المشاركة الأصلية بواسطة خائف من غضب الله
متى هزم حزب الله ؟
2017-10-28 · أضف تعليق
عاد أميرالمؤمنين عليه السلام صعصة بن صوحان، فقال له: يا صعصعة، لا تجعل عيادتي إياك فخراً على قومك، وتواضع لله يرفعك.
من أقبح وأخطر ما يمكن أن يصاب به المؤمن ويقع فيه الفرد الملتزم، هو العُجب والكِبر… أن يعجب أحدٌ بعمله ويزهو بعبادته، يستكثر صلاته ويستعظم جهاده، يدلُّ ويتباهى، يشمخ ويفخر. والخطر والبلاء هنا بلاءان والمصيبة تأتي من بابين، فتارة يعبِّر المبتلى بلسانه، ويمارس بجوارحه الزهو والتكبُّر، وأُخرى يعيش ذلك في روحه وتنطوي عليه جوانحه، وإن أخفى تيهه ولم يُظهِر غروره، فهو يرى نفسه خارجاً عن حد التقصير، بل متفوقاً ومتفضلاً، ومتقدماً ومتميزاً، ليس لفعله شبيه ولا لأدائه نظير. هكذا يُرخى حجاب ويسدل ستار بين القلب والرب، وينزل بالعبد العمى عن رؤية منن الله وإحسانه، ويذهل عن الإحساس بفضله تعالى وإنعامه، ويغفل عن إدراك أسباب توفيقه وما أخذه لرشده وسدَّده لصوابه، حتى قام بالعبادة ونهض بفعل الخير. وما يزال في هذا، يرى لنفسه مرتبة تفوق أقرانه، ويحسب لها مكانة وشأواً لم يبلغه إخوانه، ومنزلة يقصر عنها أصحابه وخلانه… ليقع بعد العُجب في الكِبر! ويسري المرض وينتقل من آفة بين المرء وربه، إلى داء بينه وبين أبناء نوعه، فيزدري غيره ويستصغره لتفوُّقه عليه، سواء في عمله وعبادته، أو نسبه وحسبه، أو علمه وفهمه، أو قدرته وسلطته، أم في جماله وماله، وحظوته بمكارم وتمتعه بمحاسن أختُصَّ بها، فتألَّق وتميَّز. هكذا يدخل في الكِبر، بعد أن أفسد عبادته بالعُجب، فيتعرض لما يستوجب سخط الله وغضبه، ففي القدسي: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمت ظهره!
العُجب والكبر… هذا ما يلحظه المراقب للساحة من أنصار حزب الله ورجاله، بل قادته وكباره..
يذهل أحدهم عن نقائص تغمره، وقبائح وآفات تجلله، وخطايا وأخطاء تصبغه، غرق في لوثها، وتلطَّخ بعارها، حتى فشى خبره، وافتضح بشقوته، وعُرف بفساده، ما أزكم الأنوف ونشر النتن والعطن. فإن لم يكن من الفسقة المنحلِّين، ولا ممن ينام عن صلاة الفجر بعد السهر على التلفاز، أو التسكع في المقاهي على أنغام كركرة الأراكيل ونشوة دخنتها التي تخلق فضاء الحانات، ولا كان ممن “يحيي” ليله في المهاترات على الفيس والواتس، أو في التعرف وبناء العلاقات دون تمييز بين الجنسين، وكان من الملتزمين حقاً والعاملين صدقاً، فلا بد أن يستشعر نقائصه في طريق التهذيب، ويعيش فقره في منازل التزكية، وحاجته إلى المزيد من التربية، وينشغل بالتدقيق في حاله وتنمية أخلاقه… وإذا به يغفل عن كل هذا وذاك، وتشتعل فيه جذوة الزهو وتتأجج نار الفخر، ولا يلحظ من حاله، إلا جهاده وبطولاته، وانتصاراته وفتوحاته، فيشمخ ويتبجَّح، ويهذر ويتنفَّخ، حتى يتجشأ من غير شبع، ويعيط بغير أنواط، ويتخرَّج من غير شهادات!
نفخ الشيطان في أنفه، فزهى وتجبَّر، وخرقه أو سكَنه فراح يميس ويتبختر: مَن مثلي وأنا الفاتح الظافر، والمجاهد القاهر، صاحب الصولات والجولات، وساطر البطولات ومقدم التضحيات، وأنتم أحلاس بيوتكم كالعجزة، قواعد كالنساء، أذلة يرعبكم إرهاب الظَلَمة، ومتخلفين تحتوشكم الرجعية والظُلْمة؟!.. كبر وتيه، سبقه عجب وخيلاء.. هنا المصرع والمقتل، وهنا ملعب الشيطان وموئل إبليس وبيت النيران، كما في الحديث الشريف إن الله عز وجل فوَّض الأمر إلى ملك من الملائكة، فخلق سبع سماوات وسبع أرضين وأشياء، فلما رأى (الملَك) الأشياء قد انقادت له، قال مَن مثلي؟! فأرسل الله عز وجل إليه نويرة من نار (شظية بقدر الأنملة)، فاستقبلها بجميع ما خلق، فتخللت حتى وصلت إلى نفسه، لما دخله من العُجب.
إن من يلحظ خطاب تيار حزب الله ولغة أتباعه، ويتدبَّر في الثقافة التي يبثها إعلامه، وفي عموم الأجواء والفضاء الذي يعيشه، يقطع أن لا أحد من هؤلاء تلقى درساً في العقيدة، ولا حضر حلقة في الأخلاق! فإن بطُل الفرض وكانوا قد قطعوا دورات ثقافية، بجرعات أخلاقية، وأجواء روحية، فسيجزم أن البلاء في الرأس والآفة في الأستاذ، وأن الكلام والداء في المجيز والمجاز سواء!
هنا هُزم حزب الله ودُحر، وفي هذه المعركة سقط وقُهر…
لا في حرب تموز 2006 عندما دُمِّرت الضاحية الجنوبية وسوِّيت مواقع الحزب فيها بالأرض، ثم انسحب إلى ما وراء الليطاني، ونزل على شروط القرار الدولي الذى أفضى لتأمين المستوطنات الإسرائيلية. ولا عند عجزه عن الانتقام لاغتيال قادته، وضعفه عن الرد على تصفيتهم واحداً تلو الآخر. ولا عند تقديمه مئات الشهداء في معارك وحروب اليوم “الاستباقية” وجبهات عليك أن تتعسف لترى فيها الأحقية فالأولوية. ولا عندما صنفته أمريكا وأدرجه الاتحاد الأوروبي في لائحة الإرهاب الدولي. ولا عندما حوصر وقوطع ومنعت قناته الفضائية من البث عبر الأقمار الصناعية في المدارات العربية، ما حوَّلها إلى محطة شبه أرضية. ولا عندما يوغل ترامب في الاستخفاف به، ويعزم على ملاحقته في جريمة وقعت قبل تأسيسه (تفجير مقر المارينز في بيروت عام 1983)! ولا لشيء من التراجعات المتكررة والانتكاسات المتتالية التي تعرض له… فالحرب سجال، وما هو إلا فرٌّ سيعقبه كرٌّ، وظلمة لا تلبث أن تنجلي بفجر، وسقوط واندحار سيتلوه صعود وانتصار. بل ولا حتى حين تناوله غاضبون، من بيئته الحاضنة، بالسب واللعن، لتغطيته جرافات الدولة التي كسحت عشوائياتهم، وأزالت عن الأملاك العامة تعدياتهم.
لا شيء من هذا ولا ذاك يشكّل هزيمة فعلية واندحاراً واقعياً لهذا الحزب القوي والتيار العريض…
إنما هُزم حزب الله لما سقط (بجميع طبقاته) في العُجب، وأُصيب بالكِبر، ونزل به التغطرس والتعالي، وابتلي بالعتوِّ والغرور! هوى الحزب لما صار يتبجَّح بجهاده، ويمنُّ بتضحياته، ويفاخر بإنجازاته، ويزهو ببطولاته، لا على أعدائه، ولا في سياق متطلبات المعركة من تعبئة إعلامية وحرب نفسية، بل على المؤمنين من إخوانه! فصار يرمي مَن لا يسلك نهجه بالتقاعس والقعود، ويرى ممارسة الشعائر الحسينية وسيرة عشرات ملايين المؤمنين عبر مئات السنين، حيلة العاجز وخيار الضعيف الخائر، ويعيِّر الناهضين بها، ويهين العاملين بتكاليفهم الشرعية، ويحقِّر التزامهم بوظائفهم الدينية، ويستهزئ بقناعاتهم! ويصنِّف كلَّ صوت لا يكرر شعاراته، وأيَّ فعل لا يصبُّ في سياساته، سلوكاً يستمد من الجُبن، ومظهراً يداري الذل والهوان الذي يعيشه من لا ينتسب إليهم! فهم الشجعان ولا غير، وهم الأبطال وأباة الضيم، وهم أولياء الله، والآخرون في حزب الشيطان.
لم يسمح الزهو والكبر الذي نزل بالقوم وأحاط بهم، والغرور الذي غمرهم، من وفرة المال وسطوة السلطة واليد الطولى التي يملكون، أن يتركوا هامشاً ـ ولو ضئيلاً ـ لحمل الآخر على الصحة والخير والحسن والصلاح، وأن السبب في عدم التحاقه بركبهم ودخوله في حزبهم، هو أمر شرعي يعود إلى التقليد والمرجعية التي يتعبَّد المرء بفتواها، أو إلى عدم قناعته بالراية التي ترفع والقيادة التي تتولى الأمر هنا، وأنه يفضِّل أخرى هناك. ولعله يذهب عميقاً ويتبنى أصلاً أصيلاً مقرَّراً في فكر الإمامية وسيرتهم، من أنها نفس واحدة، يدَّخرها المؤمن بانتظار الراية القادمة والقائد الأصلي، تاركاً ما يريب من أمر الرايات النائبة إلى ما لا يريب، صابراً محتسباً، حتى يكون المنتظر لهذا الأمر كالمتشحط بدمه في سبيل الله، ويُعطى الثابت على ولايتهم في غيبة قائمهم أجر ألف شهيد من شهداء بدر وأُحد!
لم ينل سُباب الغوغاء من مكانة حزب الله، ولن ينال من زعيمه وقائده ما تعرَّض له، ولكنه الانتقام المؤلم، والرد بالمثل على عوام سوقيين غلبهم الغضب، هو ما يسقط الحزب ويزري به، ذلك حين يجمع ويحشد المتطاولين عليه في اليوم التالي ليعتذروا! فيفعلون ذلك أمام المصورين، بلغة المتمرغين على الأحذية ومقبلي مواطئ الأقدام! وهي ذلَّةٌ لم يرضها الحزب لأسراه من التكفيريين القتلة، فلم يصوِّر أو يُظهِر أحداً منهم بهذا الخنوع والضراعة والهوان!
إننا أمام معضلة غريبة، ما كنَّا نتوقَّع أن نبتلى بها على يد حزب الله، وهو الذي تأسس ـ في المفترض ـ على فكر الإمام الخميني وعقائده الراقية، في الولاية التكوينية، والترتيل اليومي للزيارة الجامعة الكبيرة، والالتزام بالأنماط الموروثة والطرق التقليدية للشعائر الحسينية! وقام على ركام حزب الدعوة وتيار اليسار الإسلامي والهجين العلماني (شريعتي)، مُرسياً ركيزة للثورة والجهاد تستمد من الأصالة، وتستقي من المدرسة التقليدية، وصميم التراث الشيعي والحوزة العلمية، تتباين مع الحداثيين، وتتناقض مع التنويرين، وهنا القيمة الحقيقية، ومن ثمَّ الجريمة الكبرى التي يرتكبون اليوم… حين يسقط هذا الحزب الإلهي العزيز، في أحضان الحداثة ويبتلي بالالتقاطية! ويخلط في خطابه بين بشر عاديين تقلدوا قيادته، وبين الصادر الأول والعقل الكل والمظهر الأتم لأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، والتعيُّنات الإلهية المتجلية في الأنوار الأربعة عشر التي سخر لها العرش والفرش، ودان لها الحجر والمدر، وخضع الكون والمكان، وانقاد وطأطأ كل إنسان، من أنبياء أولي العزم إلى سائر الكائنات مما يرى ولا يرى من خلق ربنا!
من الواضح البيّن أن الحزب يعاني من خلل فادح، ويقاسي من تراكم أخطاء جسيمة في بنية أتباعه على صعيدين: الأخلاقي الروحي، والعقائدي الفكري. فبعد الزهو والاختيال والتيه والغرور، الذي يرجع إلى مرض روحي خطير، ويكشف عن خلل تربوي جسيم، وبنية أخلاقية متضعضعة، وفشل ذريع في التهذيب والتزكية… هناك لوثة عقائدية خطيرة هي الأخرى، تتمثل في جهل مطبق وتخلُّف جسيم في معرفة الإمام، والإيمان بمقامات أهل البيت ومراتبهم، وتمييزهم عن القادة السياسيين والدينيين، والبون الذي يجعل مجرد القياس والمقارنة سفاهة وضلالاً، فكيف بالتشبية والإقران، بل المفاضلة؟
ماذا يمكن أن نطلق على صورة للسيد حسن نصرالله كتب عليها “لا إله إلا أنت”؟ وأخرى تعبر عنه بـ “أميرمؤمنين العصر”، وثالثة تقول: “أول مرة يسبُّ فيها الله والعالم (الناس) تقوم قيامتهم”! وتغريدة يقول صاحبها: “السيد حسن عندي أهم من النبي، لأن ما عرفنا النبي إلا بالروايات، بينما السيد شفناه (رأيناه) نبي عصرنا”! وآخر ينادي: “من نعلك نستمد النور”، وثالث يقول: “السيد حسن لا يخطئ، وهو معصوم عن الخطأ بإذن الله”! وكلمات أخرى من الكفر البواح، سمعت السيد الخامنئي ينهى عنها بنفسه، ويعبِّر بأنها تبعث من هولها وفرط غلوها القشعريرة في بدنه! ولكن أتباعه وأنصاره يرددونها غير عابئين، ويرفعون بها الصوت غير مكترثين! ما يكشف أنها متأصلة فيهم من تربية تعاهدتهم، وتغذية نشأوا عليها ورعتهم. والغريب المريب الذي لا يسمح بحملها على زلات أقلام، وشطحات أغرار، لا ينبغي أن يؤخذ بها حزب كبير فيحكم من خلالها على توجهه، أنك لا تجد في هذا السيل المتدفق من “الطيش”، زلَّة واحدة تمس بمقدساتهم السياسية، أو “شطحة” تتجاوز خطوطهم الحمراء!
ماذا يعني تزوير الحقائق والإصرار على عقد مقارنة متهافتة بين إحياء الشعائر الحسينية والجهاد؟ وكأنها مانعة جمع، فلا يمكن أن يكون الباكي واللاطم والجازع والمطبر مجاهداً بعد حين، بل في نفس الحين، يقيم شعيرته وهو في صف الجهاد وطليعة المجاهدين؟ ترى، ألا يصلُّون هناك في الجبهات؟ ألا يصومون في المعسكرات؟ كيف إذاً لا يمكنهم أن يبكوا إمامهم ويندبوه ويجزعوا عليه؟ كيف عميت أعينهم عن رؤية غيرهم من مجاهدي الحشد الشعبي وكلهم حسينيون، أصحاب مآتم أو خدام في مواكب؟ ألأنهم لا يقلدون السيد القائد؟ أم لأنهم يقيمون مآتمهم على سيد الشهداء ويبكون كربلاء، لا يرثون غزة وفلسطين، ولا يبكون أحمد ياسين؟!
من الذي عبث في فكر هؤلاء وقلب عقولهم ومسخ براءتهم وطمس فطرتهم؟ فصاروا يرون أنهم هم الذين يحمون زينب عليها السلام ويمنعون سقوطها في الأسر ثانية! وليست هي التي تحميهم وتحمي العالمين، وهي عمَّة مَن بيُمنه يرزقون، وببركته تتصاعد الأنفاس في صدورهم، ولولاه لساخت الأرض بهم؟! كيف ارتدوا عن عقيدتهم الموروثة وتنكروا لثوابت مذهبهم ومسلَّمات دينهم، فحسبوا في أنفسهم قوة تفوق قوة الإمام وسلطانه، فيتنطَّع أحدهم، لما أفرجت جبهة النصرة عن بعض الأسرى، بأن الحزب لو كان في زمن الإمام الكاظم، لما حُبس عليه السلام في ظلَم المطامير، ولو حبس لحرَّره من أسره! المختال التياه، يريد أن “يحرر” الإمام الذي تستأذنه قيدوه قبل أن تكبِّل رجليه، وتلتمس جدران حبسه تكليفها منه، أن تبقى قائمة أو تزول من بين يديه؟! وآخر يزعم أن لو كان حزب الله في كربلاء، ما كانت لتسبى الحوراء!
ماذا نزل بالقوم حتى يتجرأ أحدهم على شطب عبارة إمام معصوم، فيطمس “يا ليتنا كنَّا معكم” ويخط بدلها: “نحن معكم”! معرِّضاً بالحسينيين ومستهزئاً أنهم يقضون حياتهم في الأماني والآمال، ونحن رجال أفعال لا أقوال! ولا يبالي أنه ردَّ بهذا على الإمام الرضا الذي أمر الريان بن شبيب بذلك وقال له: إن سرَّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استُشهد مع الحسين، فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً.
من أين تلقَّى هؤلاء معارفهم، وممن أخذوا دينهم وعقائدهم؟ ما هذا الزهو والطغيان، الذي لا يوفِّر في التعالي على الآخرين حتى الإمام؟!.. وقد عرضت مقولات القوم ومداخلاتهم في وسائل التواصل والإعلام، على بعض الفضلاء الأعلام، فصعقوا وانعقدت ألسنتهم، وهالهم الخطب وأبكمهم، فلم يفوهوا إلا بالحوقلة والاسترجاع!
كان تحرير المحمرة (خرمشهر) في 24 مايو 1982، بعد عامين من شن الحرب العراقية على إيران والاحتلال الصدامي للمدينة، نقطة تحوُّل رئيسة في الحرب، قلبت موازينها، وحملت النظام العراقي على رفع راية الاستسلام وطلب وقف القتال. استعاد الإيرانيون مدينتهم بعد قتال مرير شرس ومعارك دامية محتدمة، وصلت الاشتباك بالسلاح الأبيض، كبَّدوا فيها العراقيين خسائر فادحة، بلغ عدد الأسرى منهم نحو تسعة عشر ألف جندي، والقتلى ثلاثة أضعاف ذلك! وكان صدام حسين قد وعد بأنه سيُسلِّم الإيرانيين مفتاح البصرة إذا سقطت المحمرة! لذا كان مذهولاً من شجاعة الإيرانيين وبطولتهم، مصدوماً من بسالتهم وما أظهروه من إرادة حديدية وعزيمة خرافية، كما كان غاضباً جداً من الهزيمة.. وبعد ثلاثة أيام من تحرير المحمرة، بدأت دعوات وقف إطلاق النار في الحرب العراقية الإيرانية، وعمدت القوى العظمى إلى مساع مكثفة لإنقاذ صدام ونظامه من السقوط. وبدا كأن العالم بأسره صار يرى في العملية نهاية فعلية للحرب.
في نشوة النصر الكبير، وزهو الفتح المبين، والملاحم الخالدة التي سطرها المقاتلون الشجعان… برز نزاع بين القوى المحررة المنتصرة، كلٌّ يُرجع النصر ويعزوه إليه، الحرس والجيش والبسيج، سلاح الجو والبحرية والقوة البرية… كلٌّ يتطاول ليعلق على صدره الوسام ويفخر ويشمخ على صاحبه ويمن على البلاد والعباد! هنا تدخل القائد الرباني ليعيد الأمور إلى نصابها، ويوجه أبناءه إلى مكائد الشيطان ويحذرهم حيلته الكبرى، فصدح الخميني بكلمته التاريخية التي حسمت النزاع وأرجعت الجميع إلى أماكنهم: “إن الله هو الذي حرر خرمشهر”. لا أنتم ولا نحن! كان عارفاً لا يرى في الوجود إلا الله، ويحسب الجميع أعداماً لا قيمة لهم، وهباءً لا شأن ولا قدر ولا خطر لهم، إلا بمقدار ما يتصلون بالله ويتخلَّقون بأخلاقه.
وفي واقعة أخرى منفصلة، عندما عزم القضاء الإيراني على تقديم أحدهم للمحاكمة بتهمة سبِّه، ردَّ السيد الإمام الخميني على السيد الأردبيلي (رئيس القوة القضائية أنذاك): فليشتمني، وهل أنا من أصول الدين حتى يكفر من يشتمني فيحاكم ويعاقب؟! لم يكن غافلاً عما يمثله موقعه، ولا جاهلاً بما يرمز إليه شخصه، ولا تغيب عنه الإسقاطات التي تجعل التطاول عليه مساً بالدين وهتكاً للشرع المبين، وخطراً يتهدد تضحيات المجاهدين… لكنه لم يصدِّق شيطانه، ورسم سقفاً لم يرفع رأسه فوقه، فراشاً لم يمد رجله خارجه!
أقترح أن يُبتعث قادة حزب الله وكوادره العليا إلى العراق، لا لكي يشعروا بحجمهم عندما يرون عظمة غيرهم، ولا لكي يدركوا بالحس ويشهدوا بالعيان أن هناك مجاهدين يفوقونهم بأساً وشجاعة، وعطاءً وتضحية… بل لكي ينخرطوا في دورات تربوية، ويخوضوا عمليات جهادية، في جبهة الجهاد الأكبر، أيام زيارة الأربعين: يمسحون أحذية الزوار، ويغسلون أقدامهم، ويدلكون أرجلهم، ويكنسون الخيم في المواكب، عسى أن تنكسر هذه النخوة الجاهلية، ويعود الأطهار إلى طهرهم، وتنقضي حسرتنا على شباب يتلفون دينهم ويهدرون عقيدتهم ويبددون ثروتهم، لا يحظون بمربٍّ فاضل يتعاهدهم، ولا متخلِّق صادق يأخذ بأيديهم وينجيهم، لا حكيم يرشدهم، ولا كبير ينقذهم …
بعض تواضع يا قوم، فإن من تواضع لله رفعه، ومن تجبَّر أهلكه وقمعه.
https://abbasbennakhi.wordpress.com
2017-10-28 · أضف تعليق
عاد أميرالمؤمنين عليه السلام صعصة بن صوحان، فقال له: يا صعصعة، لا تجعل عيادتي إياك فخراً على قومك، وتواضع لله يرفعك.
من أقبح وأخطر ما يمكن أن يصاب به المؤمن ويقع فيه الفرد الملتزم، هو العُجب والكِبر… أن يعجب أحدٌ بعمله ويزهو بعبادته، يستكثر صلاته ويستعظم جهاده، يدلُّ ويتباهى، يشمخ ويفخر. والخطر والبلاء هنا بلاءان والمصيبة تأتي من بابين، فتارة يعبِّر المبتلى بلسانه، ويمارس بجوارحه الزهو والتكبُّر، وأُخرى يعيش ذلك في روحه وتنطوي عليه جوانحه، وإن أخفى تيهه ولم يُظهِر غروره، فهو يرى نفسه خارجاً عن حد التقصير، بل متفوقاً ومتفضلاً، ومتقدماً ومتميزاً، ليس لفعله شبيه ولا لأدائه نظير. هكذا يُرخى حجاب ويسدل ستار بين القلب والرب، وينزل بالعبد العمى عن رؤية منن الله وإحسانه، ويذهل عن الإحساس بفضله تعالى وإنعامه، ويغفل عن إدراك أسباب توفيقه وما أخذه لرشده وسدَّده لصوابه، حتى قام بالعبادة ونهض بفعل الخير. وما يزال في هذا، يرى لنفسه مرتبة تفوق أقرانه، ويحسب لها مكانة وشأواً لم يبلغه إخوانه، ومنزلة يقصر عنها أصحابه وخلانه… ليقع بعد العُجب في الكِبر! ويسري المرض وينتقل من آفة بين المرء وربه، إلى داء بينه وبين أبناء نوعه، فيزدري غيره ويستصغره لتفوُّقه عليه، سواء في عمله وعبادته، أو نسبه وحسبه، أو علمه وفهمه، أو قدرته وسلطته، أم في جماله وماله، وحظوته بمكارم وتمتعه بمحاسن أختُصَّ بها، فتألَّق وتميَّز. هكذا يدخل في الكِبر، بعد أن أفسد عبادته بالعُجب، فيتعرض لما يستوجب سخط الله وغضبه، ففي القدسي: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمت ظهره!
العُجب والكبر… هذا ما يلحظه المراقب للساحة من أنصار حزب الله ورجاله، بل قادته وكباره..
يذهل أحدهم عن نقائص تغمره، وقبائح وآفات تجلله، وخطايا وأخطاء تصبغه، غرق في لوثها، وتلطَّخ بعارها، حتى فشى خبره، وافتضح بشقوته، وعُرف بفساده، ما أزكم الأنوف ونشر النتن والعطن. فإن لم يكن من الفسقة المنحلِّين، ولا ممن ينام عن صلاة الفجر بعد السهر على التلفاز، أو التسكع في المقاهي على أنغام كركرة الأراكيل ونشوة دخنتها التي تخلق فضاء الحانات، ولا كان ممن “يحيي” ليله في المهاترات على الفيس والواتس، أو في التعرف وبناء العلاقات دون تمييز بين الجنسين، وكان من الملتزمين حقاً والعاملين صدقاً، فلا بد أن يستشعر نقائصه في طريق التهذيب، ويعيش فقره في منازل التزكية، وحاجته إلى المزيد من التربية، وينشغل بالتدقيق في حاله وتنمية أخلاقه… وإذا به يغفل عن كل هذا وذاك، وتشتعل فيه جذوة الزهو وتتأجج نار الفخر، ولا يلحظ من حاله، إلا جهاده وبطولاته، وانتصاراته وفتوحاته، فيشمخ ويتبجَّح، ويهذر ويتنفَّخ، حتى يتجشأ من غير شبع، ويعيط بغير أنواط، ويتخرَّج من غير شهادات!
نفخ الشيطان في أنفه، فزهى وتجبَّر، وخرقه أو سكَنه فراح يميس ويتبختر: مَن مثلي وأنا الفاتح الظافر، والمجاهد القاهر، صاحب الصولات والجولات، وساطر البطولات ومقدم التضحيات، وأنتم أحلاس بيوتكم كالعجزة، قواعد كالنساء، أذلة يرعبكم إرهاب الظَلَمة، ومتخلفين تحتوشكم الرجعية والظُلْمة؟!.. كبر وتيه، سبقه عجب وخيلاء.. هنا المصرع والمقتل، وهنا ملعب الشيطان وموئل إبليس وبيت النيران، كما في الحديث الشريف إن الله عز وجل فوَّض الأمر إلى ملك من الملائكة، فخلق سبع سماوات وسبع أرضين وأشياء، فلما رأى (الملَك) الأشياء قد انقادت له، قال مَن مثلي؟! فأرسل الله عز وجل إليه نويرة من نار (شظية بقدر الأنملة)، فاستقبلها بجميع ما خلق، فتخللت حتى وصلت إلى نفسه، لما دخله من العُجب.
إن من يلحظ خطاب تيار حزب الله ولغة أتباعه، ويتدبَّر في الثقافة التي يبثها إعلامه، وفي عموم الأجواء والفضاء الذي يعيشه، يقطع أن لا أحد من هؤلاء تلقى درساً في العقيدة، ولا حضر حلقة في الأخلاق! فإن بطُل الفرض وكانوا قد قطعوا دورات ثقافية، بجرعات أخلاقية، وأجواء روحية، فسيجزم أن البلاء في الرأس والآفة في الأستاذ، وأن الكلام والداء في المجيز والمجاز سواء!
هنا هُزم حزب الله ودُحر، وفي هذه المعركة سقط وقُهر…
لا في حرب تموز 2006 عندما دُمِّرت الضاحية الجنوبية وسوِّيت مواقع الحزب فيها بالأرض، ثم انسحب إلى ما وراء الليطاني، ونزل على شروط القرار الدولي الذى أفضى لتأمين المستوطنات الإسرائيلية. ولا عند عجزه عن الانتقام لاغتيال قادته، وضعفه عن الرد على تصفيتهم واحداً تلو الآخر. ولا عند تقديمه مئات الشهداء في معارك وحروب اليوم “الاستباقية” وجبهات عليك أن تتعسف لترى فيها الأحقية فالأولوية. ولا عندما صنفته أمريكا وأدرجه الاتحاد الأوروبي في لائحة الإرهاب الدولي. ولا عندما حوصر وقوطع ومنعت قناته الفضائية من البث عبر الأقمار الصناعية في المدارات العربية، ما حوَّلها إلى محطة شبه أرضية. ولا عندما يوغل ترامب في الاستخفاف به، ويعزم على ملاحقته في جريمة وقعت قبل تأسيسه (تفجير مقر المارينز في بيروت عام 1983)! ولا لشيء من التراجعات المتكررة والانتكاسات المتتالية التي تعرض له… فالحرب سجال، وما هو إلا فرٌّ سيعقبه كرٌّ، وظلمة لا تلبث أن تنجلي بفجر، وسقوط واندحار سيتلوه صعود وانتصار. بل ولا حتى حين تناوله غاضبون، من بيئته الحاضنة، بالسب واللعن، لتغطيته جرافات الدولة التي كسحت عشوائياتهم، وأزالت عن الأملاك العامة تعدياتهم.
لا شيء من هذا ولا ذاك يشكّل هزيمة فعلية واندحاراً واقعياً لهذا الحزب القوي والتيار العريض…
إنما هُزم حزب الله لما سقط (بجميع طبقاته) في العُجب، وأُصيب بالكِبر، ونزل به التغطرس والتعالي، وابتلي بالعتوِّ والغرور! هوى الحزب لما صار يتبجَّح بجهاده، ويمنُّ بتضحياته، ويفاخر بإنجازاته، ويزهو ببطولاته، لا على أعدائه، ولا في سياق متطلبات المعركة من تعبئة إعلامية وحرب نفسية، بل على المؤمنين من إخوانه! فصار يرمي مَن لا يسلك نهجه بالتقاعس والقعود، ويرى ممارسة الشعائر الحسينية وسيرة عشرات ملايين المؤمنين عبر مئات السنين، حيلة العاجز وخيار الضعيف الخائر، ويعيِّر الناهضين بها، ويهين العاملين بتكاليفهم الشرعية، ويحقِّر التزامهم بوظائفهم الدينية، ويستهزئ بقناعاتهم! ويصنِّف كلَّ صوت لا يكرر شعاراته، وأيَّ فعل لا يصبُّ في سياساته، سلوكاً يستمد من الجُبن، ومظهراً يداري الذل والهوان الذي يعيشه من لا ينتسب إليهم! فهم الشجعان ولا غير، وهم الأبطال وأباة الضيم، وهم أولياء الله، والآخرون في حزب الشيطان.
لم يسمح الزهو والكبر الذي نزل بالقوم وأحاط بهم، والغرور الذي غمرهم، من وفرة المال وسطوة السلطة واليد الطولى التي يملكون، أن يتركوا هامشاً ـ ولو ضئيلاً ـ لحمل الآخر على الصحة والخير والحسن والصلاح، وأن السبب في عدم التحاقه بركبهم ودخوله في حزبهم، هو أمر شرعي يعود إلى التقليد والمرجعية التي يتعبَّد المرء بفتواها، أو إلى عدم قناعته بالراية التي ترفع والقيادة التي تتولى الأمر هنا، وأنه يفضِّل أخرى هناك. ولعله يذهب عميقاً ويتبنى أصلاً أصيلاً مقرَّراً في فكر الإمامية وسيرتهم، من أنها نفس واحدة، يدَّخرها المؤمن بانتظار الراية القادمة والقائد الأصلي، تاركاً ما يريب من أمر الرايات النائبة إلى ما لا يريب، صابراً محتسباً، حتى يكون المنتظر لهذا الأمر كالمتشحط بدمه في سبيل الله، ويُعطى الثابت على ولايتهم في غيبة قائمهم أجر ألف شهيد من شهداء بدر وأُحد!
لم ينل سُباب الغوغاء من مكانة حزب الله، ولن ينال من زعيمه وقائده ما تعرَّض له، ولكنه الانتقام المؤلم، والرد بالمثل على عوام سوقيين غلبهم الغضب، هو ما يسقط الحزب ويزري به، ذلك حين يجمع ويحشد المتطاولين عليه في اليوم التالي ليعتذروا! فيفعلون ذلك أمام المصورين، بلغة المتمرغين على الأحذية ومقبلي مواطئ الأقدام! وهي ذلَّةٌ لم يرضها الحزب لأسراه من التكفيريين القتلة، فلم يصوِّر أو يُظهِر أحداً منهم بهذا الخنوع والضراعة والهوان!
إننا أمام معضلة غريبة، ما كنَّا نتوقَّع أن نبتلى بها على يد حزب الله، وهو الذي تأسس ـ في المفترض ـ على فكر الإمام الخميني وعقائده الراقية، في الولاية التكوينية، والترتيل اليومي للزيارة الجامعة الكبيرة، والالتزام بالأنماط الموروثة والطرق التقليدية للشعائر الحسينية! وقام على ركام حزب الدعوة وتيار اليسار الإسلامي والهجين العلماني (شريعتي)، مُرسياً ركيزة للثورة والجهاد تستمد من الأصالة، وتستقي من المدرسة التقليدية، وصميم التراث الشيعي والحوزة العلمية، تتباين مع الحداثيين، وتتناقض مع التنويرين، وهنا القيمة الحقيقية، ومن ثمَّ الجريمة الكبرى التي يرتكبون اليوم… حين يسقط هذا الحزب الإلهي العزيز، في أحضان الحداثة ويبتلي بالالتقاطية! ويخلط في خطابه بين بشر عاديين تقلدوا قيادته، وبين الصادر الأول والعقل الكل والمظهر الأتم لأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، والتعيُّنات الإلهية المتجلية في الأنوار الأربعة عشر التي سخر لها العرش والفرش، ودان لها الحجر والمدر، وخضع الكون والمكان، وانقاد وطأطأ كل إنسان، من أنبياء أولي العزم إلى سائر الكائنات مما يرى ولا يرى من خلق ربنا!
من الواضح البيّن أن الحزب يعاني من خلل فادح، ويقاسي من تراكم أخطاء جسيمة في بنية أتباعه على صعيدين: الأخلاقي الروحي، والعقائدي الفكري. فبعد الزهو والاختيال والتيه والغرور، الذي يرجع إلى مرض روحي خطير، ويكشف عن خلل تربوي جسيم، وبنية أخلاقية متضعضعة، وفشل ذريع في التهذيب والتزكية… هناك لوثة عقائدية خطيرة هي الأخرى، تتمثل في جهل مطبق وتخلُّف جسيم في معرفة الإمام، والإيمان بمقامات أهل البيت ومراتبهم، وتمييزهم عن القادة السياسيين والدينيين، والبون الذي يجعل مجرد القياس والمقارنة سفاهة وضلالاً، فكيف بالتشبية والإقران، بل المفاضلة؟
ماذا يمكن أن نطلق على صورة للسيد حسن نصرالله كتب عليها “لا إله إلا أنت”؟ وأخرى تعبر عنه بـ “أميرمؤمنين العصر”، وثالثة تقول: “أول مرة يسبُّ فيها الله والعالم (الناس) تقوم قيامتهم”! وتغريدة يقول صاحبها: “السيد حسن عندي أهم من النبي، لأن ما عرفنا النبي إلا بالروايات، بينما السيد شفناه (رأيناه) نبي عصرنا”! وآخر ينادي: “من نعلك نستمد النور”، وثالث يقول: “السيد حسن لا يخطئ، وهو معصوم عن الخطأ بإذن الله”! وكلمات أخرى من الكفر البواح، سمعت السيد الخامنئي ينهى عنها بنفسه، ويعبِّر بأنها تبعث من هولها وفرط غلوها القشعريرة في بدنه! ولكن أتباعه وأنصاره يرددونها غير عابئين، ويرفعون بها الصوت غير مكترثين! ما يكشف أنها متأصلة فيهم من تربية تعاهدتهم، وتغذية نشأوا عليها ورعتهم. والغريب المريب الذي لا يسمح بحملها على زلات أقلام، وشطحات أغرار، لا ينبغي أن يؤخذ بها حزب كبير فيحكم من خلالها على توجهه، أنك لا تجد في هذا السيل المتدفق من “الطيش”، زلَّة واحدة تمس بمقدساتهم السياسية، أو “شطحة” تتجاوز خطوطهم الحمراء!
ماذا يعني تزوير الحقائق والإصرار على عقد مقارنة متهافتة بين إحياء الشعائر الحسينية والجهاد؟ وكأنها مانعة جمع، فلا يمكن أن يكون الباكي واللاطم والجازع والمطبر مجاهداً بعد حين، بل في نفس الحين، يقيم شعيرته وهو في صف الجهاد وطليعة المجاهدين؟ ترى، ألا يصلُّون هناك في الجبهات؟ ألا يصومون في المعسكرات؟ كيف إذاً لا يمكنهم أن يبكوا إمامهم ويندبوه ويجزعوا عليه؟ كيف عميت أعينهم عن رؤية غيرهم من مجاهدي الحشد الشعبي وكلهم حسينيون، أصحاب مآتم أو خدام في مواكب؟ ألأنهم لا يقلدون السيد القائد؟ أم لأنهم يقيمون مآتمهم على سيد الشهداء ويبكون كربلاء، لا يرثون غزة وفلسطين، ولا يبكون أحمد ياسين؟!
من الذي عبث في فكر هؤلاء وقلب عقولهم ومسخ براءتهم وطمس فطرتهم؟ فصاروا يرون أنهم هم الذين يحمون زينب عليها السلام ويمنعون سقوطها في الأسر ثانية! وليست هي التي تحميهم وتحمي العالمين، وهي عمَّة مَن بيُمنه يرزقون، وببركته تتصاعد الأنفاس في صدورهم، ولولاه لساخت الأرض بهم؟! كيف ارتدوا عن عقيدتهم الموروثة وتنكروا لثوابت مذهبهم ومسلَّمات دينهم، فحسبوا في أنفسهم قوة تفوق قوة الإمام وسلطانه، فيتنطَّع أحدهم، لما أفرجت جبهة النصرة عن بعض الأسرى، بأن الحزب لو كان في زمن الإمام الكاظم، لما حُبس عليه السلام في ظلَم المطامير، ولو حبس لحرَّره من أسره! المختال التياه، يريد أن “يحرر” الإمام الذي تستأذنه قيدوه قبل أن تكبِّل رجليه، وتلتمس جدران حبسه تكليفها منه، أن تبقى قائمة أو تزول من بين يديه؟! وآخر يزعم أن لو كان حزب الله في كربلاء، ما كانت لتسبى الحوراء!
ماذا نزل بالقوم حتى يتجرأ أحدهم على شطب عبارة إمام معصوم، فيطمس “يا ليتنا كنَّا معكم” ويخط بدلها: “نحن معكم”! معرِّضاً بالحسينيين ومستهزئاً أنهم يقضون حياتهم في الأماني والآمال، ونحن رجال أفعال لا أقوال! ولا يبالي أنه ردَّ بهذا على الإمام الرضا الذي أمر الريان بن شبيب بذلك وقال له: إن سرَّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استُشهد مع الحسين، فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً.
من أين تلقَّى هؤلاء معارفهم، وممن أخذوا دينهم وعقائدهم؟ ما هذا الزهو والطغيان، الذي لا يوفِّر في التعالي على الآخرين حتى الإمام؟!.. وقد عرضت مقولات القوم ومداخلاتهم في وسائل التواصل والإعلام، على بعض الفضلاء الأعلام، فصعقوا وانعقدت ألسنتهم، وهالهم الخطب وأبكمهم، فلم يفوهوا إلا بالحوقلة والاسترجاع!
كان تحرير المحمرة (خرمشهر) في 24 مايو 1982، بعد عامين من شن الحرب العراقية على إيران والاحتلال الصدامي للمدينة، نقطة تحوُّل رئيسة في الحرب، قلبت موازينها، وحملت النظام العراقي على رفع راية الاستسلام وطلب وقف القتال. استعاد الإيرانيون مدينتهم بعد قتال مرير شرس ومعارك دامية محتدمة، وصلت الاشتباك بالسلاح الأبيض، كبَّدوا فيها العراقيين خسائر فادحة، بلغ عدد الأسرى منهم نحو تسعة عشر ألف جندي، والقتلى ثلاثة أضعاف ذلك! وكان صدام حسين قد وعد بأنه سيُسلِّم الإيرانيين مفتاح البصرة إذا سقطت المحمرة! لذا كان مذهولاً من شجاعة الإيرانيين وبطولتهم، مصدوماً من بسالتهم وما أظهروه من إرادة حديدية وعزيمة خرافية، كما كان غاضباً جداً من الهزيمة.. وبعد ثلاثة أيام من تحرير المحمرة، بدأت دعوات وقف إطلاق النار في الحرب العراقية الإيرانية، وعمدت القوى العظمى إلى مساع مكثفة لإنقاذ صدام ونظامه من السقوط. وبدا كأن العالم بأسره صار يرى في العملية نهاية فعلية للحرب.
في نشوة النصر الكبير، وزهو الفتح المبين، والملاحم الخالدة التي سطرها المقاتلون الشجعان… برز نزاع بين القوى المحررة المنتصرة، كلٌّ يُرجع النصر ويعزوه إليه، الحرس والجيش والبسيج، سلاح الجو والبحرية والقوة البرية… كلٌّ يتطاول ليعلق على صدره الوسام ويفخر ويشمخ على صاحبه ويمن على البلاد والعباد! هنا تدخل القائد الرباني ليعيد الأمور إلى نصابها، ويوجه أبناءه إلى مكائد الشيطان ويحذرهم حيلته الكبرى، فصدح الخميني بكلمته التاريخية التي حسمت النزاع وأرجعت الجميع إلى أماكنهم: “إن الله هو الذي حرر خرمشهر”. لا أنتم ولا نحن! كان عارفاً لا يرى في الوجود إلا الله، ويحسب الجميع أعداماً لا قيمة لهم، وهباءً لا شأن ولا قدر ولا خطر لهم، إلا بمقدار ما يتصلون بالله ويتخلَّقون بأخلاقه.
وفي واقعة أخرى منفصلة، عندما عزم القضاء الإيراني على تقديم أحدهم للمحاكمة بتهمة سبِّه، ردَّ السيد الإمام الخميني على السيد الأردبيلي (رئيس القوة القضائية أنذاك): فليشتمني، وهل أنا من أصول الدين حتى يكفر من يشتمني فيحاكم ويعاقب؟! لم يكن غافلاً عما يمثله موقعه، ولا جاهلاً بما يرمز إليه شخصه، ولا تغيب عنه الإسقاطات التي تجعل التطاول عليه مساً بالدين وهتكاً للشرع المبين، وخطراً يتهدد تضحيات المجاهدين… لكنه لم يصدِّق شيطانه، ورسم سقفاً لم يرفع رأسه فوقه، فراشاً لم يمد رجله خارجه!
أقترح أن يُبتعث قادة حزب الله وكوادره العليا إلى العراق، لا لكي يشعروا بحجمهم عندما يرون عظمة غيرهم، ولا لكي يدركوا بالحس ويشهدوا بالعيان أن هناك مجاهدين يفوقونهم بأساً وشجاعة، وعطاءً وتضحية… بل لكي ينخرطوا في دورات تربوية، ويخوضوا عمليات جهادية، في جبهة الجهاد الأكبر، أيام زيارة الأربعين: يمسحون أحذية الزوار، ويغسلون أقدامهم، ويدلكون أرجلهم، ويكنسون الخيم في المواكب، عسى أن تنكسر هذه النخوة الجاهلية، ويعود الأطهار إلى طهرهم، وتنقضي حسرتنا على شباب يتلفون دينهم ويهدرون عقيدتهم ويبددون ثروتهم، لا يحظون بمربٍّ فاضل يتعاهدهم، ولا متخلِّق صادق يأخذ بأيديهم وينجيهم، لا حكيم يرشدهم، ولا كبير ينقذهم …
بعض تواضع يا قوم، فإن من تواضع لله رفعه، ومن تجبَّر أهلكه وقمعه.
https://abbasbennakhi.wordpress.com
تعليق