حقُوق العلماء
فضل العلم والعلماء :
العلم... أجلّ الفضائل ، وأشرف المزايا ، وأعزّ ما يتحلّى به الإنسان . فهو أساس الحضارة ، ومصدر أمجاد الأُمم ، وعنوان سموّها وتفوّقها في الحياة ، ورائدها إلى السعاة الأبديّة ، وشرف الدارين .
والعلماء... هُم ورثة الأنبياء ، وخزّان العلم ، ودُعاة الحقّ ، وأنصار الدين ، يهدون الناس إلى معرفة اللّه وطاعته ، ويوجهونّهم وُجهة الخير والصلاح .
مِن أجل ذلك تضافرت الآيات والأخبار على تكريم العِلم والعُلماء ، والإشادة بمقامهما الرفيع .
قال تعالى : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )( الزمر : 9) .
وقال تعالى : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )(المجادلة : 11) .
وقال تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء )( فاطر : 28) .
وقال تعالى : ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ )( العنكبوت :43 ) .
الصفحة 336
وعن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : مَن سلَك طريقاً يطلب فيه عِلماً ، سلَك اللّه به طريقاً إلى الجنّة ، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به ، وإنّه يستغفر لطالب العِلم مَن في السماء ومَن في الأرض ، حتّى الحوت في البحر . وفضل العالم على العابد ، كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر . وإنّ العلماء ورثة الأنبياء ، إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ، ولكن ورّثوا العلم ، فمَن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافر )(1) .
وقال الباقر ( عليه السلام ) : ( عالمٌ يُنتفع بعلمه أفضل مِن سبعين ألفَ عابد )(2) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا كان يوم القيامة ، جمع اللّه عزّ وجل الناس في صعيد واحد ، ووضعت الموازين ، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء ، فيرجح مِداد العلماء على دماء الشهداء )(3) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا كان يوم القيامة ، بعث اللّه عزّ وجل العالم والعابد ، فإذا وقفا بين يدي اللّه عزّ وجل ، قيل للعابد انطلق إلى الجنّة ، وقيل للعالم قِف تشفّع للناس بحسن تأديبك لهم )(4) .
_____________________
(1) الوافي ج 1، ص 42 ، عن الكافي .
(2) الوافي ج 1 ، ص 40 عن الكافي .
(3) الوافي ج 1 ص 40 ، عن الفقيه .
(4) البحار م 1 ، ص 74 ، عن عِلل الشراع ، وبصائر الدرجات لمحمّد بن الحسن الصفّار .
الصفحة 337
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( يا كُميل ، هلك خزّان الأموال وهُم أحياء ، والعلماء باقون ما بقيَ الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة )(1) .
وعن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) ، قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : يجيء الرجل يوم القيامة ، وله مِن الحسنات كالسحاب الركام ، أو كالجبال الراوسي ، فيقول : يا ربِّ ، أنّى لي هذا ولم أعملها ؟ فيقول : هذا عِلمك الذي علّمته الناس ، يُعمل به مِن بعدك )(2) .
ولا غرابة أنْ يحظى العُلماء بتلك الخصائص الجليلة ، والمزايا الغرّ . فهم حماة الدين ، وأعلام الإسلام ، وحفَظَة آثاره الخالدة ، وتراثه المدخور . يحملون للناس عبر القرون ، مبادئ الشريعة وأحكامها وآدابها ، فتستهدي الأجيال بأنوار علومهم ، ويستنيرون بتوجيههم الهادف البنّاء .
وبديهيّ أنّ تلك المنازل الرفيعة ، لا ينالها إلاّ العلماء المخلصون . المجاهدون في سبيل العقيدة والشريعة ، والسائرون على الخطّ الإسلامي ، والمتحلّون بآداب الإسلام وأخلاقه الكريمة .
ولهؤلاء فضلٌ كبير ، وحقوقٌ مرعيّة في أعناق المسلمين ، جديرةٌ بكلّ عنايةٍ واهتمام ، وهي :
_____________________
(1) نهج البلاغة .
(2) البحار م 1 ، ص 75 عن بصائر الدرجات .
الصفحة 338
1 - توقيرهم :
وهو في طليعة حقوقهم المشروعة ، لتحلّيهم بالعلم والفضل ، وجهادهم في صيانة الشريعة الإسلامية وتعزيزها ، ودأبهم على إصلاح المُجتمع الإسلامي وإرشاده .
وقد أعرب أهل البيت ( عليهم السلام ) عن جلالة العلماء ، وضرورة تبجيلهم وتوقيرهم ، قولاً وعملاً ، حتّى قرّروا أنّ النظر إليهم عبادة ، وأنّ بُغضهم مَدعاة للهلاك ، كما شهِد بذلك الحديث الشريف :
فعن موسى بن جعفر عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( قال ( صلّى اللّه عليه وآله ) : النظر في وجه العالم حبّاً له عبادة )(1) .
وعن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : أغد عالماً أو متعلّماً ، أو أُحِبَّ العلماء ، ولا تكُن رابعاً فتهلَك ببغضهم )(2) .
وهكذا كانوا ( عليهم السلام ) يبجّلون العلماء ، ويرعونهم بالحفاوة والتكريم ، يحدّثنا الشيخ المفيد (ره) ، عن توقير الإمام الصادق ( عليه السلام ) لهشام بن الحكم ـ وكان مِن ألمع أصحابه وأسماهم مكانة عنده ـ : ( أنّه دخل عليه بمنى ، وهو غلامٌ أوّل ما اختلط عارضاه ، وفي مجلسه شيوخ الشيعة ، كحمران بن أعيَن ، وقيس الماصر ، ويونس بن يعقوب ، وأبي جعفر الأحوَل
_____________________
(1) البحار م1 ، ص 64 ، عن نوادر الراوندي .
(2) البحار م 1 ، ص 59 ، عن خصال الصدوق(ره) .
الصفحة 339
وغيرهم ، فرفَعه على جماعتهم ، وليس فيهم إلاّ مَن هو أكبر سنّاً منه ) .
فلمّا رأى أبو عبد اللّه ( عليه السلام ) أنّ ذلك الفعل كبر على أصحابه ، قال : ( هذا ناصرنا بقلبه ولسانه ويده )(1) .
وجاء عن أحمد البزنطي ، قال : ( وبعث إليّ الرضا ( عليه السلام ) بحمارٍ له ، فجئت إلى صريا ، فمَكث عامّة الليل معه ، ثمّ أتيت بعشاء ، ثمّ قال : ( افرشوا له ) . ثمّ أتيت بوسادة طبريّة ومرادع وكساء قياصري وملحفة مروي ، فلمّا أصبت مِن العشاء ، قال لي : ( ما تريد أنْ تنام ؟) .
قلت : بلى ، جُعلت فداك . فطرح عليّ الملحفة والكساء ، ثمّ قال : ( بيّتك اللّه في عافية ) .
وكنّا على سطح ، فما نزل مِن عندي ، قلت في نفسي : قد نلت مِن هذا الرجل كرامة ما نالها أحدٌ قطّ(2) .
2 - بِرّهم :
همّة العلماء ، وهدفهم الأسمى ، خدمة الدين ، وبثّ التوعية الإسلاميّة ، وتوجيه المسلمين نحو الخُلق الكريم والسُلوك الأمثل ، وهذا ما يقتضيهم وقتاً واسعاً ، وجهداً ضخماً ، يعوقهم عن اكتساب الرزق وطلب المعاش كسائر الناس .
فلا بدّ والحالة هذه ، للمؤمنين المعنيين بشؤون الدين ، والحريصين على
_____________________
(1) سفينة البحار ج 2 ، ص 719 .
(2) سفينة البحار ج 1 ، ص 81 .
الصفحة 340
كيانه... أنْ يوفّروا للعُلماء وسائل الحياة الكريمة ، والعيش اللائق . وذلك بأداء الحقوق الشرعيّة إليهم ، التي أمر اللّه بها ، وندب إليها ، مِن الزكاة والخُمس ، ووجوه الخيرات والمبرّات . فهم أحقّ الناس بها ، وأهمّ مصاديقها ، ليستطيعوا تحقيق أهدافهم ، والاضطلاع بمهامّهم الدينيّة ، دون أنْ يعوقهم عنها طلب المعاش .
وقد كان الغيارى مِن المسلمين الأوّلين ، يتطوّعون بأريحيّة وسخاء ، في رصد الأموال ، وإيجاد الأوقاف ، واستغلالها لصالح العلماء ، وتوفير معاشهم .
وكلّما تجاهل الناس أقدار العلماء ، وغمطوا حقوقهم ، أدّى إلى قلّة العلماء ، وهبوط الطاقات الروحيّة ، وضعف النشاط الديني . ممّا يُعرّض المجتمع الإسلامي لغزو المبادئ الهدّامة ، وخطر الزيغ والانحراف .
3 - الاهتداء بهم :
لا يستغني كلّ واعٍ مستنير ، عن الرجوع إلى الأخصّائيّين في مختلف العلوم والفنون ، للإفادة من معارفهم وتجاربهم ، كالأطباء والكيمياويّين والمهندسين ونحوهم من ذوي الاختصاص .
وحيث كان العلماء الروحانيّون متخصّصين بالعلوم الدينيّة ، والمعارف الإسلاميّة ، قد أوقفوا أنفسهم على خدمة الشريعة الإسلاميّة ، ونشر مبادئها وأحكامها ، وهداية الناس وتوجيههم وجهة الخير والصلاح.. فجدير
الصفحة 341
بالمسلمين أنْ يستهدوا بهم ويجتنوا ثمرات علومهم ، ليكونوا على بصيرةٍ من عقيدتهم وشريعتهم ، ويتفادوا دعايات الغاوين والمُضلّلين مِن أعداء الإسلام .
فإذا ما تنكّروا للعلماء المخلصين ، واستهانوا بتوجيههم وإرشادهم... جهلوا واقع دينهم ومبادئه وأحكامه ، وغدوا عرضةً للزيغ والانحراف .
أنظروا كيف يحرض أهل البيت ( عليهم السلام ) على مجالسة العلماء ، والتزوّد من علومهم وآدابهم ، في نصوص عديدة :
فعن الصادق ، عن أبيه عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة )(1) والمراد بأهل الدين ، علماء الدين العارفون بمبادئه ، العاملون بأحكامه .
وجاء في حديث الرضا عن آبائه ( عليهم السلام ) ، قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : مجالسة العلماء عبادة )(2) .
وقال لقمان لابنه : ( يا بني ، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ، فإنّ اللّه عزّ وجل يحيي القلوب بنور الحكمة ، كما يحيي الأرض بوابل السماء ) (3) .
وعن الرضا عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : العلم خزائن ، ومفتاحه (مفتاحها خ ل) السؤال ، فاسألوا
_____________________
(1) البحار م 1 ص 62 ، عن ثواب الأعمال ، وأمالي الصدوق .
(2) البحار م 1 ص 64 ، عن كشف الغمّة .
(3) البحار م 1 ص 64 ، عن روضة الواعظين .
الصفحة 342
يرحمكم اللّه ، فإنّه يؤجر فيه أربعة : السائل ، والمعلم ، والمستمع ، والمحبّ لهم )(1) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون )(2) .
_____________________
(1) البحار م 1 ص 62 ، عن صحيفة الرضا ( عليه السلام ) وعيون أخبار الرضا .
(2) الوافي ج 1 ص 46 ، عن الكافي .
الصفحة 343
حقوق الأساتذة والطلاب
الأساتذة المخلصون ، المتحلّون بالإيمان والخلق الكريم ، لهم مكانة سامية ، وفضلٌ كبير على المجتمع ، بما يسدون إليه مِن جهودٍ مشكورة في تربية أبنائهم ، وتثقيفهم بالعلوم والآداب . فهم رواد الثقافة ، ودعاة العلم ، وبناة الحضارة ، وموجهو الجيل الجديد .
لذلك كان للأساتذة على طلابهم حقوق جديرة بالرعاية والاهتمام . وأوّل حقوقهم على الطلاب ، أنْ يوقّروهم ويحترموهم احترام الآباء ، مكافأة لهم على تأديبهم ، وتنويرهم بالعلم ، وتوجيههم وجهة الخير والصلاح . كما قيل للإسكندر : إنّك تعظّم معلّمك أكثر مِن تعظيمك لأبيك !!! فقال : لأنّ أبي سبب حياتي الفانية ، ومؤدّبي سبب الحياة الباقية .
قـم لـلمعلّم وفّـه
التبجيلا كـاد المعلّم أنْ يكون
رسولا
أرأيت أكرم أو أجلّ مِن الذي يـبني ويُنشئ أنفساً
وعُقولا
وحسبُك في فضل المعلّم المُخلص وأجره الجزيل ، ما أعربت عنه نصوص أهل البيت ( عليهم السلام ) :
فعن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : يجيء الرجل يوم القيامة ، وله مِن الحسنات كالسحاب الركام ،
يتبع
فضل العلم والعلماء :
العلم... أجلّ الفضائل ، وأشرف المزايا ، وأعزّ ما يتحلّى به الإنسان . فهو أساس الحضارة ، ومصدر أمجاد الأُمم ، وعنوان سموّها وتفوّقها في الحياة ، ورائدها إلى السعاة الأبديّة ، وشرف الدارين .
والعلماء... هُم ورثة الأنبياء ، وخزّان العلم ، ودُعاة الحقّ ، وأنصار الدين ، يهدون الناس إلى معرفة اللّه وطاعته ، ويوجهونّهم وُجهة الخير والصلاح .
مِن أجل ذلك تضافرت الآيات والأخبار على تكريم العِلم والعُلماء ، والإشادة بمقامهما الرفيع .
قال تعالى : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )( الزمر : 9) .
وقال تعالى : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )(المجادلة : 11) .
وقال تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء )( فاطر : 28) .
وقال تعالى : ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ )( العنكبوت :43 ) .
الصفحة 336
وعن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : مَن سلَك طريقاً يطلب فيه عِلماً ، سلَك اللّه به طريقاً إلى الجنّة ، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به ، وإنّه يستغفر لطالب العِلم مَن في السماء ومَن في الأرض ، حتّى الحوت في البحر . وفضل العالم على العابد ، كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر . وإنّ العلماء ورثة الأنبياء ، إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ، ولكن ورّثوا العلم ، فمَن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافر )(1) .
وقال الباقر ( عليه السلام ) : ( عالمٌ يُنتفع بعلمه أفضل مِن سبعين ألفَ عابد )(2) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا كان يوم القيامة ، جمع اللّه عزّ وجل الناس في صعيد واحد ، ووضعت الموازين ، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء ، فيرجح مِداد العلماء على دماء الشهداء )(3) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا كان يوم القيامة ، بعث اللّه عزّ وجل العالم والعابد ، فإذا وقفا بين يدي اللّه عزّ وجل ، قيل للعابد انطلق إلى الجنّة ، وقيل للعالم قِف تشفّع للناس بحسن تأديبك لهم )(4) .
_____________________
(1) الوافي ج 1، ص 42 ، عن الكافي .
(2) الوافي ج 1 ، ص 40 عن الكافي .
(3) الوافي ج 1 ص 40 ، عن الفقيه .
(4) البحار م 1 ، ص 74 ، عن عِلل الشراع ، وبصائر الدرجات لمحمّد بن الحسن الصفّار .
الصفحة 337
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( يا كُميل ، هلك خزّان الأموال وهُم أحياء ، والعلماء باقون ما بقيَ الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة )(1) .
وعن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) ، قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : يجيء الرجل يوم القيامة ، وله مِن الحسنات كالسحاب الركام ، أو كالجبال الراوسي ، فيقول : يا ربِّ ، أنّى لي هذا ولم أعملها ؟ فيقول : هذا عِلمك الذي علّمته الناس ، يُعمل به مِن بعدك )(2) .
ولا غرابة أنْ يحظى العُلماء بتلك الخصائص الجليلة ، والمزايا الغرّ . فهم حماة الدين ، وأعلام الإسلام ، وحفَظَة آثاره الخالدة ، وتراثه المدخور . يحملون للناس عبر القرون ، مبادئ الشريعة وأحكامها وآدابها ، فتستهدي الأجيال بأنوار علومهم ، ويستنيرون بتوجيههم الهادف البنّاء .
وبديهيّ أنّ تلك المنازل الرفيعة ، لا ينالها إلاّ العلماء المخلصون . المجاهدون في سبيل العقيدة والشريعة ، والسائرون على الخطّ الإسلامي ، والمتحلّون بآداب الإسلام وأخلاقه الكريمة .
ولهؤلاء فضلٌ كبير ، وحقوقٌ مرعيّة في أعناق المسلمين ، جديرةٌ بكلّ عنايةٍ واهتمام ، وهي :
_____________________
(1) نهج البلاغة .
(2) البحار م 1 ، ص 75 عن بصائر الدرجات .
الصفحة 338
1 - توقيرهم :
وهو في طليعة حقوقهم المشروعة ، لتحلّيهم بالعلم والفضل ، وجهادهم في صيانة الشريعة الإسلامية وتعزيزها ، ودأبهم على إصلاح المُجتمع الإسلامي وإرشاده .
وقد أعرب أهل البيت ( عليهم السلام ) عن جلالة العلماء ، وضرورة تبجيلهم وتوقيرهم ، قولاً وعملاً ، حتّى قرّروا أنّ النظر إليهم عبادة ، وأنّ بُغضهم مَدعاة للهلاك ، كما شهِد بذلك الحديث الشريف :
فعن موسى بن جعفر عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( قال ( صلّى اللّه عليه وآله ) : النظر في وجه العالم حبّاً له عبادة )(1) .
وعن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : أغد عالماً أو متعلّماً ، أو أُحِبَّ العلماء ، ولا تكُن رابعاً فتهلَك ببغضهم )(2) .
وهكذا كانوا ( عليهم السلام ) يبجّلون العلماء ، ويرعونهم بالحفاوة والتكريم ، يحدّثنا الشيخ المفيد (ره) ، عن توقير الإمام الصادق ( عليه السلام ) لهشام بن الحكم ـ وكان مِن ألمع أصحابه وأسماهم مكانة عنده ـ : ( أنّه دخل عليه بمنى ، وهو غلامٌ أوّل ما اختلط عارضاه ، وفي مجلسه شيوخ الشيعة ، كحمران بن أعيَن ، وقيس الماصر ، ويونس بن يعقوب ، وأبي جعفر الأحوَل
_____________________
(1) البحار م1 ، ص 64 ، عن نوادر الراوندي .
(2) البحار م 1 ، ص 59 ، عن خصال الصدوق(ره) .
الصفحة 339
وغيرهم ، فرفَعه على جماعتهم ، وليس فيهم إلاّ مَن هو أكبر سنّاً منه ) .
فلمّا رأى أبو عبد اللّه ( عليه السلام ) أنّ ذلك الفعل كبر على أصحابه ، قال : ( هذا ناصرنا بقلبه ولسانه ويده )(1) .
وجاء عن أحمد البزنطي ، قال : ( وبعث إليّ الرضا ( عليه السلام ) بحمارٍ له ، فجئت إلى صريا ، فمَكث عامّة الليل معه ، ثمّ أتيت بعشاء ، ثمّ قال : ( افرشوا له ) . ثمّ أتيت بوسادة طبريّة ومرادع وكساء قياصري وملحفة مروي ، فلمّا أصبت مِن العشاء ، قال لي : ( ما تريد أنْ تنام ؟) .
قلت : بلى ، جُعلت فداك . فطرح عليّ الملحفة والكساء ، ثمّ قال : ( بيّتك اللّه في عافية ) .
وكنّا على سطح ، فما نزل مِن عندي ، قلت في نفسي : قد نلت مِن هذا الرجل كرامة ما نالها أحدٌ قطّ(2) .
2 - بِرّهم :
همّة العلماء ، وهدفهم الأسمى ، خدمة الدين ، وبثّ التوعية الإسلاميّة ، وتوجيه المسلمين نحو الخُلق الكريم والسُلوك الأمثل ، وهذا ما يقتضيهم وقتاً واسعاً ، وجهداً ضخماً ، يعوقهم عن اكتساب الرزق وطلب المعاش كسائر الناس .
فلا بدّ والحالة هذه ، للمؤمنين المعنيين بشؤون الدين ، والحريصين على
_____________________
(1) سفينة البحار ج 2 ، ص 719 .
(2) سفينة البحار ج 1 ، ص 81 .
الصفحة 340
كيانه... أنْ يوفّروا للعُلماء وسائل الحياة الكريمة ، والعيش اللائق . وذلك بأداء الحقوق الشرعيّة إليهم ، التي أمر اللّه بها ، وندب إليها ، مِن الزكاة والخُمس ، ووجوه الخيرات والمبرّات . فهم أحقّ الناس بها ، وأهمّ مصاديقها ، ليستطيعوا تحقيق أهدافهم ، والاضطلاع بمهامّهم الدينيّة ، دون أنْ يعوقهم عنها طلب المعاش .
وقد كان الغيارى مِن المسلمين الأوّلين ، يتطوّعون بأريحيّة وسخاء ، في رصد الأموال ، وإيجاد الأوقاف ، واستغلالها لصالح العلماء ، وتوفير معاشهم .
وكلّما تجاهل الناس أقدار العلماء ، وغمطوا حقوقهم ، أدّى إلى قلّة العلماء ، وهبوط الطاقات الروحيّة ، وضعف النشاط الديني . ممّا يُعرّض المجتمع الإسلامي لغزو المبادئ الهدّامة ، وخطر الزيغ والانحراف .
3 - الاهتداء بهم :
لا يستغني كلّ واعٍ مستنير ، عن الرجوع إلى الأخصّائيّين في مختلف العلوم والفنون ، للإفادة من معارفهم وتجاربهم ، كالأطباء والكيمياويّين والمهندسين ونحوهم من ذوي الاختصاص .
وحيث كان العلماء الروحانيّون متخصّصين بالعلوم الدينيّة ، والمعارف الإسلاميّة ، قد أوقفوا أنفسهم على خدمة الشريعة الإسلاميّة ، ونشر مبادئها وأحكامها ، وهداية الناس وتوجيههم وجهة الخير والصلاح.. فجدير
الصفحة 341
بالمسلمين أنْ يستهدوا بهم ويجتنوا ثمرات علومهم ، ليكونوا على بصيرةٍ من عقيدتهم وشريعتهم ، ويتفادوا دعايات الغاوين والمُضلّلين مِن أعداء الإسلام .
فإذا ما تنكّروا للعلماء المخلصين ، واستهانوا بتوجيههم وإرشادهم... جهلوا واقع دينهم ومبادئه وأحكامه ، وغدوا عرضةً للزيغ والانحراف .
أنظروا كيف يحرض أهل البيت ( عليهم السلام ) على مجالسة العلماء ، والتزوّد من علومهم وآدابهم ، في نصوص عديدة :
فعن الصادق ، عن أبيه عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة )(1) والمراد بأهل الدين ، علماء الدين العارفون بمبادئه ، العاملون بأحكامه .
وجاء في حديث الرضا عن آبائه ( عليهم السلام ) ، قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : مجالسة العلماء عبادة )(2) .
وقال لقمان لابنه : ( يا بني ، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ، فإنّ اللّه عزّ وجل يحيي القلوب بنور الحكمة ، كما يحيي الأرض بوابل السماء ) (3) .
وعن الرضا عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : العلم خزائن ، ومفتاحه (مفتاحها خ ل) السؤال ، فاسألوا
_____________________
(1) البحار م 1 ص 62 ، عن ثواب الأعمال ، وأمالي الصدوق .
(2) البحار م 1 ص 64 ، عن كشف الغمّة .
(3) البحار م 1 ص 64 ، عن روضة الواعظين .
الصفحة 342
يرحمكم اللّه ، فإنّه يؤجر فيه أربعة : السائل ، والمعلم ، والمستمع ، والمحبّ لهم )(1) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون )(2) .
_____________________
(1) البحار م 1 ص 62 ، عن صحيفة الرضا ( عليه السلام ) وعيون أخبار الرضا .
(2) الوافي ج 1 ص 46 ، عن الكافي .
الصفحة 343
حقوق الأساتذة والطلاب
الأساتذة المخلصون ، المتحلّون بالإيمان والخلق الكريم ، لهم مكانة سامية ، وفضلٌ كبير على المجتمع ، بما يسدون إليه مِن جهودٍ مشكورة في تربية أبنائهم ، وتثقيفهم بالعلوم والآداب . فهم رواد الثقافة ، ودعاة العلم ، وبناة الحضارة ، وموجهو الجيل الجديد .
لذلك كان للأساتذة على طلابهم حقوق جديرة بالرعاية والاهتمام . وأوّل حقوقهم على الطلاب ، أنْ يوقّروهم ويحترموهم احترام الآباء ، مكافأة لهم على تأديبهم ، وتنويرهم بالعلم ، وتوجيههم وجهة الخير والصلاح . كما قيل للإسكندر : إنّك تعظّم معلّمك أكثر مِن تعظيمك لأبيك !!! فقال : لأنّ أبي سبب حياتي الفانية ، ومؤدّبي سبب الحياة الباقية .
قـم لـلمعلّم وفّـه
التبجيلا كـاد المعلّم أنْ يكون
رسولا
أرأيت أكرم أو أجلّ مِن الذي يـبني ويُنشئ أنفساً
وعُقولا
وحسبُك في فضل المعلّم المُخلص وأجره الجزيل ، ما أعربت عنه نصوص أهل البيت ( عليهم السلام ) :
فعن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : يجيء الرجل يوم القيامة ، وله مِن الحسنات كالسحاب الركام ،
يتبع
تعليق