ على أنّ المُراد بالتشابه: كون الآية بحيث لا يتعيّن مرادها لفهم السامع بمجرّد استماعها، بل يتردّد بين معنى ومعنى, حتى يرجع إلى محكمات الكتاب, فتُعيّن هي معناها وتبيّنها بياناً, فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة، والآية المحكمة محكمة بنفسها19.

                            4- ضرورة معرفة المحكم والمتشابه:

                            إنّ لمعرفة المحكم والمتشابه بالغ الأثر في فهم القرآن الكريم، حيث إنّ القرآن يشتمل على آيات محكمات تحوي أصول المعارف القرآنية المسلّمة والواضحة، وأُخَر متشابهات تتعيّن وتتّضح معانيها بإرجاعها إلى تلك الأصول. وهذا الإرجاع يحتاج إلى دراية وعلم خاصّ بالمحكم والمتشابه:
                            عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال الله سبحانه:
                            ﴿...وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ...﴾20, وذلك أنّهم ضربوا بعض القرآن ببعض، واحتجوا بالمنسوخ، وهم يظنون أنّه الناسخ، واحتجّوا بالمتشابه وهم يرون أنّه المحكم...
                            320
                            ولم يعرفوا موارده ومصادره, إذ لم يأخذوه عن أهله, فضلوا وأضلوا. واعلموا رحمكم الله: أنّه من لم يعرف من كتاب الله عزّ وجلّ الناسخ من المنسوخ، والخاصّ من العامّ، والمحكم من المتشابه... فليس بعالم بالقرآن، ولا هو من أهله..."21.

                            وعن الإمام الرضا عليه السلام: "من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه, هُدِيَ إلى صراط مستقيم... إنّ في أخبارنا متشابهاً, كمتشابه القرآن، ومحكماً, كمحكم القرآن, فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها, فتضلّوا"22.

                            5- أسباب وجود المتشابهات في القرآن؟
                            إنّ لوجود المتشابهات في القرآن أسباب عدّة23، منها:
                            أ- مجاراة القرآن في إلقاء معارفه العالية لألفاظ وأساليب دارجة، لم تكن موضوعة إلا لمعانٍ محسوسة أو قريبة منها، ومن ثمَّ لم تكن تفي بتمام المقصود، فوقع التشابه فيها وخفيَ وجه المطلوب على الناس، إلاّ على الراسخين في العلم منهم.

                            ب- القرآن حمّال ذو وجوه, لاعتماده في أكثر تعابيره البلاغية على أنواع من المجاز والاستعارة والتشبيه. قال الإمام علي عليه السلام لابن عبّاس ـ لمّا بعَثه للاحتجاج على الخوارج: "لا تخاصمهم بالقرآن, فإنّ القرآن حمّال ذووجوه، تقول ويقولون، ولكن حاجِجهم بالسُنَّة فإنَّهم لن يجدوا عنها محيصاً".

                            ج- إنّ البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقّة الإلهية, لأنّ البيان نزل في سطح هذه الآيات إلى مستوى الأفهام العامّة التي لا تدرك إلا الحسيّات، ولا تنال المعاني الكلّيّة إلا في قالب الجسمانيّات، ولما استلزم ذلك في إلقاء المعاني الكلّيّة

                            321
                            المجرّدة من عوارض الأجسام أحد محذورين، فإنّ الأفهام في تلقّيها المعارف إن جمدت في مرحلة الحسّ انقلبت الأمثال بالنسبة إليها حقائق ممثّلة، وفيه بطلان الحقائق وفوت المقاصد.

                            6- نماذج من آيات محكمات وأُخَر متشابهات
                            24:
                            أ- آيات الصفات الإلهية:
                            - نماذج من آيات الصفات المتشابهات: وهي بظهورها الأوّلي فيها شبهة التجسيم، ومن هذه الآيات: قوله تعالى:
                            ﴿...ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ...﴾25، ﴿...ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ...﴾26، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾27، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء...﴾28، ﴿...يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ...﴾29، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾30، ﴿وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾31...

                            - نماذج من آيات الصفات المحكمات: وهي ترفع الظهور الأوّلي للآيات المتشابهات وتبيّن مقصودها الحقيقي، وتزيل عن الذهن شبهة التجسيم، ومن هذه الآيات: قوله تعالى:
                            ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾32، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾33...
                            322
                            ب- آيات الأفعال الإلهيّة:
                            - نماذج من آيات الأفعال المتشابهات: وهي بظهورها الأوّلي تفيد الجبر وعدم الاختيار، وتنسب هدى الإنسان أو ضلاله إلى الله، وتعتبر مشيئة الله منشأ الإيمان والكفر والسعادة والشقاء، ومن هذه الآيات: قوله تعالى:
                            ﴿...فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء...﴾34،﴿...يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً...﴾35، ﴿...فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء...﴾36، ﴿...مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ...﴾37، ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ...﴾38...

                            - نماذج من آيات الأفعال المحكمات: وهي ترفع الظهور الأوّلي للآيات المتشابهات، وتبيّن مقصودها الحقيقي، وتدلّ بكلّ وضوح على أنّ العناية الربّانية تأخذ بيد المؤهَّل لتلقّي الفيض والرحمة الإلهية، ويحرم منها المعرضون عن ذِكْر الله، وأنّ الإنسان موجود مختار، وسعادته وشقاؤه رهن إرادته، ومن هذه الآيات: قوله تعالى:
                            ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ﴾39، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ...40, ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ...41، ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...42، ﴿...لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ...43، ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ
                            323
                            يُرَى44، ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ...45، ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...46، ﴿...إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا47، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...48...


                            يتبع

                            تعليق


                            • #44
                              مصادر الدرس ومراجعه
                              1- القرآن الكريم.
                              2- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج2، ص91, ج3، ص243.
                              3- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص251، 443.
                              4- الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج1، ص9-10.
                              5- السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج2، ص5-7، 13-21، 30-32.
                              6- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص52, ج2، ص102-104، 314-341, ج3، ص20-23، 29، 32-42، 58-62, ج8، ص236-243, ج13، ص301-302, ج19، ص86-88.
                              7- الطباطبائي، القرآن في الإسلام، ص43، 46، 48.
                              8- الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج2، ص68-71، 75-76.
                              9- الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج2، ص215-219، 223-225.
                              10- المجلسي، بحار الأنوار، ج90، باب128، خطبة رسالة النعماني، ص3-4.
                              11- الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج1، باب28، ح39، ص261.
                              12- معرفة، التمهيد في علوم القرآن، ج3، ص71-368.

                              هوامش
                              1- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة"حكم"، ص91.
                              2- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرأن، م.س، مادّة"حكم"، ص251.
                              3- الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص9.
                              4- السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص6.
                              5- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج3، ص21-23، 29, القرآن في الإسلام، م.س، ص43، 46.
                              6- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج3، ص32-41, الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص68-69, السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص5-7, الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص215-219.
                              7- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة"شبه"، ص243.
                              8- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة"شبه"، ص443.
                              9- الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص10.
                              10- السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص6.
                              11- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج3، ص21-23، 29, القرآن في الإسلام، م.س، ص43، 46، 48.
                              12- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج3، ص32-42, الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص69-71, السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص5-7, الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص215-219.
                              13- انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص5.
                              14- سورة آل عمران، الآية: 138.
                              15- سورة هود، الآية: 1.
                              16- سورة الزمر، الآية: 23.
                              17- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج3، ص20.
                              18- انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص5.
                              19- انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج3، ص21.
                              20- سورة المائدة، الآية: 13.
                              21- انظر: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج90، باب128، خطبة رسالة النعماني، ص3-4.
                              22- ابن بابويه، محمد بن علي بن الحسين(الصدوق): عيون أخبار الرضا عليه السلام ، تصحيح وتعليق وتقديم حسين الأعلمي، لاط، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، 1404هـ.ق/ 1984م، ج1، باب28، ح39، ص261.
                              23- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج3، ص58-62, الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص75-76, السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص30-32, الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص223-225.
                              24- لمزيد من التفصيل، انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص52, ج2، ص102-104، 314-341, ج8، ص236-243, ج13، ص301-302, ج19، ص86-88, السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص13-21, معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج3، ص71-368.
                              25- سورة فصّلت، الآية:11.
                              26- سورة الأعراف، الآية: 54, يونس: 3, الرعد: 2, الفرقان: 59, السجدة: 4, الحديد: 4.
                              27- سورة طه، الآية: 5.
                              28- سورة المائدة، الآية: 64.
                              29- سورة الفتح، الآية: 10.
                              30- سورة القيامة، الآيتان: 22-23.
                              31- سورة الفجر، الآية: 22.
                              32- سورة الأنعام، الآية: 103.
                              33- سورة الشورى، الآية: 11.
                              34- سورة فاطر، الآية: 8.
                              35- سورة البقرة، الآية: 26.
                              36- سورة إبراهيم، الآية: 4.
                              37- سورة الأنعام، الآية: 111.
                              38- سورة الأنعام، الآية: 107.
                              39- سورة عبس، الآيتان: 11-12.
                              40- سورة الكهف، الآية: 29.
                              41- سورة الزمر، الآية: 41.
                              42- سورة البقرة، الآية: 256.
                              43- سورة الأنفال، الآية: 42.
                              44- سورة النجم، الآيتان: 39-40.
                              45- سورة غافر، الآية: 17.
                              46- سورة البقرة، الآية: 286.
                              47- سورة الكهف، الآية: 30.
                              48- سورة الملك، الآية: 2.
                              49- انظر: معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج3، ص12-13.
                              50- سورة الأنعام، الآية: 125 .
                              51- سورة البقرة، الآية: 31 .
                              52- سورة الأنفال، الآية: 17 .
                              53- سورة التوبة، الآية: 37.
                              54- سورة النمل، الآية: 82.
                              55- سورة الرعد، الآية: 41.

                              تعليق


                              • #45
                                دروس في علوم القران 22

                                معنى التأويل:
                                أ- المعنى اللغوي:
                                الهمزة والواو واللام أصلان: ابتداء الأمر، وانتهاؤه... ومن هذا الباب: تأويل الكلام, وهو عاقبته، وما يؤول إليه, وذلك قوله تعالى:
                                ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾1. والتأويل من الأَوْل, أي: الرجوع إلى الأصل، ومنه: المَوْئِلُ للموضع الذي يرجع إليه, وذلك هو ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه, علما كان أم فعلاً، ففي العلم نحو قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾2، وفي الفعل نحو قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾3, أي: بيانه, الذي غايته المقصودة منه4.

                                ب- المعنى الاصطلاحي:
                                اختلف العلماء والمفسّرون في تحديد المعنى الاصطلاحي للتأويل، على أقوال عدّة5، منها:

                                333
                                - التأويل هو التفسير نفسه6, وهو المراد من الكلام.
                                - ولازم هذا القول أن يكون بعض الآيات القرآنية ممّا لا تنال أفهام عامّة الناس المراد من مداليلها اللفظية، وهو خلاف دعوة القرآن إلى التدبّر فيه، وأنّه مُنزَّل من عند الله ليعقله الناس ويفهموه. ومجرّد كون التأويل مشتملاً على معنى الرجوع وكون التفسير فيه شيء من معنى الرجوع, لا يُوجِب كون التأويل هو التفسير.

                                - التأويل هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ7.
                                - ولازم هذا القول إبطال الاحتجاج الواقع في قوله تعالى:
                                ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾8, حيث يمكن إرجاع كلّ كلام ظاهره كذب وباطل إلى الصدق والحقّ بالتأويل والصرف عن ظاهره.

                                - التأويل معنى من معاني الآية، ليس خلاف ظاهر اللفظ، ومرجعه إلى أنّ للآية المتشابهة معانٍ متعدّدة بعضها تحت بعض، منها ما هو تحت اللفظ يناله جميع الأفهام، ومنها ما هو أبعد منه.

                                - ولازم هذا القول لا يتلاءم مع قوله تعالى في وصف التأويل:
                                ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ... فانّ المعارف العالية والمسائل الدقيقة لا يختلف فيها الأذهان، من حيث التقوى وطهارة النفس، بل من حيث الحدّة وعدمها، وإن كانت التقوى وطهارة النفس معينين في فهم المعارف الطاهرة الإلهية، لكن ذلك ليس على نحو الدوران والعلّيّة, كما هو ظاهر قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ....

                                - التأويل ليس من قبيل المعاني المُرادة باللفظ، بل هو الأمر العيني الذي يعتمد عليه الكلام.
                                ولازم هذا القول، على فرض رجوع الضمير في قوله تعالى:
                                ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ
                                334
                                إِلاَّ اللّهُ... إلى الكتاب, أنّ كلّ أمر خارجي مرتبط بمضمون الكلام حتى مصاديق الأخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة يُعدّ تأويلاً للكلام، والحال أنّ مثل هذه الأخبار لا ينحصر علمها بالله تعالى وبالراسخين في العلم. وعللا فرض رجوع الضمير إلى خصوص المتشابهات, فإنّ ذلك يؤدّي إلى حصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم في خصوص آيات الصفات وآيات القيامة. والواقع: أنّ لا وجه لحصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات والقيامة, فإنّ الفتنة والضلال كما توجد في تأويلها يوجد في تأويل غيرها من آيات الأحكام والقصص وغيرهما.

                                - التأويل هو الحقيقة الواقعية9 التي تستند إليها البيانات القرآنية, من حكم، أو موعظة، أو حكمة، وأنّه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها، وأنّه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ، بل هو من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ، وإنّما قيّدها الله سبحانه بقيد الألفاظ, لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب, فهي كالأمثال تُضرَب ليقرَّب بها المقاصد، وتوضَّح بحسب ما يناسب فهم السامع, كما قال تعالى:
                                ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾10.

                                2- التأويل في القرآن:

                                وردت مفردة التأويل ستّ عشرة مرّة في القرآن11، وفي جميع هذه الموارد أُرِيدَ بها الحقيقة الواقعية والخارجيّة التي تستند إليها البيانات القرآنيّة، ومن هذه الموارد:
                                أ- التأويل في قصّة النبي يوسف عليه السلام: قال تعالى:
                                ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ
                                335
                                مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ...﴾12، ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ...﴾13، ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي...﴾14، ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾15، ﴿...يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا...﴾16، ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ...﴾17، وقدّ عبر القرآن الكريم في ثلاثة مواضع من سورة يوسف عن تعبير الرؤيا بكلمة التأويل. والظاهر أنّ تعبير الرؤيا ليس معنى خلاف الظاهر للرؤيا، بل هو حقيقة خارجية تُرَى في النوم بشكل مخصوص, كأن رأى يوسف عليه السلام تعظيم أبيه وأمّه وأخوته بشكل سجدة الشمس والقمر والنجوم له، ورأى ملك مصر سنوات القحط في صورة سبع بقرات عجاف يأكلن سبعاً سماناً، ورأى صاحبا يوسف عليه السلام في السجن الصلب وخِدمَة الملك في صورة عصر الخمر وحمل الخبز على الرأس تأكل الطير منه.

                                ب- التأويل في قصّة النبي موسى عليه السلام والخضر عليه السلام: قال تعالى:
                                ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾18، فبعد أن خرق الخضر عليه السلام السفينة وقتل الغلام وهدم الجدار، احتجّ عليه النبي موسى عليه السلام في كلّ مرّة، فذكر له الخضر عليه السلام السرّ الكامن وراء أفعاله وحقيقة أعماله، وأسماه التأويل.

                                ج- التأويل في الكيل والوزن: قال تعالى:
                                ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ
                                336
                                خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾19، حيث إنّ المراد بالتأويل في الكيل والوزن هو خصوص وجود وضع اقتصادي في السوق بواسطة البيع والشراء والنقل والانتقال. والتأويل بهذا المعنى ليس معنى خلاف الظاهر من الكيل والوزن، بل هو حقيقة خارجية، وروح أُوجِدَت في الكيل والوزن تقوى وتضعف بواسطة استقامة المعاملة وعدم استقامتها.

                                د- التأويل في الاحتكام عند التنازع: قال تعالى:
                                ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾20. ومن الواضح أنّ المراد من التأويل في هذه الآية هو ثبات الوحدة وإقامة علاقات روحية في المجتمع. وهذه حقيقة خارجية وليست معنى خلاف الظاهر لردع النزاع.

                                وغيرها مواضع أخرى من القرآن الكريم وردت فيها مفردة التأويل، وأُريد بها الحقيقة الواقعية والخارجية، وليس ما هو من قبيل المعنى والمفهوم من اللفظ. فتأويل كلّ شيء حقيقة ينبع منها ذلك الشيء، ويكون ذلك الشيء بدوره محقّقاً. كما أنّ صاحب التأويل هو محيى التأويل، وظهور التأويل يكون بواسطة صاحب التاويل. وهذا المعنى جار في القرآن الكريم, لأنّ هذا الكتاب المقدّس يستمدّ من منابع حقائق ومعنويات محرّرة من قيد المادّة, وهي أعلى مرتبة من الحسّ والمحسوس، وأوسع من قوالب الألفاظ والعبارات التي هي نتيجة حياتنا المادية. فهذه الحقائق والمعنويات بحسب الحقيقة لا يمكن التعبير عنها بألفاظ محدودة، وإنّما هي إلفات للبشرية من عالم الغيب إلى ضرورة استعدادهم للوصول إلى السعادة بواسطة الالتزام بظواهر العقائد الحقّة والأعمال الصالحة، ولا طريق للوصول إلى تلك السعادة إلا بهذه الظواهر، وعندما ينتقل الإنسان إلى العالم الآخر تتجلى له الحقائق

                                337
                                المكشوفة، وهذا ما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾21، حيث إنّ وراء ما نقرأه ونعقله من القرآن أمراً هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد، والمتمثّل من المثال, وهو الذي يسمّيه تعالى بالكتاب الحكيم, وهو الذي تعتمد وتتكىء عليه معارف القرآن المنزَّل ومضامينه، وليس من سنخ الألفاظ المفرَّقة المقطّعة، ولا المعاني المدلول عليها بها. وهذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه, لانطباق أوصافه ونعوته عليه22.
                                3- هل تأويل القرآن مختصّ بالله تعالى؟
                                اختلف المفسّرون في هذه المسألة، فمنهم من ذهب إلى اختصاص تأويل القرآن بالله تعالى، ومنهم من ذهب إلى أنّ الراسخين في العلم لهم نصيب من العلم بتأويل القرآن.
                                ومنشأ الخلاف الواقع بينهم يرجع إلى اختلافهم في تفسير قوله تعالى:
                                ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾23، وهل أنّ الواو في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا هي للعطف أم للاستئناف؟

                                والواقع:
                                أنّ الآية بقرينة صدرها وذيلها وما تتلوها من الآيات إنّما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى: المحكم والمتشابه، وتفرّق الناس في الأخذ بها، فهُمْ بين

                                338
                                مائل إلى اتّباع المتشابه لزيغ في قلبه، وثابت على اتّباع المحكم والإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه، فإنّما القصد الأوّل في ذِكر الراسخين في العلم بيان حالهم وطريقتهم في الأخذ بالقرآن ومدحهم فيه قبال ما ذُكِرَ من حال الزائغين وطريقتهم وذمّهم، والزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأوّل، ولا دليل على تشريكهم في العلم بالتأويل مع ذلك، فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ من غير ناقض ينقضه, مِن عطف، أو استثناء، وغير ذلك، فالذي تدلّ عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى واختصاصه به. لكنّه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدلّ على علم غيره تعالى به, بإذنه, كما في نظائره, مثل: العلم بالغيب: قال تعالى: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾24، وقال تعالى: ﴿...إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ...﴾25، وقال تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ...﴾26, فدلّ جميع ذلك على الحصر، ثمّ قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾27, فأثبت ذلك لبعض مَن هو غيره, وهو من ارتضى مِن رسول, ولذلك نظائر في القرآن، ومن هذه النظائر علم التأويل، حيث قال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾28. ويظهر جليّاً من هذه الآيات أنّ للقرآن الكريم مقامان: مقام مكنون محفوظ من المسّ، ومقام التنزيل الذي يفهمه كلّ الناس. والفائدة الزائدة التي نستفيدها من هذه الآيات ولم نجدها في الآيات السابقة هي الاستثناء الوارد في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ الدالّ على أنّ هناك بعض مَن يمكن أن يدرِك حقائق
                                339
                                القرآن وتأويله. وهذا الإثبات لا ينافي النفي الوارد في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ, لأنّ ضمّ إحداهما إلى الأخرى ينتج الاستقلال والتبعية, أي يُعرَف منها استقلال علمه تعالى بهذه الحقائق، ولا يعرفها أحد إلا بإذنه عزّ شأنه وبتعليم منه.

                                وبضميمة قوله تعالى:
                                ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾29 الوارد في حقّ أهل البيت عليهم السلام, بحسب روايات متواترة، نعلم أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام هم المطهّرون العالمون بتأويل القرآن الكريم30.

                                وأفضل الراسخين في العلم هو: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ثمّ الإمام علي عليه السلام, ثمّ الأئمّة عليهم السلام من ولده: عن الإمام الباقر عليه السلام: "أفضل الراسخين في العلم: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, قد علِمَ جميع ما أنزلَ الله في القرآن من التنزيل والتأويل، وما كان الله ليُنزل عليه شيئاً لم يُعلِّمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه"31. وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ الله علّم نبيّه التنزيل والتأويل، فعلّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً، وعلّمنا، والله"32. وعنه عليه السلام - أيضاً -: "نحن الراسخون في العلم، فنحن نعلم تأويله"33.



                                يتبع

                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                x

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة

                                اقرأ في منتديات يا حسين

                                تقليص

                                لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                                يعمل...
                                X