إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

لماذا الإجحاف بحق بعض الإئمة سلام الله عليهم ؟؟؟؟

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #46
    بسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين
    اللهم صلي على محمد و آل محمد حججك على خلقك إلى يوم الدين

    أعتذر عن التأخير

    إن موضوعنا اليوم عن فرعٌ من فروع الدوحة النبوية الشريفة، هو من النادرين في تاريخ الأرض وقد تميز تميزاً واضحاً يلفت النظر إلى الشكل والمضمون في العلوم التي بقرها، كأنه من نسيج الفضاء، لا تحده حدود، إنه محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام).


    النسب الشريف :
    محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي

    مولده الشريف :
    ولد الإمام الباقر (ع) من والدين علويين هما الإمام السجاد (ع) ، وأم عبد اللـه بنت الإمام الحسن المجتبى (ع) ، وكانت ولادته قبل أربع سنوات من واقعة الطف الرهيبة . أي في عام 57 من الهجرة . وكان ذلك الثالث من صفر أو العاشر في رجب ، ( في ذلك اختلاف بين الرواة ) . ولم يكن أكبر أبناء أبيه سنّاً ، إلاّ أنه كان أولاهم بالإمامة فنصبّه والده لها اتباعا لأمر رسول اللـه (ص) .

    وقد سأل الزهري والده الإمام السجاد عن ذلك وقال : يا ابن رسول اللـه هلا أوصيت إلى أكبر أولادك ؟ قال : يا أبا عبد اللـه ليست الإمامة بالصغر والكبر ، هكذا عهد إلينا رسول اللـه ، وهكذا وجدنا مكتوباً في اللَّوح والصحيفة.

    وكانت أمّه - حسبما قال : الإمام الصادق (ع) - صديقة لم يدرك في آل الحسن مثلها


    نشأته الطيبة :
    عاش في ظل جده السبط الشهيد عليه السلام أربع سنوات ، وصبغت شخصيته الفذة بتلك الصبغة الإلهية التي تجلت في حياة السبط الشهيد ، ولا ريب أن مأساة كربلاء الفجيعة تركت طابعها على نفسية الإمام الباقر (ع) الذي رافق صورها وشاهدها لحظة بلحظة .. لأنه - حسب بعض الرواة - كان ممن حضرها مع سائر ابناء الأسرة الهاشمية .

    وبعد تلك الفاجعة عاش الإمام (19) سنة و (60) يوماً في ظل والده سيد الساجدين، حيث كانت حياته الكريمة مثلاً أعلى للصبغة الربانية ، وظل شعاع تلك الحياة يضيء درب السالكين إلى اللـه .. حتى اليوم .

    ومنذ باكورة حياته المباركة تجلت فيه ملامح الإمامة . وقد جاء في الحديث المأثور عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي قال : كنا عند جابر بن عبد اللـه فأتاه علي بن الحسين ومعه ابنه محمد وهو صبي ، فضمه جابر إليه فقال علي لابنه : قبّل رأس عمك فدنا محمد من جابر فقبل رأسه ، فقال جابر : من هذا ؟وكان قد كفّ بصره - فقال له علي : هذا ابني محمد فضمه جابر إليه وقال : يا محمد ! محمد

    رسول اللـه (ص) يقرأ عليك السلام ، فقالوا لجابر : كيف ذلك يا ابا عبد اللـه ؟

    فقال : كنت مع رسول اللـه (ص) والحسين في حجره وهو يلاعبه ،
    فقال :يا جابر يولد لابني الحسين ابن يقال له علي إذا كان - يوم القيامة - نادى مناد ليقم سيد العابدين ، فيقوم علي بن الحسين ، ويولد لعلي ابن يقال له محمد ، يا جابر إن رأيته فاقرأه مني السلام واعلم أن بقاءك بعد رؤيته يسير . فلم يعش ( جابر ) بعد ذلك إلاّ قليلاً ومات.

    الإمامة عند الباقر وعلم الأنبياء :

    عندما آلت شمس بني أمية إلى المغيب وضعفت سلطتهم بفعل الثورات الرسالية المتلاحقة .. وجد الإمام الباقر (ع) فرصة لنشر معارف القرآن التي كانت مستوعبة في الصحيفة التي توارثها أهل البيت (ع) من رسول اللـه ..

    في ذلك اليوم كان المجتمع الإسلامي بحاجة إلى معارف القرآن ، إنه قد اتسع في كل أفق وأصبح خيمة تشمل شعوباً مختلفة وبقايا حضارات ، فعلى أي أساس نقيم هذا المجتمع الجديد .. وماهي قِيَمه التوحيدية وأطر الثقافة العامة وروح قوانينه في مختلف الحقول ..

    بالأمس نشر الإمام السجاد (ع) راية التوحيد عبر أدعيته وابتهالاته . وصنع بها حياة المجتمع المسلم وبالذات المجتمع الرسالي التابع لخط أهل البيت عليهم السلام .

    أما اليوم فإن تلك القاعدة التوحيدية الرصينة قد رست ، ويأتي الإمام الباقر (ع) ليبني عليها صرح المعارف . ويكمله الإمام الصادق (ع) ببيان المزيد من التفاصيل في الحكمة الإلهية والتفسير والفقه ..

    ماهي المعارف التي نشرها الإمام الباقر (ع) وكيف استطاع إليها سبيلاً ؟

    قد يسلك في طريق العلم من التجارب الجزئية صعوداً إلى القواعد العامة . وقد ننطلق من تلك القواعد إلى المفردات الجزئية . وبينما السبيل الأول هو منهج عموم الناس في بلوغ العلم ، فإن المنهج الثاني هو سبيل علم الأنبياء وأوصيائهم المتصلين بالوحي ، ومن هنا جاء في الحكمة المأثورة : العلم نقطة كثَّرها الجاهلون .

    والأساس الظاهر لعلم الرسول وخلفائه المعصومين عليهم السلام ، هو القرآن المفسر بالحديث النبوي ، ولكن الأساس الحقيقي هو نور العقل الذي يتوهج بالإيمان والإلهام في افئدة العارفين باللـه .. ذلك العقل الذي أوتي الناس منه قدر ضئيل وأكمله اللـه لنبيِّه وأوصياء نبيّه . وإن توهج نور العقل عند أبناء البشر . وتجليــــه في تلك المعارف الأولية التي يعرفها كل شخص ، وفي تلك القيم التي يتحاكم الناس إليها فيما بينهــم . وفي تلك الإضاءات التي نجدها عند طائفة من الناس دون غيرهم تجعلهم نوابغ وعظماء كبار ..

    كل ذلك يهدينا إلى معنى العلم الكوني الذي يلقيه ربنا في روع الصفوة من أوليائه .. وجاء في الحديث الشريف : “ العلم نور يقذفه اللـه في قلب من يشاء “ .

    وترى بعض الناس يتشكك في مثل هذا العلم عند الأنبياء والأئمة ، والمحدثين من فقهاء الأمة .. يستشهد بقول اللـه سبحانه : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَيَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } (الانعام/59)

    وقوله : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللـه } (النمل/65)

    حقّاً إذا كان مراد هؤلاء أن الإنسان لايعلم الغيب بصفة ذاتية ، فإنه حق لاريب فيه ، ولكن : إذا أرادوا أنَّ اللـه لايقدر على تعليم الغيب لبعضهم ، نقول : بلى هو قادر ، أليس كلنا يعرف قدراً من العلم بالمستقبل ، فمثلاً أولسنا نعرف أننا نموت وأن الساعة آتية لاريب فيها . وان اللـه يبعث من في القبور . وأن الشمس تشرق غداً وهي لابدّ غاربة اليوم ؟ وعشرات من المعارف المستقبلية التي تشكل أكثر من نصف معلوماتنا وهي أساس العلم ، والهدف الأساسي منه ؟

    واللـه سبحانه علّم الإنسان مالا يعلم ، والوحي جزء من علم الغيب الذي علّمه ربنا لمن ارتضاه من عباده .. وقد قال ربنا سبحانه : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } (الجن/26-27).

    وقال : { وَمَا كَانَ اللـه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللـه يَجْتَبِي مِن رُسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَاَمِنُوا بِاللـه وَرَسُولِهِ وإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } (آل عمران/179)

    وقال : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } (آل عمران/44)

    وأخيراً : إن هؤلاء شككوا في “ مدى “ علم الأنبياء والأوصياء ، إنهم لم يستوعبوا كيف يمكن لبشر محدود أن يبلغ علم الحقائق من لدن رب العزة ، فهم ينطلقون في تكذيب هذا “ المدى “ من العلم من ذات المنطلق الذي كذب الأولون بالنبوة ، وهو الجهل بالمقام الذي جعل للإنسان الذي يتوجه إلى اللـه ويخلص له وجهه ، بيد أن هؤلاء “ اضطروا “ إلى الإعتراف بالنبوة ، ولما يعرفوا أبعادها فقلصوها إلى أقل قدر ممكن ، وحاولوا الكفر بمعاجز الأنبياء وبمقاماتهم الرفيعة أنى استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، وإذ أعجزتهم الحيلة في ذلك عمدوا إلى الأوصياء فنفوا كرامتهم على اللـه ، وإمكانية تلقيهم العلم من مصدر الغيب إلهاماً ، وإذا أنصفوا أنفسهم وأنصفوا للحق لما وجدوا مانعاً عقلياً من الإعتراف بذلك ، بعد أن توافرت أدلة بالغة القوة تهديهــــم إليه من خلال دراستهم لكلماتهم من دون تعصب أعمى أو أحكام مسبقـــــة .

    وقد ابتلى الإمام الباقر (ع) ، شأنه شأن سائر الأئمة عليهم السلام بنمطين متنافرين من الناس ، فبينما زعم بعضهم أنه ليس من البشر وبذلك مرق من الدين بسبب غلوه ، نجد كثيراً من الناس لم يعترفوا بمقامه الكريم .

    من النمط الأول كان المغيرة بن سعيد الذي غلا في الدين وكذب على الإمام الباقر (ع) ، حتى قال عنه الإمام لبعض أصحابه ( سليمان اللَّبان ) : أتدري ما مثل المغيرة بن سعيد :

    قال قلت : لا .

    قال : مثله مثل بلعم الذي أوتي الاسم الأعظم الذي قال اللـه { ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَاَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } . (الاعراف/175).

    أما النمط الثاني فهم أغلب الذين لم يحتملوا علم الإمام ومعرفته بما لا يعرفون ، وكرامته على اللـه ، واستجابة اللـه دعاءه في الأمور !!

    فهؤلاء لاينكرون فضائل أهل البيت عليهم السلام فقط ، بل ويرون أنها من المستحيلات ، لماذا ؟ لأنهم لما يبلغوا معرفة أنبياء اللـه وأوليائه عليهم صلوات اللـه ومعرفة كرامتهم على اللـه .

    ثم إن ما أوحى به اللـه من الكتاب فيه آفاق من العلم لا يبلغها إلاّ من امتحن اللـه قلبه بالإيمان ، لأنه نور اللـه الذي يشع من مشكاة النبوة . إنه ذكر اللـه الذي يرتفع من بيوت الأوصياء كما قال سبحانه :

    { اللـه نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } (النور/35) .

    قال : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللـه أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللـه } (النور/36-37) .

    ثم قال : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللـه لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } (النور/40) .

    هكذا نور اللـه الذي منح جزءاً بسيطاً منه للإنسان ، فإذا به يعرف علما يسخر به كل شيء من حوله ، إنه لو سلب منه ترى ماذا يبقى له ؟ هل يستطيع آنئذٍ أن يعرف شيئاً .

    هكذا نعرف أن الوحي والإلهام هما في إطار سنن اللـه في خلقه ، يقبلهما العقل ويطمئن إليهما القلب .

    وعلم أئمة أهل البيت عليهم السلام لايخرج من دائرة هذه السنن أيضاً ، فإما أنَّه مستوحىً من الوحي أو بالإلهام .

    ويتصل علم الأئمة بالوحي عبر السبل التالية :

    أولاً : العلم من كتاب اللـه . بالتدبر فيه وتأويل آياته على الحقائق والوقائع . أليس في القرآن علم ما كــــان وما يكون ، وفصل ما هو كائن ، ومن أولى بكتاب اللـه ممن أنزل في بيوتهم وزقوا علمه مع اللبن زقــاً .

    ثانيا : أحاديث الرسول (ص) والتي توارثوها من آبائهم عبر جدهم الأعلى الإمام أمير المؤمنين ، وجدتهم الطاهرة فاطمة الزهراء عليهم االسلام جميعاً.

    فقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام الباقر (ع) أنه قال لجابر بن عبد اللـه :

    يا جابر إنّا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين ، ولكنّا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول اللـه كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم.

    ومعروف أن خزائن علم النبوة كانت قد انتقلت إلى رسول اللـه . وورثها أهل بيته (ع) . ويبدو أنها كانت مكنونة في جفر عظيم .

    حيث جاء في الحديث المروي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال : إن عندي الجفر الأبيض .

    فلما سأله الرواي وأي شيء فيه ؟ قال :

    زبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم والحلال والحرام ومصحف فاطمة ، ما أزعم أن فيه قرآناً ، وفيه ما يحتاج الناس إلينا ، ولا نحتاج إلى أحد ، حتى أن فيه الْجُلدة ونصف الْجَلدة وثُلث الْجَلدة وربع الْجَلدة وأَرشُ الخدش ، الحديث.

    وكان في هذا الجفر مجموعة تراث أهل البيت من أحاديث النبي .

    منها مصحف فاطمة وهو مجموعة أحاديثها التي كتبها الإمام أمير المؤمنين (ع) في صحيفة ، وحسب ما جاء في رواية أن فيه ما يكون من حوادث وأسماء من يملك إلى أن تقوم الساعة.

    تعليق


    • #47
      كمـــا أن من تراثهم كتاب يسمى بالجامعة ، وهو من إملاء رسول اللـه (ص) وكتابة أميـر المؤمنيــــن (ع)

      طوله سبعون ذراعاً وفيه أحكام الشريعة كلها .

      هكذا جاء في حديث مروي عن أبي بصير عن أبي عبد اللـه الصادق (ع) قال :

      سمعته يقول وذكَّر ابن بسترمه في مسألة أفتى بها : أين هو من الجامعة إملاء رسول اللـه بخط علي فيها جميع الحلال والحرام حتى أرش الخدش.

      وهذا التراث العلمي كان ينتقل من أئمة أهل البيت عليهم السلام من كابر لكابر ، ووجوده عند واحد من أبناء الإمام الراحل كان شاهداً على أنه وصيه . لذلك نقرأ في تاريخ الإمام الباقر (ع) أن والده الإمام السجاد (ع) التفت إلى ولده وهو في مرض الموت وهم يجتمعون عنده ، ثم التفت إلى محمد بن علي ابنه . فقال :

      يا محمد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك ثم قال .. أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكنه كان مملوءاً علماً .

      ونتساءل : كيف تجتمع أحكام الشريعة كلها في كتاب محدود طوله سبعون ذراعا؟ لعل ذلك الكتاب كان محتوياً على أصول العلم ومعاقله وضيائه ، حيث كان الأئمة عليهم السلام يستلهمون منها سائر أبواب العلم . كما علَّم النبي (ص) الإمام علياً (ع) أبواب العلم جميعاً بهذه الطريقة ، حيث جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق (ع) : أوصى رسول اللـه إلى علي بألف كلمة يفتح كل كلمة ألـــف كلمـــة.

      وفي تعبير آخر جاء على لسان الإمام الباقر (ع) عن جده أمير المؤمنين أنه قال : لقد علمني رسول اللـه ألف باب يفتح كل باب ألف باب.

      وهكذا بيَّن الأئمة أن عندهم أصــــول العلم ومعاقله مما يظهر أنها هي التي في تراثهم من الرســــول (ص) ، فقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام الباقر (ع) أنه قال :

      “ إن رسول اللـه أنال في الناس وأنال وأنال ، وإنَّا أهل بيت عندنا معاقل العلم ، وأبواب الحكم ، وضياء الأمر .. “ .

      وفــي حديث مأثور عن الإمام الصادق (ع) أنه قال : “ إن رسول اللـه قد أنال في الناس وأنــال وأنــــال ، - يشير كذا وكذا - وعندنا أهل البيت أصول العلم وعراه وضياؤه وأواخيه “.



      علم الإلهام :

      إذا كـــان العلــــم نور اللـه يقذفه في قلب من يشــــاء فما الذي يمنع عن قذف نــــور العلم في قلب أوليائــــه ،

      هكذا كان من مصادر علم الأئمة عليهم السلام الإلهام ، والذي ترافقه سكينة تجعلهم يثقون بأنه من عند اللـه .

      كذلك روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال : إن علمنا غابر ومزبور ونكث في القلب ونقر في الأسماع ، قال : أما الغابر فما تقدم من علمنا ، وأما المزبور فما يأتينا ، وأما النكث في القلوب فإلهام ، وأما النقر في الأسماع فإنه من الملك .

      وروى زرارة مثل هذا الحديث وأضاف : قلت كيف يعلم أنه كان الملك ولا يخاف من الشيطان إذا كان لايرى الشخص قال ..

      إنه يلقــــى عليه السكينة فيعلم أنه من الملك ، ولو كان من الشيطان اعتراه الفزع . وإن كان الشيطـان - يأزره - لايتعرض لصد هذا الأمر.

      وعلم الإمام الباقر (ع) - كما سائر أئمة الهدى انبعث من هذه الروافد ، فلم يكن غريباً ، ما أظهر اللـه على لسانه من معارف الدين حتى قال الشيخ المفيد ( قدس سره ). لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين عليهما السلام من علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن وسيرة وفنون الآداب ما ظهر عنه.


      وحكي عن أبي نعيم في كتابه الحلية أنه سأل رجل ابن عمر عن مسألة فلم يدر ما يجيبه ، فقال اذهب إلى ذلك الغلام فسله وأعلمني بما يجيبك ، وأشار إلى الباقر (ع) فسأله فأجابه فأنجد ابن عمر فقال : إنهم أهل بيت مفهمون.

      والتعبير بكلمة مفهمون كان شائعاً في ذلك العصر ، وكان يعني أنهم مؤيدون من عند اللـه يلقي عليهم الرب علماً بالإلهام .

      ولذلك ترى من العلماء من يقصدونه من كل أفق بحثاً عن علمه الإلهي حتى روي عن عبد اللـه بن عطاء أنه قال : ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (ع) ، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه.

      وقد روى عنه محمد بن سلم ذلك الفقيه المتبحر ثلاثين ألف حديث ، أما جابر الجعفي فقد قال : حدثني أبو جعفر سبعين ألف حديث لم أحدث أحداً أبداً.

      ولأن الظروف السياسية كانت تتسم ببعض الانفراج فلقد تسنى للإمام أن يحاجج الكثير من المخالفين له ويعيدهم إلى جادة الصواب ، والتاريخ يسجل لنا بعض تلك الاحتجاجات ، وننقل شيئاً منها لتكون شاهدة على ما وراءها من الحجج البالغة .

      1- لقد كان عبد اللـه بن نافع بن الأزرق واحداً من قادة الخوارج الذين كانوا أشد الفرق عداءً للإمام علي (ع) وأهل بيته ، وكان يقول : لو أني علمت أن بين قطريها أحداً تبلغني إليه المطايا يخصمني أن علياً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحلت إليه ، فقيل له ولا ولده ، فقال أفي ولده عالم فقيل له هذا أول جهلك أو هم يخلون من عالم ؟ قال فمن عالمهم اليــوم ؟ قيل محمد بن علي بن الحسين بن علي ، فرحل إليه في صناديد أصحابه حتى أتى المدينة ، فاستأذن على أبي جعفر فقيل له هذا عبد اللـه بن نافع ، قال : وما يصنع بي وهو يبرأ مني ومن أبي طرفي النهار ، فقال له أبو بصير الكوفي : جعلت فداك ، إن هذا يزعم أنه لو علم أن بين قطريها أحداً تبلغه المطايا إليه يخصمه أن عليّاً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحل إليه ، فقال له أبو جعفر : أتراه جاءني مناظراً ؟. قال : نعم !. قال : يا غلام ، اخرجْ فحط رحله ، وقل له إذا كان الغد فائتنا ، فلما أصبح عبد اللـه بن نافع غدا في صناديد أصحابه وبعث أبو جعفر إلى جميع أبناء المهاجرين والأنصار فجمعهم ، ثم خرج إلى الناس وأقبل عليهم كأنه فلقة قمر فخطب فحمد اللـه وأثنى عليه وصلى على رسوله (ص) ثم قال : الحمد لله الذي أكرمنا بنبوته واختصنا بولايته ، يا معشر أبناء المهاجرين والأنصار من كانت عنده منقبة لعلي بن أبي طالب فليقم وليتحدث ، فقام الناس فسردوا تلك المناقب فقال عبد اللـه أنا أروي لهذه المناقب من هؤلاء ، وإنما أحدث علي الكفر بعد تحكيمه الحكمين “ حتى انتهوا إلى حديث خيبر لأعطين الراية غداً رجلاً يحب اللـه ورسوله ويحبه اللـه ورسوله ، كرّاراً غير فرار لا يرجع حتى يفتح اللـه علي يديه “ فقال أبو جعفر (ع) ما تقول في هذا الحديث ؟ قال : هو حق لا شك فيه ولكن أحدث الكفر بعد ، فقال له أبو جعفر : ثكلتك أمك ، أخبرني عن اللـه عزَّ وجلَّ أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم ، فإن قلت لا كفرت ، فقال : قد علم ، قال : فأحبه اللـه على أن يعمل بطاعته أو على أن يعمل بمعصيته ، فقال : على أن يعمل بطاعته ، فقال له أبو جعفر : فقم مخصوماً ، فقام وهو يقول حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، اللـه أعلم حيث يجعل رسالته.

      2- وكان قتادة من أبرز فقهاء البصرة ولكنه كان يتشوق إلى رؤية الإمام الباقر (ع) ومناظرته ، حيث كانت المدينــــة المنـورة حاضرة الفقه والتفسير وسائر المعارف الإلهيــــة ، ولذلك فقد انتشر علم الإمـــام إلـــى كل الآفاق ..

      من هنا جاء قتادة إلى المدينة يسأل عن الإمام فلما رآه قال له الإمام : أنت فقيه أهل البصرة ؟ قال : نعم ، فقال : ويحك يا قتادة إن اللـه عزّ وجلّ خلق خلقاً فجعلهم حججاً عى خلقه فهم أوتاد في أرضه ، قوام بأمره ، نجباء في علمه ، اصطفاهم قبل خلقه ، أظلةً عن يمين عرشه . فسكت قتادة طويلاً ثم قال : أصلحك اللـه ، واللـه لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدام أحد منهم ما اضطرب قدامك ، فقال له أبو جعفر : أتدري أين أنت ؟ أنت بين يدي بيوتٍ أذن اللـه أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللـه ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فأنت ثم ونحن أولئك . فقال له قتادة : صدقت واللـه جعلني اللـه فداك ماهي بيوت حجارة ولا طين ، قال : فأخبرني عن الجبن ، فتبسم أبو جعفر وقال : رجعت مسائلك إلى هذا ، قال : ضلت عني ، فقال : لا بأس به ، فقال : إنه ربما جعلت فيه أنفحة الميت ، قال : ليس بها بأس إن الأنفحة ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم ، إنما تخرج من بين فرث ودم ، ثم قال : وإنما الأنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة فهل تأكل تلك البيضة ؟ قال قتادة : لا ولا آمر بأكلها فقال له أبو جعفر : ولِمَ ؟ قال : لأنها من الميتة ، قال له : فإن حضنت تلك البيضة فخرجت منها دجاجة أتأكلها ؟ قال : نعم قال : فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة ، ثم قال : فكذلك الأنفحة مثل البيضة فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه إلاّ أن يأتيك من يخبرك عنه.

      3- وقد بث الإمام من علمه بين الناس حتى سمي باقراً ، فقد جاء في لسان العرب أنَّه لقب به ( أي بالباقر) لأنه بقر العلم ، وعرف أهله واستبسط فرعه وتوسع فيه . والتبقر التوسع.

      وقال ابن حجر في صواعقه المحرقة : سمي بذلك من بقر الأرض أي شقها وأثار مخبآتها ومكامنها ، فكذلك هو أظهرَ من مخبأة الكنوز والمعارف ، وحقائق الأحكام والحكم ، ولطائف مالا يخفى إلاّ على متطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة ، ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه.

      تعليق


      • #48
        جزاك الله خير يا سيد

        بارك الله فيك اخي سليل الرساله واجرك على الله وعلى اجدادك الساده الاطهار حشرك الله واياهم
        سبحان الله يا اخي والله دخلت اليوم وانا في نيتي ان اكتب لك وللاخوه الاعزاء بان نكتب موضوع مثل هذا لاني اجهل الكثير عن حياة اكثر الائمه فدهشت عندما رايت الموضوع امامي فبوركت اخي الكريم بوركت
        وجزاك الله عنا الف خير
        استمر اخي الفاضل

        تعليق


        • #49
          وقد أفاض الإمام على المسلمين من علمه عبر تربيته لطائفة عظيمة من الفقهاء والمفسرين وحكماء المعارف الإلهية ، من أمثال جابر بن يزيد الجعفي ، ومحمد بن مسلم ، وأبان بن تغلب ، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع ، وأبو بصير الأسدي ، والفضيل بن يسار وآخرين .

          كمــــا أنه نشر العلم عبر من روى عنه من علماء عصره من أمثال : ابن المبارك ، والزهري ، والأوزاعـي . وأبي حنيفة ومالك والشافعي وزياد بن المنذر الهندي والبطري والبلاذري والسلامي

          والخطيب وغيرهم.

          وكان الولاة يجأرون إلى أهل بيت الرحمة كلما دهمتهم داهمة ، وبالرغم من الصراع الحاد القائم بين الطرفين لم يدّخر الأئمة عليهم السلام وسعاً في خدمة الإسلام وإنقاذ الأمة من الأخطار المحيطة بهم .

          من ذلك ما ينقل لنا التاريخ من ورطة وقع فيها الخليفة الأموي عبد الملك حسبما ذكره إبراهيم بن محمد البيهقي في كتابه المحاسن والمساوئ حيث نقل عن الكسائي أنه قال :

          دخلت على الرشيد ذات يوم وهو في ( إيوانه وبين يديه مال كثير قد تشق عنه البدر شقاً ، وأمر بتفريقه في خدم الخاصة وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمله وكان كثيراً ما يحدثني فقال : هل علمت أول من سن هذه الكتابة في الذهب والفضة ؟ قلت يا سيدي هو عبد الملك بن مروان ! قال : فما كان السبب في ذلك ؟ قلت : لا علم لي غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة ! فقال : سأخبرك : كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانيا على دين ملك الروم وكانت تطرز بالرومية ، وكان طرازها أباً وابناً وروحاً قديساً فلم يزل ذلك كذلك وصدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى أن ملك عبد الملك فتنبه له وكان فطناً ، فبينا هو ذات يوم إذ مر به قرطاس فنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم إلى العربية ففعل ذلك ، فأنكره وقال : ما أغلظ هذا في الدين والإسلام ، أن يكون طراز القراطيس بمصر وهي تحمل في الأواني والثياب ، فتدور في الآفاق والبلاد وقد طرزت بشرك مثبت عليها ، فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز بن مروان وكان عامله بمصر بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك ، وأن يأمر صنّاع القراطيس بأن يطرزوها بسورة التوحيد و { شَهِدَ اللـه أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } (آل عمران/18) ، وهذا طراز القراطيس خاصة إلى هذا الوقت لم ينقص ولم يزد ولم يتغير ، وكتب إلى عمال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل ، فلما أثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد وحملت إلى بلاد الروم ، أنتشر خبرها ووصل إلى ملكهم ، فترجم له ذلك الطراز فأنكره وغلظ عليه واستشاط غضباً فكتب إلى عبد الملك : إن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم ، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته ، فإن كان من تقدمَك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت ، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا ، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت ، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق ، حاجة أشكرك عليها وتأمر بقبض الهدية وكانت عظيمة القدر ، فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول وأعلمه أن لا جواب له ولم يقبل الهدية ، فانصرف بها إلى صاحبه فلما وافاه أضعف الهدية ورد الرسول إلى عبد الملك وقال : إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي ، فأضعفت لك الهدية وأنا أرغب إليك في مثل ما رغبت فيه من رد هذا الطراز إلى ما كان عليه أولاً ، فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية ، فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه ويقول : إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها فجريت على سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة ، وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم ، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلاّ ما ينقش في بلادي ، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام فينقش عليها من شتم نبيك ما إذا قرأته ارفض جبينك له عرقاً ، فأحب أن تقبل هديتي ، وترد الطراز إلى ما كان عليه ، وتجعل ذلك هدية بررتني بها وتبقى على الحال بيني وبينك ، فلما قرأ عبد الملك الكتاب غلظ عليه وضاقت به الأرض وقال : أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام لأني جنيت على رسول اللـه (ص) من شتم هذا الكافر ما يبقى غابراً ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب ، إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم ، فجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به ، فقال له روح بن زنباع : إنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه ، قال ويحك من ؟ قال : الباقر من أهل بيت النبي (ص) قال : صدقت ولكن أُرتج عليّ الراي فيه فكتب إلى عامله بالمدينة أن أَشْخص إلي محمد بن علي بن الحسين مكّرماً ومتّعه بمائتي ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته ، وأزح علته في جهازه من يخرج معه من أصحابه ، واحتبس الرسول قبله إلى موافاته عليه ، فلما وافى أخبره الخبر فقال له الباقر (ع) :

          لا يعظمن هذا عليك فإنه ليس بشيء من جهتين :

          ( احداهما ) أن اللـه عزّ وجلّ لم يكن ليطلق ما تهددك به صاحب الروم في رسول اللـه (ص) .

          ( والأخرى ) وجود الحيلة فيه ، قال : وماهي ؟ قال : تدعو في هذه الساعة بصنّاع فيضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير ، وتجعل النقش عليها سورة التوحيد وذكر رسول اللـه (ص) ، أحدهما في وجه الدرهم والدينار والآخر في الوجه الثاني ، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي تضرب فيه تلك الدراهم والدنانير ، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل وعشرة منها وزن ستة مثاقيل وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل ، فتكون أوزانها جميعاً واحداً وعشرين مثقالاً فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل ، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان ، فتضرب الدراهم على وزن عشرة والدنانير على وزن سبعة مثاقيل ، وكانت الدراهم في ذلك الوقت إنما هي الكسروية التي يقال لها اليوم البغلية لأن رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليها صورة الملك وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية ( نوش خر ) أي كل هنيئاً ، وكان وزن الدرهم منها قبل الإسلام مثقالاً والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل والعشرة وزن خمسة مثاقيل هي السميرية الخفاف والثقال ونقشها نقش فارس .

          ففعل عبد الملك ذلك وأمره محمد بن علي بن الحسين أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام ، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكك من الدراهم والدنانير وغيرها ، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكك الإسلامية ، ففعل عبد الملك ذلك ورد رسول ملك الروم إليه يعلمه بذلك ، ويقول : إن اللـه عزّ وجلّ مانعك مما قدرت أن تفعله وقد أقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا وبإبطال السكك والطراز الرومية ، فقيل لملك الروم إفعل ما كنت تهددت به ملك العرب فقال : إنما اردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأني كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام وممتنع من الذي قال . وثبت ما اشار به محمد بن علي بن الحسين إلى اليوم ثم رمى يعني الرشيد بالدرهم إلى بعض الخدم.

          إن العلم الإلهي الذي حباه به الرب بما أخلص له في الطاعة ، واجتهد في سبيله بالدعاء والعمل ، إنه كان وراء إرشاده إلى السبيل الأفضل لمواجهة تهديد ملك الروم .

          وهذا العلم كان يميز الإمام الحق عمن ادعوا هذا المقام بغير حق ، سواء الولاة الظالمون أو العلويون الذين نازعوا الأئمة حقهم .

          وهكذا نجد في تاريخ أهل البيت عليهم السلام كيف كان يقول شيعتهم عليهم بما لديهم من علم الدين والعلم بالحقائق الخفية بإذن اللـه ، وبالتوسم بنور اللـه وبتأييد ملائكة اللـه .

          وفيما يلي ننقل بعض الأحاديث التي تزيدنا معرفة بمقام الإمامة عموماً وبدرجات الإمام الباقر (ع) بالذات .

          فقد روى الحلبي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال : دخل الناس على أبي ( الإمام الباقر ) وقالوا : ما حد الإمام ؟ قال : حده عظيم ، إذا دخلتم عليه فوقروه وعظموه وآمنوا بما جاء به من شيء ، وعليه أن يهديكم ، وفيه خصلة إذا دخلتم عليه لم يقدر أحد أن يملأ عينه منه إجلالاً وهيبةً ، لأن رسول اللـه (ص) كذلك كان ، وكذلك يكون الإمام ، قالوا : فيعرف شيعته ؟ قال : نعم ساعة يراهم ، قالوا : فنحن لك شيعة ؟ قال : نعم كلكم قالوا : أخبرنا بعلامة ذلك قال : أخبركم باسماءكم وأسماء آبائكم وقبائلكم ؟ قالــوا : أخبرنا ، فأخبرهم ، قالوا : صدقت ، ( قال : ) وأخبركم عما أردتم أن تسألوا عنه في قوله تعالى: { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ } (ابراهيم/24) نحن نعطي شيعتنا من نشاء من علمنا ، ثم قال : يقنعكم ؟ قالوا : في دون هذا نقنع.

          وينقل عبد اللـه بن معاوية الجعفري قصته مع والي المدينة ، الذي بعث عبره برسالة تهديد إلى الإمام الباقر (ع) ، فلم يأبه بها الإمام لأن اللـه أطلعه على أنه معزول قريبا ، يقول سأحدثكم بما سمعته أذناي ورأته عيناي من أبي جعفر (ع) أنه كان على المدينة رجل من آل مروان وأنه أرسل إليّ يوماً فأتيته وماعنده أحد من الناس ، فقال : يا معاوية إنما دعوتك لثقتي بك ، وإني قد علمت أنه لايبلغ عني غيرك ، فأحببت أن تلقى عمَّيـْك محمد بن علي وزيد بن الحسين (ع) وتقول لهما : يقول لكما الأمير لتكفان عما يبلغني عنكما ، أو لتنكران ، فخرجت متوجهاً إلى ابي جعفر فاستقبلته متوجهاً إلى المسجد فلما دنوت منه تبسم ضاحكاً فقال : بعث إليك هذا الطاغية ودعاك وقال : القَ عمَّيك فقل لهما كذا ؟ قال : أخبرني ابو جعفر بمقالته كأنه كان حاضراً ، ثم قال : يا ابن عم قد كفينا أمره بعد غد ، فإنه معزول ومنفي إلى بلاد مصر واللـه ما أنا بساحر ولا كاهن ، ولكني أتيت وحدثت ، قال : فواللـه ما أتى عليه اليوم الثاني حتى ورد عليه عزله ونفيه إلى مصر وولي المدينة غيره.

          أما أبو بصير الذي كان من خواص الإمام فإنه يروي قصته مع الإمام وكيف كان (ع) يراقبه ويؤدبه يقول :

          كنت أقرئ امرأة القرآن بالكوفة فمازحتها بشيء ، فلما دخلت على أبي جعفر عاتبني وقال : من ارتكب الذنب في الخلاء لم يعبأ اللـه به ، أي شيء قلت للمرأة ؟ فغطيت وجهي حياءً وتبت فقال أبو جعفر : لا تعد.

          ويروي أبو بصير أيضاً كيف أخبر الإمام عن ملك بني العباس قبل سنين من توليهم السلطة فيقول : كنت مع الباقر في مسجد رسول اللـه (ص) قاعداً حدْثان ما مات علي بن الحسين (ع) إذ دخل الدوانيقي وداود بن سليمان قبل أن أفضي الملك إلى ولد العباس ، وما قعد إلى الباقر إلاّ داود فقال الباقر (ع) : ما منع الدوانيقي أن يأتي ؟ قال : فيه جفاء ، قال الباقر (ع) : تذهب الأيام حتى يلي أمر هذا الخلق ويطأ أعناق الرجال ، ويملك شرقها وغربها بطول عمره فيها حتى يجمع من كنوز الأموال مالم يجتمع لأحد قبله ، فقام داود وأخبر الدوانيقي بذلك فأقبل إليه الدوانيقي وقال : ما منعني من الجلوس إليك إجلالك فما الذي خبرني به داود ؟ فقال : هو كائن ، قال : وملكنا قبل ملككم ؟ قال : نعم ، قال : يملك بعدي أحد من ولدي ؟ قال : نعم ، قال : فمدة بني أمية أكثر أم مدتنا ؟ قال : مدتكم أطول وليتلقفن هذا الملك صبيانكم ويلعبون كما يلعبون بالكرة ، هذا ما عهده إليّ أبي ، فلما ملك الدوانيقي تعجب من قول الباقر (ع).

          تعليق


          • #50
            خصال الإمام :

            لا يختار اللـه عبداً لمقام الإمامة . ويجعله حجة بالغة على خلقه إلاّ إذا اكتملت فيه الخصال الجيدة . وكان مثلاً لما أقر به سبحانه في كتابه من خشية اللـه وتوقيره . وتعظيمه وتجليله . وإخلاص العبودية له والتي تتجلى في جملة أقواله وأفعاله . فلا يقول إلاّ صواباً ولا يعمل إلاّ رشداً .

            وإذا كنا ننقل بعض خصال الإمام الباقر (ع) الحميدة ، أو خصال أحد المعصومين عليهم السلام ، فلكي نأتي بالشواهد الواضحة التي تدلنا على أمثالها ، وليس لأننا نريد أن تختصر كل حياة الإمام فيها . أو نحصي فضائله وخصاله الحميدة ، كلا .. لأننا نعرف سلفاً أن حياتهم كانت صورة واقعية عن القرآن الكريم ، بيد أن ما بلغنا منها لم يكن مستوعباً لجوانب حياتهم ، لأن جانباً منها انبهر به المؤرخون فأكثروا فيه الحديث واكتفوا بقياس سائر الجوانب عليه ، فمثلاً ذكروا من حياة الإمام السجاد جانب العبادة ، ولم يتحدثوا كثيراً عن جانب العلم ، بينما عكسوا الأمر فيما يتصل بحياة الإمام الباقر (ع) .

            وهكذا نكتفي ببعض الإشراقات التي وصلت إلينا من حياة الإمام ونترك للقارئ أن يقيس سائر أبعاد حياته عليها .

            “ قال : ابن شهراشوب في المناقب “ : كان أصدق الناس لهجة وأحسنهم بهجة وأبذلهم مهجة ، وكان أقل أهل بيته مالاً وأعظمهم مؤونة ، وكان يتصدق كل جمعة بدينار ، وكان يقول الصدقة يوم الجمعة تضاعــف لفضل يوم الجمعة على غيره من الأيام ، وكان إذا أحزنه أمر جمع النساء والصبيان ثم دعا فأمنوا ، وكان كثير الذكر ، كان يمشي وإنه ليذكر اللـه ويأكل الطعام وإنه ليذكر اللـه ، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله عن ذكر اللـه ، وكان يجمع ولده فيأمرهم بالذكر حتى تطلع الشمس ، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منهم ومن كان لا يقرأ منهم أمره بالذكر ، ويأتي قول المفيد : وكان ظاهر الجود في الخاصة والعامة مشهور الكرم في الكافة ، معروفاً بالتفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله ، ويأتي عن سليمان بن دمدم أنه عليه السلام كان يجيز بالخمسمائة درهم إلى الستمائة إلى الألف ، وكان لا يمل من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمليه وراجيه ، وكان إذا ضحك قال : اللـهم لا تمقتني . وقال الأبي في كتاب نثر الدرر : كان إذا رأى مبتلى أخفى الاستعاذة ، وكان لايسمع من داره يا سائل بورك فيك ولا يا سائل خذ هذا وكان يقول : سموهم بأحسن أسمائهم.

            وحينما يذكر أبو نعيم في كتابه الحلية الإمام يصفه بهذا النعت : الحاضر الذاكر الخاشع الصابر أبو جعفر محمد بن علي الباقر.

            وكان من شدة خشوعه ما يذكره ( أفلح ) مولى أبي جعفر أنه قال : خرجت مع محمد بن علي حاجّاً فلما دخل المسجد نظر إلى البيت فبكى حتى علا صوته ، فقلت : بأبي أنت وأمي إن الناس ينظرون إليك فلو رفعت بصوتك قليلاً فقال لي : ويحك يا أفلح ولم لا أبكي لعل اللـه تعالى أن ينظر إليّ منه برحمة فأفــــــــــوز بها عنده غداً ، قال ( أفلح ) ثم طاف بالبيت ثم جاء حتى ركع عند المقام فرفع رأسه مـن سجــــوده فــإذا موضع سجوده مبتل من كثرة دموع عينه ويضيف أفلح قائـــلاً : كـــان إذا ضحك قال : اللـهـــــم لا تمقتنــــي.

            ويقول نجلُه الإمام الصادق (ع) وهو يصف تبتل والده إلى اللـه : كان أبي كثير الذكر ، لقد كنت أمشي معه وإنه يذكر اللـه ، وآكل معه الطعام وإنه ليذكر اللـه ، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر اللـه . وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه يقول : لا اللـه إلاّ اللـه ، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس ، ويأمر بالقرآن من كان يقرأ منا ومن كان لايقرأ منا أمره بالذكر.

            ويقول الإمام الصادق (ع) :

            إني كنت أمهد لأبي فراشه فأنتظره حتى يأتي ، فإذا أوى إلى فراشه ونام قمت إلى فراشي . وإنه أبطأ عليّ ذات ليلة فأتيت المسجد في طلبه وذلك بعدما هدأ الناس ، فإذا هو في المسجد ساجد ، وليس في المسجد غيره وسمعت حنينه وهو يقول : سبحانك اللـهم أنت ربي حقاً حقاً ، سجدت لك تعبداً ورقاً ، اللـهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي ، اللـهم قني عذابك يوم تبعث عبادك ، وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم.

            وكان (ع) شديد الحب لكتاب ربه ، عظيم الاهتمام به والتأثر بآياته ، حتى أن أبان بن ميمون القداح قال : قال لي أبو جعفر (ع) : إقرأ . قلت : من أي شيء أقرا ؟. قال : من السورة التاسعة ؟ قال : فجمعت ارتمسها فقال : اقرأ من سورة يونس فقال .. قرأت { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } (يونس/26) قال : حسبك ، قال : قال رسول اللـه (ص) : إنِّي لأَعجبُ كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن.

            وكان يستلهم من كتــــاب ربه معارف الدين حتى أنه يدعو الرواة أن يسألوه عن مصدر أقوالهم من القرآن ، هكذا يروي أبو الجارود قال : قال أبو جعفر (ع) : إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عن كتاب اللـه . ثم قال : حتى حديثه أن اللـه نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال : فقالوا يابن رسول اللـه وأين هذا من كتاب اللـه ؟ فقال : إن اللـه عزّ وجلّ يقول في كتابه : { لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ } (النساء/114) وقال : { وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللـه لَكُمْ قِيَاماً } (النساء/5) وقال : { لاَ تَسْاَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } (المائدة/101).

            وإذا سأل عن حاله استغل السؤال لتذكير نفسه والسائل باللـه ، فقد روي أنه قيل لمحمد بن علي الباقــــر (ع) كيــــف أصبحــــت : قــــال : “ أصبحنــــا غرقى في النعمـة ، موتورين بالذنوب ، يتحبب إلينا إلهنــــا

            بالنعم ، ونتمقت إليه بالمعاصي ، ونحن نفتقر إليه وهو غني عنّا “.

            وكان (ع) شديد التسليم لأمر اللـه فقد روى بعض أصحابه أنه قال : كان قوم أتوا أبا جعفر (ع) : فوافَوا صبياً له مريضاً ، فرأوا منه اهتماماً وغماً ، وجعل لا يقر ( قال ) فقالوا : واللـه لإن أصابه بشيء إنا نتخوف أن نرى منه ما نكره ، قال فما لبثوا أن سمعوا الصياح عليه ، فإذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه في غير الحال التي كان عليها ، فقالوا له : جعلنا اللـه فداك لقد كنا نخاف مما نرى منك أن لو وقع ان نرى منك ما يغمنا ، فقال لهم : إنا لنحب أن نعافى في من نحب ، فإذا جاء أمر اللـه سلمنا فيما يحب.

            وكان (ع) لا يلويه عن العمل الصالح شيء . وفي ذلك رواية طريفة ينقلها بعض أصحابه حيث يقول : - حضر أبو جعفر (ع) جنازة رجل من قريش وأنا معه ، وكان فيها عطاء فصرخت صارخة فقال عطاء : لتسكتن أو لنرجعن ، قال : فلم تسكت فرجع عطاء قال : فقلت لأبي جعفر (ع) إن عطاء قد يرجع ، قال : ولِمَ ؟ قلت : صرخت هذه الصارخة فقال لها : لتسكتن أو لنرجعن ؟ فلم تسكت فرجع ، “ فقال : إمضِ بنا فلو أنا إذا رأينا من الباطل مع الحق تركنا له الحق لم نقضِ حق مسلم ، قال : فلما صلى على الجنازة قال وليها لأبي جعفر : إرجع مأجوراً رحمك اللـه فإنك لا تقوى على المشي ، فأبى أن يرجع ، قال فقلت له : قد اذن لك في الرجوع ولي حاجة أريد أن أسالك عنها ، فقال : إمضِ فليس بإذنه مشينا ولا بإذنه نرجع ، إنما هو فضل وأجر طلبناه فبقدر ما يتبع الجنازة الرجل يؤجر على ذلك.

            أما معاشرته لإخوانه فقد كانت غاية في الأدب ، فمثلاً يحكي أبو عبيدة عن آداب عشرته في السفر فيقول : كنت زميل أبي جعفر (ع) وكنت أبدأ بالركوب ثم يركب هو “ فإذا استوينا سلّم وسأل مسألة رجل لا عهد له بصاحبه ، وصافح ، قال : وكان إذا أنزل نزل قبلي ، فإذا استويت أنا وهو على الأرض سلم وسأل مسألة من لا عهد له بصاحبه ، فقلت يابن رسول اللـه إنك تفعل شيئاً ما يفعله من قبلنا ، وإن فعل مرة لكثير ، فقال :

            أما علمت ما في المصافحة ، إن المؤمنين يلتقيان فيصافح أحدهما صاحبه فما تزال الذنوب تتحات عنهما كما يتحات الورق عن الشجر واللـه ينظر إليهما حتى يفترقان.

            وكان في تعامله مع الناس برّاً عفيفاً ، وكان يعفو عن السيئة أنى استطاع إلى ذلك سبيلاً ، وكان لذلك أطيب الأثر في نفوس الناس ، فقد قال له نصراني يوماً : أنت بقر قال : لا أنا باقر قال : أنت ابن الطباخة ( يريد تعييره بها ) قال : تلك حرفتها ، قال : أنت ابن السوداء الزنجية البذية ؟ قال : إن كنت صدقت غفر اللـه لها ، وإن كنت كذبت غفر اللـه لك ، فانبهر النصراني بأخلاقه ، ودعاه ذلك إلى الإسلام على يديــه.

            وقد كان تعامله مع المستضعفين يتميز بالشفقة والرفق ، وقد روي عن نجله الإمام الصادق (ع) أنه قال :

            إذا استكملتم ما ملكت أيمانكم في شيء فيشق عليهم فاعملوا معهم فيه ، قال : وإن كان أبي ( الإمام الباقـــر عليه السلام ) ليأمرهم فيقول كما أنتم ، فيأتي فينظر ، فإن كان ثقيلاً قال باسم اللـه ثم عمل معهم ، وإن كان خفيفاً تنحى عنهم.

            وربما كان عمله في إصلاح حقله ومزرعته لهذه الجهة ، حيث كان الأئمة (ع) يرون الكدح والكد أمراً محبوباً يقربهم إلى اللـه .

            في ذلك يروي أبو عبد اللـه الصادق أن محمد بن المكدر كان يقول : ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين يدع خلفاً لفضل علي بن الحسين حتى رأيت ابنه محمد بن علي ، فأردت أن اعظه فوعظني ، فقال له أصحابه : بأي شيء يعظك ؟ قال : خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي وكان رجلاً بديناً وهو متّكٍ على غلامين له أسودين أو موليين ، فقلت في نفسي : شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ، أشهد لأعظنه ، فدنوت منه فسلمت عليه ، فسلَّم عليَّ ببهر وقد تصبب عرقاً ، فقلت أصلحك اللـه يا شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ، لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال ؟ قال : فخلى عن الغلامين من يده ، ثم تساند وقال : لو جاءني واللـه الموت وأنا في هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات اللـه تعالى أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس ، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي اللـه ، فقلت : يرحمك اللـه أردت أن أعظك فوعظتني.

            وكان يمكن الإمام أن يستخدم عبيده في أمر إصلاح أرضه ، إلاّ أنه أحب أن يراه اللـه كاداً في سبيل إعاشة عياله .

            ونختم حديثنا عن عِشرة الإمام بحديث يرويه الإمام الصادق (ع) يقول :

            أعتق أبو جعفر من غلمانه عند موته شرارهم وأمســـــك خيارهم . فقلت : يا أبته تعتق هؤلاء وتمسك هؤلاء ؟ فقال : إنهم قد أصابوا مني حزناً فيكون هذا بهذا.

            هكذا ضرب الإمام أروع الأمثلة في الخصال الحميدة والآداب الرفيعة ، ولا ريب أن الرواة لم ينقلوا لنا إلاّ نزراً يسيراً من جوانب حياته التي تفيض بالحكمة والرشاد .. فسلام اللـه عليه أبداً وصلاته عليه دائماً سرمداً.

            تعليق


            • #51
              عبدالملك بن مروان و الإمام الباقر سلام الله عليه

              يبدو أن بني أمية كانوا يتجنبون قتل أبناء علي (ع) بصورة ظاهرة ، للآثار السلبية التي خلفتها عليهم واقعة الطف ، وكان الأئمة بدورهم لا يجدون الظروف مؤاتية للقيام بنهضة دموية . والقصة التالية التي يذكرها الرواة تشهد بذلك ، فبعد أن نازع زيد بن الحسن الإمام الباقر في ميراث رسول اللـه استنجد بالخليفة الأموي ( عبد الملك بن مروان ) ودخل عليه وقال له : أتيتك من عند ساحر كذاب لا يحل لك تركه . فكتب عبد الملك كتاباً إلى واليه على المدينة أن يبعث إليه محمد بن علي مقيداً ، وقال لزيد : أرأيتك إن وليتك قتله قتلته ؟ قال : نعم .

              ولكن عامله على المدينة استدرك الأمر وكتب إلى الخليفة : إن الرجل الذي أردته لا يوجد اليوم على وجه الأرض أعف منه ولا أزهد ولا أورع منه ، وإنه ليقرأ في محرابه فيجتمع الطير والسباع تعجباً لصوته ، وإن قراءته وكتبه مزامير داود ، وإنه من أعلم الناس ، وارق الناس ، وأشد الناس اجتهاداً وعبادةً ، وأضاف في كتابــه : وكرهت لأمير المؤمنين التعرض له ، فإن اللـه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهـم ..

              وهكذا تراجع عبد الملك مما بدر منه . وبعد أن اكتشف كذب زيد بن الحسن أخذه وقيَّده وهيَّـأه ، وقال له : لولا أني أريد أن لا أبتلى بدم أحد منكم لقتلتك . ثم كتب إلى الإمام الباقر (ع) بعثت إليك بابن عمك فأحسن أدبه.

              من هذه القصة نعرف أن ملوك بني أمية كانوا يتجنبون ما أمكنهم قتل أولاد علي (ع) بصورة ظاهرة .


              قـــد حج هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين ، وكان قد حج في تلك السنة محمد بن علــــي الباقر وابنه جعفر بن محمد عليهما السلام . وقال الإمام الصادق (ع) : الحمد لله الذي بعث محمداً بالحق نبياً وأكرمنا به فنحن صفوة اللـه على خلقه وخيرته من عباده وخلفاؤه ، فالسعيد من اتبعنا والشقي من عادانا وخالفنا.

              ثم قال :

              فأخبر مسلمة أخاه بما سمع ، فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق وانصرفنا إلى المدينة ، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه ، فأشخصنا ، فلما وردنا مدينة دمشق حجبنا ثلاثاً ، ثم أذن لنا في اليوم الرابع فدخلنا ، وإذا قد قعد على سرير الملك ، وجنده وخاصته وقوف على أرجلهم سماطان متسلحان ، وقد نصب البرجاس حذاه وأشياخ قومه يرمون ، فلما دخلنا وأبي أمامي وأنا خلفه ، فنادى أبي وقال : يا محمد إرم مع أشياخ قومك الغرض .

              فقال له : إني قد كبرت عن الرمي فهل رأيت أن تعفيني .

              فقال : وحق من أعزنا بدينه ونبيه محمد (ص) لا أعفيك ، ثم أومأ إلى شيخ من بني أمية أن اعطه قوسك ، فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ثم تناول منه سهماً ، فوضعه في كبد القوس ، ثم انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه ، ثم رمى فيه الثانية فشق فواق سهمه إلى نصله ثم تابع الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض ، وهشام يضطرب في مجلسه فلم يتمالك إلاّ أن قال : أجدت يا أبا جعفر وأنت أرمى العرب والعجم ، هلاّ زعمت أنك كبرت عن الرمي ، ثم أدركته ندامة على ما قال .

              وكان هشام لم يكن كنّى أحداً قبل أبي ولا بعده في خلافته ، فهمَّ به وأطرق إلى الأرض إطراقة يتروى فيها . وأنا وأبي واقفان حذاه مواجهين له ، فلما طال وقوفنا غضب أبي فهم به ، وكان أبي (ع) إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان يرى الناظر الغضب في وجهه ، فلما نظر هشام إلى ذلك من أبي .

              قال له : إلي يا محمد !

              فصعد أبي إلى السرير ، وأنا أتبعه ، فلما دنا من هشام ، قام إليه واعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي ، ثم أقبل على أبي بوجهه .

              فقال له : يا محمد لاتزال العرب والعجم تسودها قريش مادام فيهم مثلك ، لله درك ، من علمك هذا الرمي ؟ وفي كم تعلمته ؟

              فقال أبي : قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته أيام حداثتي ثم تركته ، فلما اراد أمير المؤمنين مني ذلك عدت فيه .

              فقال له : ما رأيت مثل هذا الرَّمي قط مُذْ عقلت ، وما ظننت أن في الأرض أحداً يرمي مثل هذا الرمي أيرمي جعفر مثل رميك ؟ فقال :

              إنا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما اللـه على نبيه (ص) في قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } (المائدة/3) والأرض لا تخلــــو ممن يكمل هــــذه الأمـور التي يقصر غيرنا عنها .

              قال : فلما سمع ذلك من أبي انقلبت عينه اليمنى فاحولت واحمر وجهه ، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ، ثم أطرق هنيئة ثم رفع رأسه .

              فقال لأبي : ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد ؟

              فقال أبي : نحن كذلك ولكن اللـه جل ثناءه اختصنا من مكنون سره وخالص علمه بما لم يخص أحداً به غيرنا .

              فقال : أليس اللـه جل ثناؤه بعث محمداً (ص) من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة ، أبيضها وأسودها وأحمرها من أين ورثتم ما ليس لغيركم ؟ ورسول اللـه (ص) مبعثوث إلى الناس كافة وذلك قول اللـه تبارك وتعالى : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } (آل عمران/180) إلى آخر الآية فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبي ولا أنتم أنبياء ؟ فقال : من قوله تبارك وتعالى لنبيِّه (ص) : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } (القيامة/16) الذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره اللـه أن يخصنا به من دون غيرنا ، فلذلك كان ناجى أخاه عليأً من دون أصحابه فأنزل اللـه بذلك قرآناً في قوله : { وَتَعِيَهَآ اُذُنٌ وَاعِيَةٌ } (الحاقة/12) فقال رسول اللـه (ص) لأصحابه : سألت اللـه أن يجعلها أذنك يا علي ، فلذلك قال علي بن أبي طالب صلوات اللـه عليه بالكوفة : علَّمني رسول اللـه (ص) ألف باب من العلم ففتح لكل باب ألف باب ، خصَّه رسول اللـه (ص) من مكنون سره بما يخص أمير المؤمنين أكرم الخلق عليه ، فكما خص اللـه نبيه (ص) خص نبيه (ص) أخاه علياً من مكنون سره بما لم يخص به أحداً من قومه ، حتى صار إلينا فتوارثنا من دون أهلنا .

              فقال هشام بن عبد الملك : إن علياً كان يدعي علم الغيب واللـه لم يطلع على غيبه أحداً ، فمن أين ادعى ذلك ؟

              فقال أبي : إن اللـه جل ذكره أنزل على نبيّه (ص) كتاباً بيَّن فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة في قوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (النحل/89) وفي قوله : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ } (الانعام/38) وأوحى اللـه إلى نبيه (ص) أن لايبقي في غيبه وسره ومكنون علمه شيئاً إلاّ يناجي به عليّاً ، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده ، ويتولى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه ، وقال لأصحابه : حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي ، فإنه مني وأنا منه ، له مالي وعليه ما عليَّ ، وهو قاضي ديني ومنجز وعدي . ثم قال لأصحابه : علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلاّ عند علي (ع) ، ولذلك قال رسول اللـه (ص) لأصحابه : أقضاكم علي أي هو قاضيكم وقال عمر بن الخطاب : لولا علي لهلك عمر ، يشهد له عمر ويجحده غيره .

              فأطرق هشام طويلاً ثم رفع رأسه فقال : سل حاجتك .

              فقال : خلفت عيالي وأهلي مستوحشين لخروجي .

              فقال : قد آنس اللـه وحشتهم برجوعوك إليهم ولا تقم ، سر من يومك .

              فاعتنقه أبي ودعا له وفعلت أنا كفعل أبي ، ثم نهض ونهضت معه وخرجنا إلى بابه ، وإذا بميدان ببابه وفي آخر الميدان أناس قعود عددهم كثير ، قال أبي : من هؤلاء ؟

              فقال الحجاب هؤلاء القسيسون والرهبان وهذا عالم لهم يقعد إليهم في كل سنة يوماً واحداً يستفتونه فيفتيهم .

              فلف أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه وفعلت أنا مثل فعل أبي ، فأقبل نحوهم حتى قعد نحوهم وقعدت وراء أبي ، ورفع ذلك الخبر إلى هشام ، فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي ، فأقبل وأقبل عداد من المسلمين فأحاطوا بنا ، وأقبل عالم النصارى وقد شد حاجبيه بحريرة صفراء حتى توسطنا ، فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلمين عليه ، فجاؤوا به إلى صدر المجلس فقعد فيه ، وأحاط به أصحابه وأبي وأنا بينهم ، فأدار نظره ثم قال لأبي :

              أمنّا أم من هذه الأمة المرحومة ؟

              فقال ابي : بل من هذه الأمة المرحومة .

              فقال : من أيهم أنت من علمائها أم من جهالها ؟

              فقال له أبي : لست من جهالها ، فاضطرب اضطراباً شديداً ثم قال له : أسألك ؟ فقال له أبي : سل ، فقال : من أين ادعيتم أن أهل الجنة يطعمون ويشربون ولا يُحدِثون ولا يبولون ؟

              وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لا يجهل ؟

              فقال له أبي : دليل ما ندّعي من شاهد لا يجهل ، الجنين في بطن أمه يطعم ولا يحدث .

              قال : فاضطرب النصراني اضطراباً شديداً ، ثم قال : هلاّ زعمت أنك لست من علمائها ؟

              فقال له أبي : ولا من جهالها ، وأصحاب هشام يسمعون ذلك .

              فقال لأبي : أسألك عن مسألة أخرى فقال له أبي : سل .

              فقال : من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة أبداً غضة طرية موجودة غير معدومة عند جميع أهل الجنة ؟ وما الدليل عليه من شاهد لا يجهل ؟

              فقال له أبي : دليل ما ندَّعي أن ترابنا أبداً يكون غضاً طرياً موجوداً غير معدوم عند جميع أهل الدنيا لا ينقطع ، فاضطرب اضطراباً شديداً ، ثم قال : هلاّ زعمت أنك لست من علمائها ؟ فقال له أبي : ولا من جهالها .

              فقال له : أسألك عن مسألة ؟ فقال : سل ، فقال : أخبرني عن ساعة لا من ساعات الليل ولا من ساعات النهار ؟

              فقــــال له أبي : هـــي الساعــــة التي بين طلوع الفجر إلــــى طلوع الشمــــس يهدأ فيهـــا المبتلي ، ويرقد فيهـــا

              الساهر ، ويفيق المغمى عليه ، جعلها اللـه في الدنيا رغبة للراغبين وفي الآخرة للعاملين لها دليلاً واضحاً وحجة بالغة على الجاحدين المتكبرين التَّاركين لها .

              قال : فصاح النصراني صيحة ثم قال : بقيت مسألة واحدة واللـه لأسألك عن مسألة لاتهدي إلى الجواب عنها أبداً .

              قال له أبي : سل فإنك حانث في يمينك .

              فقال : أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد عمر أحدهما خمسون سنة وعمر الآخر مائة وخمسون سنة في دار الدنيا ؟

              فقال له أبي : ذلك عزيز وعزيرة ولدا في يوم واحد ، فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عاماً ، مرّ عزيز على حماره راكباً على قرية بأنطاكية وهي خاوية على عروشها { قَالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللـه بَعْدَ مَوْتِهَا } (البقرة/259) وقد كان اصطفاه وهداه فلما قال ذلك القول غضب اللـه عليه فأماته اللـه مائة عام سخطاً عليه بما قال ، ثم بعثه على حماره بعينه وطعامه وشرابه وعاد إلى داره ، وعزيرة أخوه لا يعرفه فاستضافه فأضافه وبعث إليه ولد عزيرة وولد ولده وقد شاخوا وعزير شاب في سن خمس وعشرين سنة ، فلم يزل يذكر أخاه وولده وقد شاخوا وهم يذكرون ما يذكرهم ويقولون : ما أعلمك بأمر قد مضت عيه السنون والشهور ، ويقول له عزيرة وهو شيخ كبير ابن مائة وخمسة وعشرين سنة : ما رأيت شاباً في سن خمسة وعشرين سنة أعلم بما كان بيني وبين أخي عزير أيام شبابي منك ! فمن أهل السماء أنت ؟ أم من أهل الأرض ؟ فقال : يا عزيرة أنا عزير سخط اللـه عليّ بقول قلته بعد أن اصطفاني وهداني فأماتني مائة سنة ثم بعثني لتزداد بذلك يقيناً ، إن اللـه على كل شيء قدير ، وها هو هذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده اللـه تعالى كما كان ، فعندها أيقنوا فأعاشه اللـه بينهم خمسة وعشرين سنة ، ثم قبضه اللـه وأخاه في يوم واحد .

              فنهض عالم النصارى عند ذلك قائماً وقاموا - النصارى - على أرجلهم فقال لهم عالمهم : جئتموني بأعلم مني واقعدتموه معكم حتى هتكني وفضحني وأعلم المسلمين بأن لهم من أحاط بعلومنا وعنده ما ليس عندنا ، لا واللـه لا كلمتكم من رأسي كلمة واحدة ، ولا قعدت لكم إن عشت سنة .

              فتفرقوا وأبي قاعد مكانه وأنا معه ، ورفع ذلك الخبر إلى هشام .

              تعليق


              • #52
                فلما تفرق الناس نهض أبي وانصرف إلى المنزل الذي كنا فيه ، فوافانا رسول هشام بالجائزة وأمرنا أن ننصرف إلى المدينة من ساعتنا ولا نجلس ، لأن الناس ماجوا وخاضوا فيما دار بين أبي وبين عالم النصارى ، فركبنا دوابنا منصرفين وقد سبقنا بريد من عند هشام إلى عامل مدين على طريقنا إلى المدينة أن ابنَي أبي تراب الساحرين : محمد بن علي وجعفر بن محمد الكذابين - بل هو الكذاب لعنه اللـه - فيما يظهران من الإسلام وردّا عليَّ ، ولما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسيسين والرهبان من كفار النصارى وأظهرا لهما دينهما ومرقا من الإسلام إلى الكفر دين النصارى وتقربا إليهم بالنصرانية ، فكرهت أن أنكل بهما لقرابتهما ، فإذا قرأت كتابي هذا فناد في الناس : برئت الذمة ممن يشاريهما أو يبايعهما أو يصافحهما أو يسلم عليهما فإنهما قد ارتدا عن الإسلام ، ورأى أمير المؤمنين أن يقتلهما ودوابهما وغلمانهما ومن معهما شر قتلة ، قال : فورد البريد إلى مدينة مدين .

                فلما شارفنا مدينة مدين قدم أبي غلمانه ليرتادوا لنا منزلاً ، ويشروا لدوابنا علفاً ، ولنا طعاماً ، فلما قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوهنا وشتمونا وذكروا علي بن أبي طالب صلوات اللـه عليه فقالوا : لا نزول لكم عندنا ولا شراء ولا بيع يا كفار يا مشركين يا مرتدين يا كذابين يا شر الخلائق أجمعين ، فوقف غلماننا على الباب حتى انتهينا إليهم فكلمهم أبي وليَّن لهم القول وقال لهم :

                اتقوا اللـه ولا تغلظوا فلسنا كما بلغكم ولا نحن كما تقولون فاسمعونا ، فقال لهم : فهبنا كما تقولون افتحوا لنا الباب وشارونا كما تشارون وتبايعون اليهود والنصارى والمجوس ، فقالوا : أنتم شر من اليهود والنصارى والمجوس لأن هؤلاء يؤدون الجزية وأنتم ما تؤدون ، فقال لهم أبي : فافتحوا لنا الباب وأنزلونا وخذوا منا الجزية كما تأخذون منهم ، فقالوا : لا نفتح ولا كرامة لكم حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعاً نياعاً او تموت دوابكم تحتكم ، فوعظهم أبي فازدادوا عتواً ونشوزاً ، قال : فثنى أبي رجله عن سرجه ثم قال لي : مكانك يا جعفر لا تبرح ، ثم صعد الجبل المطل على مدينة مدين وأهل مدين ينظرون إليه ما يصنع ، فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة وجسده ، ثم وضع إصبعيه في أذنيه ثم نادى بأعلى صوته { وإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللـه مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيـــــْرٍ وإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّـــاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللـه خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } (هود/84-86) نحن واللـه بقية اللـه في أرضه ، فأمر اللـه ريحاً سوداء مظلمة فهبت واحتملت صوت أبي فطرحته في أسماع الرجال والصبيان والنساء ، فما بقي أحد من الرجال والنساء والصبيان إلاّ صعد السطوح ، وأبي مشرف عليهم ، وصعد فيمن صعد شيخ من أهل مدين كبير السن ، فنظر إلى أبي على الجبل ، فنادى باعلى صوته : اتقوا اللـه يا أهل مدين فإنه قد وقف الذي وقف فيه شعيب (ع) حين دعا على قومه ، فإن أنتم لم تفتحوا له الباب ولم تنزلوه جاءكم من اللـه العذاب . فإني أخاف عليكم وقد أعذر من أنذر ، ففزعوا وفتحوا الباب وأنزلونا ، وكُتب بجميع ذلك إلى هشام فارتحلنا في اليوم الثاني ، فكتب هشام إلى عامل مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيقتله رحمة اللـه عليه وصلواته ، وكتب إلى عامل مدينة الرسول أن يحتال في سم أبي في طعام أو شراب ، فمضى هشام ولم يتهيأ له في أبي من ذلك شيء

                تعليق


                • #53
                  شهادته مسموماً عليه السلام

                  بعد ثمانية عشر عاماً تصدى خلالها للإمامة الإسلامية ، استجاب لنداء ربه الحق ، فلبَّاه راضياً مرضياً ، وقد قضى من عمره المبارك سبعاً وخمسين ربيعاً .

                  في غرة رجب من عام 114 للهجرة كان أهل بيته يحفّون به وكان السم الذي دس غليه من خلال سرج امتطاه قد انتشر في جسده فالتفت إلى نجله ووصيه الإمام الصادق (ع) وقال :

                  سمعت علي بن الحسين ناداني من وراء الجدران يا محمد تعال عجل ، وقال : يا بني هذا الليلة التي وعدتها وقد كان وضوءه قريباً ، قال : أريقوه أريقوه فظن بعضهم أنه يقول : من الخمس فقال يا بني أرقه فأرقناه فإذا فيه فأرة .

                  وأوصى ابنه الإمام جعفر بن محمد بأن يكفّنه في ثلاثة أثواب ، أحدها رداء له جدة كان يصلي فيه يوم الجمعة ، وثوب آخر وقميص ، وأوصى أن يشق له القبر شقاً ، واضاف فإن قيل لكم أن رسول اللـه لحد له فقد صدقوا .

                  وأوصى أن يرفع أربع أصابع ، وأن يرش بالماء ، وأن يوقف من أمواله قدراً لكي تندبه النوادب بمنى عشر سنين أيام المنى .

                  ولما توفي ضجت المدينة المنورة . ويروى عن الإمام الصادق (ع) :

                  أن رجلاً كان على بعد أميال من المدينة فرأى في منامه أنه قيل له : انطلق فصل على أبي جعفر : فإن الملائكة تغسله ، فجاء الرجل فوجد أبا جعفر قد توفي .

                  وبعد تجهيزه دفن في البقيع عند قبر والده الإمام زين العابدين وعم أبيه الإمام الحسن المجتبى.

                  فسلام اللـه عليه يوم ولد ويوم مات مسموماً ويوم يبعث حيّاً .

                  كلماته المضيئة :

                  لقد فاضت بكلماته المضيئة كتب المعارف ، أولم يكن باقر العلم في أهل بيت الرسالة ؟ ولكننا نقتبس منها قبسات لعل اللـه ينور بها قلوبنا ويبصرنا حقائق أنفسنا ويهدينا إلى الصراط القويم .

                  تعال نستمع معاً إلى وصيته الرشيدة التي ألقاها إلى جابر بن يزيد الجعفي :

                  “ أوصيك بخمس : إن ظُلمت فلا تظلم ، وإن خانوك فلا تخن ، وإن كذبت فلا تغضب ، وإن مدحت فلا تفرح ، وإن ذممت فلا تجزع ، وفكر فيما قيل فيك فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين اللـه جل وعز عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس ، وإن كنت على خلاف ما قيل فيك فثواب اكتسبته من غير أن تتعب بدنك ، واعلم أنك لا تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا أنك رجل سوء لم يحزنك ذلك ، ولو قالوا أنك رجل صالح لم يسرك ذلك ، ولكن أعرض نفسك على كتاب اللـه فإن كنت سالكاً سبيله زاهداً في تزهيده ، راغباً في ترغيبه ، خائفاً من تخويفه ، فاثبت وأبشر فإنه لايضرك ما قيل فيك ، وإن كنت مبايناً للقرآن فما الذي يغرك من نفسك ، إن المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها ، فمرة يقيم أودها ويخالف هواها في محبة اللـه ، ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها ، فينعشه اللـه فينتعش ويقيل اللـه عثرته فيتذكر ، ويفزع إلى التوبة والمخافة فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف وذلك بأن اللـه يقول : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَآئِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فإِذَا هُم مُبْصِرُونَ } (الاعراف/201) ، يا جابر استكثر لنفسك من اللـه قليل الرزق تخلّصاً إلى الشكر واستقلل من نفسك كثير الطاعة لله ازراء على النفس وتعرّضاً للعفو ، وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم ، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل ، وتحرز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ ، واستجلب شدة التيقظ بصدق الخوف وتَوقّ مجازفة الهوى بدلالة العقل ، وقف عند غلبة الهوى باسترشاد العلم ، واستبق خالص الأعمال ليوم الجزاء ، وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة ، واستجلب حلاوة الزهادة بقصر الأمل ، واقطع أسباب الطمع ببرد اليأس ، وسد سبيل العجب بمعرفة النفس ، وتخلص إلى راحة النفس بصحة التفويض ، وتعرض لرقة القب بكثرة الذكر في الخلوات ، واستجلب نور القلب بدوام الحزن ، وتحرز من إبليس بالخوف الصادق ، وإياك والرجاء الكاذب فإنه يوقعك في الخوف الصادق ، وإياك والتسويف فإنه بحر يغرق فيه الهلكى ، وإياك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب ، وإياك والتواني فيما لا عذر لك فيه فإليه يلجأ النادمون ، واسترجع سالف الذنوب بشدة الندم وكثرة الاستغفار ، وتعرض للرحمة وعفو اللـه بخالص الدعاء والمناجاة في الظلم ، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر واطلب بقاء العز بإماتة الطمع ، وارفع ذلك الطمع بعز اليأس ، واستجلب عز اليأس ببعد الهمة ، وتزود من الدنيا بقصر الأمل وبادر بانتهاز البغية عند إمكان الفرصة ، وإياك والثقة بغير المأمون ، واعلم أنه لا علم كطلب السلامة ، ولا عقل كمخالفة الهوى ، ولا فقر كفقر القلب ، ولا غنى كغنى النفس ، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك ، ولا نعمة كالعافية ولا عافية كمساعدة التوفيق ، ولا شرف كبعد الهمة ، ولا زهد كقصر الأمل ، ولا عدل كالإنصاف ، ولا جور كموافقة الهوى ، ولا طاعة كأداء الفرائض ، ولا مصيبة كعدم العقل ، ولا معصية كاستهانتك بالذنب ، ورضاك بالحالة التي أنت عليها ، ولا فضيلة كالجهاد ، ولا جهاد كمجاهدة الهوى ، ولا قوة كرد الغضب ، ولا ذل كذل الطمع ، وإياك والتفريط عند إمكان الفرصة ، فإنه ميدان يجري لأهله بالخسران .

                  وقال (ع) : خذوا الكلمة الطيبة ممن قالها وإن لم يعمل بها ، فإن اللـه يقول : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللـه } (الزمر/18) ، ويحك يا مغرور ألا تحمد من تعطيه فانياً ويعطيك باقياً ، درهم يفنى بعشرة تبقى إلى سبعمائة ضعف مضاعفة ، إنما أنت لص من لصوص الذنوب كلما عرضت لك شهوة أو ارتكاب ذنب سارعت إليه وأقدمت بجهلك عليه فارتكبته كأنّك لست بعين اللـه أو كأن اللـه ليس لك بالمرصاد ، يا طالب الجنة ما أطول نومك وأكل مطيتك وأوهى همتك فللّه أنت من طالب ومطلوب ، ويا هارباً من النار ما أحث مطيتك إليها ، وما أكسبك لما يوقعك فيها


                  و موعدنا إن شاء الله مع الإمام الصادق جعفر بن محمد

                  تعليق


                  • #54
                    اللهــــــــــــم صل على محمد وآل محمــــــــــــد

                    سلمت مولاي ، والله يعطيك العافية ،

                    عجباً لمن يحيد عن هذه السيرة ، فيلتمس سيرة غيرهم

                    تعليق


                    • #55
                      أختي العزيزة أراك متابعة لموضوعي و هذا يثلج صدري حقاً


                      أختي العزيزة إن من يحيد عنهم فإنه يحيد عن الصراط المستقيم فهم أهل البيت و هم منبع الرسالة

                      و هل آخذ ديني منهم أم من أتباع معوية و يزيد ؟؟

                      الحمد لله على نعمة التشيع

                      تعليق


                      • #56
                        اللهـــــــــم صل على محمد وآل محمــــــــــد

                        ولمَ لا مولاي .. وهي سيرة مليئة بالدروس ، فنعم المعلمون هم ونعم الدروس دورسهم ونعم الناقل لمثل هذه الدروس أنت يا مولاي ..

                        فأهل مكة أدرى بشعابها ، وأنت أدرى بسيرة هؤلاء السادة الكرام الأطهار

                        وكما قلت الحمد لله على نعمة التشيع ، فوالله لا نعمة تضاهي نعمة الولاية والتشيع لأمير المؤمنين والسادة من ولده

                        ثبتنا الله جميعا عليها ، بحقهم وعظيم مقامهم

                        تعليق


                        • #57
                          الحمد لله على الولاية و إن شاء الله الموضوع القادم عن الإمام جعفر الصادق

                          تعليق


                          • #58
                            بسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين
                            اللهم صلي على محمد و آل محمد

                            نكمل معكم مختصر الأثر في سيرة الأئمة الإثني عشر و نحن أمام بحر طامٍ عمّ جوده وبدرٍ سام أشرق وجوده، نحن أمام شمس المعارف الكبرى وأستاذ الأئمة وقائد جميع الأمة، الذي لم يُرَ إلا صائماً أو قائماً أو قارئاً للقرآن. هو الإمام جعفر بن محمد الصادق سلام الله عليه


                            نسبه الشريف : جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي

                            مولده الشريف:
                            كانت الأمة الإسلامية تحتفل بالذكرى الثمانين من مولد الرسول الأعظم (ص) ، في السابع عشر من شهر ربيع الأول ، وكانت تسير في بيت الرسالة موجة كريمة من السرور والإبتهاج ، ترتقب مجدا يهبط عليها فيزيدها رفعة وشموخاً .

                            في تلك الليلة ، وفي ذلك الجو الميمون ولد الإمام الصادق (ع) شعلة نور بازغة سخت بها إرادة السماء لتضيء لأهل الأرض ، وتنير سبلها إلى الخير والسلام .



                            أبــواه :

                            ولد من أبوين كريمين عظيمين مباركين هما :

                            1 - الإمام محمد بن علي بن الحسين بن علي ؛ الباقر (ع) ، الذي انحدر من سلالة علي أباً وأماً ، حيث كان حفيد الحسين بن علي ، وكانت أمه حفيدة الحسن (ع) . وهكذا بُني أول بيت فاطمي أصيل ، فكان أشم وأروع قمة إنسانية ارتفعت على بيت الرسالة .

                            2 - فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر ، التي كانت هي الأخرى أول نقيبة من سلالة أبي بكر أماَ وأباَ . وجدها محمد بن أبي بكر كان له سابقة الجهاد بين يدي الإمام أمير المؤمنين (ع) ، وكان ربيباَ له حيث تزوج الإمام بعد موت أبي بكر زوجته أسماء بنت عميس ، فربى ولدها محمد في حجره ، وغذاه من علومه ، حتى أصبح فدائياَ مخلصاً للإسلام ، وولاه مصراً فقتل فيها بأمر من معاوية .

                            وهكذا يأتي الإمام عصارة جهاد مقدس ، من أب وأم منحدرين من سلالة مباركة .



                            نشأتــه :

                            لقد كانت ولادته في عصر جده الإمام زين العابدين الذي ملأ الآفاق فضله ومجده ، ولم يزل في كنفه الوديع الذي كان يوحي إليه كل معاني السمو والعظمة ، ويغذيه بكل معاني الفضل والكمال ، ولم يزل يرى من جده العبادة والزهادة والرفادة والإجتهاد في طاعة اللـه فتنطبع في نفسه آثارها ، حتى بلغ سن الثانية عشر .

                            وعندما انتقلت إلى أبيه مقاليد الإمامة العامة ، وقام (ع) بأداء واجباتها ومسؤولياتها خير قيام ، كان الإمام الصادق (ع) يترعرع ليصبح فتاً نموذجيا يرمق إليه الشيعة بأبصارهم ويرون فيه القدوة السادسة لهم .



                            سفرته إلى الشام :

                            لقد كان الأمويون في الفترة الأخيرة من تسلطهم - حيث اختلفت على الامة الإسلامية التيارات الفكرية المتناقضة - يمارسون آخر محاولاتهم لتمويه الحقائق وإثبات المتناقضات ، ويعالجون الأحداث السياسية على ضوء سياسة أسلافهم المنحرفين ، والعجيب من أمرهم أنَّهم في تلك الحقبة كانوا يبدِّلون أزياء الخلافة كما تتبدل السنين ، فلا تكاد تقبل سنة جديدة على الناس إلاَّ بخليفة جديد ، لأن الأمة تلفظهم وتأبى الخضوع لسيادتهم الباطلة .

                            في هذا العصر - بالذّات - قاسى الإمام الباقر (ع) من ظلم الأمويين الشيء الكثير ، لأنه كان مأوى الحق وأهله ومركز المضطهدين ، الذين عارضوا سياسة الأمويين كما يتبين ذلك من سيرته المقدسة .

                            أما الشيعة فقد إبتلوا بلاءً عظيماً من جراء الظلم الأموي ، كما بين الإمام الباقر (ع) حين قال : “ ثم جاء الحجاج فقتلهم - يعني الشيعة - شر قتله وأخذهم بكل ظنة وتهمة “ .

                            حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعي ينتمي لعلي (ع) .

                            ولأن الخليفة الأموي أراد إثبات سلطته على الإمام الباقر (ع) واستعراض قوته أمامه - مثلما يصنعه الحاكم السياسي الظالم اليوم بمن يعارضه في الأمر - قام باستدعائه إلى الشام ، فسافر الإمام (ع) إليها مصطحباً ولده العزيز .

                            الإمام الصادق في وداع أبيه :

                            في سنة (117 هـ ) - حيث انتقل الإمام الباقر (ع) إلى جوار ربه ضحية غالية لسياسة بني أمية الجائرة - أوصى إلى ولده الصادق (ع) وهو في سن الرابعة والثلاثين بمدرسته التي اجتمعت عليها المئات من ذوي الفكر والبصيرة ، حتى كانت نواة المدرسة الكبرى التي أسسها الإمام الصادق (ع) من بعد أبيه ، كما أوصى له بالإمامة . وبهذا انتقلت إلى الإمام الصادق (ع) قيادة الأمة الدينية ومسؤولياتها السياسية الكبيرة

                            المدرسة الكبرى :

                            لعلنا لن نجد في التاريخ الإنساني مدرسة فكرية استطاعت أن توجه الأجيال المتطاولة ، وتفرض عليها مبادئها وأفكارها ، ثم تبني أمة حضارية متوحدة لها كيانها وذاتيتها ، مثلما صنعته مدرسة الإمام الصادق (ع) .

                            إن من الخطأ أن نحدد إنجازات هذه المدرسة في من درس فيها وأخذ منها من معاصريها وإن كانوا كثيرين جدا ، وإنما بما خلّفته من أفكار ، وبما صنعته من رجال غيرّوا وجه التاريخ ووجهوا أمته ، بل وكوَّنوا حضارته التي ظلت قروناً مستطيلة .

                            ولم تبق مدرسة فكرية إسلامية حافظت على ذاتيتها ووحدتها وأصالتها في جميع شؤون الحياة كما بقيت مدرسة الإمام الصادق (ع) ، ذلك لثقة التابعين بها وبأفكارها ، مما دفعهم إلى التحفظ بها وبملامحها الخاصـــة عبر قرون طويلة ، حتى أنهم كانوا ينقلون عنها الروايات فماً بفم ، وإذا كتبوا شيئا لا ينشروه إلاّ بعد الإجازة الخاصة ممن رووا الأفكار عنه .

                            وإذا عرفنا بأن الثقافة الإسلامية - الشيعية منها أو السنّية - كانت ولا زالت تعتمد على الأئمة من معاصري الإمام الصادق (ع) كالأئمة الأربعة ممن توقف المسلمون على مذاهبهم فقط ، وبالتالي عرفنا بان معظم هؤلاء الأئمة أخذوا من هذه المدرسة أفكارهم الدينية ، حتى أن ابن أبي الحديد أثبت أن علم المذاهب الأربعة راجع إلى الإمام الصادق في الفقه . وقد قال المؤرخ الشهير أبو نعيم الأصفهاني : ( روى عن جعفر عدة من التابعين منهم : يحيى بن سعيد الأنصاري ، وأيوب السختياني ، وأبان بن تغلب ، وأبو عمـرو بن العلاء ، ويزيد بن عبد اللـه بن هاد ، وحدث عنه الأئمة الأعلام : مالك بن أنس ، وشعبة الحجـــــاج ، وسفيان الثوري ، وابن جريح ، وعبد اللـه بن عمر ، وروح بن القاسم ، وسفيان بن عيينه ، وسليمان بن بلال ، وإسماعيل بن جعفر ، وحاتم بن إسماعيل ، وعبد العزيز بن المختار ، ووهب بن خالد ، وإبراهيم بن طهمان ، في آخرين ، وأخرج عنه مسلم بن الحجاج في صحيحه محتجاً بحديثه.


                            ومن جانب آخر إذا عرفنا بأن تلميذاً واحداً من الملتحقين بهذه المدرسة ألّف زهاء خمسمائة رسالة في الرياضيات كلها من إملاء الإمام الصادق (ع) ، وهو جابر بن حيان المعلم الرياضي الشهير الذي لا يزال العالم يعرف له فضلاً كبيراً على هذه العلوم وأيادي طويلة على أهلها .

                            وروى عنه محمد بن مسلم ستة عشر ألف حديث في مختلف العلوم ، وآخرون من هؤلاء الأفذاذ ، حتى قال قائلهم رأيت في هذا المسجد - أي مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ كل يقول : ( قال : جعفر بن محمد ) . حتى أن أبا حنيفة كان يقول :

                            ( لولا السَّنتان لهلك النُّعمان ) .

                            وأخيراً عرفنا بانه لم يرو عن أحد من الأئمة الإثني عشر - بل عن المعصومين الأربعة عشر وفيهم رسول اللـه (ص) - بقدر ما روي عن الإمام الصادق (ع) . ولقد جمع المتأخرون من الشيعة ما روي عنهم في مجلدات ضخمة : فكان البحار للمجلسي يحوي مائة وعشرة مجلدات ، وكان جامع الأخبار للنراقي مثيلاً له ، وكان مستدرك البحار نظيراً له ، وقد احتوت غالبية هذه الكتب ونظائرها على أحاديث الإمام الصادق (ع) وأكثرها في الفقه والحكمة والتفسير وما إلى ذلك .

                            أما في سائر العلوم فلم يصل إلى أيدينا إلاّ الشيء القليل ، حيث ذهب معظمها ضحية الخلاف السياسي الذي أعقب عصر الإمام ، فكم من كتب مخطوطة للشيعة أحرقتها نيران المنحرفين ، وكان نصيب مكاتب الفاطميين بمصر أكثر من ثلاثة ملايين كتاباً مخطوطا ، وكم من كتب لفتها أمواج دجلة والفرات وأحرقتها مطامع العباسيين ببغداد والكوفة ، وكم من محدّث واسع المعرفة جمّ الثقافة ظلت العلوم هائجة في فؤاده لا يستطيع لها نشراً خوفاً من إرهاب العباسيين وإجرامهم ، فهذا ابن أبي عمير ظلَّ في سجون بني العباس مدة طويلة - ومن المؤسف - أن ما كتبها هجرت في هذه المدة حتى عفنت واكلها التراب ، وراحت أحاديث كثيرة منها صحيحة الأعمال . وهذا محمد بن مسلم حفظ ثلاثين ألف حديثاً عن الإمام الصادق ولم يرو منها شيئاً .


                            والمشهور أن منهاج الإمام الصادق كان يوافق أحدث مناهج التربية والتعليم في العالم ، حيث ضمت حوزته اختصاصيين كهشام بن الحكم الذي تخصص في المباحث النظرية ، وتخصص زرارة ومحمد بن مسلم وأشباههم في المسائل الدينية ، كما تخصص جابر بن حيان في الرياضيات ، وعلى هذا الترتيب .

                            حتى أنه كان يأتيه الرجل فيسأله عما يريد من نوع الثقافة ، فيقول الفقه فيدله على إخصائيه ، أو التفسير فيومىء إلى صاحبه ، أو الحديث والسيرة ، أو الرياضيات ، أو الطب ، أو الكيمياء ، فيشير إلى تلامذته الاخصائيين ، فيذهب الرجل بملازمة من أراد حتى يخرج رجلاً قديراً بارعاً في ذلك الفن .

                            ولم يكن الوافدون إليه من أهل قطر خاص ، فلقد كانت طبيعة العالم الإسلامي في عصره تقضي على الأمة بتوسيع الثقافة والعلم والمعرفة في كل بيت .. حيث أن الفتوحات المتلاحقة التي فتحت على المسلمين أبواباً جديدة من طرق العيش وعادات الخلق ، وأفكار الأمم ، كانت تسبب احتكاكاً جديداً للأفكار الإسلامية بالنظريات الأخرى ، ولسبيل الحياة عند المسلمين بعادات الفرس والروم وغيرهما من جارات الدولة الإسلامية ، كما خلقت مجتمعاً حديثاً امتزج فيه المتأثر العميق بالوضع ، والمنحرف الكامل عن الإسلام ، مما سبب حدوث تناقضات في الحياة ، قد ترديه وتحدث لديه انعكاسات سيئة جداً لذلك الامتزاج الطبيعي المفاجىء .

                            لذلك هرعت الأمـــة يومئذ إلى العلم والثقافة والتصقت بأبي عبد اللـه الصادق (ع) مؤملة الخضب الموفـور ، ووفدت عليه من أطراف العالم الإسلامي طوائف مختلفة ، وساعدهم على المثول عنده مركزه الحساس ، حيث اختار - في الأعم الأغلب - مدينة الرسول (ص) التي كانت تمثل العصب الحساس في العالم الإسلامي ، ففي كل سنة كانت وفود المسلمين تتقاطر على الحرمين لتأدية مناسك الحج المفــروضـــة ولحـــل مسائلهم الفقهية والفكريـــة . فيلتقون بصادق أهـــل البيت (ع) وبمدرستـــه الكبـرى حيث يجدون عنده كل ما يريدون .

                            ويجدر بنا المقام هنا أن نشير إجمالا إلى موجة الإلحاد التي زحفت على العالم الإسلامي في عهد الإمام الصادق (ع) ، وقد اصطدمت بمدرسته ، فإذا بها الصَّد المتين ، والسَّد الرصين ، الذي حطم قواها وجعلها رذاذاً ، وباعتبار أننا نحاول أن نلخّص حياة إمامنا العظيم ونحدد ملامح مدرسته الكبرى ، يلـــزم أن نلم موجزاً بهذه الموجة الشاملة .

                            لقد أشرنا قريباً إلى أن الفتوحات الإسلامية سببت احتكاكاً عنيفاً بين المسلمين وبين الداخلين ، ولأن أغلب المسلمين لم يكونوا قد تفهموا الإسلام تفهماً قويماً ، ولا وعوه وعياً مستوعباً ، فإن نتيجة هذا الاصطدام كانت سيئة ، إذ أدّى إلى تشعب المسلمين إلى فرقتين :

                            الأولى : المحافظون المتزمتون الذين اتخذوا ظاهر الديـن ولم يتفهموا جوهره وحقيقته ، فإذا بهم يفقدون عقولهم ويفقدون معها مقاييس الأشياء ، وكانت الخوارج من فرسان هذا الإتجاه ، كما كانت الأشاعرة مع ملاحظة ما بين طوائفهم من اختلاف في الكمية والكيفية .

                            والثانية : المتطورون المفرّطون الذين بالغوا في التأثر بالوضع وألغوا المقاييس ، واكتفوا بما أوحت إليهم عقولهم الناقصة ، حسب اختلاف النزعات وتطور الظروف ، وكان في مقدمتهـم الملحدون ثم - مع اختلاف كثير - كانت المعتزلة ومن إليهم من الفرق الأخرى .

                            تعليق


                            • #59
                              وبطبيعة الحال كان الملحدون متسترين بسبب الوضع الاجتماعي القاسي الذي يعتبر فيه المرتد أسوأ حالاً من الكافر الأصيل ، وكانوا أقلاء في نفس الوقت ، بيد أنهم كانوا يستقون أفكارهم من فلسفة اليونان التي كان العرب لا يعرفها حتى ذلك اليوم ، وحيث تمت صلتهم بها عن طريق حركة الترجمة المنتشرة من عهد الإمام فصاعداً .

                              وقد اصطدم هؤلاء بمن اقتصرت معلوماتهم على مجموعة من الأحاديث التي يروونها عن أبي هريـرة أو غيره ، غير مبالين بما فيها من تناقضات جمة ، وكانوا يحسبون أنهم على حق ، وأن لهم مقدرة كافية لإثبات مزاعمهم الباطلة ، فترى أحدهم يشكل حزباً ويدعو إليه الناس سراً .

                              لذلك تحتم على الإمام الوقوف في وجههم وتبديد مزاعمهم . فرسم ثلاثة خطط حكيمة لذلك :

                              الأولى : لقد خصّ فرعاً من مدرسته بالذين يعرفون فلسفة اليونان بصورة خاصة وغيرها بصورة عامة ، ويعرفون وجهة نظر الإسلام إليها والحجج التي تنقضها ، وكان من هؤلاء هشـام بن الحكـم المفّوه الشهـير ، وعمران بن أعين ، ومحمد بن النعمان الأحول ، وهشام بن سالم ، وغيرهم من مشاهير علم الحكمة والكلام ، العارفين بمقاييس الإسلام النظرية أيضا .

                              الثانية : وكتب رسائل في ذلك ، مثل رسالته المدعاة بـ ( توحيد المفضل ) ، ورسالته المسمـــاة بـ (الإهليلجة) وما إليها .

                              الثالثة : المواجهة الشخصية لزعماء فكرة الإلحاد . وباعتبار أن هذه العملية الأخيرة كانت أبلغ في مقابلة الموجة من اللتين سبقتا ، لذلك يجدر بنا الوقوف عندها قليلاً لقراءة بعض القصص والأحداث المهمة :

                              1 - كان ابن أبي العوجاء وابن طالوت وابن الأعمى وابن المقفع مجتمعين بنفر من الزنادقة في الموسم بالمسجد الحرام ، وكان الإمام الصادق (ع) متواجداً آنذاك يفتي الناس ويفسر لهم القرآن ويجيب عن المسائل بالحجج والبينات . فطلب القوم من ابن أبي العوجاء تغليظ الإمام وسؤاله عما يفضحه بين المحيطين به .

                              فأجابهم بالإيجاب واتجه - بعد ان فرَّق الناس - صوب الإمام ، وقال : يا أبا عبد اللـه إن المجالس أمانــــات ولا بدّ لكل من به سؤال أن يسأل ، أفتأذن لي في السؤال ؟ فقال له أبو عبد اللـه : سل إن شئت .

                              فقال ابن أبي العوجاء : إلى كم تدوسون هذا البيدر ، وتلوذون بهذا الحجر ، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر ، وتهرولون حوله هرولة البعير ، فهناك من فكّر في هذا وقدّر بأنه فعل غير حكيم ولا ذي نظر . فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه ؟

                              فقال الصادق (ع) :

                              “ إن من أضله اللـه وأعمى قلبه استوهم الحق فلم يستحث به ، وصار الشيطان وليّه وربّه يورده مناهل الهلكة ولا يصدره ، وهذا بيت استعبــــد اللـه به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه ، فحثهم على تعظيمه وزيارته ، وجعله قبلة للمصلين له ، فهو شعبة لرضوانه ، وطريق يؤدي إلى غفرانه ، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال ، خلقه اللـه قبل دحو الأرض بألفي عام ، فأحق من أطيع فيما أمر وانتهى عما زجر ، هو اللـه المنشئ للأرواح والصور “ .

                              فقال له ابن أبي العوجاء : فأحلت على غائب .

                              فقال الصادق (ع) : “ كيف يكون يا ويلك غائباً من هو مع خلقه شاهد ، وإليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم ويعلم أسرارهم ، لا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مكان ، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان ، تشهد له بذلك آثاره ، وتدل عليه أفعاله ، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة محمد رسول اللـه (ص) الذي جاءنا بهذه العبادة ، فإن شككت في شيء في أمره فاسأل عنه “ .

                              فأبلس ابن أبي العوجاء ولم يدر ما يقول ثم انصرف من بين يديه ، وقال لأصحابه : سألتكم أن تلتمسوا لي خمرة فألقيتموني على جمرة .

                              فقالوا له : أسكت فو اللـه لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه . فقال : إليّ تقولون هذا ، إنه ابن من حلق رؤوس من ترون - وأومأ بيده إلى أهل الموسم - .

                              ومرة أخرى جاء إليه يسأله عن حدوث العالم ؟

                              فقال (ع) : “ ما وجدت صغيراً ولا كبيراً إلاّ إذا ضم إليه صار أكبر ، وفي ذلك انتقال عن الحالة الأولـــى ،

                              ولو كان قديماً ما زال ولا حال ، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل ، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث ، وفي كونــه في الأزل دخول في القدم ، ولن يجتمع صفة الحدوث والقدم في شيء واحد “ .

                              فقال ابن أبي العوجاء : هب علمك في جري الحالتين والزمانين على ما ذكرت استدللت على حدوثها ، فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدل على حدوثها ؟

                              فقال (ع) : “ إنا نتكلم عن هذا العالم الموضوع ، فلو رفعناه ووضعنا عالماً آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إياه ووضعنا غيره ، ولكن أجيبك من حيث قدرت أن تلزمنا فتقول : إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ضم شيء منه شيء إلى منه كان أكبر ، وفي جواز التغّير عليه خروجه من القدم ، إن في تغّيره دخوله في الحدث ، وليس لك وراءه بشيء يا عبد الكريم “.

                              ومرة جاء وقد جمع كيده وحشد أدلته وحدّ اظفاره ، فما أن تباحث مع الإمام حتى أفحم إفحاما ، فقام ولم يرجع حتى هلك ، وطوي بموته على هذه الشاكلة صفحة إلحاد كان لها أنصار وأعوان ، ومضى زعيم إلحاد كان له صولة وجولة وحزب كبير .

                              2 - يروى عن هشام بن الحكم أنه قال : كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد اللـه علم ، فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها ، وقيل هو بمكة فخرج إلى مكة - ونحن مع أبي عبد اللـه (ع) آنذاك - فانتهى إليه وهو في الطواف ، فدنا منه وسلم .

                              فقال له أبو عبد اللـه (ع) : ما اسمك ؟

                              قال : عبد الملك .

                              قال : فما كنيتك ؟

                              قال : أبو عبد اللـه .

                              قال : فمن ذا الملك الذي أنت عبده ، أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء . وأخبرني عن ابنك أعبد إله السماء أم عبد إله الأرض ؟ فسكت . فقال : ابو عبد اللـه قل . فسكت .

                              فقال له (ع) : إذا فرغت من الطواف فأتنا . فلما فرغ ابو عبد اللـه ( عليه السلا) من الطواف أتاه الزنديق ، فقعد بين يديــــه - ونحن مجتمعون عنده - فقال أبو عبد اللـه (ع) : أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقــــاً ؟

                              فقال : نعم .

                              قال : دخلت تحتها ؟

                              فقال : لا .

                              قال : فهل تدري ما تحتها ؟

                              قال : لا أدري إلاّ أني أظن أن ليس تحتها شيء .

                              فقال : فالظن عجز ما لم تستيقن .

                              ثم قال له : صعدت إلى السماء ؟

                              قال : لا .

                              قال : أفتدري ما فيها ؟

                              قال : لا .

                              قال : فأتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما ؟

                              قال : لا .

                              قال : فالعجب لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ولم تنزل تحت الأرض ولم تصعد إلى السماء ولم تجد ما هناك فتعرف ما خلفن وأنت جاحد ما فيهن ، وهل يجحد العاقل مالا يعرف .

                              فقال الزنديق : ما كلمني بهذا غيرك .

                              فقال أبو عبد اللـه (ع) : فأنت من ذلك في شك ، فلعل هو ولعل ليس هو .

                              قال : ولعل ذلك .

                              فقال ابو عبد اللـه (ع) : “ أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم ، ولا حجة للجاهل على العالم ، يا أخا أهل مصر تفهم عني ، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان ولا يستبقان يذهبان ويرجعان ، - قد اضطرّا ، ليس لهما مكان إلاّ مكانهما ، فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان ، وإن كانا غير مضطرين فلم لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً . واللـه يا أخا أهل مصر ان الذي تذهبون إليه وتظنون من الدهر ، فإن كان هو يذهبهم فلم يردهم ، وإن كان يردهم فلم يذهب بهم ، أما ترى السماء مرفوعة والأرض موضوعة لا تسقطهـا على الأرض ولا تنحـدر الأرض فـوق ما تحتـها ، أمسكها واللـه خالقها ومديرها “ .

                              قال : فآمن الزنديق على يدي أبي عبد اللـه (ع) ، فقال لهشام : خذه الليلة وعلمه .

                              3 - وجاء إليه زنديق آخر وسأله عن أمور نظرية ، فكان بينهما الحوار التالي :

                              قال كيف يعبد اللـه الخلق ولم يروه ؟

                              قال ابو عبد اللـه (ع) : “ رأته القلوب بنور الإيمان ، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان ، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ، ثم الرسل وآياتها والكتب ومحكماتها ، واقتصرت العلماء على اماراته من عظمته دون رؤيته “.

                              قال : أليس هو قادر على أن يظهر لهم حتى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين ؟

                              قال (ع) : “ ليس لمحال جواب “ .

                              قال : فمن أين أثبت أنبياءً ورسلاً ؟

                              قال (ع) : “ إنما لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا أن يلامسوه ، ولا أن يباشرهم ويباشروه ، ويحتاجهم ويحتاجوه ، ثبت أن له سفراء عباداً يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم ، وفي تركه فنائهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك أن لهم معبّرين - هم الأنبياء وصفوته من خلقه - حكماء مؤدبين بالحكمة ، مبعوثين عنه ، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم له في الخلق والتدبير ، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص “ .

                              قال : من أي شيء خلق الأشياء ؟

                              قال (ع) : من لا شيء !

                              فقال : كيف يجيء بشيء من لا شيء ؟

                              قال (ع) : “ إن الأشياء لا تخلو ، إما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء ، فإن كانت خلقت من شيء فإنَّ ذلك الشيء قديم ، والقديم لا يكون حديثا ولا يتغير ، ولا يخلو ذلك الشيء جوهراً واحداً ولوناً واحداً ، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتى ، ومن أين جاء الموت إن كان الشيء الذي أنشئت منه الأشياء حيّاً ، أو من أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميتاً ، ولا يجوز أن يكون من حي وميت ، لأن الحي لا يجيء منه ميت وهو لم يزل حيّاً ، ولا يجوز أيضاً ان يكون الميت قديماً ، لم يزل لما هو به من الموت لأن الميت لا قدرة به ولا بقاء “ .

                              ثم قال : من أين قالوا أن الأشياء أزلية ؟

                              قال (ع) : “ هذه مقالة قوم جحدوا مدبر الأشياء ، فكذبوا الرسل ومقالتهم والأنبياء وما أنبأوا عنه ، وسموا كتبهم أساطير ووضعوا لأنفسهم ديناً بآرائهم ، وإن الأشياء تدل على حدوثها من دوران الفلك بما فيه .. إلى آخر حديثه الطويل “ .

                              وعندما ننهي الحديث عن هذه المحادثات الغزيرة بالنظريات الفلسفية من جانب ، والنظريات الدينية من جانب آخر ، ثم بالتوفيق بينهما ورد الأفكار الباطلة - عند ذلك - يجب أن نعرف أن الفلسفة الإسلامية لم تستطع أن تقوم لها قائمة إلاّ بعد قرن كامل من انقضاء مدرسة الإمام الصادق (ع) ، .

                              بينما نرى نظريات الإمام الصادق (ع) في دراساته لا زالت من صميم الفكرة الإسلامية وآيات الذكر وآثار النبي ، ومن قوانين الإسلام ونظمه حتى لكأنه جزء لا يتجزأ من كيان موحد أصيل ، في نفس الوقت الذي نرى توفيقه الشامل لفطرة الإنسان ووحي ضميره سواء في المعنى أو في الدليل

                              تعليق


                              • #60
                                ثقافتــه الواسعــة :

                                ليست ثقافة الإمام الصادق (ع) محـدودة بما قال أو بما حفظ عنه من آثار في مختلف العلوم ، بل أكبر من هذا سعة وأكثر رحابة وأبعد أفقاً ، لأن ثقافته اتصلت بالموجودات رأساً كما تتصل السحابة بالبحر ، والضياء بالشمس والعطر بالورد وحيث كان يستوحي أفكاره واتجاهاته ومعارفه من اللـه خالق البحر والشمس ، ومفتح الورد . فالوحي من اللـه فالنبي فالإمام ، وكذلك الإلهام من اللـه فالإمام .

                                وهنا يجدر بنا أن ننقل اعترافات بعض الزعماء والمفكرين بمدى سعة آفاق الإمام العلمية ، ومدى رحابة مكانته الثقافية ، التي جعلت من أعدائه منابر المدح ومنصات الثناء .

                                قال فيه أبو حنيفة : “ ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد “ و “ جعفر بن محمد أفقه من رأيت “ .

                                وقال فيه الشهرستاني : “ وهو ذو علم غزير في الدين وأدب كامل في الحكمة “ .

                                وقــــال فيه ابن حجر الهيثمي : “ جعفر بن محمد الصادق نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته في جميع البلدان ، وروى عنه الأئمة الكبار “ .

                                وقال فيه السيد أمير علي صاحب كتاب مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي :

                                “ لا يفوتنا أن نشير إلى ان الذي تزّعم تلك الحركة هو حفيد علي بن أبي طالب المسمى بالإمام جعفر والملقب بـ ( الصادق ) ، وهو رجل رحب أفق التفكير ، بعيد أغوار العقل ، ملم كل الإلمام بعلوم عصره ، ويعتبر في الواقع أنه أول من أسس المدارس الفلسفية في الإسلام . ولم يكن يحضر حلقته العلمية أولئك الذين أصبحوا مؤسسي المذاهب الفقهية فحسب ، بل كان يحضرها طلاب الفلسفة المتفلسفون من الأنحاء القاصية .

                                وقال العلاّمة هولميادر الكاتب الإنكليزي :

                                “ إن جابر هو تلميذ جعفر الصادق وصديقه ، وقد وجد في إمامه الفذ سنداً ومعيناً وراشداً أميناً وموجهاً لا يستغني عنه ، وقد سعى جابر إلى أن يحرر الكيمياء بإرشاد أستاذه من أساطير الأولين التي علقت بها من الإسكندرية ، فنجح في هذا السبيل إلى حد بعيـد ، مـن أجل ذلك يجـب أن يقـرن اسم جابـر مع أساطيـن هذا الفن في العالـم أمثال ( بويله) و ( فوازيه ) وغيرهما من الأعلام “ .

                                وهناك مئات بل ألوف من الإعترافات التي أبداها كل من الكتَّاب المسلمين وغيرهم من المحدثين والقدماء ، وبصورة خاصة من معاصري الإمام (ع) حتى ملأ العالم فضله وعلمه الغزير وثقافته الوسيعة البالغة .



                                جــوده وكرمــه :

                                1 - قال سعيد بن بيان : مرَّ بنا المفضل بن عمر - أنا وأخت لي - ونحن نتشاجر في ميراث فوقف علينا ساعة ثم قال لنا : تعالوا إلى المنزل ، فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم دفعها إلينا من عنده حتى إذا استوثق كل واحد منا صاحبه قال المفضل : أما إنها ليست من مالي ولكن أبا عبد اللـه الصادق أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا أن أصلح وأفتد بها من ماله - فهذا مال أبي عبد اللـه - .

                                2 - وجاء إليه رجل وقال : لقد سمعت أنك تفعل في عين زياد - وكان ذلك اسم قرية له - شيئاً أحب أن أسمعه منك .

                                فقال (ع) : “ نعم كنت آمر إذا أدركت الثمرة أن يثلم ( أي يشق ويهدم ) في حيطانها الثلم ليدخل الناس ويأكلوا . وكنت آمر أن يوضع بنيات يقعد على كل بنية عشرة ، كلما اكل عشرة جاء عشرة أخرى يلقي لكل منهم مدّ من رطب ، وكنت آمر لجيران الضيعة كلهم الشيخ والعجوز والمريض والصبي والمرأة ومن لا يقدر أن يجيء فيكال لكل إنسان مدّاً فإذا أوفيت القوام والوكلاء آجرتهم وأحمل الباقي إلى المدينة ففرقت في أهل البيوت والمستحقين على قدر استحقاقهم ، وحصل لي بعد ذلك أربعمائة دينار وكان غلتها أربعة آلاف دينار “.

                                يعني ذلك أنه كان يصرف تسعة أعشار تلك الضيعة في الوجوه الخيرية بينما يجعل لنفسه عشراً واحداً منها فقط .

                                3 - وينقل هشام بن سالم أحد أصحاب الإمام البارزين فيقول : كان أبو عبد اللـه إذا اعتم - أي أظلم - وذهب من الليل شطره أخذ خناً فيه لحم وخبز ودراهم فحمله على عنقه ثم ذهب إلى أهل الحاجة من أهل المدينة فقسمه فيهم ولا يعرفونه .

                                فلما مضى “ وتوفي “ أبو عبد اللـه فقدوا ذلك ، فعلموا أنه كان أبا عبد اللـه .

                                4 - يحدّث الهياج البسطامي عن كرم الإمـام فيقول : كـــــان أبو عبد اللـه ينفق حتى لا يبقى شـــــيء لعيالـــــه .

                                5 - وقال بوابه المصادف : كنت مع أبي عبد اللـه بين مكة والمدينة فمررنا على رجل في أصل شجرة وقد ألقى بنفسه فقال (ع) مل بنا إلى هذا الرجل ( أي إعدل الطريق إلى جانبه ) فإني أخاف أن يكون قد أصابـــه العطش ، فملنا إليه فإذا هو رجل من النصارى طويل الشعر ، فسأله الإمام : عطشان أنت ؟ فقال : نعم فقال الإمام : إنزل يا مصادف فاسقه ، فنزلت وسقيته ثم ركب وسرنا ، فقلت له : هذا نصراني أفتصرف على نصراني ؟

                                فقال : نعم إذا كانوا بمثل هذه الحالة .

                                6 - كان مريضاً ذلك النهار الذي دخل عليه الشاعر الملهم اشجع السلمي فجلس إليه يسأل عن أحواله فقال له الإمام (ع) تعدّ عن العلة واذكر ما جئت له .

                                فقال الشاعر :

                                ألبســك اللــه منه عـافيـــــة في * نومــك المعــــتــري وفـي أرقــك

                                يخرج مـن جسمـك السقام كمــا * أخــــــرج ذل الســؤال مـن عنقـك

                                فقال الإمام : يا غلام أي شيء عندك ؟

                                قال : أربعمائة . قال : أعطها لأشجع .

                                حلمــه ورأفتــه :

                                1 - كان (عليه السلام ) إذا بلغه من أحد نيلاً منه أو وقيعة فيه قام إلى مصلاّه فأكثر من ركوعه وسجوده وبالغ في ابتهاله وضراعته وهو يسأل اللـه أن يغفر لمن ظلمه بالسب ونال منه .

                                2 - وبعث غلامه إلى حاجة فأبطأ ، فذهب على أثره يتفقده فوجده نائماً على بعض الأرصفة ، فجاء حتى جلس بجانبه يروح له فلما انتبه قال له : يا فلان ما ذلك لك تنام الليل والنهار ، لك الليل ولنا منك النهار.

                                إذا أضفنا هذه القصة الصغيرة إلى الوضع الإجتماعي ذلك اليوم الذي كان الرقيق يعاملون معاملة البهائم فيشبعونهم ضرباً بمجرد أن تبدر منهم بادرة ، نعرف مدى نضوج الإنسانية الرفيعة في فؤاده الكبير .

                                2 - بعث غلاماً له أعجمياً في حاجة فلما رجع بالجواب لم يستطع أن يفصح به العبد لأنه لم يكن يجيد العربية تماماً ، فبدلاً من أن ينهره ويطرده - شأن الناس ذلك اليوم - سكن قلبه وهدأ اضطرابه وقلقه حيث قال له : لإن كنت عيّ اللسان فما أنت بعيّ القلب ثم أضاف :

                                “ إن الحياء والعفاف والعيّ - عيّ اللسان لا عيّ القلب - من الإيمان “.

                                3 - كانت الحجـــاج تتقاطر على مكة والمدينة وكان بعضهم يفضل المبيت فــــي مسجد النبي (ص) بــــدلاً من أن يستأجروا مقابل بعض الدراهم ، فكان أحدهم نائماً بالمسجد والإمام يصلي بجانبه فلما انتبه لم ير هميانه الذي حفظ فيه نقوده ، فتعلق بالإمام - ولم يكن يعرفه - قائلاً له أنت سرقت همياني .

                                قال له الإمام : كم كان عندك من النقود ؟

                                قال : ألف دينار . فحمله إلى منزله وأعطاه ألف دينار فذهب الرجل ثم وجد هميانه وفيه ألف دينار فعاد بالمال إلى الإمام متعذراً ، فأبى قبوله قائلا : شيء خرج من يدي لا يعود إليّ .

                                فخرج الرجل يسأل الناس عن الإمام فقيل هذا جعفر بن محمد فقال : لا جرم هذا فعال مثله .



                                صبــره وأمانتــه :

                                كان له ولد كان في بعض طرقات المدينة يمشي أمامه غضاً طرياً ، اعترضته غصة في حلقه فشرق بها ومات أمامه ، فبكى (ع) ولم يجزع بل اكتفى بقوله مخاطباً لجثمان ولده الفقيد :

                                “ لئن أخذت لقد أبقيت ، ولئن أبليت لقد عافيت “ .

                                ثم حمله إلى النساء فصرخن فأقسم عليهن ألا يصرخن .

                                ثم أخرجه إلى المدفن وهو يقول : “ سبحان من يقتل أولادنا ولا نزداد له إلاّ حبّاً “ .

                                وقال بعد الدفن : “ إنا قوم نسأل اللـه ما نحب فيمن نحب فيعطينا ، فإذا أحب ما نكره فيمن نحب رضينا “ .



                                نظرته الإنسانيــة :

                                إن نظرة الإمام الصادق (ع) الإنسانية تنبثق من نظرة الإسلام إليها في شتى صيغها ومفاهيمها ،


                                1 - كان للإمام صديق لا يكاد يفارقه ، فغضب يوماً على عبده وسبه قائلاً : أين كنت يا ابن الفاعلة !! فلما سمع أبو عبد اللـه دفع يده فصك بها جبهة نفسه . ثم قال : سبحان اللـه تقذف أمه ، قد كنت أرى لك ورعاً .

                                فقال الرجل : جعلت فداك إن أمه أمة مشركة ، فقال (ع) : أما علمت أن لكل أمة نكاحاً .

                                2 - انقطع شسع نعله وهو يسير مع بعض أصحابه يشيعون جنازة ، فجاء رجل بشسعه ليناوله ، فقال: أمسك عليك شسعك فإن صاحب المصيبة أولى بالصبر عليها .

                                3 - قال بعض أصحابه : أصاب أهل المدينة غلاء وقحط حتى أقبل الرجل الموسر يخلط الحنطة بالشعير ويأكله ، وكان عند أبي عبد اللـه طعام جيد - فيه كفاية - قد اشتراه أول السنة فقال لبعض مواليه : إشتر لنا شعيراً واخلط بهذا الطعام ، أو بعه فإنا نكره أن نأكل جيدا وياكل الناس رديئاً .

                                وقال الآخر دخلنا على أبي عبد اللـه في حائط - أي بستان - له وبيده مسحاة يفتح بها الباب وعليه قميص ، وكان يقول إني لأعمل في بعض ضياعي وإن لي من يكفيني ليعلم اللـه أني أطلب الرزق الحلال .



                                عبادتــه وطاعتــه :

                                كل من وصف جعفر بن محمد الصادق (ع) بالعمل شفعه بالزهد والطاعة وإليك بعض كلماتهم في ذلك :

                                قال مالك - إمام المذهب - : “ كان جعفـر لا يخلو مـن إحـدى ثلاث خصـال ، إما مصلٍّ وإما صائم وإما يقرأ القرآن “ ..

                                وقال : “ ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق (ع) علماً وعبادةً وورعاً .

                                وقــــال الوزير أبو الفتح الأربلـــــي : “ وقف نفسه الشريفة علــــى العبادة وحثَّها على الطاعة والزهادة واشتغــــل

                                بأوراده وتهجده وصلاته وتعبده “ .

                                ويـروي بعض معاصـريه : رأيت أبا عبـد اللـه (ع) ساجداً في مسجـد النبي (ص) فجلست حتى أطلت ، ثم قلت : لأسبحنّ ما دام ساجداً فقلت : سبحان ربي وبحمده استغفر ربي وأتوب إليه ثلاثمائة ونيفاً وستين مرة فرفع رأسه .

                                “ إنه كان يلبس الجبة الغليظة القصيرة من الصوف على جسده ، والحلة من الخز على ثيابه ويقول : نلبس الجبة لنا والخز لكم ، ويرى عليه قميص غليظ خشن تحت ثيابه وفوقه جبَّة صوف وفوقها قميص غليظ “ .

                                “ ويطعم ضيوفه اللحم ينتقيه بيده وهو ياكل الخل والزيت ويقول : “ إن هذا طعامنا طعام الأنبياء “ .



                                مــن بلاغتـــه :

                                لقد زخرت الكتب الدينية بأحاديث بليغة عن الإمام الصادق (ع) ولك أيها القارئ بعض روائعه تاركين من يريد أكثر من ذلك يراجع كتاب “ أشعة من بلاغة الإمام الصادق (ع) “ للعلاّمة الفقيه الشيخ عبد الرسول الواعظي .

                                “ أوصى إلى المنصور الخليفة المعاصر له فقال : عليك بالحلم فإنه ركن العلم ، واملك نفسك عند أسباب القدرة ، فإن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفي غيظاً أو تداوى حقداً أو يجد ذكراً بالصولة ، واعلم بانك إن عاقبت مستحقاً لم تكن غاية ما توصف به إلاّ العدل ، والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر “.

                                فقال المنصور : “ وعظت فأحسنت وقلت فأوجزت “ .

                                ومن وصية له إلى ولده الإمام الكاظم (ع) :

                                “ يا بني إفعل الخير إلى كل من طلبه منك . فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه ، وإن لم يكن له بأهل كنت أهله ، وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحول إلى يسارك واعتذر إليك فاقبل عذره “ .

                                قال سفيان الثوري لقيت الصادق ابن الصادق جعفر بن محمد (ع) فقلت : يابن رسول اللـه أوصني .

                                فقال : يا سفيان لا مروءة لكذوب ، ولا أخ لملوك ، ولا راحة لحسود ، ولا سؤدد لسيّئ الخلق .

                                فقال : يابن رسول اللـه زدني .

                                فقال لي : يا سفيان ثق باللـه تكن مؤمناً ، وارض بما قسم اللـه لك تكن غنياً ، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً ، ولا تصحب الفاجر معك يعلمك من فجور ، وشاور في أمرك الذين يخشون اللـه عز وجل

                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                x

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة

                                اقرأ في منتديات يا حسين

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 09:44 PM
                                استجابة 1
                                10 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                                بواسطة ibrahim aly awaly
                                 
                                أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 07:21 AM
                                ردود 2
                                12 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                                بواسطة ibrahim aly awaly
                                 
                                يعمل...
                                X