لماذا هناك ما ظاهره جبر و تشبيه في القرآن والأخبار؟
---يقول الصدوق رحمه الله حول كتابه التوحيد في المقدمة : إن الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا أني وجدت قوما من المخالفين لنا ينسبون عصابتنا إلى القول بالتشبيه والجبر لما وجدوا في كتبهم من الاخبار التي جهلوا تفسيرها ولم يعرفوا معانيها ووضعوها في غير موضعها ولم يقابلوا بألفاظها ألفاظ القرآن .
===
يُعَلّق السيد الجزائري رحمه الله في نور البراهين ج1 :
إشارة إلى ما روي من قوله عليه السلام: حديثنا كالقرآن فيه عام وخاص ومجمل ومبين ومحكم ومتشابه وأمر ونهي. فلو قابلوا ألفاظ الاخبار بألفاظ القرآن لما طعنوا على مذهبنا، ولظهر لهم أن في القرآن من المتشابه الذي ظاهره التشبيه والجبر كثيرا، كقوله عز وجل ﴿يد الله فوق أيديهم﴾ وقوله ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ ونحو ذلك، وقوله ﴿قل كل من عند الله﴾ وقوله ﴿يضل من يشاء ويهدي من يشاء﴾ . وغير ذلك مما ظاهره الجبر، مع أن اشتمال القرآن عليه لا يقدح في حقيته ، للاجماع من الكل على أن المراد منها غير الظاهر، فترد إلى المحكم منه، كما قال: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات} فالمحكم أصل وأم للمتشابه يحكم عليه بها.
-
فإن قلت : اشتمال القرآن على ما ظاهره الجبر والتشبيه وما لا يُفهم الوجه فيه ظاهر , حيث إن المخاطب به النبي و أهل بيته المعصومين عليهم السلام , وقد أوحى إليهم تفاصيل علمه من طرق شتى .
أما الأخبار فالمخاطب بها عامّة الخلق , فما الوجه في اشتمالها على الأمور المذكورة مع ما يترتب عليه من المفاسد المذكورة في كلام المصنّق رحمه الله ؟
*قُلت : الجواب على هذا من وجوه :
الأوّل :أن خطاب الشرع ليس منحصرا في الأحكام التكليفيّة العمليّة , بل هي شاملة بها ولأحكام الاعتقاد و التسليم و الإذعان , فإذا جاء الخبر متشابه المعنى لم يجز ردّه وإنكاره , بل ينبغي التسليم و الإنقياد , وإرجاع تفاصيل حقائقه غلى تراجمة الوحي عليهم السلام ; لأنهم أعلم بما قالوا , ويكون الراد علمه إليهم على طريق التسليم مأجورا عليه , كما يكون مثابا على الاحكام العمليّة , بل هذا أوفر حظا و ثوابا , حيث إن مدارج العقول لا تصل إليه , ومن ثم نصّ جماعة من أرباب التحقيق على ان مناسك الحج , كالطواف و السعي و رمي الجمرات إلى غير ذلك مما لا تحيط العقول بكنه حقائقها يكون الثواب على أدائها أكثر مما تصل إليه الأفهام والعقول ; لأنه تعبد محض خال من معاونة العقول و العادات , وغرض الشارع من تكليف العباد جزاؤهم بالثواب .
الثاني : أن الأخبار التي وصلت إلينا متشابهة ربما لم تكن كذلك عند المخاطبين بها ; لأن قرائن الحال و المقال مما يكشف الإجمال و يزيل الإعضال , ومن راجع الأخبار يجد أكثر متشابهاتها من هذا المثال .
الثالث : أنهم عليهم السلام أوضحوا الأصول و بيّنوا الفروع , ووضعوا قوانين الشريعة، فإذا ألقوا إلى الناس ما لعله لا يوافق تلك القولين ظاهرا ربما كان الغرض منه تكليف المجتهدين برد هذا إلى ذاك، ليفوزوا بأجر هذا الاجتهاد، كما قال عليه السلام: علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا عليها (1) وما ذكرناه ضرب من التفريع.
الرابع: ان طوائف أهل الخلاف لما قال بعضهم بالجبر وبعضهم بالتشبيه وتفرقت آراؤهم، ربما كان الوجه فيما كان ظاهره الموافقة لهم من الاخبار رعاية أطراف التقية: إما تقية من الأئمة الطاهرين عليهم السلام، وإما اتقاء على شيعتهم لئلا يعرفوا بكونهم على طرف الخلاف من العامة، كما قال الصادق عليه السلا م:
أنا الذي خالفت بينهم في بيان أوقات الصلوات لئلا يعرفوا بالاتفاق على الوقت الواحد فيؤخذ برقابهم (2).
الخامس: أن أفصح الكلام ما اشتمل على المجازات والاستعارات وأنواع الكنايات، ومن تصفح الاخبار المتشابهة وحملها على ضروب المجاز أمكنه التوافق بينها وبين المحكمات .
-وقد ذكر مثل هذا الشيخ طاب ثراه في التبيان في الجواب عن متشابه القرآن، وهذا لفظه:
فإن قيل: هلا كان القرآن كله محكما يستغني بظاهره عن تكليف ما يدل على المراد منه، حتى دخل على كثير من المخالفين للحق شبهة فيه، وتمسكوا بظاهره على ما يعتقدونه من الباطل؟
*قيل: الجواب عن ذلك من وجهين:
1-أحدهما: أن خطاب الله تعالى مع ما فيه من الفوائد لمصلحة معتبرة في ألفاظه لا يمتنع أن تكون المصلحة الدينية تعلقت بأن يستعمل له ألفاظه محتملة ويجعل الطريق إلى معرفة المراد به ضربا من الاستدلال، ولهذه العلة أطال في موضع واختصر في آخر، وذكر قصة في موضع وأعادها في موضع آخر، واختلفت أيضا مقادير الفصاحة فيه.
والجواب الثاني: أن الله تعالى إنما خلق عباده تعريضا لثوابه، وكلفهم لينالوا أعلى المراتب وأشرفها، ولو كان القرآن كله محكما لا يحتمل التأويل ولا يمكن فيه الاختلاف لسقطت المحنة وبطل التفاضل وتساوت المنازل، ولم تبن منزلة العلماء من غيرهم، فأنزل الله القرآن بعضه متشابها ليعمل أهل العقل أفكارهم، ويتوصلوا بتكليف المشاق وبالنظر والاستدلال إلى فهم المراد، فيستحقوا به عظيم المنزلة وعالي الرتبة انتهى (3).
والجواب الأول جار هنا أيضا، ومن ثم حكي عن السيد المرتضى وطائفة من القدماء أنهم حكموا على الأخبار الواردة في باب طينة المؤمن والكافر، من أن أحدهما من عليين والأخرى من سجين، ونحو ذلك مما ظاهره الجبر ونفي الاختيار، بأنها محمولة على طريق المجاز والاستعارة، كما سيأتي تحقيقه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
السادس: أن أكثر تلك الأخبار من باب إخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا ظنا. وهذا الجواب قاله ابن إدريس رحمه الله في رد تلك الأخبار التي ظاهرها الجبر والتشبيه. وبالجملة فالأجوبة عن مثل هذا متكثرة جدا كما لا يخفى.
==============================================
==============================================
1- بحار الأنوار: 2 / 245 ح 54.
2- بحار الأنوار: 2 / 252 ح 69.
3- التبيان للطوسي ج1 ص10 .
تعليق