المرابطة في زمن الغيبة !
بسم الله الرحمن الرحيم
حثت آيات الكتاب الكريم على الجهاد وأسبغت على المجاهدين الثناء، وعد الجهاد في سبيل الله شطراً من الشريعة الغرّاء..
ويكاد المتتبع لآيات الجهاد وكلمات المعصومين (ع) يخال أن الجهاد فرض واجب في كل حال وظرف ودون أي قيد وشرط.
كيف وقد أمر الله تعالى خير خلقه بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ (التوبة73)
وأمر الله المسلمين عامة بالقتال: وَ قاتِلُوا في سَبيلِ اللَّهِ (البقرة 244) وبالجهاد: وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِه (الحج 78)
وكثيراً ما نجعل الآية الشريفة باباً للحث على الجهاد والقتال بعد إعداد العدة له: وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ (الأنفال60)
ويكتمل الجناح الآخر لهذا التصور عند مطالعة روايات الحث على الجهاد والذم للمتقاعسين كقول أمير المؤمنين لهم: يا أشباه الرجال ولا رجال ! (الكافي ج5 ص6)
وتكون الخلاصة أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب الجهاد على المسلمين، وأن التخلف عنه معصية إن لم يكن جبناً ووهناً، فكل من لم يسلك طريق (الكفاح المسلح) كان خائناً لشريعة الله تعالى.
لكن بعض الكمل من أوائل الشيعة أدرك أن هذه الأحكام كلها تدور مدار الإمام المعصوم، فهو لسان الله الناطق في خلقه، وهو حجة الله التامة، وأن فعله هو الميزان في الحلال والحرام فهو المؤتمن على وحي الله تعالى وأمره وسره..
ومن هؤلاء: بعض الصفوة الذين كانوا مع علي عندما كشف بيت الزهراء سيدة النساء (ع)، فأدركوا أن مشق السيف يحتاج إذناً من المعصوم.. وقد ورد في النصوص:
فقام المقداد فقال: يا علي، بما تأمرني؟ والله إن أمرتني لأضربن بسيفي وإن أمرتني كففت.
فقال علي عليه السلام: كف يا مقداد، واذكر عهد رسول الله وما أوصاك به.(كتاب سليم ج2 ص592)
وكذا كان التزام سلمان بأوامر الأمير حتى قال له الثاني: إنك له لمطيع مسلم (المصدر ص596)
وقد قالوا : ولم يكن منا أحد أشد قولا من الزبير (المصدر 594)
لكن هذه الشدة في الزبير أبعدته عن التسليم شيئاً فشيئاً..
اتصف الآخرون بالتسليم المطلق، لكنه ابتعد عنه شيئاً فشيئاً حتى أشعل مع صنوه نار حرب صاحبة الجمل !
وعلى هذه السيرة جرى سواه.. خرج الخوارج على علي لما أغمد سيفه بعدما ألجؤوه لذلك..
وكرّت السبحة..
يروي الشيخ النعماني في كتاب الغيبة عن علي بن الحسين ع أن ابن عباس بعث إليه من يسأله عن هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا):
وكأن ابن عباس يريد أن يعرّض بمخالفة زين العابدين عليه السلام (للرباط) كما أمرت الآية، فإن إمامنا زين العابدين عليه السلام لم يكن ممن نهج منهج (الكفاح المسلح) ولا ممن (رابط)، فتوهم ابن عباس أن الثقلين المتفقين قد اختلفا !
ولأن مثل هذا أمر عسير.. لم يواجه ابن عباس امامنا بذلك بل أرسل سائلاً يشير في سؤاله لهذا المعنى دون تصريح.
تقول الرواية:
فغضب علي بن الحسين ع و قال للسائل: وددت أن الذي أمرك بهذا واجهني به.
ثم قال: نزلت في أبي و فينا و لم يكن الرباط الذي أمرنا به بعد و سيكون ذلك ذرية من نسلنا المرابط .
ثم قال: أما إن في صلبه (يعني ابن عباس) وديعة ذرئت لنار جهنم سيخرجون أقواما من دين الله أفواجا وستصبغ الأرض بدماء فراخ من فراخ آل محمد ع تنهض تلك الفراخ في غير وقت و تطلب غير مدرك و يرابط الذين آمنوا و يصبرون و يصابرون حتى يحكم الله و هو خير الحاكمين. (الغيبة للنعماني ص199)
يظهر من الرواية أمور:
1. أن مثل هذه الدعوى قد أثارت غضب إمامنا عليه السلام في الله عز وجل، فدين الله وعترة رسوله ليسا شرعة لكل وارد، وهم العالمون المعلمون كما قال جدهم المصطفى (و لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)(الكافي ج1 ص287)
2. أن آية الحث على الرباط إنما نزلت فيهم عليهم السلام، لكن لها وقتاً لم يحن (و لم يكن الرباط الذي أمرنا به بعد)
3. أن هذه المرابطة مختصة بالقائم من آل محمد (ع)، فهو (المرابط) من نسلهم.
4. أن من ينهض في غير وقته تصبغ الأرض بدمائه ولا يحقق مراده.
بينما يكون الصبر والمرابطة والثناء والمديح من نصيب غير المتعجلين، حتى يحكم الله تعالى.
نعم هناك معنى آخر لمرابطة الشيعة، وهو انتظارهم لإمامهم عليه السلام، ففي حديث آخر عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر ع في قوله عز و جل (اصبروا و صابروا و رابطوا) فقال اصبروا على أداء الفرائض، و صابروا عدوكم، و رابطوا إمامكم المنتظر.(الغيبة للنعماني ص199)
ثم جعل الله تعالى أجر المنتظرين كأجر المجاهدين مع إمامهم: فعن أبي عبد الله جعفر بن محمد ع أنه قال: من مات منكم على هذا الأمر منتظرا كان كمن هو في الفسطاط الذي للقائم ع (المصدر ص200)
ولئن كان اشتباه الأمور مع حضور الإمام المعصوم إلى هذا الحد، فكيف بنا وإمامنا قد غاب عن أبصارنا ؟ وإن لم تفارقنا رعايته..
ولئن كان الدفاع عن العرض والنفس حقاً مشروعاً بل واجباً لا يتهاون فيه، ألا يكون ما سواه من (المرابطة) (والقتال) استعجالاً وتقدماً على من حقه التقدم !
وللحديث تتمة
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي
بسم الله الرحمن الرحيم
حثت آيات الكتاب الكريم على الجهاد وأسبغت على المجاهدين الثناء، وعد الجهاد في سبيل الله شطراً من الشريعة الغرّاء..
ويكاد المتتبع لآيات الجهاد وكلمات المعصومين (ع) يخال أن الجهاد فرض واجب في كل حال وظرف ودون أي قيد وشرط.
كيف وقد أمر الله تعالى خير خلقه بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ (التوبة73)
وأمر الله المسلمين عامة بالقتال: وَ قاتِلُوا في سَبيلِ اللَّهِ (البقرة 244) وبالجهاد: وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِه (الحج 78)
وكثيراً ما نجعل الآية الشريفة باباً للحث على الجهاد والقتال بعد إعداد العدة له: وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ (الأنفال60)
ويكتمل الجناح الآخر لهذا التصور عند مطالعة روايات الحث على الجهاد والذم للمتقاعسين كقول أمير المؤمنين لهم: يا أشباه الرجال ولا رجال ! (الكافي ج5 ص6)
وتكون الخلاصة أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب الجهاد على المسلمين، وأن التخلف عنه معصية إن لم يكن جبناً ووهناً، فكل من لم يسلك طريق (الكفاح المسلح) كان خائناً لشريعة الله تعالى.
لكن بعض الكمل من أوائل الشيعة أدرك أن هذه الأحكام كلها تدور مدار الإمام المعصوم، فهو لسان الله الناطق في خلقه، وهو حجة الله التامة، وأن فعله هو الميزان في الحلال والحرام فهو المؤتمن على وحي الله تعالى وأمره وسره..
ومن هؤلاء: بعض الصفوة الذين كانوا مع علي عندما كشف بيت الزهراء سيدة النساء (ع)، فأدركوا أن مشق السيف يحتاج إذناً من المعصوم.. وقد ورد في النصوص:
فقام المقداد فقال: يا علي، بما تأمرني؟ والله إن أمرتني لأضربن بسيفي وإن أمرتني كففت.
فقال علي عليه السلام: كف يا مقداد، واذكر عهد رسول الله وما أوصاك به.(كتاب سليم ج2 ص592)
وكذا كان التزام سلمان بأوامر الأمير حتى قال له الثاني: إنك له لمطيع مسلم (المصدر ص596)
وقد قالوا : ولم يكن منا أحد أشد قولا من الزبير (المصدر 594)
لكن هذه الشدة في الزبير أبعدته عن التسليم شيئاً فشيئاً..
اتصف الآخرون بالتسليم المطلق، لكنه ابتعد عنه شيئاً فشيئاً حتى أشعل مع صنوه نار حرب صاحبة الجمل !
وعلى هذه السيرة جرى سواه.. خرج الخوارج على علي لما أغمد سيفه بعدما ألجؤوه لذلك..
وكرّت السبحة..
يروي الشيخ النعماني في كتاب الغيبة عن علي بن الحسين ع أن ابن عباس بعث إليه من يسأله عن هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا):
وكأن ابن عباس يريد أن يعرّض بمخالفة زين العابدين عليه السلام (للرباط) كما أمرت الآية، فإن إمامنا زين العابدين عليه السلام لم يكن ممن نهج منهج (الكفاح المسلح) ولا ممن (رابط)، فتوهم ابن عباس أن الثقلين المتفقين قد اختلفا !
ولأن مثل هذا أمر عسير.. لم يواجه ابن عباس امامنا بذلك بل أرسل سائلاً يشير في سؤاله لهذا المعنى دون تصريح.
تقول الرواية:
فغضب علي بن الحسين ع و قال للسائل: وددت أن الذي أمرك بهذا واجهني به.
ثم قال: نزلت في أبي و فينا و لم يكن الرباط الذي أمرنا به بعد و سيكون ذلك ذرية من نسلنا المرابط .
ثم قال: أما إن في صلبه (يعني ابن عباس) وديعة ذرئت لنار جهنم سيخرجون أقواما من دين الله أفواجا وستصبغ الأرض بدماء فراخ من فراخ آل محمد ع تنهض تلك الفراخ في غير وقت و تطلب غير مدرك و يرابط الذين آمنوا و يصبرون و يصابرون حتى يحكم الله و هو خير الحاكمين. (الغيبة للنعماني ص199)
يظهر من الرواية أمور:
1. أن مثل هذه الدعوى قد أثارت غضب إمامنا عليه السلام في الله عز وجل، فدين الله وعترة رسوله ليسا شرعة لكل وارد، وهم العالمون المعلمون كما قال جدهم المصطفى (و لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)(الكافي ج1 ص287)
2. أن آية الحث على الرباط إنما نزلت فيهم عليهم السلام، لكن لها وقتاً لم يحن (و لم يكن الرباط الذي أمرنا به بعد)
3. أن هذه المرابطة مختصة بالقائم من آل محمد (ع)، فهو (المرابط) من نسلهم.
4. أن من ينهض في غير وقته تصبغ الأرض بدمائه ولا يحقق مراده.
بينما يكون الصبر والمرابطة والثناء والمديح من نصيب غير المتعجلين، حتى يحكم الله تعالى.
نعم هناك معنى آخر لمرابطة الشيعة، وهو انتظارهم لإمامهم عليه السلام، ففي حديث آخر عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر ع في قوله عز و جل (اصبروا و صابروا و رابطوا) فقال اصبروا على أداء الفرائض، و صابروا عدوكم، و رابطوا إمامكم المنتظر.(الغيبة للنعماني ص199)
ثم جعل الله تعالى أجر المنتظرين كأجر المجاهدين مع إمامهم: فعن أبي عبد الله جعفر بن محمد ع أنه قال: من مات منكم على هذا الأمر منتظرا كان كمن هو في الفسطاط الذي للقائم ع (المصدر ص200)
ولئن كان اشتباه الأمور مع حضور الإمام المعصوم إلى هذا الحد، فكيف بنا وإمامنا قد غاب عن أبصارنا ؟ وإن لم تفارقنا رعايته..
ولئن كان الدفاع عن العرض والنفس حقاً مشروعاً بل واجباً لا يتهاون فيه، ألا يكون ما سواه من (المرابطة) (والقتال) استعجالاً وتقدماً على من حقه التقدم !
وللحديث تتمة
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي