قال ابن خلدون في مقدمة تاريخه : "فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع.
وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخط عند أهلها. ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركاً بما رسمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركاً، ويتبع رسمه خطأ أو صواباً. وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه، فاتبع ذلك وأثبت رسماً، ونبه العلماء بالرسم على مواضعه.
ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم أصول الرسم ليس كما يتخيل، بل لكلها وجه. ويقولون في مثل زيادة الألف في لا أذبحنه: إنه تنبيه على أن الذبح لم يقع، وفي زيادة الياء في بأييد إنه تنبية على كمال القدرة الربانية، وأمثال ذلك مما لا أصل له إلا التحكم المحض. وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيهاً للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط. وحسبوا أن الخط كمال، فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه، وذلك ليس بصحيح. واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم، إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية كما رأيته فيما مر. والكمال في الصنائع إضافي، وليس بكمال مطلق، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود على أسباب المعاش، وبحسب العمران والتعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمياً، وكان ذلك كمالاً في حقه، وبالنسبة إلى مقامه، لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية، التي هي أسباب المعاش والعمران كلها. وليست الأمية كمالاً في حقنا نحن، إذ هو منقطع إلى ربه، ونحن متعاونون على الحياة الدنيا، شأن الصنائع كلها، حتى العلوم الاصطلاحية. فإن الكمال في حقه هو تنزهه عنها جملة بخلافنا.
ثم لما جاء الملك للعرب، وفتحوا الأمصار، وملكوا الممالك ونزلوا البصرة والكوفة، واحتاجت الدولة إلى الكتابة، استعملوا الخط وطلبوا صناعته وتعلموه وتداولوه، فترقت الإجادة فيه، واستحكم، وبلغ في الكوفة والبصرة رتبة من الإتقان، إلا أنها كانت دون الغاية. والخط الكوفي معروف الرسم لهذا العهد…."
.
وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخط عند أهلها. ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركاً بما رسمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركاً، ويتبع رسمه خطأ أو صواباً. وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه، فاتبع ذلك وأثبت رسماً، ونبه العلماء بالرسم على مواضعه.
ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم أصول الرسم ليس كما يتخيل، بل لكلها وجه. ويقولون في مثل زيادة الألف في لا أذبحنه: إنه تنبيه على أن الذبح لم يقع، وفي زيادة الياء في بأييد إنه تنبية على كمال القدرة الربانية، وأمثال ذلك مما لا أصل له إلا التحكم المحض. وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيهاً للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط. وحسبوا أن الخط كمال، فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه، وذلك ليس بصحيح. واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم، إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية كما رأيته فيما مر. والكمال في الصنائع إضافي، وليس بكمال مطلق، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود على أسباب المعاش، وبحسب العمران والتعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمياً، وكان ذلك كمالاً في حقه، وبالنسبة إلى مقامه، لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية، التي هي أسباب المعاش والعمران كلها. وليست الأمية كمالاً في حقنا نحن، إذ هو منقطع إلى ربه، ونحن متعاونون على الحياة الدنيا، شأن الصنائع كلها، حتى العلوم الاصطلاحية. فإن الكمال في حقه هو تنزهه عنها جملة بخلافنا.
ثم لما جاء الملك للعرب، وفتحوا الأمصار، وملكوا الممالك ونزلوا البصرة والكوفة، واحتاجت الدولة إلى الكتابة، استعملوا الخط وطلبوا صناعته وتعلموه وتداولوه، فترقت الإجادة فيه، واستحكم، وبلغ في الكوفة والبصرة رتبة من الإتقان، إلا أنها كانت دون الغاية. والخط الكوفي معروف الرسم لهذا العهد…."
.
تعليق