إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

لماذا الإجحاف بحق بعض الإئمة سلام الله عليهم ؟؟؟؟

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    الحسين مع ابن عمر وابن عباس :

    وكان عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر مقيمين في مكة حينما أقبل الامامم الحسين إليها، وقد خفا لاستقباله والتشرف بخدمته، وكانا قد عزما على مغادرة مكة، فقال له ابن عمر ! " أبا عبد الله، رحمك الله، اتق الله الذي إليه معادك، فقد عرفت من عداوة أهل البيت - يعني بني أمية - لكم، وقد ولي الناس هذا الرجل يزيد بن معاوية، ولست آمن أن يميل الناس إليه لمكان هذه الصفراء موطن، يريدون في ذلك قتله، وسفك دمه، وهو لم يشرك بالله ولا اتخذ من دونه وليا، ولم يتغير عما كان عليه رسول الله (ص).

    " وانبرى ابن عباس يؤيد كلامه، ويدعم قوله قائلا :

    " ما أقول :

    فيهم الا انهم كفروا بالله ورسوله، ولا ياتون الصلاة الا وهم كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله الا قليلا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا الى هؤلاء، ومن يظل الله فلن تجد له سبيلا، وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى، وأما أنت يا بن رسول الله فانك راس الفخار برسول الله، فلا تظن يابن بنت رسول الله أن الله غافل عما يفعل الظالمون وأنا اشهد أن من رغب عن مجاورتك، وطمع في محاربتك، ومحاربة نبيك محمد فماله من خلاق..." .

    وانبرى الامام الحسين فصدق قوله قاثلا :

    " اللهم نعم " .

    وانطلق ابن عباس يظهر له الاستعداد للقيام بنصرته قاثلا :

    " جعلت فداك يابن بنت رسول الله، كانك تريدني إلى نفسك ، وتريد مني أن أنصرك، والله الذي لا إله إلا هو ان لو ضربت بين يديك بسيفي هذا بيدي حتى انخلعا جميعا سن كفي لما كنت ممن وفى من حقك عشر العشر، وها انا بين يديك مرني بامرك " .

    وقطع ابن عمر كلامه، وأقبل على الحسين فقال له :

    " مهلا عما قد عزمت عليه، وارجع من هنا الى المدينة، وادخل في صلح القوم، ولا تغب عن وطنك، وحرم جدك رسول الله (ص) ولا تجعل لهؤلاء الذين لا خلاق لهم على نفسك حجة، وسبيلا، وإن أحببت أن لا تبايع فانت متروك حتى ترى رايك، فان يزيد بن معاوية عسى أن لا يعيش إلى قليلا فيكفيك الله أمره " .

    وزجره الامام، ورد عليه قوله قائلا :

    والبيضاء، فيقتلونك، ويهلك فيك بشر كثير، فاني قد سمعت رسول الله (ص) يقول :

    " حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه، ولن ينصروه ليخذلهم الله إلى يوم القيامة، وأنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس واصبر كما صبرت لمعاوية من قبل، فلعل الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين.

    " .

    فقال له ابي الضيم " " أنا أبايع يزيد، وأدخل في صلحه ؟

    ! ! وقد قال النبي (ص) فيه وفي أبيه ما قال " :

    وانبرى ابن عباس فقال له :

    " صدقت أبا عبد الله قال النبي (ص) في حياته :

    " ما لي وليزيد لا بارك الله في يزيد، وانه يقتل ولدي، وولد ابنتي الحسين، والذي نفسي بيده، لا يقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه الا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم " .

    وبكى ابن عباس والحسين، والتفت إليه قائلا :

    " يا بن عباس أتعلم أني ابن بنت رسول الله (ص) ؟

    " .

    " اللهم نعم..نعلم ما في الدنيا أحد هو ابن بنت رسول الله غيرك وان نصرك لفرض على هذه الامة كفريضة الصلاة والزكاة التي لا يقبل أحدهما دون الاخرى.." .

    فقال له الحسين :

    " يا بن عباس، ما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول الله (ص) من داره، وقراره، ومولده وحرم رسوله، ومجاورة قبره ومسجده وموضع مهاجره، فتركوه خائفا مرعوبا لا يستقر في قرار، ولا ياوي في " اف لهذا الكلام أبدا ما دامت السماوات والارض، اسالك يا عبد الله أنا عندك على خطا من أمري ؟

    فان كنت على خطا ردني فانا أخضع، وأسمع وأطيع " :

    فقال ابن عمر :

    " اللهم لا، ولم يكن الله تعالى يجعل ابن بنت رسول الله على خطا وليس مثلك من طهارته وصفوته من رسول الله (ص) على مثل يزيد ابن معاوية، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف وترى من هذه الامة ما لا تحب، فارجع معنا إلى المدينة، وان لم تحب أن تبايع، فلا تبايع أبدا، واقعد في منزلك " .

    " والتفت إليه الامام فاخبره عن خبث الامويين، وسوء نواياهم نحوه قائلا :

    " هيهات يا بن عمر ان القوم لا يتركوني، وإن أصابوني، وان لم يصيبوني، فلا يزالون حى أبايع وأنا كاره، أو يقتلوني، أما تعلم يا عبد الله ان من هوان الدنيا على الله تعالى أنه أتي براس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني اسرائيل، والراس ينطق بالحجة عليهم ؟! !

    أما تعلم يا أبا عبد الرحمن ان بني اسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيا ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كلهم كانهم لم يصنعوا شيئا، فلم يعجل الله عليهم ثم أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر..".

    وكشفت هذه المحاورة عن تصميمه على الثورة، وعزمه على مناجزة يزيد لانه لا يتركه وشانه، فاما أن يبايع، وبذلك يذل هو ويذل الاسلام وتستباح حرماته، وأما أن يقتل عزيزا كريما، فاختار المنية للحفاظ على كرامته وكرامة الامة ومقدساتها .

    وصيته لابن عباس :

    وأقبل الحسين على ابن عباس، فعهد إليه بهذه الوصية قائلا :

    " وأنت يابن عباس ابن عم أبي، لم تزل تامر بالخير منذ عرفتك ، وكنت مع أبي تشير عليه بما فيه الرشاد والسداد، وقد كان أبي يستصحبك ويستنصحك ويستشيرك، وتشير عليه بالصواب، فامض إلى المدينة في حفظ الله، ولا تخف علي شيئا من أخبارك، فاني مستوطن هذا الحرم ، ومقيم به ما رايت أهله يحيبونني، وينصرونني، فاذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم، واستعصمت بالكلمة التي قالها ابراهيم يوم ألقي في النار (حسبي الله ونعم الوكيل، فكانت النار عليه بردا وسلاما..).

    رسائله الى زعماء البصرة :

    وكتب الامام الى رؤساء الاخماس بالبصرة يستنهضهم على نصرته والاخذ بحقه وقد كتب إلى الاشراف ومن بينهم :

    1 - مالك بن مسمع البكري

    2 - الاحنف بن قيس

    3 - المنذر بن الجارود

    4 - مسعود بن عمرو

    5 - قيس بن الهيثم

    6 - عمر بن عبيد الله بن معمر وقد أرسل كتابا إليهم بنسخة واحدة وهذا نصه :

    " أما بعد :

    فان الله اصطفى محمدا (ص) من خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده، وبلغ ما أرسل به، وكنا أهله وأولياءه وأوصياؤه وورثته، وأحق الناس بمقامه فاستاثر علينا قومنا بذلك، فرضينا، وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية ، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه :

    وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فان السنة قد أميتت، والبدعة قد أحببت فان تسمعوا قولي :

    اهدكم إلى سبيل الرشاد.." .

    والقت هذه الرسالة الاضواء على الخلافة الاسلامية فهي - حسب تصريح الامام - حق لاهل البيت (ع) لانهم الصق الناس برسول الله (ص) وأكثرهم وعيا لاهدافه إلا أن القوم استاثروا بها، فلم يسع العترة الطاهرة إلا الصبر كراهة للفتنة وحفظا على وحدة المسلمين...كما حفلت هذه الرسالة بالدعوة إلى الحق بجميع رحابه ومفاهيمه، فدعت إلى احياء كتاب الله وسنة نبيه فان الحكم الاموي عمد إلى اقصائهما عن واقع الحياة...

    وعلق بعض الكتاب على دعوة الامام لاهل البصرة لبيعته فقال :

    " ان رسالة الحسين إلى أهل البصرة ترينا كيف كان يعرف مسؤليته ويمضي معها، فاهل البصرة لم يكتبوا إليه :

    ولم يدعوه الى بلدهم، كما فعل أهل الكوفة، ومع هذا فهو يكتب إليهم، ويعدهم للمجابهة المحتومة ذلك أنه حين قرر أن ينهض بتبعات دينه وأمته، كان قراره هذا آتيا من أعماق روحه وضميره، وليس من حركة أهل الكوفة ودعوتهم إياه " .

    وعلى أي حال فقد بعث الامام كتبه لاهل البصرة بيد مولى له يقال له سليمان، ويكني أبا رزين، وقد جد في السير حتى انتهى الى البصرة فسلم الكتب الى أربابها .

    جواب الاحنف بن قيس :

    وأجاب الاحنف بن قيس زعيم العراق الامام برسالة كتب فيها هذه الاية الكريمة ولم يزد عليها " فاصبر ان وعد الله حق، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون " وقد طلب من الامام الخلود الى الصبر، ولا يستخفه الذين لا يوقنون بالله ولا يرجون له وقارا .

    استجابة يزيد بن مسعود :

    واستجاب الزعيم الكبير يزيد بن مسعود النهشلي إلى تلبية نداء الحق فاندفع بوحي من ايمانه وعقيدته إلى نصرة الامام، فعقد مؤتمرا عاما دعا فيه القبائل العربية الموالية له وهي :

    1 - بنو تميم

    2 - بنو حنظلة

    3 - بنو سعد ولما اجتمعت هذه القبائل، انبري فيهم خطيبا، فوجه خطابه أولا إلى بني تميم فقال لهم:

    " يا بني تميم : كيف ترون موضعي فيكم، وحسبي منكم ؟

    ! " وتعالت أصوات بني تميم، وهي تعلن ولاءها المطلق، واكبارها له قائلين بلسان واحد :

    " بخ بخ ! ! أنت والله فقرة الظهر، وراس الفخر حللت في الشرف وسطا، وتقدمت فيه فرطا.." وسره تاييدهم فانطلق يقول :

    إني جمعتكم لامر أريد أن أشاوركم، وأستعين بكم عليه.." واندفعوا جميعا يظهرون له الولاء والطاعة قائلين :

    " إنا والله نمنحك النصيحة، ونجهد لك الراى فقل حتى نسمع " وتطاولت الاعناق، واشرابت النفوس لتسمع ما يقول :

    الزعيم الكبير، وانبرى قائلا :

    " إن معاوية مات، فاهون به - والله - هالكا ومفقودا، الا انه قد انكسر باب الجور والاثم، وتضعضعت أركان الظلم، وكان قد احدث بيعة عقد بها أمرا ظن أنه قد أحكمه، وهيهات الذي أراد ! ! اجتهد والله ففشل، وشاور فخذل، وقد قام يزيد شارب الخمور وراس الفجور يدعي الخلافة على المسلمين، ويتامر عليهم بغير رضا منهم مع قصر حلم وقلة علم، لا يعرف من الحق موطا قدميه، فاقسم بالله قسما مبرورا لجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين .

    وهذا الحسين بن علي، وابن رسول الله (ص) ذو الشرف الاصيل والراي الاثيل له فضل لا يوصف، وعلم لا ينزف، وهو أولى بهذا الامر لسابقته وسنه، وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير، ويحسن إلى الكبير، فاكرم به راعي رعية، وامام قوم وجبت لله به الحجة وبلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحق، ولا تسكعوا في وهد الباطل، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله (ص) ونصرته، والله لا يقصر أحدكم عن نصرته إلا أورثه الله الذل في ولده، والقلة في عشيرته .

    وها أنا ذا قد لبست للحرب لامتها، وادرعت لها بدرعها، من لم يقتل يمت، ومن يهرب لم يفت، فاحسنوا رحمكم الله رد الجواب " وحفل هذا الخطاب الرائع بامور بالغة الاهمية وهي :

    أولا - : الاستهانة بهلاك معاوية، وانه قد انكسر بموته باب الظلم والجور .

    ثانيا - : القدح في بيعة معاوية ليزيد .

    ثالثا - : عرض الصفات الشريرة الماثلة في يزيد من الادمان على الخمر، وفقد الحلم، وعدم العلم، وعدم التبصر بالحق .

    رابعا - : الدعوة إلى الالتفات حول الامام الحسين (ع) وذلك لما يتمتع به من الصفات الشريفة كاصالة الفكر، وغزارة العلم، وكبر السن، والعطف على الكبير والصغير وغير ذلك من النزعات الكريمة التي تجعله أهلا لامامة المسلمين .

    خامسا - : انه عرض للجماهير عن استعداده الكامل للقيام بنصرة الامام والذب عنه .

    تعليق


    • #32
      ولما أنهى الزعيم العظيم خطابه انبرى وجهاء بني حنظلة فاظهروا الدعم الكامل له قائلين :

      " يا أبا خالد :

      نحن نبل كنانتك، وفرسان عشيرتك.

      إن رميت بنا اصبت، وان غزوت بنا فتحت.

      لا تخوض والله غمرة الا خضناها ولا تلقى والله شدة إلا لقيناها ننصرك باسيافنا ونقيك بابداننا اذا شئت " وكان منطقا مشرفا دل على تعاطفهم، ووقوفهم إلى جانبه، رقام من بعدهم بنو عامر فاعربوا عن ولائهم العميق له قائلين :

      " يا أبا خالد نحن بنو أبيك، وحلفاؤك لا نرضى إن غضبت ، ولا نبقى ان ظعنت والامر اليك فادعنا اذا شئت.." .

      وأما بنو سعيد فاظهروا التردد وعدم الرغبة فيما دعاهم اليه، قائلين :

      " يا أبا خالد :

      ان ابغض الاشياء الينا خلافك، والخروج عن رايك، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال يوم الجمل، فحمدنا أمرنا، وبفي عزنا فينا، فامهلنا نراجع المشورة، وناتيك براينا..".

      وساءه تخاذلهم فاندفع يندد بهم قائلا :

      " لئن فعلتموها لارفع الله السيف عنكم أبدا، ولا زال سيفكم فيكم.." .

      جوابه للامام :

      ورفع يزيد بن مسعود رسالة للامام دلت على شرفه ولبله، واستجابته لدعوته، وهذا نصها :

      " أما بعد :

      فقد وصل إلي كتابك، وفهمت ما ندبتني إليه، ودعوتني له من الاخذ بحظي من طاعتك، والفوز بنصيبي من نصرتك..وان الله لم يخل الارض قط من عامل بخير، ودليل على سبيل نجاة، وانتم حجة الله على خلقه، ووديعته في أرضه تفرعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها وانتم فرعها، فاقدم سعدت باسعد طائر فقد ذلك لك اعناق بني تميم ، وتركتهم أشد تتابعا في طاعتك من الابل الظماء لورود الماء يوم خمسها وقد ذلك لك رقاب بني سعد، وغسلت درن قلوبها بماء سحابة مزن حين استهل برقها فلمع.." .

      وحفلت هذه الرسالة بسمو أدبه، وكريم طباعه، وتقديره البالغ للامام، ويقول بعض المؤرخين انها انتهت الى الامام في اليوم العاشر من المحرم بعد مقتل أصحابه وأهل بيته، وهو وحيد فريد قد أحاطت به القوى الغادرة، فلما قرا الرسالة طفق يقول :

      " ما لك، آمنك الله من الخوف، وارواك يوم العطش الاكبر " ولما تجهز ابن مسعود لنصرة الامام بلغه قتله فجزع لذلك وذابت نفسه أسى وحسرات .

      استجابة يزيد البصري :

      ولبى نداء الحق يزيد بن نبيط البصري، وكان - فيما يقول المؤرخون - يتردد إلى دار مارية ابنة سعد أو منقذ، وكانت دارها من منتديات الشيعة، وفيها تذاع فضائل أهل البيت (ع) وتنشر ماثرهم، ولما وجه الامام دعوته الى أهل البصرة لنصرته استجاب لها يزيد بن نبيط، ولحق به من أولاده العشرة عبد الله وعبيد الله، وخاف عليه أصحابه أن يدركه الطلب من شرطة ابن زياد، فقال لهم :

      لو استوت اخفافها بالجدد لهان علي طلب من طلبني واستوى على جواده مع ولديه، وصحبه مولاه عامر، وسيف بن مالك والادهم بن أمية فلحقوا بالامام في مكة وصحبوه الى العراق واستشهدوا بين يديه في كربلا .

      اعلان التمرد في العراق :

      وبعد هلاك معاوية أيقن العراقيون بانهيار الدولة الاموية، وقد رؤوا أن في تقليد يزيد مهام الخلافة انما هو استمرار للحكم الاموي الذي جهد على اذلالهم وقهرهم .

      وقد أجمعت الشيعة في الكوفة على مناجزته والخروج على سلطانه ورؤوا أن في كفاحهم له جهادا دينيا، حسب ما يقول جولد تسهير " ويرى (كريمر) ان الاخيار والصلحاء من الشيعة كانوا ينظرون إلى يزيد نظرتهم إلى ورثة أعداء الاسلام وخلفاء أبي سفيان :

      وعلى أي حال فان شيعة الكوفة لم ترض بحكم يزيد، وأجمعت على خلعه، والبيعة للامام الحسين (ع) وقد قاموا بما يلي :

      المؤتمر العام :

      وعقدت الشيعة بعد هلاك معاوية مؤتمرا عاما في بيت أكبر زعمائهما سليمان بن صرد الخزاعي، واندفعوا اندفاعا كليا في القاء الخطب الحماسية التي تظهر مساوئ الحكم الاموي وفضائحه، كما أشادوا بالامام الحسين ودعوا إلى البيعة له .

      خطبة سليمان :

      واعتلى سليمان بن صرد منصة الخطابة، فافتتح اولى جلساتهم بهذا الخطاب، وقد جاء فيه :

      " ان معاوية قد هلك، وان حسينا قد قبض على القوم ببيعته ، وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته، وشيعة أبيه فان كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه، وان خفتم الوهن والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه.." .

      وتعالت أصواتهم من كل جانب وهم يقولون بحماس بالغ :

      " نقتل أنفسنا دونه.." .

      " لا بل نقاتل عدوه.." .

      وأظهروا رغبتهم الملحة ودعمهم الكامل للامام، وقرروا ما يلي :

      1 - خلع بيعة يزيد

      2 - ارسال وفد للامام يدعونه للقدوم إليهم

      3 - بعث الرسائل للامام من مختلف الطبقات الشعبية التي تمثل رغبة الجماهير الحاشدة لحكم الامام .

      وفد الكوفة :

      وأوفدت وفدا إلى الامام يدعوه إلى القدوم اليهم، ومن بين ذلك الوفد عبد الله الجدلي ولما مثل الوفد عند الامام عرض عليه اجماع أهل الكوفة على نصرته والاخذ بحقه، وانه ليس لهم امام غيره ، وحثوه على القدوم إليهم .

      الرسائل :

      وعمد أهل الكوفة بعد مؤتمرهم فكتبوا الرسائل إلى الامام (ع) وهي تعرب عن اخلاصهم وولائهم له، وتحثه على القدوم إليهم ليتولى قيادة الامة وهذه بعضها .

      1 - قد جاء فيما بعد البسملة ما نصه :

      " من سليمان بن صرد، والمسيب بن نجية، ورفاعة بن شداد ، وحبيب بن مظاهر، وشيعته والمسلمين من أهل الكوفة .

      أما بعد :

      فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد - يعني معاوية - الذي انتزى على هذه الامة فابتزها أمرها، واغتصبها فيئها، وتامر عليها بغير رضى منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها فبعدا له كما بعدت ثمود...إنه ليس علينا امام فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته..".

      وكتبت هذه الرسالة في أواخر شهر شعبان، وحملها عبد الله الهمداني وعبد الله بن وائل الهمداني وقد أمروهما بالاسراع والحذر من العدو ، وأخذا يجذان في السير لا يلويان على شئ وقدما مكة لعشر مضين من رمضان وسلما الرسالة للامام وعرفاه بشوق الناس الى قدومه .

      وقد عرضت هذه الرسالة مساوئ الحكم الاموي، فوصفت معاوية بالجبار العنيد، وانه ابتز أمر الامة بالقهر والغلبة، وتامر عليها بغير رضى منها، وقد قتل خيارها وصلحاءها وجعل العطاء خاصة للاغنياء والوجوه ، وحرم منه بقية طوائف الشعب، كما عرضت الى مقاطعة الشيعة لحاكم الكوفة النعمان بن بشير، وانهم اذا بلغهم قدوم الامام قاموا باقصائه عن الكوفة والحاقه بدمشق .

      2 - وقد أرسل الرسالة الثانية جماعة من أهل الكوفة وهذا نصها :

      " إلى الحسين بن علي من شيعته والمسلمين، أما بعد :

      فحي هلا فان الناس ينتظرونك ولا راي لهم غيرك فالعجل ثم العجل والسلام " وحمل هذه الرسالة قيس بن مسهر الصيداوي من بني أسد، وعبد الرحمن ابن عبد الله الارحبي وعمارة بن عبد الله السلولي، كما حملوا معهم نحوا من خمسين صحيفة من الرجل والاثنين والثلاثة والاربعة وهي تحت الامام على الاسراع إليهم والترحيب بقدومه، وتعلن دعمهم الكامل له .

      3 - وأرسل هذه الرسالة جماعة من الانتهازيين الذين لا يؤمنون بالله، وهم شبث بن ربعي اليربوعي ومحمد بن عمر التميمي، وحجار بن ابجر العجلي، ويزيد بن الحارث الشيباني، وعزرة بن قيس الاحمسي ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، وهذا نصها :

      " أما بعد :

      فقد اخضر الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام فاقدم على جند لك جندة والسلام عليك،.." .

      وأعربت هذه الرسالة عن شيوع الامل وازدهار الحياة، وتهياة البلاد عسكريا للاخذ بحق الامام، ومناجزة خصومه، وقد وقعها أولئك الاشخاص الذين كانوا في طليعة القوى التي زجها ابن مرجانة لحرب الامام ومن المؤكد أنهم لم يكونوا مؤمنين بحقه، وانما اندفعوا لمساومة السلطة الاموية، والحصول منها على الاموال ومتع الحياة، كما صرح الامام الحسين بذلك أمام أصحابه .

      4 - ومن بين تلك الرسائل " انا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الصلاة مع الولاة، فاقدم علينا فنحن في مائة الف سيف، فقد فشا فينا الجور، وعمل فينا بغير كتاب الله وسنة نبيه، ونرجوا أن يجمعنا الله بك على الحق، وينفي عنابك الظلم، فانت أحق بهذا الامر من يزيد وأبيه الذي غضب الامة، وشرب الخمور، ولعب بالقرود والطنابير ، وتلا عب بالدين " .

      5 - وكتب جمهور أهل الكوفة الرسالة الاتية ووقعوها وهذا نصها :

      " للحسين بن علي أمير المؤمنين من شيعة أبيه (ع) أما بعد :

      فان الناس ينتظرونك لا راي لهم في غيرك العجل العجل يابن رسول الله (ص) لعل الله أن يجمعنا بك على الحق ويؤيد بك المسلمين والاسلام...بعد أجزل السلام وأتمه عليك ورحمة الله وبركاته ".

      6 - وكتب إليه جماعة هذه الرسالة الموجزة :

      " انا معك، ومعنا مائة الف سيف " .

      7 - وكانت آخر الرسائل التي وصلت إليه هذه الرسالة :

      " عجل القدوم يابن رسول الله فان لك بالكوفة مائة الف سيف فلا تتاخر " .

      وقد تتابعت عليه الرسائل ما ملا منها خرجين، ويقول المؤرخون :

      إنه اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر الف كتاب ووردت إليه قائمة فيها مائة وأربعون الف اسم يعربون عن نصرتهم له حال ما يصلى إلى الكوفة كما وردت عليه في يوم واحد ستمائة كتاب .

      وعلى أي حال فقد كثرت كتب أهل الكوفة إلى الامام وقد وقع فيها الاشربف وقراء المصر وهي تمثل تعطشهم لقدوم الامام ليكون منقذا لهم من طغمة الحكم الاموي ولكن بمزيد الاسف فقد انطوت صحيفة ذلك الامل، وانقلب الوضع وتغيرت الحالة، واذا بالكوفة تنتظر الحسين لتسقي سيوفها من دمه، وتطعم نبالها من لحمه..تريد أن تحتضن جسد الحسين لتوزعه السيوف، تطعنه الرماح، وتسحقه الخيول بحوافراها :

      الكوفة تنتظر الحسين لتثب عليه وثبة الاسد، وتنشب أظفارها بذلك الجسد الطاهر، الكوفة تنتظر الحسين لتسبي عياله بدل أن تحميهم، وتروع أطفاله بدل أن تؤويهم .

      وهكذا شاءت المقادير، ولا راد لامر الله على نكث القوم لبيعة الامام واجماعهم على حربه ويقول المؤرخون ان الامام بعد ما وافته هذه الرسائل عزم على أن يلبي أهل الكوفة ويوفد إليهم ممثله العظيم مسلم بن عقيل.

      تعليق


      • #33
        لن نتحدث عن مسلم بن عقيل و ما جرى عليه في الكوفة
        و يكفي أن تعرفوا أن الشيعة الموالين من أهل الكوفة قتلوا و زجزا بالسجن على يد الطاغية ابن مرجانه



        الإمام الحسين و خروجه من مكة إلى كربلاء

        ثم سار عليه السلام حتى بلغ ذات عرق، فلقى بشر بن غالب وارداً من العراق، فسأله عن أهلها.

        فقال: خلفت القلوب معك والسيوف مع بني أمية.

        فقال عليه السلام: «صدق أخو بني أسد، إن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد».

        ثم سار عليه السلام حتى أتى الثعلبية وقت الظهيرة، فوضع رأسه، فرقد ثم استيقظ، فقال: «قد رأيت هاتفاً يقول: أنتم تسيرون والمنايا تسير بكم إلى الجنة».

        فقال له ابنه علي: يا أبه أفلسنا على الحق؟

        فقال: «بلى يا بني والذي اليه مرجع العباد».

        فقال له: يا أبة إذن لا نبالي بالموت.

        فقال له الحسين عليه السلام: «فجزاك الله يابني خير ما جزا ولداً عن والده ».

        ثم بات عليه السلام في الموضع، فلما أصبح، فإذا هو برجلٍ من أهل الكوفة يكنى أبا هرة الأزدي ، فلما أتاه سلم عليه.

        ثم قال: يابن رسول الله ما الذي أخرجك من حرم الله وحرم جدك رسول الله صلى الله عليه وآله؟

        فقال الحسين عليه السلام: «ويحك يا أبا هرة، إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية وليلبسنهم الله ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً، وليسلطن الله عليهم من يذلهم، حتى يكونوا أذل من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم فحكمت في أموالهم ودمائهم حتى أذلتهم».

        ثم سار عليه السلام، وحدث جماعة من بني فزارة وبجيلة قالوا: كنا مع زهير بن القين لما أقبلنا من مكة، فكنا نساير الحسين عليه السلام، وما شيء أكره إلينا من مسايرته، لأن معه نسوانه، فكان إذا أراد النزول اعتزلناه، فنزلنا ناحية.

        فلما كان في بعض الأيام نزل في مكان، فلم نجد بداً من أن ننازله فيه، فبينما نحن نتغدى بطعام لنا إذا أقبل رسول الحسين عليه السلام حتى سلم علينا.

        ثم قال: يا زهير بن القين إن أبا عبدالله عليه السلام بعثني إليك لتأتيه، فطرح كل إنسان منا ما في يده حتى كأنما على رؤوسنا الطير.

        فقالت له زوجته ـ وهي ديلم بنت عمرو ـ: سبحان الله، أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه، فلو أتيته فسمعت من كلامه.

        فمضى إليه زهير، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهه، فأمر بفسطاطه فقوض وبثقله ومتاعه فحول إلى الحسين عليه السلام.

        وقال لامرأته: أنت طالق، فإني لا أحب أن يصيبك بسببي إلا خير، وقد عزمت على صحبة الحسين عليه السلام لأفديه بروحي وأقيه بنفسي ، ثم أعطاها مالها وسلمها إلى بعض بني عمها ليوصلها إلى أهلها.

        فقامت إليه وودعته وبكت، وقالت: إستخار الله لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جد الحسين عليه السلام.

        ثم قال لأصحابه: من أحب منكم أن يصحبني، وإلا فهو آخر العهد مني به.

        ثم سار الحسين عليه السلام حتى بلغ زبالة ، فأتاه فيها خبر مسلم بن عقيل، فعرف بذلك جماعة ممن تبعه، فتفرق عنه أهل الأطماع والإرتياب، وبقي معه أهله وخيار الأصحاب.

        وارتج الموضع بالبكاء والعويل لقتل مسلم بن عقيل، وسالت الدموع عليه كل مسيل.

        ثم أن الحسين عليه السلام سار قاصداً لما دعاه الله إليه، فلقيه الفرزدق، فسلم عليه وقال: يابن رسول الله كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل وشيعته؟

        فاستعبر الحسين عليه السلام باكياً، ثم قال: «رحم الله مسلماً، فلقد صار إلى روح الله وريحانه وتحيته ورضوانه، أما أنه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا»، ثم أنشأ يقول:


        «فــإن تكــن الدنيا تعد نفيسة * فــإن ثواب الله أعـلا وأنبـــل
        وإن تكن الأبدان للمــوت أنشئت * فقتل امرءٍ بالسيف فــي الله أفضـل
        وإن تكن الأرزاق قسماً مقــدراً * فقلة حرص المرء في السعي أجمل
        وإن تكن الأموال للترك جمعها * فما بال متروك به المرء يبخل»

        وكتب الحسين عليه السلام كتاباً إلى سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وجماعة من الشيعة بالكوفة، وبعث به مع قيس بن مسهر الصيداوي .

        فلما قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير صاحب عبيدالله بن زياد ليفتشه، فأخرج الكتاب ومزقه، فحمله الحصين إلى ابن زياد.

        فلما مثل بين يديه قال له: من أنت؟

        قال: أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه عليهما السلام.

        قال: فلماذا مزقت الكتاب؟

        قال: لئلا تعلم ما فيه.

        قال: ممن الكتاب وإلى من؟

        قال من الحسين بن علي عليهما السلام إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم.

        فغضب ابن زياد وقال: والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم، أو تصعد المنبر فتلعن الحسين وأباه وأخاه، وإلا قطعتك إرباً إرباً.

        فقال قيس: أما القوم فلا أخبرك بأسمائهم، وأما لعن الحسين وأبيه وأخيه فأفعل.

        فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله، وأكثر من الترحم على علي وولده صلوات الله عليهم، ثم لعن عبيدالله بن زياد وأباه، ولعن عتاة بني أمية عن آخرهم.

        ثم قال: أيها الناس، أنا رسول الحسين بن علي عليهما السلام إليكم، وقد خلفته بموضع كذا وكذا، فأجيبوه.

        فأخبر ابن زياد بذلك ، فأمر بإلقائه من أعلا القصر، فألقي من هناك، فمات رحمة الله.

        فبلغ الحسين عليه السلام موته، فاستعبر باكياً ثم قال: «اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً واجمع بيننا وبينهم في مستقر رحمتك إنك على كل شيءٍ قدير».

        وروي أن هذا الكتاب كتبه الحسين عليه السلام من الحاجز ، وقيل: غير ذلك.

        وسار الحسين عليه السلام حتى صار على مرحلتين من الكوفة، فاذا بالحر بن يزيد في ألف فارس.

        فقال له الحسين عليه السلام: «ألنا أم علينا؟»

        فقال: بل عليك يا أبا عبدالله.

        فقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».

        ثم تراد القول بينهما، حتى قال له الحسين عليه السلام: «فإذا كنتم على خلاف ما أتتني به كتبكم وقدمت به علي رسلكم، فإني أرجع إلى الموضع الذي أتيت منه».

        فمنعه الحر وأصحابه من ذلك، وقال: لا، بل خذ يا بن رسول الله طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يوصلك إلى المدينة لأعتذر إلى ابن زياد بأنك خالفتني الطريق.

        فتياسر الحسين عليه السلام، حتى وصل إلى عذيب الهجانات .

        قال: فورد كتاب عبيدالله بن زياد إلى الحر يلومه في أمر الحسين عليه السلام، ويأمره بالتضييق عليه.

        فعرض له الحر وأصحابه ومنعوه من المسير.

        فقال له الحسين عليه السلام: «ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق؟»

        فقال الحر: بلى، ولكن كتاب الأمير عبيدالله بن زياد قد وصل يأمرني فيه بالتضييق عليك، وقد جعل علي عيناً يطالبني بذلك.

        فقام الحسين عليه السلام خطيباً في أصحابه، فحمدالله وأثنى عليه وذكر جده فصلى عليه، ثم قال: «إنه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تنكرت وتغيرت وأدبر معروفها واستمرت جذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الضالمين إلا برما».

        فقام زهير بن القين، فقال: لقد سمعنا هدانا الله بك يابن رسول الله مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثر النهوض معك على الاقامة فيها.

        ووثب هلال بن نافع البجلي ، فقال: والله ما كرهنا لقاء ربنا، وإنا على نياتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك.

        وقام برير بن حصين ، فقال: والله يابن رسول الله لقد من الله بك علينا أن نقاتل بين يديك فتقطع فيك أعضاؤنا، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة.

        ثم أن الحسين عليه السلام قام وركب، وصار كلما أراد المسير يمنعونه تارةً ويسايرونه أخرى، حتى بلغ كربلاء، وكان ذلك في اليوم الثاني من المحرم.

        فلما وصلها قال: «ما اسم هذه الأرض؟»

        فقيل: كربلا.

        فقال: «انزلوا، هاهنا والله محط ركابنا وسفك دمائنا، هاهنا والله مخط قبورنا، وهاهنا والله سبي حريمنا، بهذا حدثني جدي».

        فنزلوا جميعاً، ونزل الحر وأصحابه ناحية، وجلس الحسين عليه السلام يصلح سيفه ويقول:

        «يا دهر أفٍّ لك من خليل * كم لك بالإشراق والأصيــل
        من طـالبٍ وصاحبٍ قتيل * والدهر لا يقنــــع بالبديل
        وإنــما الأمر إلى الجليل * وكل حيٍّ فإلى سبـــــيل
        ما أقرب الوعد إلى الرحيل * إلى جنان وإلى مقيل »

        فسمعت زينب ابنت فاطمة عليهما السلام ذلك، فقالت: يا أخي هذا كلام من قد أيقن بالقتل.

        فقال: «نعم يا أختاه».

        فقالت زينب: واثكلاه، ينعى إلي الحسين نفسه.

        قال: وبكى النسوة، ولطمن الخدود، وشققن الجيوب.

        وجعلت أم كلثوم تنادي: وامحمداه واعلياه واأماه وافاطمتاه واحسناه

        واحسيناه واضيعتاه بعدك يا أبا عبدالله.

        قال: فعزاها الحسين عليه السلام وقال لها: «يا أختاه تعزي بعزاء الله، فإن سكان السموات يموتون، وأهل الأرض لا يبقون، وجميع البرية يهلكون».

        ثم قال: «يا أختاه يا أم كلثوم، وأنت يا زينب، وأنت يا رقية ، وأنت يا فاطمة ، وأنت يا رباب ، أنظرن إذا أنا قتلت فلا تشققن علي جيباً ولا تخمشن علي وجهاً ولا تقلن علي هجراً».

        وروي من طريق آخر: أن زينب لما سمعت الأبيات ـ وكانت في موضع منفرد عنه مع النساء والبنات ـ خرجت حاسرة تجر ثوبها، حتى وقفت عليه وقالت:

        واثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة الزهراء، وأبي علي المرتضى، وأخي الحسن الزكي، يا خليفة الماضين وثمال الباقين.

        فنظر الحسين عليه السلام إليها وقال: «يا أختاه لا يذهبن حلمك».

        فقال: بأبي أنت وأمي أستقتل؟! نفسي لك الفداء.

        فرد غصته وتغرغرت عيناه بالدموع، ثم قال: «هيهات هيهات، لو ترك القطا ليلاً لنام».

        فقالت: يا ويلتاه، أفتغصب نفسك اغتصاباً، فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي، ثم أهوت إلى جيبها فشقته وخرت مغشياً عليها.

        فقام عليه السلام فصب على وجهها الماء حتى أفاقت، ثم عزاها عليه السلام بجهده وذكرها المصيبة بموت أبيه وجده صلوات الله عليهم أجمعين.

        ومما يمكن أن يكون سبباً لحمل الحسين عليه السلام لحرمه معه ولعياله: أنه لو تركهن بالحجاز أو غيرها من البلاد كان يزيد بن معاوية لعنه الله أرسل من أخذهن إليه، وصنع بهن من الإستيصال وسوء الأعمال ما يمنع الحسين عليه السلام من الجهاد والشهادة، ويمتنع عليه السلام ـ بأخذ يزيد بن معاوية لهن ـ عن مقام السعادة

        تعليق


        • #34
          الإمام الحسين في كربلاء

          وندب عبيدالله بن زياد أصحابه إلى قتال الحسين عليه السلام، فاتبعوه، واستخف قومه فأطاعوه، واشترى من عمر بن سعد آخرته بدنياه ودعاه إلى ولاية الحرب فلباه، وخرج لقتال الحسين عليه السلام في أربعة آلاف فارس، وأتبعه ابن زياد بالعساكر، حتى تكاملت عنده إلى ست ليال خلون من المحرم عشرون ألفاً، فضيق على الحسين عليه السلام حتى نال منه العطش ومن أصحابه.

          فقام عليه السلام واتكى على قائم سيفه ونادى بأعلى صوته، فقال: «أنشدكم الله هل تعرفونني؟»

          قالوا: اللهم نعم، أنت ابن رسول الله وسبطه.

          قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله؟»

          قالوا: اللهم نعم.

          قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن أمي فاطمة ابنت محمد؟»

          قالوا: اللهم نعم.

          قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب؟»

          قالوا: اللهم نعم.

          قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة إسلاماً؟»

          قالوا: اللهم نعم.

          قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن حمزة سيد الشهداء عم أبي؟»

          قالوا: اللهم نعم.

          قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيار في الجنة عمي؟»

          قالوا: اللهم نعم.

          قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله صلى الله عليه وآله أنا متقلده؟»

          قالوا: اللهم نعم.

          قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله أنا لا بسها؟»

          قالوا: اللهم نعم.

          قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن علياً عليه السلام كان أول الناس إسلاماً وأجزلهم علماً وأعظمهم حلماً وأنه ولي كل مؤمن ومؤمنة؟»

          قالوا: اللهم نعم.

          قال: «فبم تستحلون دمي وأبي صلوات الله عليه الذائد عن الحوض غداً، يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصادر على الماء، والواء الحمد بيد أبي يوم القيامة؟!!»

          قالوا: قد علمنا ذلك كله ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً!!!

          فلما خطب هذه الخطبة وسمع بناته وأخته زينب كلامه بكين وندبن ولطمن وارتفعت أصواتهن.

          فوجه إليهن أخاه العباس وعلياً ابنه وقال لهما: «سكتاهن فلعمري ليكثرون بكاؤهن».

          وورد كتاب عبيدالله على عمر بن سعد يحثه على القتال وتعجيل النزال، ويحذره من التأخير والإمهال، فركبوا نحو الحسين عليه السلام.

          وأقبل شمر بن ذي الجوشن (( شمر بن ذي الجوشن ـ واسمه شرحبيل ـ بن قرط الضبابي الكلابي، ابو السابغة)) لعنه الله فنادى: أين بنو أختي

          عبدالله وجعفر والعباس وعثمان.

          فقال الحسين عليه السلام: «أجيبوه وإن كان فاسقاً، فإنه بعض أخوالكم».

          فقالوا له: ما شأنك؟

          فقال: يا بني أختي أنتم آمنون، فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين، وألزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد بن معاوية.

          فناداه العباس بن علي: تبت يداك ولعن ماجئت به من أمانك يا عدو الله، أتأمرنا أن نترك أخانا وسيدنا الحسين بن فاطمة وندخل في طاعة اللعناء أولاد اللعناء.

          فرجع الشمر إلى عسكره مغضباً.

          ولما رأى الحسين عليه السلام حرص القوم على تعجيل القتال وقلة انتفاعهم بالوعظ والمقال قال لأخيه العباس: «إن استطعت أن تصرفهم عنا في هذا اليوم فافعل، لعلنا نصلي لربنا في هذه الليلة، فانه يعلم أني أحب الصلاة له وتلاوة كتابه».

          فسألهم العباس ذلك، فتوقف عمر بن سعد، فقال له عمر بن الحجاج الزبيدي: والله لو أنهم من الترك والديلم وسألوا ذلك لأجبناهم، فكيف وهم آل محمد، فأجابوهم إلى ذلك.

          وجلس الحسين عليه السلام فرقد، ثم استيقظ وقال : «يا أختاه إني رأيت الساعة جدي محمداً صلى الله عليه وآله وأبي علياً وأمي فاطمة وأخي الحسن

          وهم يقولون: يا حسين إنك رائحٌ إلينا عن قريب».

          وفي بعض الروايات: «غداً».

          فلطمت زينب وجهها وصاحت.

          فقال لها الحسين عليه السلام: «مهلاً، لا تشمتي القوم بنا».

          ثم جاء الليل، فجمع الحسين عليه السلام أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم أقبل عليهم وقال: «أما بعد، فإني لا أعلم أصحاباً خيراً منكم، ولا أهل بيتٍ أفضل وأبر من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعاً خيراً، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي، وتفرقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم، فإنهم لا يريدون غيري».

          فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء عبدالله بن جعفر :ولم نفعل ذلك، لنبقي بعدك! لا أرنا الله ذلك أبداً، وبدأهم بهذا القول العباس بن علي، ثم تابعوه.

          ثم نظر إلى بني عقيل وقال: «حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم، إذهبوا فقد أذنت لكم».

          وروي من طريق آخر قال: فعندها تكلم إخوته وجميع أهل بيته وقالوا: يابن رسول الله فماذا يقول الناس لنا وماذا نقول لهم، إذ تركنا شيخنا وكبيرنا وسيدنا وإمامنا وابن بنت نبينا، لم نرم معه بسهم ولم نطعن معه برمح ولم نضرب معه بسيف، لا والله يابن رسول الله لا نفارقك أبداً، ولكنا نقيك بأنفسنا حتى نقتل بين يديك ونرد موردك، فقبح الله العيش بعدك.

          ثم قام مسلم بن عوسجة وقال: نحن نخليك هكذا وننصرف عنك وقد أحاط بك هذ العدو، لا والله لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمة بيدي، ولو لم يكن لي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، ولم أفارقك أو أموت دونك.

          وقام سعيد بن عبدالله الحنفي فقال: لا والله يابن رسول الله لا نخليك أبداً حتى يعلم الله أنا قد حفظنا فيك وصية رسوله محمد صلى الله عليه وآله، ولو علمت أني أقتل فيك ثم أحيى ثم أحرق حياً ثم أذرى ـ يفعل بي ذلك سبعين مرة ـ ما فارقتك حتى ألقى حمامي من دونك، فكيف وإنما هي قتلة واحدة ثم أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!

          ثم قام زهير بن القين وقال: والله يابن رسول الله لوددت أني قتلت ثم نشرت ألف مرة وأن الله يدفع بذلك القتل عنك وعن هؤلاء الفتية من إخوتك وولدك وأهل بيتك.

          وتكلم جماعة من أصحابه بمثل ذلك وقالوا: أنفسنا لك الفداء نقيك بأيدينا ووجوهنا، فإذا نحن قتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربنا وقضينا ما علينا.

          وقيل لمحمد بن بشير الحضرمي في تلك الحال: قد أسر إبنك بثغر الري .

          فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنت أحب أن يوسر وأن أبقى بعده.

          فسمع الحسين عليه السلام قوله فقال: «رحمك الله، أنت في حل من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك».

          فقال: أكلتني السباع حياً إن فارقتك.

          قال: فأعط إبنك هذه البرود يستعين بها في فكاك أخيه.

          فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار.

          وبات الحسين عليه السلام وأصحابه تلك الليلة ولهم دوي كدوي النحل، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً .

          فلما كان الغداة أمر الحسين عليه السلام بفسطاطه فضرب وأمر بجفنة فيها مسك كثير وجعل فيها نورة، ثم دخل ليطلي.

          وأن برير بن حصين الهمداني وعبدالرحمن بن عبد ربه الأنصاري وقفا على باب الفسطاط ليطليا بعده، فجعل برير يضاحك عبد الرحمن.

          فقال له عبدالرحمن: يا برير أتضحك! ما هذه ساعة ضحك ولا باطل.

          فقال برير: لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، وإنما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه، فوالله ما هو إلا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة، ثم نعانق الحور العين.

          وركب أصحاب عمر بن سعد، فبعث الحسين عليه السلام برير بن حصين فوعظهم فلم يسمعوا وذكرهم فلم ينتفعوا.

          فركب الحسين عليه السلام ناقته ـ وقيل: فرسه ـ فاستنصتهم فأنصتوا، فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله، وصلى على محمد صلى الله عليه وآله وعلى الملائكة والأنبياء والرسل، وأبلغ في المقال، ثم قال:

          «تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علنا سيفاً لنا في ايمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتد حناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم أولياء لأعدائكم على أوليائكم بغير عدلٍ أفشوه فيكم ولا أملٍ أصبح لكم فيهم.

          فهلا ـ لكم الويلات ـ تركتمونا والسيف مشيمٌ والجأش ضامرٌ والرأي لما يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطير الدبا، وتداعيتم إليها كتهافت الفراش.

          فسحقاً لكم يا عبيد الأمة، وشرار الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرفي الكلم، وعصبة الآثام، ونفثة الشيطان، ومطفئ السنن.

          أهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون؟!

          أجل والله غدرٌ فيكم قديم وشحت عليه أصولكم، وتأزرت عليه فروعكم، فكنتم أخبث شجاً للناظر وأكلة للغاصب.

          ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة، والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية: من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.

          ألا وإني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وخذلان الناصر».

          ثم أوصل كلامه عليه السلام بأبيات فروة بن مسيك المرادي :


          فـإن نهزم فهزامن قدمـــــا * وإن نغلب فغيــر مغلبينــــــا
          وما أن طبنــا جبن ولكـــــن * منايانا ودولة آخـــرينــــــــــا
          إذا ما الموت رفع عن أناس * كلاكله أنـــاخ بآخرينـــــــــــا
          فأفنى ذلك سـروات قومي * كما أفنى القـرون الأولينـــــا
          فلو خلد الملـوك إذاً خلدنــا * ولو بقي الكرام إذاً بقينـــــــا
          فقل للشامتين بـنا: أفيقـوا * سيلقى الشامتون كما لقينا

          ثم قال: «أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يركب الفرس حتى يدور بكم دور الرحى ويقلق بكم قلق المحور عهدٌ عهده إلي أبي عن جدي، فأجمعوا أمركم وشركاءكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، ثم اقضو إلي ولا تنظرون.

          إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذٌ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم.

          اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسنين يوسف، وسلط عليهم غلام ثقيف يسومهم كأساً مصبرةٌ، فإنهم كذبونا وخذلونا، وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا واليك المصير».

          ثم نزل عليه السلام ودعا بفرس رسول الله صلى الله عليه وآله المرتجز، فركبه وعبى أصحابه للقتال.

          تعليق


          • #35
            إستشهاد أصحاب الإمام سلام الله عليه

            تقدّم عمر بن سعد وقال: يا دريد أدن رايتك ثم أخذ سهماً ووضعه في كبد القوس وقال: اشهدوا لي عند الأمير فأنا أول من رمى الحسين، فاقبلت السهام من القوم كأنها شآبيب المطر، فقال الحسين لأصحابه: قوموا رحمكم الله فإن هذه السهام رسل القوم إليكم.

            فاقتتلوا ساعة من النهار حملةً وحملةً، فلما انجلت الغبرة وإذا بخمسين من أصحاب الحسين صرعى، فعند ذلك ضرب الحسين بيده على لحيته الكريمة وقال: (اشتدّ غضبُ الله على اليهود إذ جعلوا له ولدا، واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر، واشتدّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم، أما والله لا أجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتى ألقى الله وأن مخضّب بدمي).

            ثم جعل أصحاب الحسين يبرزون واحداً بعد واحد، وكل من أراد منهم الخروج ودّع الحسين وقال السلام عليك يا أبا عبد الله. فيجيبه الحسين: وعليك السلام ونحن خلفك، ثم يتلو: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).

            ولا يبرز منهم رجلٌ حتى يقتل خلقاً كثيراً من أهل الكوفة، فضيّقوا المجال على الأعداء حتى قال رجل من أهل الكوفة يصفهم:

            ثارت علينا عصابةُ أيديها على مقابض سيوفها، كالأسود الضارية تحطّم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها بين الورود على حياض المنية، والاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها).

            ونعم ما قيل في حقّهم:

            قـــــــومٌ إذا نـــــودوا لــــدفع ملمّةٍ والخـــــيل بـــين مدَعّسٍ ومكردس

            لبسوا القـلوب على الدروع وأقبلوا يـــــتهافتون عـــلى ذهاب الأنفس

            وأقبل الحرّ بن يزيد الرياحي إلى عمر بن سعد وقال: يا عمر أمقاتل أنت هذا الرجل؟

            قال: إي والله قتالاً أيسرهُ أن تطير الرؤوس وتطيح الأيدي.

            فقال الحر: أفمالكم فيما عرضه عليكم رضى؟

            قال عمر: أما لو كان الأمر لي لفعلت، ولكن أميرك أبى.

            فاقبل الحرّ حتى وقف موقفاً من الناس، فأخذ يدنو من الحسين قليلاً قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد أن تصنع؟ أتريد أن تحمل عليه؟

            فلم يجيبه الحر، وأخذه مثل الإفكل وهي الرعدة، فقال له المهاجر: إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل هذا، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟!

            فقال الحر: إني والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار؛ فوالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قُطّعتُ وحُرّقت.

            ثم ضرب فرسه قاصداً نحو الحسين ويده على رأسه وهو يقول: اللهم إليك أنبتُ فتُبْ عليّ، فقد أرعبتُ قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيّك، فلما دنى من الحسين قال له: من أنت؟ قال: جعلني الله فداك أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعتُ بك في هذا المكان، وما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم ولا يبلغون بك هذه المنزلة، وأنا تائبٌ إلى الله ممّا صنعتُ، فترى لي من ذلك توبة؟ قال: نعم يتوب الله عليك فانزل.

            قال: أنا لك فارساً خير مني لك راجلاً أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري، فقال له الحسين: فاصنع رحمك الله ما بدا لك.

            فاستقدم أمام الحسين فقال: (يا أهل الكوفة لأّمكم الهُبل والعبر أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجّه إلى بلاد الله العريضة، فصار كالأسير المرتهن لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، وحلأتموه ونساءه وصبيته عن ماء الفرات الجاري الذي تشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتمرغ به خنازير السواد وكلابه، وها هم قد صرعهم العطش، بئسما خلّفتم محمداً في ذريّته، لا سقاكم الله يوم الظمأ الأكبر).

            فحمل عليه رجال يرمونه بالنبل، فأقبل حتى وقف أمام الحسين واستأذن قائلاً: يابن رسول الله كنت أول خارجٍ عليك، فأذن لي لأكون أول قتيلٍ بين يديك، وأول من يصافح جدّك غداً، فأذن له الحسين فبرز مرتجزاً:

            إنــــيّ أنا الحرّ ومأوى الضيف أضـــرب فــي أعناقكم بالسيف

            عن خير من حلّ بأرض الخيف أضــــربكم ولا أرى مــن حيف

            وحمل عليهم وقتل منهم نيفاً وأربعين رجلاً، فعقروا فرسه فجعل يقاتلهم راجلاً، ثم شدّت عليه عصابة فقتلوه، فلما صرع وقف عليه الحسين ودمه يشخب، فجعل الحسين يمسح الدم والتراب عن وجهه وهو يقول: بخٍ بخٍ يا حر، أنت الحر كما سمّتك أمك، وقضى نحبه وحملته عشيرته ودفنته.

            وبرز برير بن خضير الهمداني بعد الحر، وكان من عباد الله الصالحين فجعل يحمل عليهم ويقولك (اقتربوا مني يا قتلة أولاد رسول الله وذريته الباقين)، حتى قتل منهم ثلاثين رجلاً فخرج إليه يزيد بن المغفّل أو معقل، وقرّرا المباهلة إلى الله في أن يقتل المحقّ منهما المبطل، فقتله برير، ثم حمل عليه القوم وقتلوه رحمه الله.

            ثم برز مسلم بن عوسجة وجعل يقاتلهم قتالاً شديداً، وبالغ في قتال الأعداء وصبر على أهوال البلاء، حتى سقط صريعاً فمشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر وبه رمق من الحياة، فقال له الحسين: رحمك الله يا مسلم، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً، ثم دن منه حبيب ابن مظاهر وقال: يعزّ والله عليّ مصرعك يا مسلم أبشر بالجنة، فقال مسلم ـ بصوت ضعيف ـ: بشّرك الله بالخير، فقال حبيب: لو لا أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إليّ بكل ما أهمّك، فقال مسلم: أوصيك بهذا (وأشار إلى الحسين) قاتل دونه حتى تموت. فقال حبيب لأنعمنّك عينا.

            نصــــروك أحياءً وعند مماتهم يوصي بنصرتك الشفيق شفيقا

            أوصــى ابن عوسجةٍ حبيباً قال قـــاتل دونه حتى الحِمام تذوقا

            ونادى أصحاب عمر بن سعد ـ مستبشرين ـ: قد قتلنا مسلم بن عوسجة، فصاحت جارية له وا سيّداه، يابن عوسجتاه.

            فلما سمع ابنه ذلك دخل عند إمّه وهو يبكي فقالت: ما يبكيك؟ قال: أريد الجهاد، فقامت أمّه وشدّت سيفاً في وسطه وقالت: أبرز يا بني فإنك تجد رمحاً مطروحاً بين أطناب المخيّم. فخرج وأراد حمل الرمح فلم يتمكّن، وجعل يسحبه على الأرض سحباً، فبصر به الحسين فقال: إن هذا الشاب قد قتل أبوه في المعركة وأخاف أمّه تكره برازه فقال الغلام: يا سيدي إنّ أمي ألبستني لامة حربي فبرزَ مرتجزاً:

            أميــــري حســــين ونعم الأميــر*ســـــرور فـــؤاد البشير النذير
            عــــــليّ وفــــــاطمـــــة والــداه*فهــــــل تــــعلمون له من نظير
            لـــه طـلعة مثل شمس الضحى*لـــــه غـــــرّةٌ مـــــثل بدرٍ منير

            فقاتل حتى قتل فاحتزوا رأسه، ورموا بالرأس نحو معسكر الحسين، فأخذت امه رأسه وقالت: أحسنت يا بني يا سرور قلبي يا قرّة عيني، ثم رمت براس ولدها وأخذت عمود الخيمة وحملت عليهم وهي تقول:

            أنـــــا عـــــجوز سيدي ضعيفة* خــــــاوية بــــــالية نحـــــــيفة
            أضـــــربكم بضــــــربةٍ عنــيفــة*دون بــــــني فـــاطمة الشريفة

            فأمر الحسين بصرفها ودعا لها.

            ثم برز وهب بن عبد الله الكلبي، وكان نصرانياً ومعه أمه وزوجته فأسلموا على يد الحسين في أثناء الطريق ورافقوه إلى كربلاء، فأقبلت أمه وقالت: يا بني قٌم وانصُر ابن بنت رسول الله.

            فقال: أفعل يا أماه ولا أقصّر، فبرز وهو يقول:

            إن تنـــــكروني فأنا ابن الكلبي*ســـوف تروني وترون ضربي
            ..................وسطوتي وجولتي في الحرب

            فقتل جماعة منهم، ثمّ رجع إلى أمّه وقال: يا أماه ارضيِ عنّي؟

            فقالت: ما رضيتُ حتى تقتل بين يدي الحسين، فقالت امرأته: بالله عليك لا تفجعني في نفسك، فقالت أمه: أعزب عنها ولا تقبل قولها، وارجع وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله تنل شفاعة جدّه يوم القيامة.

            فرجع فلم يزل يقاتل حتى قتل تسعة عشر فارساً وعشرين راجلاً، ثم قطعت أصابع يده، وأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأمي! قاتل دون الطيّبين حرم رسول الله، فاقبل كي يردّها إلى النساء فأخذت بجانب ثوبه وقالت: لن أعود أو أموت معك، فقال لها: كنت تنهينني عن القتال والآن تحرّضينني؟ قالت: يا وهب لقد عفتُ الحياة منذ سمعت نداء الحسين ينادي وا غربتاه وا قلّة ناصراه، أما من ذابّ يذبّ عنّا؟ أما من مجير يجيرنا؟

            ثم استعان وهب بالحسين وقال سيدي ردّها، فقال الحسين: جزيتم من أهل بيت خيراً، إرجعي إلى النساء يرحمك الله، فانصرفت، وقتل وهب ورموا برأسه إلى عسكر الحسين، فأخذت أمّه الرأس فقبّلته وجعلت تمسح الدم من وجهه وهي تقول: الحمد لله الذي بيّض وجهي بشهادتك ـ يا ولدي ـ بين يدي أبي عبد الله الحسين. ثم رمت بالرأس وأخذت عمود الخيمة فقال لها الحسين: ارجعي يا أم وهب أنت وابنك مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

            فذهبت امرأته تمسح الدم والتراب عن وجهه وهي تقول: هنيئاً لك الجنّة. فبصر بها شمرٌ فأمر غلامه فضربها بعمود فقتلها، هي أول امرأة قتلت في عسكر الحسين.

            ولم يزالوا كذلك حتى دخل وقت الظهر، فجاء أبو تمامة الصيداوي وقال: يا أبا عبد الله أنفسنا لنفسك الفداء، هؤلاء اقتربوا منك، لا والله لا تقتل حتى أقتل دونك... وأحبّ أن ألقى الله عزّ وجلّ وقد صلّيت هذه الصلاة معك.

            فرفع الحسين رأسه إلى السماء وقال: ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين، نعم هذا أول وقتها، ثم قال (عليه السلام): سلوا هؤلاء القوم أن يكفّوا عنّا حتى نصلّي، فأذّن الحسين بنفسه، وقيل: أمر مؤذّنه ليؤذّن، ثم قال الحسين: ويلك يابن سعد أنسيت شرائع الإسلام؟ اقصر عن الحرب حتى نصلّي وتصلّي بأصحابك ونعود إلى ما نحن عليه من الحرب، فاستحى ابن سعد أن يجيبه، فناداه الحصين ابن نمير ـ عليه اللعنة ـ قائلاً: صلّ يا حسين ما بدا لك فإن الله لا يقبل صلاتك.

            فأجابه حبيب بن مظاهر: ثكلتك أمك، ابن رسول الله صلاته لا تقبل وصلاتك تقبل يا خمّار؟!

            فقال الحسين لزهير بن القين وسعيد بن عبد الله: تقدّما أمامي حتى أصلّي الظهر. فتقدّما أمامه في نحو نصفٍ من أصحابه حتى صلّى بهم صلاة الخوف، وسعيد تقدّم أمام الحسين فاستهدف لهم فجعلوا يرمونه بالنبال كلّما أخذ الحسين يميناً وشمالاً قام بين يديه فما زال يرمى إليه حتى سقط على الأرض وهو يقول: اللهم العنهم لعن عادٍ وثمود، اللهم أبلغ نبيّك عني السلام. وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح فإنني أردت بذلك نصرة ذرّية نبيّك ثم مات رحمه الله.

            تعليق


            • #36
              وخرج حبيب بن مظاهر وودع الحسين وجعل يقاتل وهو يقول:

              أنا حبيـــــــب وأبـــــي مــظاهر**فـــــارس هيجاء وحرب تسعر
              أنــــــتم عـــــدّ عــــــــدّة وأكثر**ونحـــــــن أوفــى منكم وأصبر
              وأنـــــــتم عــــــند الوفاء أغــدر**ونحــــــن أعـــلى حجّة وأظهر

              فقتل اثنين وستين فارساً ثم قتل فبان الانكسار في وجه الحسين، فقال الحسين: لله درّك يا حبيب لقد كنت فاضلً تختم القرآن في ليلة واحدة.

              وتقدّم زهير بن القين وقاتل قتالاً لم ير مثله، ثم رجع ووقف أمام الحسين وجعل يضرب على منكب الحسين ويقول:

              فدتــك نــفسي هادياً مهديّاً **اليــوم ألقـــــى جــــدّك النبيّا
              ........................وحسنا والمرتضى عليّا

              إلى آخر أبياته، فكأنّه ودّع الحسين وعاد يقاتل حتى قتل مائة وعشرين رجلاً، ثم قتل رحمه الله، ووقف عليه الحسين وقال: لا يبعدك الله يا زهير، ولعن قتلك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير.

              وجاء عابس بن شبيب الشاكري ومعه شوذب مولى آل شاكر، فقال عابس: يا شوذب ما في نفسك أن تصنع اليوم؟

              فقال: ما اصنع! أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله حتى اقتل، فقال له عابس: ذلك الظنّ بك، أما الآن فتقدّم بين يدي أبي عبد الله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه وحتى أحتسبك أنا، فإنه لا عمل بعد اليوم وإنما هو الحساب.

              فتقدم شوذب واستأذن وقاتل وقتل.

              وتقدّم عابس إلى الحسين سلّم عليه وقال: يا أبا عبد لله، والله ما أمسى على وجه الأرض قريب أو بعيد أعز عليّ ولا أحبّ إليّ منك ولو قدرت أن أدفع عنك الضيق أو القتل بشيء أعزّ على من نفسي ودمي لفعلته، السلام عليك يا أبا عبد الله، إشهد أني على هداك وهدى أبيك، ثم مشى بالسيف مصلتاً نحو القوم.

              فصاح رجل من أهل الكوفة: هذا أسد الأسود هذا ابن شبيب. فأخذ عابس ينادي: إلا رجل ألا رجل؟ فلم يتقدّم إليه أحد، فنادى عمر بن سعد:

              إرضخوه بالحجارة، فرمي بالحجارة من كلّ جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره خلفه، ثم شدّ على الناس.

              قال الراوي: فوالله لقد رأيته يطرد أكثر من مائتين من الناس، حتى اثخنه بالجرح ضرباً وطعناً ورمياً وقتلوه رضوان الله عليه.

              وأقبل جون مولى أبي ذر الغفاري يستأذن في القتال، فقل الحسين: يا جون أنت في إذن مني فإنما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتل بطريقنا، فقال جون: يابن رسول الله أنا في الرخاء الحسُ قِصاعَكم وفي الشدّة أخذلكم؟! والله إنّ ريحي لنتن، وإن حسبي للئيم، وإن لوني لأسود، فتنفّس عليّ بالجنة فتطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيّض وجهي، لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دماءكم.

              فأذن له الحسين فبرز يرتجز ويقول:

              كيــــــف يرى الكفّار ضرب الأسود**بالمـــــشرفيّ والقــــــنا المـــــسدّد
              يذبّ عـــــــن آل النــــــبي أحـمد**يـــــــــذبّ عنــــــهم بـــاللسان واليد

              فقتل خمساً وعشرين رجلاً ثم قتل، فوقف عليه الحسين وقال: اللهم بّيض وجهه وطيّب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمد وآل محمد.

              وخرج غلام تركي وهو يقول:

              البــحر من طعني وضربي يصطلي** والجوّ مـــــن نبلي وسهمي يمتلي
              إذا حسامي فــــي يميني ينجلي**ينـــــشقّ قــــلب الحاســـد المبخل

              فقتل جماعة ثم سقط فجاءه الحسين وبه رمق يومي إلى الحسين، فبكى الحسين وبه رمق يومي إلى الحسين، فبكى الحسين واعتنقه ووضع خدّه على خدّه، ففتح الغلام عينيه وتبسّم وفاضت نفسه.

              ثم برز عمرو بن خالد الصيداوي وقال للحسين: يا أبا عبد الله جعلتُ فداك هممت أن الحق بأصحابك وكرهت أتخلّف فأراك وحيداً من أهلك قتيلاً، فقال له الحسين: تقدّم فإنا لاحقون بك عن ساعة، فقاتل حتى قتل، وبرز ابنه خالد مرتجزاً فقاتل حتى قتل.

              ثم جاء حنظلة بن اسعد الشبامي فوقف بين يدي الحسين يقيه السهام والرماح بوجهه ونحره.

              فقال له الحسين: يابن أسعد إنهم استوجبوا العذاب حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق. فقال: صدقت جعلت فداك أفلا نروح إلى الآخرة ونلتحق بإخواننا؟

              فقال له الحسين: بلى، رح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلى، فقال: السلام عليك يا أبا عبد الله، صلى الله عليك وعلى أهل بيتك، عرّف الله بيننا وبينك في الجنّة، فقال الحسين: آمين آمين.

              فاستقدم وقاتل قتال الأبطال وصبر على احتمال الأهوال حتى قتل.

              فبرز سعد بن حنظلة التميمي، وقاتل قتال الأسد الباسل، وبالغ في الصبر على الخطب النازل، حتى سقط صريعاً بين القتلى وقد اثخن بالجراح، فلم يزل كذلك وليس به حراك حتى سمعهم يقولون: قتل الحسين فتحامل، وأخرج سكّيناً من خُفّه وجعل يقاتلهم بها حتى قتل.

              وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري فاستأذن الحسين فأذن له، فقاتل قتال الأسد الباسل، وكان لايأتي إلى الحسين سهم إلا اتقّاه بيده، ولا سيف إلا تلقّاه بمهجته، فلم يكن يصل إلى الحسين سوء حتى اثخن بالجراح. فالتفت إلى الحسين وقال: يابن رسول الله أوفيت؟ فقال الحسين: نعم، أنت أمامي في الجنة، فاقرأ رسول الله عني السلام وأعلمه أني في الأثر.

              وبرز جابر بن عروة الغفاري، وكان شيخاً كبيراً قد شهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بدراً وحنيناً، فجعل يشدّ وسطه بعمامة، ثم شدّ جبينه بعصابة ثم رفعهما عن عينيه والحسين ينظر إليه ويقولك شكر الله سعيك يا شيخ، فبرز وقاتل حتى قتل ثمانين رجلاً، ثم قتل.

              وبرز عبد الله وعبد الرحمن الغفاريان فقالا: السلام عليك يا أبا عبد الله أحببنا أن نقتل بين يديك فقال (عليه السلام): مرحباً بكما أدنوا مني؛ فدنوا منه وهما يبكيان فقال: يا بني أخي ما يبكيكما؟ فوالله أني ارجوا أن تكونا بعد ساعة قريري العين؟

              فقالا: جعلنا الله فداك والله ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك، نراك قد أحيط بك ولا نقدر أن ننفعك، فقال الحسين: جزاكما الله يا بني أخي بوجدكما ومواساتكما إيّاي بأنفسكما أفضل جزاء المتقين، ثم استقدما وقالا: السلام عليك يابن رسول الله، فقال: وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته، وقاتلا حتى قتلاً

              تعليق


              • #37
                إستشهاد أهل بيت الإمام و فتيان بني هاشم



                وبعد ما قتل أصحاب الحسين رضوان الله عليهم فعند ذلك وصلت النوبة إلى بني هاشم، وأول من قتل منهم علي بن الحسين الأكبر، وأمه ليلى، وكان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً وخُلقاً، فاستأذن أباه في القتال فنظر إليه الحسين نظر آيس منه، وأرخى عينيه وبكى، ورفع سبابتيه أو شيبته الشريفة نحو السماء وقال: (اللهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إلى وجه هذا الغلام، اللهم امنعهم بركات الأرض وفرّقهم تفريقاً ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً ولا تغفر لهم أبداً، ولا ترضي الولاة عنهم أحداً، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا).

                ثم صاح: يابن سعد ما لك؟ قطع الله رحمك ولا بارك الله في أمرك، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك، كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله، ثم رفع صوته وتلا: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ).

                فحمل علي الأكبر على القوم وهو يقول:

                أنـــــا عــــلي بن الحسين بـن علي**نحــــــن وبيـــــت الله أولى بالنبي
                أطعنـــكـــــم بــــالرمح حـــتى يثني** أضربــــكم بالسيف أحمي عن أبي
                ضـــــرب غـــــلام هـــاشمي علويّ** والله لا يحــــــكم فــينا ابن الدعي

                فشدّ على الناس وقتل منهم خلقاً كثيراً حتى ضجّ الناس من كثرة من قتل، فروي أنه قتل مائة وعشرين رجلاً، فرجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة وهو يقول: يا أبة العطش قد قتلني وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة من الماء سبيل أتقوّى بها على الأعداء.

                فبكى الحسين وقال: وا غوثاه يا بني، يعزّ على محمد المصطفى وعلى علي المرتضى وعليّ أن تدعوهم فلا يجيبوك وتستغيث بهم فلا يغيثوك، يا بني قاتل قليلاً، فما أسرع أن تلقى جدك محمداً (صلّى الله عليه وآله) فيسقيك بكاسه الأوفى شربةً لا تضمأ بعدها أبداً، يا بني هات لسانك. فأخذ لسانه فمصّه، وأعطاه خاتمه وقال: أمسكه في فمك وارجع إلى عدوّك، فإني أرجو أن لا تمسي حتى يسقيك جدّك، ولدي عد بارك الله فيك.

                فرجع مرتجزاً

                الحـــــــرب قد بانت لها حقائق**وظهــــرت مع بعضها مصادق
                والله رب الـعرش لا نـــــــــفارق**جموعـــــكــم أو تغمد البوارق

                ولم يزل يقاتل حتى قتل تمام المائتين، فضربه مرّة بن منقذ العبدي ضربةً صرعته، وضربه الناس بأسيافهم فاعتنق فرسه فاحتمله الفرس إلى معسكر الأعداء فقطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً، فلما بلغت روحه التراقي نادى رافعاً صوته: أبه هذا جدّي رسول الله قد سقاني بكأسه الأوفى شربةً لا أظمأ بعدها أبداً، وهو يقول: العجل العجل فإن لك كأساً مذخورة تشربها الساعة.

                فجاءه الحسين ورفع صوته بالبكاء ولم يسمع أحد إلى ذلك الزمان صوت الحسين بالبكاء، فقال: قتل الله قوماً قتلوك، ما أجراهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول، أما أنت يا بني فقد استرحت من هم الدنيا وغمومها، وسرت إلى روح وريحان وجنّة ورضوان وبقي أبوك لهمّها وغمّها، فما أسرع لحوقه بك، ولدي علي ّعلى الدنيا بعدك العفا.

                فعند ذلك خرجت زينب الكبرى من الخيام مسرعة وهي تنادي: وا ولداه؛ وا مهجة قلباه؛ فجاءت وانكبّت عليه، فجاء الحسين واخذ بيدها وردّها إلى الفسطاط، ثم نادى: يا فتيان بني هاشم هلمّوا واحملوا أخاكم إلى الفسطاط.

                فجاء القاسم بن الحسن وهو غلام لم يبلغ الحلم فقال: يا عم الإجازة لأمضي إلى هؤلاء الكفرة؟ فقل له الحسين: يابن أخي أنت من أخي علامة وأريد أن تبقى لي لأتسلّى بك، فلم يزل القاسم يقبّل يديه ورجليه حتى أذن له، فقال له الحسين: يا بني أتمشي برجلك إلى الموت؟ فقال: يا عمّ وكيف لا؟ وأنت بين الأعداء بقيت وحيداً فريداً لم تجد محامياً.

                فأركبه الحسين على فرسه فخرج القاسم ودموعه تسيل على خديه وهو يقول:

                إن تنـــكروني فأنا نجل الحســن**سبـط النبي المصطفى المؤتمن
                هذا حــــسين كالأسير المرتهن**بين أناس لاسقوا صوب المـــزن

                وكان وجهه كفلقة قمر، فقاتل قتالاً شديداً حتى قتل على صغر سنه خمساً وثلاثين رجلاً، وقيل سبعين فارساً، فانقطع شسع نعله، فانحنى ليصلح شسع نعله، فضربه عمرو بن سعد الأزدي على رأسه فوقع الغلام لوجهه ونادى: يا عمّاه أدركني، فجاءه الحسين كالصقر المنقضّ فتخلّل الصفوف، وشدّ شدة الليث المغضب فضرب الحسين عمرواً قاتل القاسم بالسيف فاتقاه بيده فأطنّها من لدن المرفق، فصاح اللعين صيحة سمعها أهل العسكر ثم تنحّى عنه الحسين فحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمرواً من الحسين، فاستقبلته الخيل بصدورها وشرعته بحوافرها، ووطأته حتى مات إلى جهنم.

                فلما انجلت الغبرة وإذا بالحسين قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه فقال الحسين: يعز والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك فلا يعينك أو يعينك فلا يغني عنك، بعداً لقومٍ قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة جدّك وأبوك، هذا يوم والله كثر واتره وقلّ ناصره.

                ثم احتمله على صدره ورجلاه تخطّان في الأرض خطّاً حتى ألقاه بين القتلى من أهل بيته.

                ثم برز من بعده أخوه أحمد بن الحسن، وله من العمر ستة عشر سنة فقاتل حتى قتل ثمانين رجلاً، فرجع إلى الحسين وقد غارت عيناه من العطش فنادى: يا عمّاه هل من شربة ماء أبرّد بها كبدي؟

                فقال له الحسين: يابن أخي اصبر قليلاً حتى تلقى جدّك رسول الله فيسقيك شربة من الماء لا تظمأ بعدها أبداً.

                فرجع إلى القوم وحمل عليهم وقتل منهم ستين فارساً حتى قتل. وبرز أخوه أبو بكر بن الحسن وهو يقول:

                إن تــــــنكروني فــــــأنا ابن حيدرة**ضرغـــــــام آجــــامٍ وليث قســـــورة
                عــــلى الأعادي مثل ريح صرصــرة**أكيلكم بالسيـــــف كـــــيل السندرة

                فقاتل حتى قتل.

                فعند ذلك خرج أولاد أمير المؤمنين (عليه السلام) وأول من خرج منهم أبوبكر بن أمير المؤمنين فقاتل حتى قتل.

                وبرز جعفر بن أمير المؤمنين فقال له الحسين: كيف تقاتل هذا الجمع الكثير والجمّ الغفير؟ فقال: من كان باذلاً فيك مهجته لم يبال بالكثرة والقلّة، ثم حمل فقتل مقتلة عظيمة، فاحتوشه ألفان، ففرّقهم يميناً وشمالاً، وتخلّل الصفوف ثم رجع إلى الحسين فقبّله الحسين وقال له: أحسنت لقد أصبت بجراحات كثيرة فاصبر هنيئة.

                فقال عون: سيدي أردت أن أحظى منك وأتزوّد من رؤيتك مرة أخرى، فرجع وقاتل ورُمي بسهم وقضى نحبه.

                فعند ذلك وصلت النوبة إلى أولاد أم البنين، فقال لهم العباس بن أمير المؤمنين: يا بني أمي تقدّموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله فإنه لا ولد لكم تقدّموا ـ بنفسي أنتم ـ فحاموا عن سيدكم حتى تموتوا دونه.

                فبرز عبد الله بن أمير المؤمنين وعمره خمس وعشرون سنة، فقتل أبطالاً ونكّس فرساناً، فقتله هاني بن ثبيت الحضرمي عليه اللعنة.

                ثم برز جعفر بن أمير المؤمنين فقاتل وقتل جمعاً كثيراً، فقتله هاني بن ثبيت الحضرمي.

                فبرز عثمان بن أمير المؤمنين، وعمره إحدى وعشرون سنة فقاتل حتى قتل.

                فبقي العباس بن علي قائماً أمام الحسين يقاتل دونه، وكان العباس بطلاً جسيماً وسيماً، يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطّان على الأرض خطا، ويلقّب بالسقّاء وقمر بني هاشم.

                فجاء نحو أخيه الحسين فقال: يا أخاه هل من رخصة؟ فبكى الحسين حتى ابتلّت لحيته بدموعه فقال: أخي أنت العلامة من عسكري فإذا غدوت يؤول جمعنا إلى الشتات وتنبعث عمارتنا إلى الخراب، فقال العباس: فداك روح أخيك لقد ضاق صدري من الحياة الدنيا وأريد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين.

                فقال له الحسين: فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء، فبرز العباس فلمّا توسّط الميدان وقف ونادى: يا عمر بن سعد هذا الحسين ابن بنت رسول الله يقول لكم: إنكم قتلتم أصحابه واخوته وبني عمّه وبقي فريداً مع أولاده وعياله وهم عطاشى، قد أحرق الظمأ قلوبهم فاسقوهم شربة من الماء لأن أولاده وأطفاله قد وصلوا إلى الهلاك... إلى آخر كلامه.

                فلما سمع أهل الكوفة كلام أبي الفضل فمنهم من سكت ومنهم من جلس يبكي، وخرج شمر وشبث بن ربعي (عليهما اللعنة) وقالا: يابن أبي تراب قل لأخيك: لو كان كلّ وجه الأرض ماءاً وهو تحت أيدينا ما سقيناكم منه قطرة حتى تدخلوا في بيعة يزيد.

                فتبسّم العباس فرجع إلى الحسين وأخبره بمقال القوم، فبكى الحسين حتى بلّ أزياقه من الدموع، فسمع العباس الأطفال وهم ينادون: العطش العطش فركب فرسه وأخذ رمحه والقِربة، وكان عمر بن سعد قد وكّل أربعة آلاف رجلاً على الماء لا يدعون أحداً من أصحاب الحسين يشرب منه.

                فحمل عليهم العباس ففرّقهم وكشفهم وقتل منهم ثمانين رجلاً وهو يقول:

                لا أرهـب الموت إذا الموت رقا**حتى أوارى في المصاليت لقى
                إني أنـا العباس أغدو بالسقا**ولا أخــــــاف الشر يوم الملتقى

                حتى دخل الماء فلما أراد أن يشرب غُرفة من الماء ذكر عطش الحسين وال بيته فرمى الماء وهو يقول:

                يا نفس من بعد الحسين هوني**وبعــــــــده لا كـــنت أن تكوني
                هــــــذا الحسين شارب المنون** وتشربيــــــن بـــــارد المعـــين
                هيهــــــــات ما هذا فعال ديني**ولا فعــــــال صـــــــادق اليقين

                فملأ القربة وحملها على عاتقه وتوجّه نحو الخيمة فقطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كل جانب، وأخذوه بالنبال حتى صار درعه كجلد القنفذ من كثرة السهام، فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة وعاونه حكيم بن طفيل فضربه على يمينه فقطعها، فأخذ السيف بشماله وهو يقول:

                والله إن قطــــعتـــم يمــــــــيني**إنـــــي أحــــامي أبداً عن ديني
                وعــــــن إمـــــام صادق اليقــين**نجــــــل النـــبي الطاهر الأمين

                فقـاتل حتى ضعف. فقطعوا شماله فجعل يقول:

                يا نـــــفس لا تخشي من الكفّار **وأبشــــــري بــــــرحمة الجبّار
                قد قطــــعوا ببغيــــــهم يســاري **فـــــأصلهم يــــــا رب حر النار

                فجاء سهم وأصاب القربة وأريق ماؤها، فبقي العباس حائراً ليس له يد فيقاتل ولا ماء فيرجع إلى الخيمة، فضربه رجل بعمود من الحديد فسقط عن فرسه ونادى يا أخي أدرك أخاك...

                فإنقضّ إليه الحسين كالصقر فرآه مقطوع اليدين مفضوخ الجبين مشكوك العين بسهم، فوقف عليه منحنياً وجلس عند رأسه يبكي، ففاضت نفس أبي الفضل فقال الحسين: أخي الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي وشمت بي عدوي.

                ثم قام ورجع إلى الخيمة فاستقبلته ابنته سكينة، وقالت: أبتاه هل لك علم بعمّي العباس، فبكى الحسين وقال: يا بنتاه إن عمّك قتل.

                وخرج محمد بن عبد الله بن جعفر، وامه زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين فقاتل حتى قتل.

                ثم برز أخوه عون بن عبد الله بن جعفر، وأمه أيضاً زينب الكبرى فقتل جمعاً كثيراً حتى قتل.

                وبرز أخوهما عبيد الله فقاتل حتى قتل.

                وبرز غلام من أخبية الحسين، وفي أذنيه درّتان وهو مذعور فجعل يلتفت يميناً وشمالاً، وقرطاه يتذبذبان فحمل عليه هاني بن ثبيت الحضرمي فضربه بالسيف فقتله، فصارت أمه تنظر إليه ولا تتكلّم كالمدهوشة.

                ثم نادى الحسين: هل من ذائب يذبّ عن حرم رسول الله؟ هل من موحّدٍ يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟

                فارتفعت أصوات النساء بالبكاء والعويل، فتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب: ناوليني ولدي الرضيع لأودّعه:

                فنادى يا قوم قتلتم أنصاري وأولادي، وما بقي غير هذا الطفل، إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل، لقد جفّ اللبن في صدر أمّه.

                فرماه حرملة بسهم فوقع في نحره فذبحه من الوريد إلى الوريد. فوضع الحسين كفّيه تحت نحر الطفل فلمّا امتلأتا دماً رمى به إلى السماء وقال: هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين الله، اللهم لا يكونن طفلي هذا أهون عليك من فصيل ـ أي فصيل ناقة صالح ـ.

                ثم عاد بالطفل مذبوحاً وحفر له بجفن سيفه ودفنه. وولد للحسين ابن وقت الظهر، فأتي به إلى الحسين وهو قاعد بباب الخيمة فأخذه في حجره فاذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، فرماه لعين فذبحه في حجر الحسين

                تعليق


                • #38
                  المصيبة الكبرى ... إستشهاد الإمام سلام الله عليه



                  ولما قتل أصحابه وأهل بيته ولم يبق أحد عزم على لقاء الله، فدعى ببردة رسول الله فالتحف بها فأفرغ عليها درعه، وتقلّد سيفه واستوى على متن جواده، ثم توجّه نحو القوم وقال: ويلكم على مَ تقاتلونني؟ على حقٍّ تركته؟ أم على شريعة بدّلتها؟ أم على سنّة غيّرتها؟ فقالوا: نقاتلك بغضاً منّا لأبيك وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين. فلما سمع كلامهم بكى، وجعل يحمل عليهم وجعلوا ينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم رجع إلى مركزه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

                  وهو في تلك الحالة يطلب شربة من الماء وكان يقول:

                  أنــــا ابن عليّ الطهر من آل هاشمٍ**كفاني بهـــــذا مفــــخراً حين افخـر

                  وجــدي رسول الله ا كرم من مشى**ونحن سراج الله في الأرض نزهـــر

                  وفاطـــــم أمــــــي من سلالة أحمد**وعمّــــي يدعى ذا الجناحين جعفر

                  وفيـــــنا كـــــــتاب الله أنزل صادقـــاً**وفيـــــنا الهدى والوحي بالخير يذكر

                  فنــــــحن أمــــــان الله للناس كلّهم**نسرّ بهذا فـــــي الأنــــام ونـــجهر

                  ونحـــن ولاة الحوض نسقي ولاتنــــا**بكاس رســــــول الله ما ليس ينكر

                  وشيعـــــتنا فــي الحشر أكرم شيعة**ومبغــــــضنا يــــوم القيامة يخسر

                  فطـــــوبى لعــــــبدٍ زارنا بعد موتنــــــا**بجـــــنة عــــــدن صـفوها لا يكدّر

                  فصاح عمر بن سعد: الويل لكم! أتدرون لمن تقاتلون؟ هذا ابن الأنزع البطين هذا ابن قتال العرب، احملوا عليه من كل جانب. فحملوا عليه فحمل عليهم كالليث المغضب، فجعل لا يلحق منهم أحداً إلا بعجهُ بالسيف فقتله، حتى قتل منهم مقتلة عظيمة، وفي خبر أنه قتل ألفاً وتسعمائة وخمسين رجلاً، فحالوا بينه وبين رحله، فصاح: ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا.

                  فناداه شمر: ما تقول يابن فاطمة؟

                  قال أقولك أنا الذي أقاتلكم وأنتم تقاتلونني، والنساء ليس عليهن جناح، فامنعو عتاتكم وجهّالكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حيّا.

                  فصاح شمر بأصحابه: تنحّوا عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه، فلعمري هو كفو كريم، فتراجع القوم.


                  ثم نادى برفيع صوته: هل من ناصر ينصرني، هل من معين يعينني؟ فخرج زين العابدين وهو مريض لا يتمكّن أن يحمل سيفه، وأمّ كلثوم تنادي خلفه ارجع.

                  فقال: يا عمّتاه ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول الله، فقال الحسين: خذيه، لئلا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد.

                  وفي رواية جاء الحسين واحتمله وأتى به إلى الخيمة ثمّ قال: ولدي ما تريد أن تصنع؟ قال: أبه إن نداءك قطع نياط قلبي، وأريد أن أفديك بروحي، فقال الحسين: يا ولدي أنت مريض، ليس عليك جهاد، وأنت الحجّة والإمام على شيعتي وأنت أبو الأئمة، وكافل الأيتام والأرامل، وأنت الرادّ لحرمي إلى المدينة.

                  فقال زين العابدين: أبتاه تقتل وأنا أنظر إليك؟ ليت الموت أعدمني الحياة، روحي لروحك الفداء، نفسي لنفسك الوقاء.

                  ثم ذهب الحسين إلى خيام الطاهرات من آل رسول الله، ونادى: يا سكينة ويا فاطمة ويا زينب ويا أم كلثوم: عليكنّ مني السلام فهذا آخر الاجتماع، وقد قرب منكنّ الافتجاع.

                  فعلتْ أصواتهن بالبكاء وصحْن: الوداع الوداع، الفراق الفراق، فجاءته عزيزته سكينة وقالت: يا ابة استسلمت للموت؟ فإلى من اتّكل؟ قال: يا نور عيني كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين. قالت: ابه ردّنا إلى حرم جدّنا؟ فقال الحسين: هيهات، لو ترك القطا لغفا ونام.

                  فبكت سكينة فأخذها وضمّها إلى صدره ومسح الدموع عن عينها وهو يقول:

                  سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي**منك البـــكاء إذا الحِمام دهاني

                  لا تــــحرقي قلبي بدمعك حسرة **مادام مــنيّ الروح في جثماني

                  فإذا قــــتلت فـــأنت أولى بالذي ** تــــــأتينه يا خـــــيرة النـسوان

                  ثم إن الحسين دعاهن بأجمعهن، وقال لهن: استعدوا للبلاء واعلموا أن الله حافظكم وحاميكم، وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذب أعاديكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم.

                  ثم أمرهن بلبس أزرهن ومقانعهن، فسألته زينب عن ذلك، فقال: كأنّي أراكم عن قريب كالإماء والعبيد يسوقونكم أمام الركاب، ويسومونكم سوء العذاب، فنادت زينب: وا جدّاه وا قلّة ناصراه، فشقّت ثوبها ونتفت شعرها ولطمت على وجهها، فقال الحسين لها: مهلاً يا بنت المرتضى إن البكاء طويل، فاراد الحسين أن يخرج من الخيمة فتعلّقت به زينب، وقالت: مهلاً يا أخي توقّف حتى أتزودّ منك ومن نظري إليك وأودّعك وداع مفارق لا تلاقي بعده.

                  فجعلت تقبّل يديه ورجليه، وأحطن به سائر النسوة يقبّلن يديه ورجليه، فسكّتهن الحسين، وردّهن إلى الفسطاط.

                  ثم دعا بأخته زينب وصبّرها وأمرّ يده على صدرها وسكّنها من الجزع، وذكر لها ما أعدّ الله للصابرين، فقالت له: يابن أمي طب نفساً وقرّ عيناً فإنك تجدني كما تحب وترضى. فقال الحسين: أخيّة إيتيني بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد، أجعله تحت ثيابي لئلا أجرّد بعد قتلي، فإني مقتول مسلوب، فارتفعت أصواتهنّ بالبكاء، فأتي بتبّان، وهو ثوب قصير ضيّق، فقال: لا، ذاك لباس من ضربت عليه الذلّة، فأخذ ثوباً خَلِقاً فخرقه وجعله تحت ثيابه فلما قتل جرّدوه منه.

                  ثم نادى الحسين هل من يقدم إليّ جوادي؟ فسمعت زينب فخرجت وأخذت بعنان الجواد وأقبلت إليه وهي تقول: لمن تنادي وقد قرحت فؤادي.

                  فعاد الحسين إلى القوم فحمل عليهم وكانت الرجال تشدّ عليه فيشدّ عليها، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا حلّ فيها الذئب، حمل على الميمنة وهو يقول:

                  المـــــوت خير من ركوب العار**والعــــار أولى من دخول النار

                  وحمل على الميسرة وهو يقول:

                  أنــــــا الحســــــين بـــــن علي**آليـــــــت أن لا أنـــــــثــــــــني

                  أحــــــمي عــــــيالاتُ أبــــــــي**أمضــــــي عـــــلى ديــن النبي

                  فجعلوا يرشقونه بالسهام والنبال حتى صار درعه كالقنفذ، فوقف ليستريح ساعة وقد ضعف عن القتال فبينما هو واقف إذ أتاه حجرٌ فوقع على جبهته، فاخذ الثوب ليمسح الدم عن عينه فأتاه سهم محدّد مسموم له ثلاث شعب فوقع السهم في صدره على قلبه، فقال الحسين: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: الهي إنك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبيّ غيره.

                  ثم أخذ السهم وأخرجه من قفاه فانبعث الدم كالميزاب، فوضع يده على الجرح فلما امتلأت دماً رمى به إلى السماء، ثم وضع يده على الجرح ثانياً فلما امتلأت لطّخ به رأسه ولحيته وقال هكذا أكون حتى ألقى جدّي رسول الله وأنا مخضوب بدمي أقول: يا رسول الله قتلني فلان وفلان.

                  فعند ذلك طعنه صالح بن وهب على خاصرته طعنة، فسقط عن فرسه على خده الأيمن وهو يقول: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، ثم جعل يجمع التراب تحت يده كالوسادة فيضع خدّه عليها ثم يناجي ربّه قائلاً:

                  صبراً على قضائك وبلائك، يا رب لا معبود سواك، ثم وثب ليقوم للقتال فلم يقدر، فبكى بكاءاً شديداً، فنادى: وا جدّاه وا محمّداه، وا أبتاه وا عليّاه، وا غربتاه وا قلّة ناصراه، ءأقتل مظلوماً وجدّي محمد المصطفى؟ ءأذبح عطشانا وأبي عليّ المرتضى؟ ءأترك مهتوكاً وأمي فاطمة الزهراء؟

                  ثم خرجت زينب من الفسطاط وهي تنادي: وا أخاه، وا سيداه، وا أهل بيتاه، ليت السماء أطبقت على الأرض، ليت الجبال تدكدكت على السهل، اليوم مات جدّي اليوم ماتت أمي.

                  ثم نادت: ويحك يابن سعد أيقتل أبو بعد الله وأنت تنظر إليه؟ فلم يجبها عمرو بشيء، فنادت: ويحكم أما فيكم مسلم؟ فلم يجبها أحد.

                  ثم انحدرت نحو المعركة وهي تقوم مرّة وتقعد أخرى، وتحثو التراب على راسها حتى وصلت إلى الحسين فطرحت نفسها على جسده وجعلت تقول:

                  ءأنت الحسين أخي؟

                  ءأنت ابن أمي؟

                  ءأنت حمانا؟

                  ءأنت رجانا؟

                  والحسين لا يرد عليها جواباً، لأنه كان مشغولاً بنفسه، فقالت: أخي بحق جدّي إلا ما كلّمتني، وبحق أبي أمير المؤمنين إلا ما خاطبتني، يا حشاش مهجتي كلّمني يا شقيق روحي، ففتح الحسين عينه. فعند ذلك جلست زينب خلفه وأجلسته حاضنة له بصدرها، فالتفت إليها الحسين وقال: أخيّة كسرتِ قلبي وزِدتني كرباً فوق كربي، فبالله عليك إلا ما سكتِ وسكنتِ.

                  فصاحت: وا ويلاه يابن أمي كيف اسكن واسكت وأنت بهذه الحالة تعالج سكرات الموت؟

                  روحي لروحك الفداء، نفسي لنفسك الوقاء

                  فخرج عبد الله بن الحسن وهو غلامٌ لم يراهق من عند النساء، فشدّ حتى وقف إلى جنب عمّه الحسين، فلحقته زينب بنت علي لتحسبه، فقال لها الحسين: احبسيه يا أختي فابى وامتنع عليها امتناعاً شديداً وقال: والله لا أفارق عمي، واهوى أبحر بن كعب إلى الحسين بالسيف فقال له الغلام: ويلك يابن الخبيثة أتقتل عمّي فضربه أبحر بالسيف فأتقاه الغلام بيده وأطنّها الى الجلد فإذا هي معلّقة، ونادى الغلام: يا عمّاه يا أبتاه فأخذه الحسين فضمّه إليه وقال: يابن أخي صبراً على ما نزل بك واحتسب في ذلك الأجر فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين فرماه حرملة بسهم فذبحه في حجر عمّه الحسين.

                  ثم صاح عمر بن سعد بأصحابه: ويلكم إنزلوا وحزّوا رأسه، وقال لرجل: ويلك إنزل إلى الحسين وأرحه. فأقبل عمرو بن الحجاج ليقتل الحسين فلمّا دنى ونظر إلى عينيه ولّى راجعاً مدبراً، فسألوه عن رجوعه؟ قال: نظرتُ إلى عينيه كأنهما عينا رسول الله. واقبل شبثُ بن ربعي فارتعدت يده ورمى السيف هارباً، فعند ذلك أقبل شمرٌ وجلس على صدر الحسين ووقعت المصيبة الكبرى التي يعجز القلم عن وصفها.


                  ألا لعنة الله على القوم الظالمين

                  تعليق


                  • #39
                    ما بعد الفاجعة

                    وارتفعت في السماء في ذلك الوقت غبرة شديدة سوداء مظلمة فيها ريح حمراء لا يرى فيها عين ولا أثر و أمطرت السماء دماً ، حتى ظن القوم أن العذاب قد جاءهم، فلبثوا كذلك ساعة، ثم انجلت عنهم.

                    ثم أقبلوا على سلب الحسين عليه السلام، فأخذ قميصه إسحاق بن حوبة الحضرمي لعنه الله، فلبسه فصار أبرص وامتعط شعره.

                    وأخذ سراويله بحر بن كعب التيمي لعنه الله، وروي: أنه صار زمناً مقعداً من رجليه.

                    وأخذ عمامته اخنس بن مرثد بن علقمة الحضرمي لعنه الله، وقيل: جابر ابن يزيد الأودي لعنه الله، فاعتم بها فصار معتوهاً.

                    وأخذ نعليه الأسود بن خالد .

                    وأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبي لعنه الله، فقطع إصبعه عليه السلام مع الخاتم، وهذا أخذه المختار فقطع يديه ورجليه وتركه يتشحط في دمه حتى هلك.

                    وأخذ قطيفة له عليه السلام كانت من خز قيس بن الأشعث لعنه الله.

                    أخذ درعه البتراء عمر بن سعد لعنه الله، فلما قتل عمر بن سعد وهبها المختار لأبي عمرة قاتله.

                    وأخذ سيفه جميع بن الخلق الاودي ، وقيل: رجل من بني تميم يقال له الأسود بن حنظلة لعنه الله.

                    وجاءت جارية من ناحية خيم الحسين عليه السلام.

                    فقال لها رجل: يا أمة الله إن سيدك قتل.

                    قالت الجارية: فاسرعت الى سيداتي وأنا اصيح، فقمن في وجهي وصحن.

                    وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول وقرة عين الزهراء البتول، حتى جعلوا ينتزعون ملحفة المرأة عن ظهرها، وخرج بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وحريمه يتساعدن على البكاء ويندبن لفراق الحماة والأحباء.

                    و كانت امرأة من بني بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد، فلما رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين عليه السلام في فسطاطهن وهم يسلبونهن، أخذت سيفاً وأقبلت نحو الفسطاط وقالت: يا آل بكر بن وائل أتسلب بنات رسول الله؟!! لا حكم إلا لله، يالثارات رسول الله، فأخذها زوجها فردها إلى رحله.

                    ثم أخرجوا النساء من الخيمة وأشعلوا فيها النار، فخرجن حواسر مسلبات حافيات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلة.

                    وقلن: بحق الله إلا ما مررتم بنا على مصرع الحسين، فلما نظر النسوة إلى القتلى صحن وضربن وجوههن.

                    فوالله لا أنسى زينب ابنت علي وهي تندب الحسين عليه السلام وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب: وا محمداه، صلى عليك مليك السماء، هذا حسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وا ثكلاه، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى وإلى محمد المصطفى وإلى علي المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيد الشهداء.

                    وا محمداه، وهذا حسين بالعراء، تسفي عليه ريح الصباء، قتيل أولاد البغايا.

                    واحزناه، واكرباه عليك يا أبا عبد الله اليوم مات جدي رسول الله صلى الله عليه وآله.

                    يا أصحاب محمد، هؤلاء ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا.

                    بأبي من أضحى عسكره في يوم الإثنين نهبا، بأبي من فسطاطه مقطع العرى، بأبي من لا غائب فيرتجى، ولا جريح فيداوى، بأبي من نفسي له الفداء، بأبي المهموم حتى قضى، بأبي العطشان حتى مضى، بأبي من يقطر شيبه بالدماء، بأبي من جده رسول اله السماء، بأبي من هو سبط نبي الهدى، بأبي محمد المصطفى، بأبي علي المرتضى، بأبي خديجة الكبرى، بأبي فاطمة الزهراء سيدة النساء، بأبي من ردت عليه الشمس حتى صلى.

                    فأبكت والله كل عدو وصديق.

                    ثم أنه سكينة اعتنقت جسد الحسين عليه السلام، فاجتمع عدة من الأعراب حتى جروها عنه.

                    ثم نادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب للحسين فيوطئ الخيل ظهره ؟

                    فانتدب منهم عشرة، وهم: إسحاق بن حوبة الذي سلب الحسين عليه السلام قميصه، وأخنس بن مرثد، وحكيم بن طفيل السبيعي ، وعمر بن صبيح الصيداوي ، ورجاء بن منقذ العبدي ، وسالم بن خيثمة الجعفي ، وصالح بن وهب الجعفي، وواحظ بن غانم وهاني بن ثبيت الحضرمي، وأسيد بن مالك لعنهم الله فداسوا الحسين عليه السلام بحوافر خيلهم حتى رضوا ظهره وصدره .

                    وجاء هؤلاء العشرة حتى وقفوا على ابن زياد لعنه الله، فقال أسيد بن مالك أحد العشرة.

                    نحن رضضنا الصدر بعد الظهر * بكل يعبوب شديد الأسر

                    فقال ابن زياد لعنه الله: من أنتم؟

                    قالوا: نحن الذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين حتى طحنا حناجر صدره.

                    قال: فأمر لهم بجائزة يسيرة.

                    قال أبو عمر الزاهد: فنطرنا في هؤلاء العشرة، فوجدناهم جميعاً أولاد زنا.

                    وهؤلاء أخذهم المختار، فشد أيديهم وأرجلهم بسكك الحديد، وأوطأ الخيل ظهورهم حتى هلكوا.

                    وروى ابن رباح قال: لقيت رجلاً مكفوفاً قد شهد قتل الحسين عليه السلام.

                    فسئل عن ذهاب بصره؟

                    فقال: كنت شهدت قتله عاشر عشرة، غير أني لم أطعن ولم أضرب ولم أرم، فلما قتل رجعت إلى منزلي وصليت العشاء الآخرة ونمت.

                    فأتاني آت في منامي، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وآله.

                    فقلت: مالي وله.

                    فأخذ بتلابيبي وجرني إليه، فإذا النبي صلى الله عليه وآله جالس في صحراء، حاسر عن ذراعية، آخذ بحربة، وملك قائم بين يديه وفي يده سيف من نار يقتل أصحابي التسعة، فلما ضرب ضربة التهبت أنفسهم ناراً.

                    فدنوت منه وجثوت بين يديه وقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يرد علي، ومكث طويلاً.

                    ثم رفع رأسه وقال: يا عدو الله أنتهكت حرمتي وقتلت عترتي ولم ترع حقي وفعلت ما فعلت.

                    فقلت: يا رسول الله، والله ما ضربت بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم.

                    فقال: صدقت، ولكن كثرت السواد، أدن مني، فدنوت منه، فاذا طشت مملو دماً، فقال لي: هذا دم ولدي الحسين عليه السلام، فكحلني من ذلك الدم، فانتبهت حتى الساعة لا أبصر شيئاً.

                    وروي عنه الصادق عليه السلام، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «إذا كان يوم القيامة نصب لفاطمة عليها السلام قبة من نور، ويقبل الحسين عليه السلام ورأسه في يده، فإذا رأته شهقت شهقة لا يبقى في الجمع ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا بكى لها، فيمثله الله عز وجل لها في أحسن صورة، وهو يخاصم قتلته بلا رأس، فيجمع الله لي قتلته والمجهزين عليه ومن شرك في دمه، فأقتلهم حتى آتي على آخرهم، ثم ينشرون فيقتلهم أمير المؤمنين عليه السلام، ثم ينشرون فيقتلهم الحسن عليه السلام، ثم

                    ينشرون فيقتلهم الحسين عليه السلام، ثم ينشرون فلا يبقى من ذريتنا أحد إلا قتلهم، فعند ذلك يكشف الغيط وينسى الحزن».

                    ثم قال الصادق عليه السلام: «رحم الله شيعتنا، هم والله المؤمنون وهم المشاركون لنا في المصيبة بطول الحزن والحسرة».

                    وعن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «اذا كان يوم القيامة تأتي فاطمة عليها السلام في لمة من نسائها.

                    فيقال لها: ادخلي الجنة.

                    فتقول: لا أدخل حتى أعلم ما صنع بولدي من بعدي.

                    فيقال لها: أنظري في قلب القيامة، فتنظر إلى الحسين عليه السلام قائماً ليس عليه رأس، فتصرح صرخة، فأصرخ لصراخها وتصرخ الملائكة لصراخها».

                    وفي رواية أخرى: «وتنادي وا ولداه، واثمرة فؤاداه».

                    قال: «فيغضب الله عز وجل لها عند ذلك، فيأمر ناراً يقال لها هبهب قد أوقد عليها ألف عام حتى اسودت، لا يدخلها روح أبداً ولا يخرج منها غم أبداً.

                    فيقال لها: التقطي قتلة الحسين عليه السلام، فتلتقطهم، فإذا صاروا في حوصلتها صهلت وصهلوا بها وشهقت وشهقوا بها وزفرت وزفروا بها.

                    فينطقون بألسنة حداد ذلقة ناطقة: يا ربنا بم أوجبت لنا النار قبل عبدة الأوثان؟

                    فيأتيهم الجواب عن الله عز وجل: ليس من علم كمن لا يعلم».



                    لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ألا لعنة الله على القوم الظالمين

                    موعدنا إن شاء الله مع سيد العابدين و إمام الساجدين علي بن الحسين بن علي زين العابدين
                    التعديل الأخير تم بواسطة سليل الرسالة; الساعة 09-05-2003, 02:12 AM.

                    تعليق


                    • #40
                      بسم الله الرحمن الرحيم
                      اللهم صلي على محمد و آل محمد

                      موضوعنا اليوم يتحدث عن الحافظ و المبقي على وهج الثورة الحسينية
                      هو الإمام علي بن الحسين السجاد

                      نسبه الشريف : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي

                      مولده الشريف:
                      جاء في كتب التاريخ أن والدة الإمام السجاد (ع) هي ( شهر بانو ) بنت آخر ملوك الفرس ، من سلسلة الساسانية ( يزدجرد ) .

                      وكانت الأمبراطورية الفارسية كأي نظام جاهلي آخر قائمٍ على الطبقية والظلم والعدوان ، فلما أشرق نور الإسلام تهاوت كما تتهاوى شجرة منخورة أمام إعصارٍ عنيف ، وانهزم الأمبراطور من بلد إلى آخر حتى قُتل غيلةً في خراسان ، وبقيت عائلته في تلك البلاد حتى فتحت على عهد عثمان في عام ( 32 ) وجيء بهم إلى المدينة المنورة ، فلما مثلوا أمام الخليفة الثالث وحضر كبار الأصحاب ، أشار الإمام أمير المؤمنيـن (ع) إلى الخليفة بإكرامهم ورغّبه في ذلك بذكر حديث الرسول (ص) : “ أكرموا عزيزَ قومٍ ذَل “.

                      ولعل الحكمة في ذلك كانت استمالة الشعوب التي لم تزل تحترم قيادتها وكرماءها ، لكي لاتبقى بينهم وبين قبول الإسلام حواجز الحقد والضغينة .

                      فلما تريث الخليفة في ذلك قال الإمام أمير المؤمنين (ع) : “ اعتقتُ منهم لوجه اللـه حقي وحق بني هاشم “ .

                      وتبعــــه في ذلك الأنصار والمهاجرون ، فلم ير الخليفة بـدّاً من قبول الأمــــر ، فأشــــار الإمام أمير المؤمنيــــن (ع) بأن تُترك كلُّ واحدةٍ لاختيار الزوج المناسب ، فاختارت إحدى بنات يزدجرد الحسين (ع) ، بينما اختارت الثانية الحسن ، وقيل محمد بن أبي بكر . فحملت شهر بانو في تلك السنة . وفي منتصف شهر جمادي الأولى لعام ثلاث وثلاثين من الهجرة ولدت ابنها البكر ، وماتت وهي في نفاسها ، فتكفلته واحدة من أمهات الأولاد عند الإمام الحسين (ع) ، فنشأ زين العابدين في كنفها ، وكان يزعم الناس أنها أُمه بينما كانت مولاته


                      لمحات بسيطة من حياته :

                      لأن الإمام زيــن العابدين (ع) ورث عن جده النبي المصطفى ( عليه وآله الصلاة والسلام ) دور الأنبياء ، فإن الحكمة الأولى لإمامته هي ذات الحكمة الأولى في رسالة الأنبياء ، ابتلاء الناس بعد دعوتهم إلى اللـه ، وكانت سائر الأهداف السامية - كإقامة القسط ونصرة المظلومين - في امتداد تلك الحكمة ، أي أنها تتفرع منها وتأتي بعدها .

                      ولقد تسنَّت لسائـر أئمة الهدى (ع) الظروف للقيام بتلك الأهداف المتدرجة ، وبالذات الهدف السياسي ، كما فعل الإمام علي (ع) عندما نهض بأعباء الحرب ضد قريش مرتين ، مرة في عهد النبي وتحت لوائه ، ومرة بعد النبي وتحت لواء الرسالة الحنفية وبرفقة أصحاب النبي (ص) . وهكذا نجله الإمام الحسن (ع) . حيث نهض هو الآخر بأعباء الحرب ضد معاوية ، ثم أوقف الحرب لمصلحة المسلمين . وكذلك الإمام الحسين (ع) حيث قاوم معاوية بالسبل السلمية ، وقام ضد ابنه يزيد بالسيف حتى استُشهد مظلوماً .

                      وهكذا قام سائر الأئمة بأدوار سياسية ، وبوسائل غير مباشرة ، وبدرجات مختلفة .


                      وبذلك كانت حياة الإمام السجاد قطعة مشرقة بنور ربِّه .. وكانت تجلياً باهراً للإيمان الخالص باللـه ، وللهيام الشديد باللـه ، وللعبادة والتبتل .

                      يقول الإمام الباقر (ع) : “ كان علي بن الحسين (ع) يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ، كما كان يفعل أمير المؤمنين (ع) . وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر ، وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل ، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية اللـه عزَّ وجلَّ ، وكان يصلي صلاة مودِّع يرى أنه لا يصلي بعدها أبداً ، ولقد صلَّى ذات يوم فسقط الرداء عن أحد منكبيه فلم يسوِّه حتى فرغ من صلاته ، فسأله بعض أصحابه عن ذلك ، فقال : ويحك أتدري بين يدي مَن كنت ؟. إنَّ العبد لا يُقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه . فقال الرجل : هلكنا ، فقال : كلاَّ .. إن اللـه عزَّ وجلَّ متمم ذلك بالنوافل وكان (ع) لَيخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره ، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب ، حتى يأتي باباً باباً فيقرعه ، ثم يناول مَن يخرج إليـه . وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه . فلما توفي (ع) فقدوا ذلك ، فعلموا أنه كان علي بن الحسين (ع) . ولما وُضع (ع) على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل رُكَبِ الإبل . مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين . ولقد خرج ذات يوم وعليه مطرف خز فتعرض له سائل فتعلّق بالمطرف فمضى وتركه ، وكان يشتري الخزَّ في الشتاء ، إذا جاء الصيف باعه فتصدق بثمنه ، ولقد نظر (ع) يوم عرفة إلى قوم يسألون الناس ، فقال : ويحكم أغير اللـه تسألون في مثل هذا اليوم ، إنّه ليُرجى في هذا اليوم لِمَا في بطون الحبالى أنْ يكون سعيداً ؟. ولقد قال له رجل : يابن رسول اللـه إني لأحبُّك في اللـه حبّاً شديداً ، فقال : اللـهم إني أعوذ بك أن أُحبَّ فيك وأنت لي مبغض . ولقد حج على ناقة له عشرين حجة فما قرعها بسوط ، فلما نفقت أمر بدفنها لئلا يأكلها السباع . ولقد سئلت عنه مولاة له فقالت : أُطنب أو اختصر ؟ فقيل لها : بل اختصري ، فقالت : ما أتيته بطعام نهاراً قط ، وما فرشت له فراشاً بليلٍ قط . ولقد انتهى ذات يوم إلى قوم يغتابونه فوقف عليهم ، فقال لهم : إن كنتم صادقين فغفر اللـه لي ، وإن كنتم كاذبين فغفر اللـه لكم . وكان (ع) إذا جاءه طالب علم فقال : مرحباً بوصيِّ رسول اللـه (ص) . ثم يقول : إن طالب العلم إذا خرج من منزله لم يضع رجلَيه على رَطب ولا يابس من الأرض ، إلاّ سبَّحت له إلى الأرضين السابعة ، ولقد كان يعول مئة أهل بيت من فقراء المدينة . وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضرار والزّمنى والمساكين الذين لا حيلة لهم . وكان يناولهم بيده ، ومن كان له منهم عيال حمل له إلى عياله من طعامه ، وكان لا يأكل طعاماً حتى يبدأ فيتصدق بمثله . ولقد كان تسقط منه كل سنة سبع ثفنات من مواضع سجوده لكثرة صلاته ، وكان يجمعها ، فلما مات دُفنت معه . ولقد بكى على أبيه الحسين (ع) عشرين سنة ، وما وضُع بين يَديه طعام إلاّ بكى ، حتى قال له مولى له : يابن رسول اللـه أَمَا آن لِحُزنك أن ينقضي ؟. فقال له : ويحك ، إن يعقوب النبيَّ (ع) كان له اثني عشر ابناً فغيَّب اللـه عنه واحداً منهم ، فابيضَّت عيناه من كثرة بكائه عليه ، وشاب رأسه من الحزن ، واحدودب ظهره من الغم ، وكان ابنه حيّاً في الدنيا وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني ؟“ .


                      عن إبراهيم بن أدهم وفتح الموصلي ، قال كل واحد منهما : كنت أسيح في البادية مع القافلة ، فعرضت لي حاجة فتنحيت عن القافلة ، فإذا أنا بصبي يمشي ، فقلت : سبحان اللـه بادية بيداء وصبي يمشي ؟. فدنوت منه وسلَّمت عليه ، فردّ عليَّ السلام . فقلت له : إلى أين ؟. قال : أريد بيت ربِّي . فقلت : حبيبي ، إنك صغير ليس عليك فرض ولا سنَّة . فقال : يا شيخ ما رأيت من هو أصغر سنّاً مني مـــات ؟ فقلت : أين الزاد والراحلة ؟ فقال : زادي تقواي ، وراحلتي رجلاي ، وقصدي مولاي . فقلتُ : ما أرى شيئاً من الطعام معك ؟ فقال : يا شيخ هل يستحسن أن يدعوك إنساناً إلى دعوة فتحمل من بيتك الطعام ؟. قلت : لا ، قال : الذي دعاني إلى بيته هو يطعمني ويسقيني . فقلت : ارفع رجلك حتى تدرك فقال : عليَّ الجهاد ، وعليه الإبلاغ . أما سمعت قوله تعالى :

                      { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإِنَّ اللـه لَمَعَ الْمُـحْسِنِينَ } (العنكبوت/69) .

                      قال : فبينما نحن كذلك إذ أقبل شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض حسنة ، فعانق الصبي وسلَّم عليه . فأقبلتُ على الشاب وقلت له : أسألك بالذي حَسَّن خلقك مَن هذا الصبي ؟ فقال : أما تعرفه ؟ هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . فتركت الشاب وأقبلت على الصبي ، وقلت : أسألك بآبائك مَن هذا الشاب ؟ فقال : أما تعرفه ؟ هذا أخي الخضر ، ، يأتينا كلَّ يوم فيسلِّم علينا . فقلت : أسألك بحق آبائك لما أخبرتني بما تجوز المفاوز بلا زاد ؟ قال : بل أجوز بزاد ، وزادي فيها أربعة أشياء . قلت : وماهي ؟ قال : أرى الدنيا كلها بحذافيرها مملكة اللـه ، وأرى الخلق كلهم عبيد اللـه وإماؤه وعياله ، وأرى الاسباب والأرزاق بيد اللـه ، وأرى قضاء اللـه نافذاً في كل أرض اللـه . فقلت : نعم الزاد زادك يا زين العابدين ، وأنت تجوز بها مفاوز الآخرة ، فكيف مفاوز الدنيا ؟

                      وقصة مشابهة يرويها حماد بن حبيب الكوفي القطان فيقول :

                      انقطعت عن القافلة عند زبالة فلما أجنَّني الليل أويت إلى شجرة عالية . فلما اختلط الظلام إذا أنا بشاب قد أقبل عليه أطمار بيض تفوح منه رائحة المسك . فأخفيت نفسي ما استطعت . فتهيأ للصلاة ، ثم وثب قائماً وهو يقول : يا من حاز كل شيء ملكوتاً ، وقهر كل شيء جبروتاً ، أولج قلبي فرح الإقبال عليك ، وألحقني بميدان المطيعين لك ، ثم دخل في الصلاة . فلما رأيته وقد هدأت أعضاؤه ، وسكنت حركاته ، قمت إلى الموضع الذي تهيأ فيه إلى الصلاة ، فإذا أنا بعين تنبع . فتهيأت للصلاة ، ثم قمت خلفه ، فإذا بمحراب كأنه مثل في ذلك الوقت فرأيته كلما مر بالآية التي فيها الوعد والوعيد يرددها بانتحاب وحنين . فلما أن تقشع الظلام وثب قائماً وهو يقول : يا من قصده الضالون فأصابوه مرشداً ، وأَمَّه الخائفون فوجدوه معقلاً ، ولجأ إليه العابدون فوجدوه موئلاً . متى راحة مَن نصب لغيرك بدنه ، ومتى فرح من قصد سواك بِنيِته ؟ إلهي قد تقشّع الظلام ولم أقض من خدمتك وطراً ، ولا من حياض مناجاتك صدراً ، صلِّ على محمد وآله وافعل بي أولى الأمرين بك يا أرحم الراحمين . فخفت أن يفوتني شخصه وأن يخفي علي أمره ، فتعلقت به فقلت : بالذي أسقط عنك هلاك التعب ، ومنحك شدة لذيذ الرهب ، إلاّ ما لحقتني منك جناح رحمة وكنف رقة ، فإني ضال . فقال : لو صدق توكلك ما كنت ضالاً ، ولكن اتبعني واقفُ أثري . فلما ان صار تحت الشجرة أخذ بيدي وتخيل لي أن الأرض تمتد من تحت قدمي ، فلما انفجر عمود الصبح قال لي : أبشر فهذه مكة ، فسمعت الضجة ورأيت الحجة ، فقلت له : بالذي ترجوه يوم الآزفة يوم الفاقة ، مَن أنت ؟ فقال : إذا أقسمت فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب .

                      تعليق


                      • #41
                        كان الظلام يخيم على طرقات المدينة وقد أوى الناس إلى بيوتهم ، والسماء تمطر ورياح الشتاء الباردة تعصف .. فيقول : الزهري : رأيته (ع) يمشي وعلى ظهره دقيق . فقلت يابن رسول اللـه ، ما هذا ؟.

                        قال (ع) : أريد سفراً أعد له زاداً أحمله إلى موضع حريز .

                        فقال الزهري : فهذا غلامي يحمله عنك ، فأبى (ع) .

                        فقال الزهري : أنا أحمله عنك فأني ارفعك ( وأجلُّك ) عن حمله .

                        فقال علي بن الحسين (ع) : لكني لا أرفع نفسي ( ولا أجل نفسي ) عما ينجيني في سفري ، ويحسن ورودي على ما أرد عليه . وأضاف الإمام قائلا : أسألك بحق اللـه لما مضيت لحاجتك وتركتني . فانصرف عنه . فلما كان بعد أيام قال له يابن رسول اللـه لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثراً .

                        قال : بلى يا زهري !. ليس ما ظننت ، ولكنه الموت ، وله استعدّ ، وأضاف الإمام لبيان هدف حملـــه تلك البضاعة في الليل إلى بيوت الفقراء : إنما الاستعداد للموت تجنب الحرام ، وبذل النفوس في الخيـــر .

                        إن جذور شخصية الإمام زين العابدين تمتد في أفق معرفته باللـه تعالى ، ويقينه باليوم الآخر ، ووعيه للسرعة الخاطفة التي تبتلع ساعات الليل والنهار من عمر البشر ، وتزاحم الواجبات عليه !.

                        حينما يسأله رجل كيف أصبحت يابن رسول اللـه ؟ يقول : أصبحت مطلوباً بثمان : اللـه يطلبني بالفرائض ، والنبي (ص) بالسنّة ، والعيال بالقوت ، والنفس بالشهوة ، والشيطان باتِّباعه ، والحافظان بصدق العمل ، وملك الموت بالروح ، والقبر بالجسد . فأنا بين هذه الخصال مطلوب .

                        إنه كان مثلاً رائعاً للآية الكريمة : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللـه قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (آل عمران/191) .

                        لقد أحبَّ اللـه حتى فاضت على شفاهه روافد الحب في صورة ابتهالات ومناجاة سجَّل التاريخ جزءاً بسيطاً جدّاً منها في صحيفته المعروفة بـ ( السجادية ) .. فلنستمع معاً إلى هذه الرائعة التي تبهر الأبصار :

                        “ فقد انقطعتْ إليك هِمَّتي ، وانصرفتْ نحوك رغبتي . فأنتَ لا غيرك مرادي ، ولك لا لسواك سهري وسُهادي ، ولقاؤك قرة عيني ، ووصلك مُنَى نفسي ، وإليك شوقي ، وفي محبتك وَلَهي ، وإلى هواك صبابتي ، ورضاك بُغيتي ، ورؤيتك حاجتي ، وجوارك طلبي ، وقربك غاية سؤلي ، وفي مناجاتك رَوحي وراحتي ، وعندك دواء علتي ، وشفاء غُلتي ، وبردُ لوعتي ، وكشفُ كربتي ، فكن أنيسي في وحشتي ، ومُقيل عثرتي ، وغافر زلتي ، وقابل توبتي ، ومجيب دعوتي ، ووليّ عصمتي ، ومغني فاقتي ، ولا تقطعني عنك ، ولا تبعدني منك ، يا نعيمي وجنتي ، ويا دنياي وآخرتي ، يا أرحم الراحمين “ .

                        فـــأيُّ قـــلبٍ مفعم بالإيمان هـــذا الذي يفيض بهذه الكلمات المضيئـــة ؟!.. وأي فؤاد ملتهب بالشوق إلــى اللـه ، متيم بحب اللـه ، يشع بهذه المناجاة ؟. إنّه قلب ذلك الإمام الذي كانت الصلاة أحب الأمور إليه . وكان الذكر شغله الشاغل والعبادة صبغة حياته !

                        فقد دخل على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان فاستعظم عبد الملك ما رأى من أثر السجود بين عينَي علي بن الحسين (ع) ، فقال : يا أبا محمد لقد بيَّن عليك الإجتهاد ، ولقد سبق لك من اللـه الحسنى ، وأنت بضعة من رسول اللـه (ص) قريب النسب وكيد السبب . وإنك لذو فضل عظيم على أهل بيتك وذوي عصرك ، ولقد أُوتيتَ من الفضل والعلم والدين والورع مالم يؤته أحد مثلك ولا قبلك ، إلاّ مَن مضى من سلفك .. وأقبل يُثني عليه ويطريه .. قال : فقال علي بن الحسين (ع) :

                        “ كلّما ذكرته ووصفته من فضل اللـه سبحانه وتأييده وتوفيقه . فأين شكرُه على ما أنعم يا أمير المؤمنين ؟. كان رسول اللـه (ص) يقف في الصلاة حتى تورّمت قدماه ، ويظمأ في الصيام حتى يُعصب فوه ، فقيل له : يا رسول اللـه ألم يغفر لك اللـه ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول (ص) أفلا أكون عبداً شكوراً ؟. الحمد لله على ما أولى وأبلى ، وله الحمد في الآخرة والأولى . واللـه لو تقطعت أعضائي ، وسالت مقلتاي على صدري ، لن أقوم لله جل جلاله بشكر عَشر العشير من نعمة واحدة من جميع نعمه الَّتي لا يحصيها العادُّون ، ولا يبلغ حدّ نعمة منها على جميع حمد الحامدين ، لا واللـه أو يراني اللـه لا يشغلني شيء عن شكره وذكره ، في ليل ولا نهار ، ولا سر ولا علانية . ولولا أن لأهلي عَلَيَّ حقاً ، ولسائر الناس من خاصهم وعامهم عَلَيَّ حقوقاً لا يسعني إلاّ القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى أؤديها إليهم ، لَرميتُ بطرفي إلى السماء ، وبقلبي إلى اللـه ، ثم لم أرددهما حتى يقضي اللـه على نفسي وهو خير الحاكمين “.

                        وبكى (ع) وبكى عبد الملك وقال : شتان بين عبد طلب الآخرة وسعى لها سعيها ، وبين من طلب الدنيا من أين جاءته ، ماله في الآخرة من خلاق . ثم أقبل يسأله عن حاجاته وعما قصد له فشفّعه فيمن شفَّع ، ووصله بمال “ .

                        وعندما يراه طاوس في أخريات الليل يطوف بالبيت الحرام يرى منه عجباً حتى يشفق عليه فلنستمع إليه ، يروي قصته :

                        رأيته يطوف من العشاء إلى السَّحر ويتعبد ، فلمّا لم يَرَ أحداً رمق السماء بطرفه ، وقال :

                        “ إلهي غارت نجوم سماواتك ، وهجعت عيون أنامك ، وأبوابُك مفتّحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني ، وتريني وجه جَدِّي محمد (ص) في عرصات القيامة “ . ثم بكى وقال : “ وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكٌّ ، ولا بنكالك جاهلٌ ، ولا لعقوبتك متعرضٌ ، ولكن سوَّلت لي نفسي ، وأعانني على ذلك سترُك المرخَى به عَلَيَّ . فالآن من عذابك من يستنقذني ؟. وبحبل مَن أعتصم إنْ قطعتَ حبلك عني ؟. فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يَديك ، إذا قيل للمخفِّين جوزوا ، وللمثقَلين حُطُّوا . أمع المخفّين أجوز ؟ أم مع المثقلين أَحط ؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطايايَ ولم أتب ، أما آن لي أن أستحي من ربِّي ؟! “ .

                        ثم بكى وأنشأ يقول:

                        أتحرقنـــي بالنار يـــا غـــاية الــمـــــنـى * فـــأيـــــن رجــائـــي ثم ايـــــن محبّـــــتي

                        أتيـــتُ بـــأعــــــمالٍ قبـــاحٍ زَرِيَّــــــــــــةٍ * وما فــي الـورى خلــق جنـــى كجنايتــي

                        ثم بكى وقال : “ سبحانك تُعصَى كأنك لا ترى ، وتحلم كأنك لم تُعص تتودّد إلى خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة إليهم ، وأنت يا سيدي الغني عنهم “ .

                        ثم خر إلى الارض ساجداً . قال : فدنوتُ منه وشلتُ برأسه ووضعتُه على ركبتي وبكيتُ حتى جرت دموعي على خده ، فاستوى جالساً وقال : “ مَن الذي أشغلني عن ذكر ربِّي ؟ “

                        فقلتُ : أنا طاووس يابن رسول اللـه ، ما هذا الجزع والفزع ؟

                        ونحن يلزمنا أن نفعل هذا ونحن عاصون جانون ، أبوك الحسين بن علي وأُمك فاطمة الزهراء ،و جدك رسول اللـه (ص) ؟! قال : فالتفت إليّ وقال :

                        “ هيهات هيهات يا طاووس ، دع عني حديث أبي وأمي وجدي ، خلق اللـه الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً . أما سمعتَ قوله تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلآ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسآءَلُونَ } ( المؤمنون/101) ؟. واللـه لا ينفعك غداً إلاّ تقدمة تقدمها من عملٍ صالح “ .


                        و أين نحن منك يا بن رسول الله ؟؟؟؟

                        ولأنه أحب اللـه فوّض إليه أمره وسلّم له أشد التسليم ، وهو (ع) يروي عن نفسه القصة التالية فيقول :

                        “ مرضتُ مرضاً شديداً ، فقال لي أبي : ما تشتهي ؟ فقلتُ : أشتهي أنْ أكون ممَّن لا أقترح على اللـه ربِّي ما يدبِّره لي . فقال لي : أحسنتَ ، ضاهيتَ إبراهيم الخليل صلوات اللـه عليه حيث قال جبرئيل : هل من حاجة ؟. فقال : لا أقترح علي ربِّي ، بل حسبي اللـه ونعم الوكيل “ .

                        وهكذا أحبه اللـه تعالى وأكرمه ورفع شأنه ، وأجرى علي يديه تقديره ، وألزم الناس ولايته .

                        والقصة التالية تعكس مدى حب اللـه سبحانه للإمام زين العابدين (ع) :

                        استجابة دعائه (ع)

                        عن ثابت البناني قال : كنت حاجّاً وجماعةَ عٌبَّاد البصرة مثل أيوب السجستاني وصالح المري وعتبة الغلام وحبيب الفارسي ومالك بن دينار . فلما ان دخلنا مكة رأينا الماء ضيقاً ، وقد اشتد بالناس العطش لقلة الغيث . ففزع إلينا أهل مكة والحجاج يسألونا أن نستسقي لهم ، فأتينا الكعبة وطفنا بها ، ثم سألنا اللـه خاضعين متضرعين بها ، فَمُنعنا الإجابة ، فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتىً قد أقبل ، قد أكربته أحزانُه ، وأقلقته أشجانُه ، فطاف بالكعبة أشواطاً ، ثم أقبل علينا فقال : يا مالك بن دينار ، ويا ثابت البناني ، ويا أيوب السجستاني ، ويا صالح المري ، ويا عتبة الغلام ، ويا حبيب الفارسي ، ويا سعد ، ويا عمر ، ويا صالح الأعمى ، ويا رابعة ، ويا سعدانة ، ويا جعفر بن سليمان ، فقلنا : لَبَّيك وسعدَيك يا فتى . فقال : أما فيكم أحد يحبه الرحمن ؟. فقلنا : يا فتى علينا الدعاء وعليه الإجابة . فقال : ابعدوا من الكعبة ، فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمن لأجابه . ثم أتى الكعبة فخر ساجداً فسمعته يقول في سجوده : سيدي ، بحبك لي إلاّ سقيتهم الغيث ، قال : فما استتم الكلام حتى أتاهم الغيث كأفواه الْقُرَب ، فقلت يا فتى : من اين علمت أنه يحبك ؟ قال : لو لم يحبني لم يستزرني ، فلما استزارني علمتُ أنّه يحبني ، فسألتُه بحبه لي فأجابني ، ثم ولى عنّا وأنشأ يقول :

                        من عــرف الــرب فلـم يُغــــــــــنـه * معرفـةُ الرب فـــــذاك الشــــقـــــي

                        مـــا ضرَّ في الطاعـة مــا نالـــــــه * في طــاعـــــة الله ومـــــــاذا لقـــي

                        مـا صنـع الـعبــد بغـــيـر الــتــقـــى * والعـــزُّ كـــــــلُّ العـــــــزِّ للمتَّــــقي

                        فقلت : يا أهل مكة من هذا الفتى ؟. قالوا : علي بن الحسين (ع) بن علي بن أبي طالب .

                        وعن المنهال بن عمرو في خبر قال : حججت فلقيت عليَّ بن الحسين (ع) ، فقال : ما فعل حرملة بن كاهــل ؟. قلت : تركته حيّاً بالكوفة ؛ فرفع يديه ثمَّ قال (ع) : اللـهمَّ أذِقْهُ حَرَّ الحديد ، اللـهمَّ أذِقْهُ حَرَّ النار . فتوجّهت نحو المختار ، فإذا بقوم يركضون ويقولون البشارة أيّها الأمير ، قد أُخِذَ حرملةُ ، وقد كان توارى عنه ، فأمر بقطع يديه ورجليه وَحرْقه بالنار .

                        وكان زين العابدين (ع) يدعو في كلِّ يوم أن يريه اللـه قاتل أبيه مقتولاً ، فلمّا قتل المختارُ قَتَلَة الحسين صلوات اللـه وسلامه عليه بعث برأس عبيد اللـه بن زياد ورأس عمر بن سعد مع رسول من قِبَلِه إلى زين العابدين ، وقال لرسوله : إنّه يصلّي من اللّيل ، وإذا أصبح وصلّى صلاة الغداة هجع ، ثمَّ يقوم فيستاك ويؤتى بغدائه ، فإذا أتيت بابه فاسأل عنه ، فإذا قيل لك : إنَّ المائدة وضعت بين يديه فاستأذن عليه وضع الرأسين على مائدته ، وقل له : المختار يقرأ عليك السلام ويقول لك : يابن رسول اللـه ، قد بلّغك اللـه ثارك . ففعل الرَّسول ذلك : فلمّا رأى زين العابدين (ع) الرأسين على مائدته خرَّ ساجداً وقال :

                        “ الحمد لله الّذي أجاب دعوتي ، وبلّغني ثاري من قتلة أبي ، ودعا للمختار وجزّاه خيراً “ .

                        تعليق


                        • #42
                          الإمام زين العابدين بعد واقعة كربلاء و ما جرى عليه في الكوفة و الشام

                          في معسكر الاَعداء ، وفي أسر الخصوم ، في الكوفة ومجلس أميرها ، وفي الشام وأمام مليكها والتي لا يقل الموقف البطولي فيها عن ميدان الوغى وحومة الصراع ، يستحضر الإمام السجاد عليه السلام مصارع إخوته وأبناء عمومته ، فيقف شامخاً في قصر الاِمارة بالكوفة مع عمّته زينب وهما يحملان بلاغة علي وعنفوان الحسين وعزّة العباس ، ليقولا بكلام عربي فصيح ومواجهة كلامية حادّة بينهما وبين الطاغية عبيد الله بن زياد ، قولاً لا يمكن أن يقوله ثائر مغلوب منكسر في مثل موقعهما وموقفهما وأمام هذا الطاغية الذي مازال يقطر سيفه من دماء المجزّرين في رمضاء كربلاء من أهل بيت النبوة..

                          يلتفت ابن زياد لزينب وهي جالسة حزينة منكسرة وقد صدّت بوجهها عنه فيقول : « من هذه الجالسة ؟ » فلا تكلّمه ، ويكرّر فلا تكلّمه ، فيعيد ثالثة وهي مصرّة لا تكلّمه ، حتى يقول بعض إمائها : « هذه زينب بنت فاطمة » .

                          فقال لها ابن زياد : « الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم ، وأكذب أُحدوثتكم » .

                          فتقول عليها السلام : « الحمدُ لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وطهّرنا تطهيراً ، لا كما تقول ( أنت ) ، وإنّما يُفتضح الفاسق ، ويكذّب الفاجر ، وهو غيرنا يا ابن مرجانة .. » .

                          فقال : « فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتكِ ؟ » ، قالت : « قوم كُتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتختصمون عنده.. » فغضب بن زياد ( واستشاط ) وقال : « قد شفى الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك » ، فبكت وقالت : « لعمري لقد قتلت كهلي ، وأبرتَ أهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن يُشفك هذا فقد اشتفيتَ ... » .

                          ثمّ يلتفت ابن زياد إلى عليّ بن الحسين ويقول : « ما اسمك ؟ » قال « علي بن الحسين » قال : « ألم يقتل الله علي بن الحسين ؟ » فسكت ، فقال : « مالك لا تتكلم ؟ » قال : « كان لي أخ يُقال له علي قتله الناس » !!

                          فقال ابن زياد : « إنّ الله قتله » فسكت الإمام عليه السلام .

                          قال : « مالك لا تتكلم ؟ » فقال الإمام علي بن الحسين عليه السلام : « الله يتوفى الاَنفس حين موتها.. وما كان لنفسٍ أن تموت إلاّ بإذن الله ... » .

                          ثم غضب ابن زياد فأراد قتله على جرأته وتجاسره على الطاغية بتلك الاَجوبة ، فتشبّثت به عمّته زينب وتعلّقت به ، وقالت لابن زياد : « يا ابن زياد ، حسبُك منّا ما أخذت ، أما رويتَ من دمائنا ؟ وهل أبقيت مِنّا أحداً ؟ أسألك الله ـ إن كنت مؤمناً ـ إن قتلته لمّا تقتلني معه.. » .

                          وقال الإمام عليه السلام لابن زياد : « يا ابن زياد ، إن كانت بينك وبينهنّ قرابة فابعث معهنّ رجلاً تقيّاً يصحبهنّ بصحبة الإسلام ... » .

                          أمّا في الشام وحيث الدور الاِعلامي أكثر تأثيراً من قعقعة السيوف وطعن الرماح مع ما يستبطن من فضح وكشف واحتمال تصفية وقتل ، يقف الإمام السجاد عليه السلام في مجلس يزيد ويلتمس الاِذن بالحديث فيُسمح له ، فينبري بعد أن يحمد الله ويثني عليه مسفّهاً الدعاوى الاَموية التي حاولت تشويه نهضة أبيه ، وتزييف أهداف ثورته ، قائلاً :

                          « يا معشر الناس : فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أُعرّفه نفسي ، أنا ابن مكّة ومِنى ، أنا ابن مروة والصفا ، أنا ابن محمد المصطفى ... أنا ابن من علا فاستعلى ، فجاز سدرة المنتهى ، وكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء مثنى مثنى ، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الاَقصى ، أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن خديجة الكبرى ، أنا ابن المقتول ظلماً ، أنا ابن المجزور الرأس من القفا ، أنا ابن العطشان حتى قضى ، أنا ابن صريع كربلاء ، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء ، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء ، أنا ابن من ناحت عليه الجنّ في الاَرض والطير في الهواء ، أنا ابن من رأسه على السنان يُهدى ، أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تُسبى.. أيُّها الناس إنّ الله تعالى ـ وله الحمد ـ ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن ، حيث جعل راية الهدى والتُقى فينا ، وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا ... » .

                          وهكذا حتى عمّ المجلس النحيب والبكاء من الحاضرين وإشعارهم بالاِثم والذنب الكبيرين اللذين ارتُكبا بحقِّ الاِسلام ووريثه ، وكيف إن الاِسلام الذي يزعمه الامويون اليوم مجسّداً برمزه الماثل أمامهم أصبح أسيراً يُساق مع عمّاته وخالاته من بلد إلى بلد ، ورأس ابن الزهراء أبيه أمامهنّ « على السنان يُهدى » ...

                          إنّه ، باختصار شديد ، وبهذه الخطبة الموجزة أصبح الرمز الذي يقود مسيرة الاِحياء ـ إحياء هذا الدين المضيّع ـ الذي شوّهته السلطة الاَموية وحكمت أو تحكّمت باسمه... فتراه عليه السلام حين أراد يزيد أن يقطع حديثه بالآذان للصلاة ، يُعلِّق على صوت المؤذن الذي يقول : « أشهد أن محمداً رسول الله » بقوله : « يا يزيد ! هذا جدي أم جدّك ؟ فإن قلت جدك فقد كذبت ! وإن قلت جدي ، فلمَ قتلتَ أبي وسبيت حرمه وسبيتني ؟ ! » ، ثمّ قال مخاطباً الناس : « أيُّها الناس ، هل فيكم من أبوه وجده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ » فعلت الاَصوات بالبكاء.

                          وقام إليه رجل من شيعته يُقال له : المنهال بن عمرو الطائي ، وفي رواية مكحول صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسأله : « كيف أمسيتَ يا ابن رسول الله ؟ » .

                          فيجيب الإمام:

                          « ويحك كيف أمسيت ؟ أمسينا فيكم كهيئة بني إسرائيل في آل فرعون ، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، وأمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمداً منها ، وأمسى آل محمد مقهورين مخذولين ، فإلى الله نشكو كثرة عدّونا ، وتفرّق ذات بيننا ، وتظاهر الاَعداء علينا... ».

                          وهكذا تبرز وثائقية هذا الطرح الاِعلامي البليغ ، ويتجلّى دور الإمام السجاد عليه السلام في قيادة مشروع الاِحياء وثورة التصحيح ، ومن هذه المحطة تبدأ رحلة الاَلف ميل مسافة وعمقاً من الشام إلى المدينة ، ليستأنف الإمام عليه السلام مهمته الرسالية في استكمال هذا المشروع وريادة هذه الثورة.


                          المحطة الثالثة : في المدينة المنوّرة :

                          1 ـ دوره العلمي:

                          ليس الحديث عن الدور العلمي للاِمام السجاد عليه السلام مما تجمعه السطور ، أو تفي بالتعبير عنه ؛ ولكن حسبها أنّها تأتي بمعالم تفصح بعض إفصاح عن ذلك الدور وما كان يتمتع به صاحبه من منزلة.

                          لقد عاش الإمام زين العابدين عليه السلام في المدينة المنورة ، حاضرة الاِسلام الاُولى ، ومهد العلوم والعلماء ، في وقت كانت تحتضن فيه ثلّة من علماء الصحابة ، مع كبار علماء التابعين ، فكان بشهادة أكابر أبناء طبقته والتابعين لهم ، الاَعلم والاَفقه والاَوثق ، بلا ترديد.

                          فقد كان الزهري يقول : ( ما كان أكثر مجالستي مع علي بن الحسين ، وما رأيت أحداً كان أفقه منه ) . وممن عرف هذا الاَمر وحدّث به الفقيه

                          الشهير سفيان بن عيينة .

                          مثل هذا كان يقول الشافعي محتجاً بعلي بن الحسين عليه السلام على انه كان (أفقه أهل المدينة) وبمثله كان يقول معاصر الإمام السجاد عليه السلام أبو حازم المدني ، وغيرهم كثير.

                          هذا وقد كانت مدرسته تعجّ بكبار أهل العلم من حاضرة العلم الاُولى في بلاد الاِسلام ، يحملون عنه العلم والاَدب ، وينقلون عنه الحديث ومن بين هؤلاء ، كما أحصاهم الذهبي : أولاده أبو جعفر محمد ( الباقر عليه السلام ) وعمر ، وزيد ، وعبدالله ، والزهري ، وعمرو بن دينار ، والحكم ابن عُتيبة ، وزيد بن أسلم ، ويحيى بن سعيد ، وأبو الزناد ، وعلي بن جدعان ، ومسلم البطين ، وحبيب بن أبي ثابت ، وعاصم بن عبيدالله ، وعاصم بن عمر ابن قتادة بن النعمان ، وأبوه عمر بن قتادة ، والقعقاع بن حكيم ، وأبو الاَسود يتيم عروة ، وهشام بن عروة بن الزبير ، وأبو الزبير المكّي ، وأبو حازم الاَعرج ، وعبدالله بن مسلم بن هرمز ، ومحمد بن الفرات التميمي ، والمنهال بن عمرو ، وخلق سواهم.. وقد حدّث عنه أبو سلمة وطاووس ، وهما من طبقته ، غير هؤلاء رجال من خاصة شيعته من كبار أهل العلم ، منهم : أبان بن تغلب ، وأبو حمزة الثمالي ، وغيرهم كثير .

                          هذا الجمع الغفير وغيرهم ممن وصف بالخلق الكثير أخذوا عنه عليه السلام علوم الشريعة من تفسير القرآن الكريم والعلم بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وأحكامه وآدابه ، والسُنّة النبوية الشريفة روايةً وتدويناً في عصر كانت ما تزال كتابة الحديث فيه تتأثر بما سلف من سياسة المنع من التدوين ، السياسة التي اخترقها أئمة أهل البيت عليهم السلام فكتب عنهم تلامذتهم والرواة عنهم الشيء الكثير ، إلى أحكام الشريعة ، حلالها وحرامها وآدابها ، إلى فضيلة الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عهد عمدت فيه السياسة على تعطيل الكثير من الاَحكام وتبديل بعض السنن وإحياء بعض البدع ، إلى الجهر في نصرة المظلوم وضرورة الردّ على الظالم وكشف أساليبه الظالمة للناس.

                          كما تأدبوا على يديه في مجالسه بآداب الاِسلام التي شحنها في أدعيته التي اشتهرت وانتشرت في عهده حتى أصبحت تشكّل لوحدها ظاهرة جديدة في تبني اسلوب روحي متين ، ليس لاِحياء القلوب وشدّها إلى الله تعالى وحسب ؛ بل إلى إحياء معالم الشريعة وحدودها وآدابها الاَدعية التي حفظ المشهور جداً منها في الصحيفة المعروفة بـ « الصحيفة السجادية » نسبة إليه حيث عرف عليه السلام بالسجاد.

                          والاَثر المحفوظ عنه عليه السلام في كلِّ هذه الميادين أثر عظيم يجمع أسفاراً جليلة ، تتضمن سائر علوم الشريعة الاِسلامية.

                          وغير ذلك فقد سجّل الإمام عليه السلام سبقاً علمياً وتاريخياً في رسالة تعد من مفاخر الاِسلام وتراثه العلمي ، ألا وهي « رسالة الحقوق » الرسالة الخالدة المحفوظة بهذا العنوان ، والتي استوعبت جلّ الحقوق التي لا يستغني الاِنسان عن معرفتها ، ولا يستغني المجتمع عن احيائها والعمل بها ، لاَجل أن يكون مجتمعاً إسلامياً حيّاً بحق ، كما أرادت له الشريعة السمحة.

                          ومن ناحية أُخرى فقد ظهرت في عهده عليه السلام مقولات عقيدية تبنتها فرق إسلامية وتمحورت حولها واتخذت منها مناهج خاصة في فهم عقائد الاِسلام وتوجيه أحكامه ، كعقيدتي الجبر والارجاء اللتين روّج لهما الامويون تبريراً لوجودهم في السلطة لمشروعهم السياسي ، وعقيدتي التشبيه والتعطيل في الصفات اللتين اتخذتهما فرق متناقضة بذرائع مختلفة.

                          وإزاء هذه الاتجاهات وقف الإمام عليه السلام موقفه الواضح والمنسجم مع منهجه في التعليم والدفاع عن مبادىء الشريعة ، فضمّن أقواله الحكيمة وأدعيته المشتهرة نصوصاً تجتث تلك المقولات من جذورها ، من ذلك موقفه مع عبيد الله بن زياد يوم أُدخل عليه في قصر الاِمارة وعُرض عليه فقال له : من أنت ؟

                          فقال عليه السلام : « أنا علي بن الحسين » .

                          فقال : أليس قد قتل الله علي بن الحسين ؟

                          فقال له الإمام عليه السلام : « قد كان لي أخ يسمى علياً قتله الناس » .

                          فقال له ابن زياد : بل الله قتله.

                          فقال الإمام عليه السلام : « ( الله يتوفى الاَنفس حين موتها )

                          وكذا موقفه الآخر مع يزيد بن معاوية عند دخوله عليه مع أخواته وعمّاته في الشام.

                          قال يزيد : يا بن حسين ، أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ، ونازعني سلطاني ، فصنع الله به ما قد رأيت.

                          فقال الإمام علي بن الحسين عليه السلام : « ( ما أصاب من مصيبة في الاَرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نَّبرأها إن ذلك على الله يسير ) »

                          أما موقفه عليه السلام من المشبّهة والمجسّمة فنجده قد اتّخذ شكل دعاء ، كما في دعائه في التوحيد إذ يقول : « إلهي بدت قدرتك ولم تبد هيئة جلالك .. شبهوك وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك شيء .. فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبهون نعتوك »

                          تعليق


                          • #43
                            شهادته سلام الله عليه

                            اغتياله بالسم:

                            كان الإمام يتمتع بشعبية هائلة، فقد تحدث الناس - بإعجاب - عن علمه وفقهه وعبادته، وعجبت الأندية بالتحدث عن صبره، وسائر ملكاته، وقد احتل قلوب الناس وعواطفهم، فكان السعيد من يحظى برؤيته، والسعيد من يتشرف بمقابلته والاستماع إلى حديثه، وقد شق ذلك على الأمويين، وأقضّ مضاجعهم وكان من أعظم الحاقدين عليه الوليد بن عبد الملك، فقد روى الزهري أنه قال: (لا راحة لي، وعلي بن الحسين موجود في دار الدنيا) وأجمع رأي هذا الخبيث الدنس على اغتيال الإمام حينما آل إليه الملك والسلطان، فبعث سماً قاتلاً إلى عامله على يثرب، وأمره أن يدسه للإمام ونفذ عامله ذلك، وقد تفاعل السم في بدن الإمام، فأخذ يعاني أشد الآلام وأقساها، وبقي حفنة من الأيام على فراش المرض يبث شكواه إلى الله تعالى، ويدعو لنفسه بالمغفرة والرضوان، وقد تزاحم الناس على عيادته، وهو (عليه السلام) يحمد الله، ويثني عليه أحسن الثناء على ما رزقه من الشهادة على يد شر البرية.


                            وصاياه لولده الباقر:

                            وعهد الإمام زين العابدين إلى ولده الإمام محمد الباقر (عليهما السلام) بوصاياه، وكان مما أوصاه به ما يلي:

                            1- أنه أوصاه بناقته، فقال له: إني حججت على ناقتي هذه عشرين حجة لم أقرعها بسوط، فإذا نفقت فادفنها، لا تأكل لحمها السباع، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ما من بعير يوقف عليه موقف عرفة سبع حجج إلا جعله الله من نعم الجنة، وبارك في نسله ونفذ الإمام الباقر ذلك.

                            2- أنه أوصاه بهذه الوصية القيمة التي تكشف عن الجوانب المشرقة من نزعات أهل البيت (عليهم السلام) فقد قال له: (يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، فقد قال لي: يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله).

                            3- أنه أوصاه أن يتولى بنفسه غسله وتكفينه وسائر شؤونه حتى يواريه في مقره الأخير.


                            إلى جنة المأوى:

                            وثقل حال الإمام، واشتد به المرض، وأخذ يعاني آلاماً مرهقة، فقد تفاعل السم مع جميع أجزاء بدنه، وأخبر الإمام أهله أنه في غلس الليل البهيم سوف ينتقل إلى الفردوس الأعلى، وأغمي عليه ثلاث مرات، فلما أفاق قرأ سورة الفاتحة وسورة (إنا فتحنا) ثم قال (عليه السلام): (الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الجنة نتبوأ منها حيث نشاء فنعم أجر العاملين).

                            وارتفعت روحه العظيمة إلى خالقها كما ترتفع أرواح الأنبياء والمرسلين، تحفها بإجلال وإكبار ملائكة الله، وألطاف الله وتحياته.

                            لقد سمت تلك الروح العظيمة إلى خالقها بعد أن أضاءت آفاق هذه الدنيا بعلومها وعبادتها وتجردها من كل نزعة من نزعات الهوى.


                            تجهيزه:

                            وقام الإمام أبو جعفر الباقر بتجهيز جثمان أبيه، فغسل جسده الطاهر، وقد رأى الناس مواضع سجوده كأنها مبارك الإبل من كثرة سجوده لله تعالى، ونظروا إلى عاتقه كأنه مبارك الإبل، فسألوا الباقر عن ذلك، فقال أنه من أثر الجراب الذي كان يحمله على عاتقه، ويضع فيه الطعام، ويوزعه على الفقراء والمحرومين وبعد الفراغ من غسله أدرجه في أكفانه، وصلى عليه الصلاة المكتوبة.


                            تشييعه:

                            وجرى للإمام تشييع حافل لم تشهد يثرب له نظيراً فقد شيعه البر والفاجر، والتفت الجماهير حول النعش العظيم والهين جازعين في بكاء وخشوع، وإحساس عميق بالخسارة الكبرى، فقد فقدوا بموته الخير الكثير، وفقدوا تلك الروحانية التي لم يخلق لها مثيل لقد عقلت الألسنة، وطاشت العقول بموت الإمام، فازدحم أهالي يثرب على الجثمان المقدس فالسعيد من يحظى بحمله، ومن الغريب أن سعيد بن المسيب أحد الفقهاء السبعة في المدينة لم يفز بتشييع الإمام والصلاة عليه، وقد أنكر عليه ذلك حشرم مولى أشجع، فأجابه سعيد: أصلي ركعتين في المسجد أحب إلي من أن أصلي على هذا الرجل الصالح في البيت الصالح. وهو اعتذار مهلهل فإن حضور تشييع جنازة الإمام (عليه السلام) الذي يحمل هدي الأنبياء من أفضل الطاعات وأحبها عند الله تعالى.


                            في مقره الأخير:

                            وجيء بالجثمان الطاهر وسط هالة من التكبير والتحميد إلى بقيع الغرقد، فحفروا له قبراً بجوار قبر عمه الزكي الإمام الحسن سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنزل الإمام الباقر (عليه السلام) جثمان أبيه فواراه في مقره الأخير، وقد وارى معه العلم والبر والتقوى، ووارى معه روحانية الأنبياء والمتقين.

                            وبعد الفراغ من دفنه هرع الناس نحو الإمام الباقر، وهم يرفعون إليه تعازيهم الحارة، ويشاركونه في لوعته وأساه، والإمام مع أخوته وسائر بني هاشم يشكرونهم على مشاركتهم في الخطب الفادح الجلل، والمصاب العظيم!!.


                            فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً



                            و موعدنا إن شاء الله مع باقر العلوم الإمام محمد الباقر

                            تعليق


                            • #44
                              اللهــــــــــم صل على محمد وآل محمـــــــــــد

                              الإسلام محمدي الوجود ......... حسيني البقاء

                              السلااااااااام والصلااااااة على محمد وآله الطيبين الطاهرين


                              لا شلت يداك مولاي الجليل ...


                              *** واسمح لي بطباعة هذه السيرة العطرة لحفظها ..

                              تعليق


                              • #45
                                أختي العزيزة إطبعي ما شئت منها و أنسخي فليس لأحد أن يتحكم في سيرة أهل البيت فهي للكل و إن شاء الله نكملها إلى إمامنا الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف

                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                x

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة

                                اقرأ في منتديات يا حسين

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, 02-05-2025, 07:21 AM
                                ردود 2
                                13 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                                بواسطة ibrahim aly awaly
                                 
                                أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, 02-05-2025, 09:44 PM
                                استجابة 1
                                12 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                                بواسطة ibrahim aly awaly
                                 
                                يعمل...
                                X