قال ابن ابي الحديد المعتزلي : وحضرت عند النقيب أبى جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري في سنة إحدى عشرة وستمائة ببغداد، وعنده جماعة، وأحدهم يقرأ في الأغاني لأبي الفرج، فمر ذكر المغيرة بن شعبة وخاض القوم، فذمه بعضهم، وأثنى عليه بعضهم، وأمسك عنه آخرون، فقال بعض فقهاء الشيعة ممن كان يشتغل بطرف من علم الكلام على رأى الأشعري: الواجب الكف والامساك عن الصحابة، وعما شجر بينهم، فقد قال أبو المعالي الجويني: ان رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن ذلك، وقال: (إياكم وما شجر بين صحابتي)، وقال: (دعوا لي أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا لما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وقال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، وقال: (خيركم القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه)، وقد ورد في القرآن الثناء على الصحابة وعلى التابعين، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)! وقد روى عن الحسن البصري إنه ذكر عنده الجمل وصفين فقال: تلك دماء طهر الله منها أسيافنا، فلا نلطخ بها ألسنتنا.
ثم إن تلك الأحوال قد غابت عنا وبعدت أخبارها على حقائقها، فلا يليق بنا أن نخوض فيها، ولو كان واحد من هؤلاء قد أخطأ لوجب [أن يحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله فيه ومن المروءة] (1) أن يحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في عائشة زوجته، وفي الزبير ابن عمته، وفي طلحة الذي وقاه بيده. ثم ما الذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحدا من المسلمين أو نبرأ منه! وأي ثواب في اللعنة والبراءة! إن الله تعالى لا يقول يوم القيامة للمكلف: لم لم تلعن؟ بل قد يقول له: لم لعنت؟ ولو أن انسانا عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يكن عاصيا ولا آثما، وإذا جعل الانسان عوض اللعنة استغفر الله كان خيرا له. ثم كيف يجوز للعامة أن تدخل أنفسها في أمور الخاصة، وأولئك قوم كانوا أمراء هذه الأمة وقادتها، ونحن اليوم في طبقة سافلة جدا عنهم، فكيف يحسن بنا التعرض لذكرهم! أليس يقبح من الرعية أن تخوض في دقائق أمور الملك وأحواله وشئونه التي تجرى بينه وبين أهله وبنى عمه ونسائه وسراريه! وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله صهرا لمعاوية. وأخته أم حبيبة تحته، فالأدب أن تحفظ أم حبيبة وهي أم المؤمنين في أخيها.
ثم نقل رد أحد الزيدية عليه -نأخذ موضع الشاهد- : قال: لولا إن الله تعالى أوجب معاداة أعدائه، كما أوجب موالاة أوليائه، وضيق على المسلمين تركها إذا دل العقل عليها، أو صح الخبر عنها بقوله سبحانه: ﴿لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم﴾ ، وبقوله تعالى: ﴿ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء﴾ وبقوله سبحانه: (لا تتولوا قوما غضب الله عليهم) ، ولاجماع المسلمين على إن الله تعالى فرض عداوة أعدائه، وولاية أوليائه، وعلى إن: البغض في الله واجب، والحب في الله واجب - لما تعرضنا لمعاداة أحد من الناس في الدين، ولا البراءة منه، ولكانت عداوتنا للقوم تكلفا.
ولو ظننا إن الله عز وجل يعذرنا إذا قلنا: يا رب غاب أمرهم عنا، فلم يكن لخوضنا في أمر قد غاب عنا معنى، لاعتمدنا على هذا العذر، وواليناهم، ولكنا نخاف أن يقول سبحانه لنا: إن كان أمرهم قد غاب عن أبصاركم، فلم يغب عن قلوبكم وأسماعكم، قد أتتكم به الأخبار الصحيحة التي بمثلها ألزمتم أنفسكم الاقرار بالنبي صلى الله عليه وآله وموالاة من صدقه، ومعاداة من عصاه وجحده، وأمرتم بتدبر القرآن وما جاء به الرسول، فهلا حذرتم من أن تكونوا من أهل هذه الآية غدا: ﴿ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا﴾ !
فأما لفظة اللعن فقد أمر الله تعالى بها وأوجبها، ألا ترى إلى قوله: ﴿أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون﴾ ، فهو إخبار معناه الامر، كقوله: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء )، وقد لعن الله تعالى العاصين بقوله: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود )، وقوله: ﴿إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا﴾ ، وقوله: (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا )، وقال الله تعالى لإبليس: (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ) وقال: (إن الله لعن الكافرين وأعدلهم سعيرا ).
فأما قول من يقول: (أي ثواب في اللعن! وإن الله تعالى لا يقول للمكلف لم لم تلعن؟ بل قد يقول له: لم لعنت؟ وإنه لو جعل مكان لعن الله فلانا، اللهم اغفر لي لكان خيرا له، ولو أن إنسانا عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يؤاخذ بذلك)، فكلام جاهل لا يدرى ما يقول، اللعن طاعة، ويستحق عليها الثواب إذا فعلت على وجهها، وهو أن يلعن مستحق اللعن لله وفى الله، لا في العصبية والهوى، ألا ترى أن الشرع قد ورد بها في نفى الولد، ونطق بها القرآن، وهو أن يقول الزوج في الخامسة:
(إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ) فلو لم يكن الله تعالى يريد أن يتلفظ عباده بهذه اللفظة وإنه قد تعبدهم بها، لما جعلها من معالم الشرع، ولما كررها في كثير من كتابه العزيز، ولما قال في حق القاتل: (وغضب الله عليه ولعنه )، وليس المراد من قوله: (ولعنه) إلا الامر لنا بأن نلعنه، ولو لم يكن المراد بها ذلك لكان لنا أن نلعنه، لان الله تعالى قد لعنه، أفيلعن الله تعالى إنسانا ولا يكون لنا أن نلعنه!
هذا ما لا يسوغ في العقل، كما لا يجوز أن يمدح الله انسانا إلا ولنا أن نمدحه، ولا يذمه إلا ولنا أن نذمه، وقال تعالى: (هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله )، وقال: ﴿ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا﴾ ، وقال عز وجل:
(وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ). وكيف يقول القائل: إن الله تعالى لا يقول للمكلف: لم لم تلعن؟ ألا يعلم هذا القائل أن الله تعالى أمر بولاية أوليائه، وأمر بعداوة أعدائه، فكما يسأل عن التولي يسأل عن التبري! ألا ترى أن اليهودي إذا أسلم يطالب بان يقال له: تلفظ بكلمة الشهادتين، ثم قل: برئت من كل دين يخالف دين الاسلام، فلا بد من البراءة، لان بها يتم العمل! ألم يسمع هذا القائل قول الشاعر:
تود عدوى ثم تزعم إنني * صديقك إن الرأي عنك لعازب
فمودة العدو خروج عن ولاية الولي، وإذا بطلت المودة لم يبق إلا البراءة، لأنه لا يجوز أن يكون الانسان في درجة متوسطة مع أعداء الله تعالى وعصاته بألا يودهم ولا يبرأ منهم باجماع المسلمين على نفى هذه الواسطة.
واما قوله: (لو جعل عوض اللعنة استغفر الله لكان خيرا له)، فإنه لو استغفر من غير أن يلعن أو يعتقد وجوب اللعن لما نفعه استغفاره ولا قبل منه، لأنه يكون عاصيا لله تعالى، مخالفا أمره في إمساكه عمن أوجب الله تعالى عليه البراءة منه، وإظهار البراءة، والمصر على بعض المعاصي لا تقبل توبته واستغفاره عن البعض الاخر، وأما من يعيش عمره ولا يلعن إبليس، فإن كان لا يعتقد وجوب لعنه فهو كافر، وإن كان يعتقد وجوب لعنه ولا يلعنه فهو مخطئ، على أن الفرق بينه وبين ترك لعنة رؤوس الضلال في هذه الأمة كمعاوية والمغيرة و أمثالهما، إن أحدا من المسلمين لا يورث عنده الامساك عن لعن إبليس شبهة في أمر إبليس، والامساك عن لعن هؤلاء وأضرابهم يثير شبهة عند كثير من المسلمين في أمرهم، وتجنب ما يورث الشبهة في الدين واجب، فلهذا لم يكن الامساك عن لعن إبليس نظيرا للإمساك عن أمر هؤلاء.
قال: ثم يقال للمخالفين: أرأيتم لو قال قائل: قد غاب عنا أمر يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف، فليس ينبغي ان نخوض في قصتهما، ولا ان نلعنهما ونعاديهما ونبرأ منهما، هل كان هذا إلا كقولكم: قد غاب عنا أمر معاوية والمغيرة بن شعبة وأضرابهما، فليس لخوضنا في قصتهم معنى!
وبعد، فكيف أدخلتم أيها العامة والحشوية وأهل الحديث أنفسكم في أمر عثمان وخضتم فيه، وقد غاب عنكم! وبرئتم من قتلته، ولعنتموهم! وكيف لم تحفظوا أبا بكر الصديق في محمد ابنه فإنكم لعنتموه، وفسقتموه، ولا حفظتم عائشة أم المؤمنين في أخيها محمد المذكور، ومنعتمونا أن نخوض وندخل أنفسنا في أمر على والحسن والحسين ومعاوية الظالم له ولهما، المتغلب على حقه وحقوقهما! وكيف صار لعن ظالم عثمان من السنة عندكم، ولعن ظالم على والحسن والحسين تكلفا! وكيف أدخلت العامة أنفسها في أمر عائشة وبرئت ممن نظر إليها، ومن القائل لها: يا حميراء، أو إنما هي حميراء، ولعنته بكشفه سترها، ومنعتنا نحن عن الحديث في أمر فاطمة وما جرى لها بعد وفاة أبيها.
فان قلتم: إن بيت فاطمة إنما دخل، وسترها إنما كشف، حفظا لنظام الاسلام، وكيلا ينتشر الامر ويخرج قوم من المسلمين أعناقهم من ربقة الطاعة ولزوم الجماعة.
قيل لكم: وكذلك ستر عائشة إنما كشف، وهودجها إنما هتك، لأنها نشرت حبل الطاعة، وشقت عصا المسلمين، وأراقت دماء المسلمين من قبل وصول علي بن أبي طالب عليه السلام إلى البصرة، وجرى لها مع عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة ومن كان معهما من المسلمين الصالحين من القتل وسفك الدماء ما تنطق به كتب التواريخ والسير، فإذا جاز دخول بيت فاطمة لأمر لم يقع بعد جاز كشف ستر عائشة على ما قد وقع وتحقق، فكيف صار هتك ستر عائشة من الكبائر التي يجب معها التخليد في النار، والبراءة من فاعله، ومن أوكد عرى الايمان، وصار كشف بيت فاطمة والدخول عليها منزلها وجمع حطب ببابها، وتهددها بالتحريق من أوكد عرى الدين، وأثبت دعائم الاسلام، ومما أعز الله به المسلمين وأطفأ به نار الفتنة، والحرمتان واحدة، والستران واحد. وما نحب ان نقول لكم: إن حرمة فاطمة أعظم، ومكانها أرفع، وصيانتها لأجل رسول الله صلى الله عليه وآله أولى، فإنها بضعة منه، وجزء من لحمه ودمه، وليست كالزوجة الأجنبية التي لا نسب بينها وبين الزوج، وإنما هي وصلة مستعارة، وعقد يجرى مجرى إجارة المنفعة، وكما يملك رق الأمة، بالبيع و الشراء ولهذا قال الفرضيون:
أسباب التوارث ثلاثة: سبب ونسب وولاء، فالنسب القرابة، والسبب النكاح، والولاء: ولاء العتق فجعلوا النكاح خارجا عن النسب، ولو كانت الزوجة ذات نسب لجعلوا الأقسام الثلاثة قسمين.
وكيف تكون عائشة أو غيرها في منزلة فاطمة، وقد أجمع المسلمون كلهم من يحبها ومن لا يحبها منهم إنها سيدة نساء العالمين!
قال: وكيف يلزمنا اليوم حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في زوجته، وحفظ أم حبيبة في أخيها، ولم تلزم الصحابة أنفسها حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل بيته، ولا ألزمت الصحابة أنفسها حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في صهره وابن عمه ابن عفان، وقد قتلوهم ولعنوهم، ولقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة، منهم عائشة كانت تقول: اقتلوا نعثلا، لعن الله نعثلا، ومنهم عبد الله بن مسعود، وقد لعن معاوية علي بن أبي طالب وابنيه حسنا وحسينا وهم أحياء يرزقون بالعراق، وهو يلعنهم بالشام على المنابر، ويقنت عليهم في الصلوات، وقد لعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة وهو حي، وبرئا منه، وأخرجاه من المدينة إلى الشام، ولعن عمر خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة، وما زال اللعن فاشيا في المسلمين إذا عرفوا من الانسان معصية تقتضي اللعن والبراءة.
قال: ولو كان هذا أمرا معتبرا وهو أن يحفظ زيد لأجل عمرو فلا يلعن، لوجب أن تحفظ الصحابة في أولادهم، فلا يلعنوا لأجل آبائهم، فكان يجب أن يحفظ سعد بن أبي وقاص فلا يلعن ابنه عمر بن سعد قاتل الحسين، وأن يحفظ معاوية فلا يلعن يزيد صاحب وقعة الحرة وقاتل الحسين، ومخيف المسجد الحرام بمكة، وأن يحفظ عمر بن الخطاب في عبيد الله ابنه قاتل الهرمزان، والمحارب عليا عليه السلام في صفين.
قال على: إنه لو كان الامساك عن عداوة من عادى الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في أصحابه ورعاية عهده وعقده لم نعادهم ولو ضربت رقابنا بالسيوف، ولكن محبة رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه ليست كمحبة الجهال الذين يصنع أحدهم محبته لصاحبه موضع العصبية، وإنما أوجب الله رسول الله صلى الله عليه وآله محبة أصحابه لطاعتهم لله، فإذا عصوا الله وتركوا ما أوجب محبتهم، فليس عند رسول الله صلى الله عليه وآله محاباة في ترك لزوم ما كان عليه من محبتهم، ولا تغطرس في العدول عن التمسك بموالاتهم، فلقد كان صلى الله عليه وآله يحب ان يعادي أعداء الله ولو كانوا عترته، كما يحب أن يوالي أولياء الله ولو كانوا أبعد الخلق نسبا منه، والشاهد على ذلك إجماع الأمة على أن الله تعالى قد أوجب عداوة من ارتد بعد الاسلام، وعداوة من نافق وإن كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله هو الذي أمر بذلك ودعا إليه وذلك أنه صلى الله عليه وآله قد أوجب قطع السارق وضرب القاذف، وجلد البكر إذا زنى، وإن كان من المهاجرين أو الأنصار، ألا ترى إنه قال: لو سرقت فاطمة لقطعتها، فهذه ابنته، الجارية مجرى نفسه، لم يحابها في دين الله، ولا راقبها في حدود الله، وقد جلد أصحاب الإفك، ومنهم مسطح بن أثاثة، وكان من أهل بدر.
قال: وبعد، فلو كان محل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله محل من لا يعادي إذا عصى الله سبحانه ولا يذكر بالقبيح، بل يجب أن يراقب لأجل اسم الصحبة، ويغضي عن عيوبه وذنوبه، لكان كذلك صاحب موسى المسطور ثناؤه في القرآن لما اتبع هواه، فانسلخ مما أوتى من الآيات وغوى، قال سبحانه: ﴿واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين﴾ ، ولكان ينبغي أن يكون محل عبدة العجل من أصحاب موسى هذا المحل، لان هؤلاء كلهم قد صحبوا رسولا جليلا من رسل الله سبحانه.
ثم إن تلك الأحوال قد غابت عنا وبعدت أخبارها على حقائقها، فلا يليق بنا أن نخوض فيها، ولو كان واحد من هؤلاء قد أخطأ لوجب [أن يحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله فيه ومن المروءة] (1) أن يحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في عائشة زوجته، وفي الزبير ابن عمته، وفي طلحة الذي وقاه بيده. ثم ما الذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحدا من المسلمين أو نبرأ منه! وأي ثواب في اللعنة والبراءة! إن الله تعالى لا يقول يوم القيامة للمكلف: لم لم تلعن؟ بل قد يقول له: لم لعنت؟ ولو أن انسانا عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يكن عاصيا ولا آثما، وإذا جعل الانسان عوض اللعنة استغفر الله كان خيرا له. ثم كيف يجوز للعامة أن تدخل أنفسها في أمور الخاصة، وأولئك قوم كانوا أمراء هذه الأمة وقادتها، ونحن اليوم في طبقة سافلة جدا عنهم، فكيف يحسن بنا التعرض لذكرهم! أليس يقبح من الرعية أن تخوض في دقائق أمور الملك وأحواله وشئونه التي تجرى بينه وبين أهله وبنى عمه ونسائه وسراريه! وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله صهرا لمعاوية. وأخته أم حبيبة تحته، فالأدب أن تحفظ أم حبيبة وهي أم المؤمنين في أخيها.
ثم نقل رد أحد الزيدية عليه -نأخذ موضع الشاهد- : قال: لولا إن الله تعالى أوجب معاداة أعدائه، كما أوجب موالاة أوليائه، وضيق على المسلمين تركها إذا دل العقل عليها، أو صح الخبر عنها بقوله سبحانه: ﴿لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم﴾ ، وبقوله تعالى: ﴿ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء﴾ وبقوله سبحانه: (لا تتولوا قوما غضب الله عليهم) ، ولاجماع المسلمين على إن الله تعالى فرض عداوة أعدائه، وولاية أوليائه، وعلى إن: البغض في الله واجب، والحب في الله واجب - لما تعرضنا لمعاداة أحد من الناس في الدين، ولا البراءة منه، ولكانت عداوتنا للقوم تكلفا.
ولو ظننا إن الله عز وجل يعذرنا إذا قلنا: يا رب غاب أمرهم عنا، فلم يكن لخوضنا في أمر قد غاب عنا معنى، لاعتمدنا على هذا العذر، وواليناهم، ولكنا نخاف أن يقول سبحانه لنا: إن كان أمرهم قد غاب عن أبصاركم، فلم يغب عن قلوبكم وأسماعكم، قد أتتكم به الأخبار الصحيحة التي بمثلها ألزمتم أنفسكم الاقرار بالنبي صلى الله عليه وآله وموالاة من صدقه، ومعاداة من عصاه وجحده، وأمرتم بتدبر القرآن وما جاء به الرسول، فهلا حذرتم من أن تكونوا من أهل هذه الآية غدا: ﴿ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا﴾ !
فأما لفظة اللعن فقد أمر الله تعالى بها وأوجبها، ألا ترى إلى قوله: ﴿أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون﴾ ، فهو إخبار معناه الامر، كقوله: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء )، وقد لعن الله تعالى العاصين بقوله: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود )، وقوله: ﴿إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا﴾ ، وقوله: (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا )، وقال الله تعالى لإبليس: (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ) وقال: (إن الله لعن الكافرين وأعدلهم سعيرا ).
فأما قول من يقول: (أي ثواب في اللعن! وإن الله تعالى لا يقول للمكلف لم لم تلعن؟ بل قد يقول له: لم لعنت؟ وإنه لو جعل مكان لعن الله فلانا، اللهم اغفر لي لكان خيرا له، ولو أن إنسانا عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يؤاخذ بذلك)، فكلام جاهل لا يدرى ما يقول، اللعن طاعة، ويستحق عليها الثواب إذا فعلت على وجهها، وهو أن يلعن مستحق اللعن لله وفى الله، لا في العصبية والهوى، ألا ترى أن الشرع قد ورد بها في نفى الولد، ونطق بها القرآن، وهو أن يقول الزوج في الخامسة:
(إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ) فلو لم يكن الله تعالى يريد أن يتلفظ عباده بهذه اللفظة وإنه قد تعبدهم بها، لما جعلها من معالم الشرع، ولما كررها في كثير من كتابه العزيز، ولما قال في حق القاتل: (وغضب الله عليه ولعنه )، وليس المراد من قوله: (ولعنه) إلا الامر لنا بأن نلعنه، ولو لم يكن المراد بها ذلك لكان لنا أن نلعنه، لان الله تعالى قد لعنه، أفيلعن الله تعالى إنسانا ولا يكون لنا أن نلعنه!
هذا ما لا يسوغ في العقل، كما لا يجوز أن يمدح الله انسانا إلا ولنا أن نمدحه، ولا يذمه إلا ولنا أن نذمه، وقال تعالى: (هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله )، وقال: ﴿ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا﴾ ، وقال عز وجل:
(وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ). وكيف يقول القائل: إن الله تعالى لا يقول للمكلف: لم لم تلعن؟ ألا يعلم هذا القائل أن الله تعالى أمر بولاية أوليائه، وأمر بعداوة أعدائه، فكما يسأل عن التولي يسأل عن التبري! ألا ترى أن اليهودي إذا أسلم يطالب بان يقال له: تلفظ بكلمة الشهادتين، ثم قل: برئت من كل دين يخالف دين الاسلام، فلا بد من البراءة، لان بها يتم العمل! ألم يسمع هذا القائل قول الشاعر:
تود عدوى ثم تزعم إنني * صديقك إن الرأي عنك لعازب
فمودة العدو خروج عن ولاية الولي، وإذا بطلت المودة لم يبق إلا البراءة، لأنه لا يجوز أن يكون الانسان في درجة متوسطة مع أعداء الله تعالى وعصاته بألا يودهم ولا يبرأ منهم باجماع المسلمين على نفى هذه الواسطة.
واما قوله: (لو جعل عوض اللعنة استغفر الله لكان خيرا له)، فإنه لو استغفر من غير أن يلعن أو يعتقد وجوب اللعن لما نفعه استغفاره ولا قبل منه، لأنه يكون عاصيا لله تعالى، مخالفا أمره في إمساكه عمن أوجب الله تعالى عليه البراءة منه، وإظهار البراءة، والمصر على بعض المعاصي لا تقبل توبته واستغفاره عن البعض الاخر، وأما من يعيش عمره ولا يلعن إبليس، فإن كان لا يعتقد وجوب لعنه فهو كافر، وإن كان يعتقد وجوب لعنه ولا يلعنه فهو مخطئ، على أن الفرق بينه وبين ترك لعنة رؤوس الضلال في هذه الأمة كمعاوية والمغيرة و أمثالهما، إن أحدا من المسلمين لا يورث عنده الامساك عن لعن إبليس شبهة في أمر إبليس، والامساك عن لعن هؤلاء وأضرابهم يثير شبهة عند كثير من المسلمين في أمرهم، وتجنب ما يورث الشبهة في الدين واجب، فلهذا لم يكن الامساك عن لعن إبليس نظيرا للإمساك عن أمر هؤلاء.
قال: ثم يقال للمخالفين: أرأيتم لو قال قائل: قد غاب عنا أمر يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف، فليس ينبغي ان نخوض في قصتهما، ولا ان نلعنهما ونعاديهما ونبرأ منهما، هل كان هذا إلا كقولكم: قد غاب عنا أمر معاوية والمغيرة بن شعبة وأضرابهما، فليس لخوضنا في قصتهم معنى!
وبعد، فكيف أدخلتم أيها العامة والحشوية وأهل الحديث أنفسكم في أمر عثمان وخضتم فيه، وقد غاب عنكم! وبرئتم من قتلته، ولعنتموهم! وكيف لم تحفظوا أبا بكر الصديق في محمد ابنه فإنكم لعنتموه، وفسقتموه، ولا حفظتم عائشة أم المؤمنين في أخيها محمد المذكور، ومنعتمونا أن نخوض وندخل أنفسنا في أمر على والحسن والحسين ومعاوية الظالم له ولهما، المتغلب على حقه وحقوقهما! وكيف صار لعن ظالم عثمان من السنة عندكم، ولعن ظالم على والحسن والحسين تكلفا! وكيف أدخلت العامة أنفسها في أمر عائشة وبرئت ممن نظر إليها، ومن القائل لها: يا حميراء، أو إنما هي حميراء، ولعنته بكشفه سترها، ومنعتنا نحن عن الحديث في أمر فاطمة وما جرى لها بعد وفاة أبيها.
فان قلتم: إن بيت فاطمة إنما دخل، وسترها إنما كشف، حفظا لنظام الاسلام، وكيلا ينتشر الامر ويخرج قوم من المسلمين أعناقهم من ربقة الطاعة ولزوم الجماعة.
قيل لكم: وكذلك ستر عائشة إنما كشف، وهودجها إنما هتك، لأنها نشرت حبل الطاعة، وشقت عصا المسلمين، وأراقت دماء المسلمين من قبل وصول علي بن أبي طالب عليه السلام إلى البصرة، وجرى لها مع عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة ومن كان معهما من المسلمين الصالحين من القتل وسفك الدماء ما تنطق به كتب التواريخ والسير، فإذا جاز دخول بيت فاطمة لأمر لم يقع بعد جاز كشف ستر عائشة على ما قد وقع وتحقق، فكيف صار هتك ستر عائشة من الكبائر التي يجب معها التخليد في النار، والبراءة من فاعله، ومن أوكد عرى الايمان، وصار كشف بيت فاطمة والدخول عليها منزلها وجمع حطب ببابها، وتهددها بالتحريق من أوكد عرى الدين، وأثبت دعائم الاسلام، ومما أعز الله به المسلمين وأطفأ به نار الفتنة، والحرمتان واحدة، والستران واحد. وما نحب ان نقول لكم: إن حرمة فاطمة أعظم، ومكانها أرفع، وصيانتها لأجل رسول الله صلى الله عليه وآله أولى، فإنها بضعة منه، وجزء من لحمه ودمه، وليست كالزوجة الأجنبية التي لا نسب بينها وبين الزوج، وإنما هي وصلة مستعارة، وعقد يجرى مجرى إجارة المنفعة، وكما يملك رق الأمة، بالبيع و الشراء ولهذا قال الفرضيون:
أسباب التوارث ثلاثة: سبب ونسب وولاء، فالنسب القرابة، والسبب النكاح، والولاء: ولاء العتق فجعلوا النكاح خارجا عن النسب، ولو كانت الزوجة ذات نسب لجعلوا الأقسام الثلاثة قسمين.
وكيف تكون عائشة أو غيرها في منزلة فاطمة، وقد أجمع المسلمون كلهم من يحبها ومن لا يحبها منهم إنها سيدة نساء العالمين!
قال: وكيف يلزمنا اليوم حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في زوجته، وحفظ أم حبيبة في أخيها، ولم تلزم الصحابة أنفسها حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل بيته، ولا ألزمت الصحابة أنفسها حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في صهره وابن عمه ابن عفان، وقد قتلوهم ولعنوهم، ولقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة، منهم عائشة كانت تقول: اقتلوا نعثلا، لعن الله نعثلا، ومنهم عبد الله بن مسعود، وقد لعن معاوية علي بن أبي طالب وابنيه حسنا وحسينا وهم أحياء يرزقون بالعراق، وهو يلعنهم بالشام على المنابر، ويقنت عليهم في الصلوات، وقد لعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة وهو حي، وبرئا منه، وأخرجاه من المدينة إلى الشام، ولعن عمر خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة، وما زال اللعن فاشيا في المسلمين إذا عرفوا من الانسان معصية تقتضي اللعن والبراءة.
قال: ولو كان هذا أمرا معتبرا وهو أن يحفظ زيد لأجل عمرو فلا يلعن، لوجب أن تحفظ الصحابة في أولادهم، فلا يلعنوا لأجل آبائهم، فكان يجب أن يحفظ سعد بن أبي وقاص فلا يلعن ابنه عمر بن سعد قاتل الحسين، وأن يحفظ معاوية فلا يلعن يزيد صاحب وقعة الحرة وقاتل الحسين، ومخيف المسجد الحرام بمكة، وأن يحفظ عمر بن الخطاب في عبيد الله ابنه قاتل الهرمزان، والمحارب عليا عليه السلام في صفين.
قال على: إنه لو كان الامساك عن عداوة من عادى الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في أصحابه ورعاية عهده وعقده لم نعادهم ولو ضربت رقابنا بالسيوف، ولكن محبة رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه ليست كمحبة الجهال الذين يصنع أحدهم محبته لصاحبه موضع العصبية، وإنما أوجب الله رسول الله صلى الله عليه وآله محبة أصحابه لطاعتهم لله، فإذا عصوا الله وتركوا ما أوجب محبتهم، فليس عند رسول الله صلى الله عليه وآله محاباة في ترك لزوم ما كان عليه من محبتهم، ولا تغطرس في العدول عن التمسك بموالاتهم، فلقد كان صلى الله عليه وآله يحب ان يعادي أعداء الله ولو كانوا عترته، كما يحب أن يوالي أولياء الله ولو كانوا أبعد الخلق نسبا منه، والشاهد على ذلك إجماع الأمة على أن الله تعالى قد أوجب عداوة من ارتد بعد الاسلام، وعداوة من نافق وإن كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله هو الذي أمر بذلك ودعا إليه وذلك أنه صلى الله عليه وآله قد أوجب قطع السارق وضرب القاذف، وجلد البكر إذا زنى، وإن كان من المهاجرين أو الأنصار، ألا ترى إنه قال: لو سرقت فاطمة لقطعتها، فهذه ابنته، الجارية مجرى نفسه، لم يحابها في دين الله، ولا راقبها في حدود الله، وقد جلد أصحاب الإفك، ومنهم مسطح بن أثاثة، وكان من أهل بدر.
قال: وبعد، فلو كان محل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله محل من لا يعادي إذا عصى الله سبحانه ولا يذكر بالقبيح، بل يجب أن يراقب لأجل اسم الصحبة، ويغضي عن عيوبه وذنوبه، لكان كذلك صاحب موسى المسطور ثناؤه في القرآن لما اتبع هواه، فانسلخ مما أوتى من الآيات وغوى، قال سبحانه: ﴿واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين﴾ ، ولكان ينبغي أن يكون محل عبدة العجل من أصحاب موسى هذا المحل، لان هؤلاء كلهم قد صحبوا رسولا جليلا من رسل الله سبحانه.