ليلة جرح الامام علي عليه السلام
آية الله العظمى السيد الشهيد محمد باقر الصدر
19 شهر رمضان 1388هـ
هذه الليلة........
ذكرى أشأم ليلة بعد يوم توفي فيه رسول اللّه (ص) فاليوم الذي توفي فيه رسول الله (ص) كان اليوم الذي خلف فيه النبي (ص) تجربته الاسلامية في مهب القدر، في مهبّ المؤامرات التي اتت عليها بعد برهة من الزمن، واليوم الذي اغتيل فيه الامام امير المؤمنين عليه السلام كان اليوم الذي قضى على آخر أمل في إعادة خط تلك التجربة الصحيحة، هذا الامل الذي كان لا يزال يعيش في نفوس المسلمين الواعين متجسدا في شخص هذا الرجل العظيم، الذي عاش منذ اللحظة الاولى هموم الدعوة وآلامها و اكتوى بنارها و شارك في بنائها لبنة لبنة..... واقام صرحها مع استاذه (ص) مدماكاً فوق مدماك .
هذا الرجل الذي كان يعبّر عن كل هذه المراحل بكل همومها.... ومشاكلها وآلامها... هذا الرجل هو الذي كان يمثل هذا الامل الوحيد الذي بقي للمسلمين الواعين في أن تسترجع التجربة خطها الواضح الصريح وأسلوبها النبوي المستقيم.... حيث إن الانحراف في الواقع كان قد طغى وتجبر واتسع بحيث لم يكن هناك أي امل في قهر هذا الانحراف.... اللهم الا على يد رجل واحد كعلي بن ابي طالب (ع) ولهذا كانت حادثة اغتيال هذا الامام العظيم.... حينما خر صريعا في مثل هذه الليلة تقويضاً حقيقياً لآخر أمل حقيقي في قيام مجتمع اسلامي صحيح على وجه الارض إلى يوم غير معلوم، وأجل غير محدود.
كان هذا الاغتيال المشؤوم عقيب حكم مارسه الامام (ع) طيلة أربع أو خمس سنوات تقريباً حيث بدأ منذ اللحظة الاولى لتسلم زمام الحكم عقلية التغيير الحقيقية في كيان هذه التجربة المنحرفة وواصل سعيه في سبيل انجاح عملية التغيير واستشهد، وخر صريعاً بالمسجد وهو في قمة هذه المحاولة أو في آخر محاولة انجاح عملية التغيير وتصفية الانحراف الذي كان قد ترسخ في جسم المجتمع الاسلامي متمثلاً في معسكر منفصل عن الدولة الاسلامية الأم.
لا مساومة
والظاهرة الواضحة في هذه الأربع أو الخمس سنوات التي مارس فيها الامام(ع) عملية الحكم، هي أنه كان غير مستعد بأي شكل من الأشكال وفي أي صيغة من الصيغ لتقبل انصاف الحلول بالنسبة إلى تصفية هذا الانحراف أو لتقبل أي معنى من معاني المساومة أو المعاملة على حساب هذه الامة التي كان يرى بكل حرقة وألم انها تهدر كرامتها وتباع بأرخص ثمن.
هذه الظاهرة تسترعي الانتباه سياسياً من ناحية وتسترعي الانتباه فقهياً من ناحية اخرى:
ـ أما من الناحية السياسية فهناك مقولة استرعت انتباه أشخاص معاصرين للامام (ع) واسترعت انتباه اشخاص حاولوا أن يحللوا ويدرسوا حياة الامام(ع) فقالوا: إن عدم تقبله لهذه المساومات وأنصاف الحلول بأي شكل من الأشكال كان يُعَقّدُ عليه الموقف ويثير أمامه الصعاب ويرسخ المشاكل ويجعله عاجزاً عن مواجهة مهمته السياسية والمضي بخط تجربته إلى حيث يريد.
فمثلاً: ذاك الشخص الذي جاء اليه بعقلية هذه المساومات واقترح عليه أن يبقي معاوية بن ابي سفيان والياً على الشام برهة من الزمن قائلاً: إن بإمكانك ابقاء معاوية والياً على الشام برهة من الزمن وهو في هذه الحالة سوف يخضع ويبايع وبعدها يكون بامكانك استبداله او تغييره بأي شخص آخر بعد أن تكون قد استقطبت كل اطراف الدولة وقد تمت لك البيعة والطاعة في كل ارجاء العالم الاسلامي، فاشتر الحكم بإبقاء هذا الوالي او ذلك الوالي، هذا الحاكم او ذلك الحاكم، بابقاء هذه الثروات المحرمة في جيب هذا السارق او في جيب ذلك السارق برهة من الزمن ثم بعد هذا يمكنك أن تصفي كل هؤلاء الولاة الفجرة وترجع كل هذه الثروات المحرمة إلى بيت المال.
ولكن ماذا كان جواب الإمام(ع) لهذا الشخص؟، لقد رفض هذا المنطق واستمر في خطه السياسي يرفض كل مساومة ومعاملة من هذا القبيل، ومن هنا قال معاصروه، وقال غير معاصريه انه كان بامكانه أن يسجل نجاحاً كبيراً، وان يحقق توفيقاً من الناحية السياسية اكثر، لو انه قبل انصاف الحلول، ولو انه مارس هذا النوع من المساومات ولو بشكل مؤقت، حسبما زعم هؤلاء، ولكن هيهات لإمام كعليٍّ(ع) أن يساوم في حقٍّ عام.
ـ أما من الناحية الفقهية فهي ناحية التزاحم، الفقه يقول: إذا توقف واجب مهم على مقدمة محرمة فلا بد من الحفاظ على ذلك الواجب الأهم من المقدمة ولا يجوز تبرير ترك الواجب الأهم، ومنه مثلاً إذا توقف إنقاذ نفس محترمة من الغرق على اجتياز أرض مغصوبة لا يرضى صاحبها باجتيازها، فلا بد من اجتيازها حيث تسقط هنا حرية هذا المالك وعدم رضاه، لأن النتيجة اهم من هذه المقدمة، كما فعل رسول الله(ص) في بعض غزواته مثالاً مشابهاً لهذا المثال، حيث كان الجيش الإسلامي مضطراً إلى الخروج من المدينة عن طريق معين، وهذا الطريق كان فيه مزرعة لأحد الصحابة، وكان لا بد للجيش أن يمر على هذه المزرعة وبحكم طبيعة مروره كجيش لا بد أن يتلف كثيراً من محاصيل هذه المزرعة ويصيبها بأضرار، لذلك فإن صاحب المزرعة لم يرض بذلك ولم يقبل التضحية في سبيل الله وفي سبيل الرسالة.... فاحتج على ذلك وصرخ ثم جاء إلى رسول الله(ص) فقال: مزرعتي ومالي، فلم يجبه رسول الله (ص) واصدر اوامره إلى الجيش، فمشى في هذه المزرعة حتى لم يبق في هذه المزرعة شيء مما كان يخاف تلفه صاحب المزرعة الا وتلف.
كل ذلك لان النتيجة كانت اهم من المقدمة كان هذا الجيش يسير لأجل أن يغير وجه الدنيا ولأجل تغيير وجه الدنيا اذا تلفت مزرعة، اذا ضاعت هناك ثروة صغيرة لشخص، في سبيل أن يحفظ مقياس توزيع الثروات في العالم على الخط الطويل الطويل، فهذا أمر صحيح ومعقول من الناحية الفقهية فمن الناحية الفقهية دائماً يقرر أن الواجب اذا توقف على مقدمة محرمة وكان ملاك الواجب اقوى من ملاك الحرمة: فلا بد أن يقدم الواجب على الحرام.
وعلى هذا الضوء تثار هذه القضية في وجه امير المؤمنين (ع) كحاكم:
لماذا لم يطبّق هذه القاعدة في سبيل استباحة كثير من المقدمات المحرمة، أليس اجماع الرأي عليه، أليس تملّكه زمام قيادة مجتمع اسلامي، أليس هذا امراً واجباً لتحقيق لمكسب اسلامي كبير، لأن ذلك سيفتح أبواب الخيرات والبركات ويقيم حكومة الله على الارض.... ؟؟؟
إذن فلماذا لا يكون مؤقتاً في سبيل تحقيق هذا الهدف، اذا توقف هذا الهدف على مقدمة محرمة من قبيل امضاء ولاية معاوية بن أبي سفيان برهة من الزمن، أو إمضاء الاموال المحرمة التي نهبها آل امية، او غيرهم من الاسر التي وزع عليها عثمان بن عفان اموال المسلمين.... ؟؟
لماذا لا يكون السكوت مؤقتاً عن هذا النهب والسلب مقدمة للواجب الأهم.
ولماذا لا يكون جائزاً حينئذ على أساس توقف الواجب الاهم على ذلك... ؟؟
لماذا لم يساوم علي(ع)؟
الواقع هو أن الامام (ع) كان لا بد له أن ينهج هذا الطريق ولم يكن بامكانه كقائد رسالي يمثل الإسلام وأهدافه، أن يقبل هذه المساومات وانصاف الحلول ولو كمقدمة وليس قانون باب التزاحم الفقهي هنا صالحاً للانطباق على موقف امير المؤمنين (ع) وذلك بعد اخذ النقاط التالية بعين الاعتبار:
النقطة الاولى: انه لا بد وان يلحظ في المقام أن امير المؤمنين (ع) كان يريد أن يرسخ قاعدة سلطانه في قطر جديد من اقطار العالم الاسلامي وهذا القطر هو العراق.
وكان شعب العراق وابناء العراق مرتبطين روحياً وعاطفباً مع الامام (ع) ولكن لم يكن شعب العراق ولا أبناء العراق يعون رسالة علي (ع) وعياً حقيقياً كاملاً، ولهذا كان الامام بحاجة إلى أن يبني تلك الطليعة العقائدية، ذلك الجيش العقائدي الذي يكون اميناً على الرسالة واميناً على الاهداف وساعداً له ومنطلقاً إلى ترسيخ هذه الاهداف في كل ارجاء العالم الاسلامي.
والإمام(ع) لم يكن يملك هذه القاعدة بل كان بحاجة إلى أن يبنيها، فكيف إذن يبني هذه القاعدة؟
هل يمكن أن يبني هذه القاعدة في جو من المساومات وأنصاف الحلول؟ حتى لو كانت هذه المساومات وانصاف الحلول جائزة شرعاً الا أن جوازها الشرعي لا يؤثر في هذه الحقيقة النفسية الواقعية شيئاً وهي أن شخصاً لا يمكن أن يعيش في جو من المساومات وانصاف الحلول فيكتسب روحية أبي ذر، أو يكتسب روحية عمار بن ياسر، روحية الجيش العقائدي الواعي البصير بأن المعركة ليست للذات وانما هي للأهداف الكبيرة التي هي أكبر من الذات.
هذه الروحية لا يمكن أن تنمو ولا يمكن لعلي(ع) أن يحققها في من حوله في حاشيته وفي أوساطه وقواعده الشعبية، في جو من المشاحنات والمساومات وأنصاف الحلول حتى لو كانت جائزة... إن جوازها لايغير من مدلولها التربوي شيئاً ولا من دورها في تكوين نفسية هذا الشخص بأي شكل من الأشكال...
إذن فالامام(ع) كانت أمامه حاجة ملحة حقيقية، في بناء دولته إلى قاعدة شعبية واعية يعتمد عليها في ترسيخ الاهداف في النطاق الاوسع وهذه القاعدة الشعبية لم تكن جاهزة له حينما تسلم زمام الحكم حتى يستطيع أن يتفق معها.
على أن هذه المساومات وأنصاف الحلول ضرورات استثنائية لاتوجب الانحراف عن ذلك الخط... انما كان على علي (ع) أن يبني ذلك الجيش العقائدي كان على علي(ع) أن ينتزع الخيّر الخيّر والطيّب الطيّب من جماعته وحاشيته لكي يشكل منهم كتلة واعية من قبيل مالك الاشتر وغيره وهؤلاء لم يكن بالإمكان بناءهم نفسياً وروحياً وفكرياً وعاطفياً في جو مليء بالمساومات وانصاف الحلول... كانت المساومات وانصاف الحلول نكسة بالنسبة إلى عملية التربية لهذا الجيش العقائدي وكان فقدان هذا الجيش العقائدي يعني فقدان القوة الحقيقية التي يعتمد عليها الامام(ع) في بناء دولته لأن أية دولة عقائدية بحاجة إلى طليعة عقائدية تستشعر بشكل معمق وموسع أهداف الدولة وواقع أهميتها وضرورتها التاريخية ولهذا كان لا بد من الحفاظ على صفاء وطهر عملية التربية لبناء هذا الجيش العقائدي كان لا بد لآلاف من مالك الاشتر أن يشهدوا إنساناً لا تزعزعه المغريات، ولا يتنازل ولا يساوم، حتى يستطيعوا من خلال حياة هذا الرجل العظيم أن يتبينوا المدلول الرسالي الكامل لأطروحته الشاملة للصيغة الاسلامية للحياة اذن فكان على علي (ع) لأجل ممارسة عملية التربية لبناء هذا الجيش العقائدي كان لا بد له أن يترفع عن هذه المساومات والحلول الوسط، لكي يستطيع أن يخلق ذلك الجو الرفيع نفسياً وفكرياً وروحياً والذي سوف ينشأ في داخله وفي اعماقه... جيل يستطيع أن يحتضن أهداف أمير المؤمنين (ع) ويضحي من أجلها في حياته وبعد وفاته...
النقطة الثانية: لا بد من الالتفات ايضاً إلى أن أمير المؤمنين (ع) جاء في أعقاب ثورة، ولم يجئ في حالة اعتيادية، ومعنى ذلك أن البقية الباقية من العواطف الاسلامية، كل هذه العواطف تجمعت، ثم ضغطت، ثم انفجرت في لحظة ارتفاع... وماذا ينتظر القائد الرسالي غير لحظة ارتفاع في حياة امة، لكي يستطيع أن يستثمر هذه اللحظة في سبيل اعادة هذه الامة إلى سيرها الطبيعي...
كان لا بد للإمام(ع) أن يستثمر لحظة الارتفاع الثورية هذه، لأن المزاج النفسي والروحي وقتئذ لشعوب العالم الاسلامي، لم يكن ذاك المزاج الاعتيادي الهادئ الساكن لكي يمشي حسب مخطط تدريجي ، وانما كان المزاج الثوري الذي استطاع أن يرتفع إلى مستوى قتل الحاكم والاطاحة به، لأنه انحرف عن كتاب الله وسنة نبيه(ص). إذن هذا الارتفاع الذي وُجد في لحظة في حياة الأمة الإسلامية لم يكن من الهيِّن إعادته، وبعد ذلك كان لا بد للحاكم الذي يستلم زمام المسؤولية في مثل هذه اللحظة أن يعمق هذه اللحظة أن يمدد هذه اللحظة، أن يرسخ المضمون العاطفي والنفسي في هذه اللحظة عن طريق هذه الاجراءات الثورية التي قام بها أمير المؤمنين...
لو أن الإمام علي(ع) أبقى الباطل مؤقتاً وأمضى التصرفات الكيفية التي قام بها الحكام من قبل، لو أنه سكت عن معاوية وسكت عن أحزاب أخرى مشابهة لمعاوية بن أبي سفيان إذن لهدأت العاصفة ولانكمش هذا التيار العاطفي النفسي، وبعد انكماش هذا التيار العاطفي وهدوء تلك العاصفة سوف لن يكون بمقدور الامام(ع) أن يقوم بمثل هذه الاجراءات.
النقطة الثالثة: ولا بد ايضاً من الالتفات إلى نقطة هي: أن الامام (ع)، كان حريصاً على أن تدرك الامة كأمة أن واقع المعركة بينه (ع) وبين خصومه، بينه وبين معاوية ليست معركة بين شخصين، بين قائدين، بين قبيلتين، وانما هي معركة بين الإسلام والجاهلية.
كان حريصاً على أن يفهم الناس أن واقع المعركة هو واقع المعركة بين رسول الله(ص) وبين الجاهلية التي حاربته في بدر واُحد وغيرهما من الغزوات وكان هذا الحرص سوف يمنى بنكسة كبيرة لو أنه(ع) أقر معاوية، وأقر مخلفات عثمان السياسية والمالية، لو أنه أقر هذه المخلفات ولو إلى برهة من الزمن اذن لترسخ في اذهان الناس، وفي اذهان المسلمين بشكل عام شك في أن القضية ليست قضية رسالية وانما هي قضية اهداف حكم، اذا انسجمت مع واقع هذه المخلفات فتلغي هذه المخلفات ذلك الشك الذي نما عند الامة في أمير المؤمنين (ع) بالرغم من أنه لم يكن يوجد لهذا الشك أي مبرر موضوعي وإنما كانت له مبرراته الذاتية، وبالرغم من هذا استفحل هذا الشك، وامتحن هذا الامام العظيم(ع) بهذا الشك ومات واستشهد والأمة شاكة... ثم استسلمت الأمة بعد هذا وتحولت إلى كتلة هامدة بين يدي الامام الحسن(ع) هذا كله بالرغم من أن الشك لم يكن له مبرر موضوعي فكيف اذا افترضنا أن الشك وجدت له مبررات موضوعية بحسب الصورة الشكلية.
كيف لو أن المسلمين رأوا أن علي بن أبي طالب (ع) الذي هو رمز الاطروحة ورمز الاهداف الرسالية هذا الشخص يساوم ويعمل ويبيع الامة ولو مؤقتاً مع خيار الفسخ.
كيف يمكن للأمة أن تدرك الفرق بين بيع بلا خيار الفسخ وبين بيع يكون فيه خيار الفسخ، إن البيع على أي حال هو البيع وأمير المؤمنين (ع) كانت مهمته الكبرى هي أن يحافظ على وجود الأمة ويحصنها ضد أن تتنازل عن وجودها، عملية التنازل عن الوجود كان يمثلها معاوية بن أبي سفيان، وجذور معاوية في تاريخ الاسلام، هذا الذي عبر عنه وقتئذ، بأن الاسلام أصبح هرقلية وكسروية الهرقلية والكسروية كان يكنى بها عن تنازل الامة عن وجودها، يعني تحولت التجربة الاسلامية من أمة تحمل رسالة إلى ملك وسلطان يحمل هذه الرسالة بمستوى وعيه لهذه الرسالة واخلاصه لهذه الرسالة سلباً وايجاباً، هذه المؤامرة الكبيرة التي نجحت بعد هذا والتي تُوجت بكل المآسي والمحن والكوارث التي كانت ولاتزال إلى يومنا هذا هي نتيجة تنازل الامة عن وجودها، نتيجة خداع الامة، وتحجيمها او الضغط عليها حتى تنازلت عن وجودها في عقد لا يقبل الفسخ...
أمير المؤمنين (ع) كان يريد وقد أدرك الامة في اللحظات الاخيرة من وجودها المستقل، أن يمدد هذا الوجود المستقل أن يشعر الأمة بأنها ليست سلعة تباع وتشترى، أنها ليست شيئاً يُساوَم عليها، اذن كيف يشعرها بأنها ليست سلعة تباع وتشترى، إذا كان هو، فرضاً، يبيعها ويشتريها، ولو في عقود قابلة للفسخ؟
كيف يستطيع أن يشعر الأمة بأنها لا تباع ولا تشترى، ليست وفق رغبات السلاطين وليست وفق رغبات الحكام، وانما تمثل خلافة الله في الارض، لأجل أن تحقق أهداف هذه الخلافة في الارض؟
كيف يمكن أن يُفهم الامة ذلك اذا كان هو يبيع قطاعات من هذه الامة لحكام فجرة من قبيل معاوية بن أبي سفيان، في سبيل أن يسترجع هذه القطاعات بعد ذلك؟
بطبيعة الحال كان هذا معناه مواكبة المؤامرة التي كان روح العصر يتفجر او يتمخض عن مثلها والتي كان أمير المؤمنين (ع) واقفاً لأجل أن يحبطها وينقذ الامة منها، وحينئذ لايمكن بحال من الاحوال أن نفترض أن الامام (ع) يساهم في حبك هذه المؤامرة.
النقطة الرابعة والاخيرة: هي أن علي بن أبي طالب (ع) لم يكن يتعامل مع الفترة الزمنية القصيرة التي عاشها فقط، وانما كان يحمل هدفاً أكبر من ذلك، أمير المؤمنين (ع) كان يحس بأنه قد أدرك المريض وهو في آخر مرضه، قد أدركه حيث لا ينفع العلاج ولكنه كان يفكر في ابعاد أطول وأوسع للمعركة.
لم يكن يفكّر فقط في الفترة الزمنية التي عاشها وانما كان يفكر على مستوى اخر أوسع وأعمق، هذا المستوى يعني أن الاسلام كان بحاجة إلى أن تقدم له في خضم الانحراف بين يدي الأمة أطروحة واضحة صريحة نقية لا شائبة فيها ولا غموض، لا التواء فيها ولا تعقيد، لا مساومة فيها ولا نفاق ولا تدجيل.
تقويم الإنحراف
لماذا..؟ لأن الأمة كتب عليها أن تعيش الحكم الاسلامي المنحرف منذ نجحت السقيفة في أهدافها، والاسلام الذي تعطيه السقيفة امتدادها التاريخي هذا الاسلام إسلام مشوه ممسوخ إسلام لا يحفظ الصلة العاطفية فضلاً عن الفكرية بين الأمة ككل وبين الرسالة، بين أشرف رسالات السماء وأشرف أمم الارض لا يمكن أن يحفظ هذه الصلة العاطفية والروحية بين الأمة الإسلامية وبين الاسلام الذي هو على وزن الاسلام المعطى لهارون الرشيد، ولمعاوية بن أبي سفيان، ولعبد الملك بن مروان، هذا الاسلام لا يمكن أن يحفظ هذه الصلة فكان لا بد لحفظ هذه الصلة بين جماهير الامة الاسلامية وبين هذه الرسالة، من إعطاء صورة واضحة محدودة للاسلام وهذه الصورة اعطيت نظرياً على مستوى ثقافة أهل البيت (ع) وأعطيت عملياً على مستوى تجربة الامام (ع) فكان الامام (ع) في تأكيده على العناوين الاولية في التشريع الاسلامي، وفي تأكيده على الخطوط الرئيسية في الصيغة الاسلامية للحياة، يريد أن يقدّم المنهاج الاسلامي واضحاً غير ملوّث بلوثة الانحراف التي كتبت على تاريخ الاسلام مدة طويلة من الزمن وكان لا بد لكي يتحقق هذا الهدف من أن يعطي هذه التجربة بهذا النوع من الصفاء والنقاء والوضوح دون أن يعمل ما اسميناه بقوانين باب التزاحم...
صمود الإمام(ع)
وهكذا كان وظل الامام (ع) صامداً مواجهاً لكل المؤامرات التي كانت الامة تساهم في صنعها وفي حياكتها على اساس جهلها وعدم وعيها وعدم شعورها بالدور الحقيقي الذي يمارسه عليه السلام في سبيل حماية وجودها من الضياع وحماية كرامتها من أن تتحول إلى سلعة تباع وتشترى حتى خر صريعاً على يد شخص من هذه الامة التي ضحى في سبيلها... خر صريعاً في المسجد فقال: "فزت ورب الكعبة"...
لنحاسب علياً وهو في آخر لحظة من لحظات حياته (ع) حينما قال: فزت ورب الكعبة.
هل كان علي أسعد إنسان أو أتعس إنسان..؟
هنا مقياسان:
فتارة نقيس علياً(ع) بمقياس الدنيا.
وأخرى نقيس علياً بمقاييس الله سبحانه وتعالى...
علي(ع) ومقاييس أهل الدنيا
لو كان قد عمل كل عمله للدنيا، لنفسه، فهو أتعس إنسان... ومن أتعس من علي(ع)، حسب مقاييس أهل الدنيا، إذ بنى كل ما بنى وأقام كل ما أقام من صرح ثم حرم من كل هذا البناء ومن كل هذه الصروح؟
هذا الاسلام الشامخ العظيم الذي أنار الدنيا شرقاً وغرباً هذا الاسلام بني بدم علي(ع) بني بخفقات قلب علي(ع) بني بآلام علي(ع)، بني بنار علي(ع)، كان علي هو شريك البناء بكل محن هذا البناء بكل آلام هذا البناء وفي كل مآسي هذا البناء أي لحظة محرجة وُجدت بتاريخ هذا البناء لم يكن علي (ع) هو الانسان الوحيد الذي يتجه إليه نظر البنّاء الأول(ص) ونظر المسلمين جميعاً لأجل إنقاذ عملية البناء، إذاً فعلي(ع) كان هو المضحي دائماً في سبيل هذا البناء، هو الشخص الذي أعطى ولم يبخل، الذي ضحى ولم يتردد الذي كان يضع دمه على كفه في كل غزوة في كل معركة، في كل تصعيد جديد لهذا العمل الاسلامي الراسخ العظيم...
اذن شيدت كل هذه المنابر بيد علي (ع) واتسعت ارجاء هذه المملكة بسيف علي(ع).
جهاد علي كان هو القاعدة لقيام هذه الدولة الواسعة الاطراف لكن ماذا حصّل علي(ع) من كل هذا البناء في مقاييس الدنيا، اذا اعتمدنا مقاييس الدنيا..؟
لو كان علي (ع) يعمل لنفسه فماذا حصّل علي (ع) من كل هذه التضحيات من كل هذه البطولات؟ ماذا حصل غير الحرمان الطويل الطويل، غير الاقصاء عن حقه الطبيعي بقطع النظر عن نص او تعيين من الله سبحانه وتعالى؟ كان حقه الطبيعي أن يحكم بعد أن يموت النبي (ص) لأنه الشخص الثاني عطاء للدعوة وتضحية في سبيلها .
أُقصي من حقه الطبيعي، قاسى ألوان الحرمان، أنكرت عليه كل امتيازاته، معاوية بن أبي سفيان هو الذي يقول لمحمد بن ابي بكر، كان علي كالنجم في السماء في أيام رسول الله(ص) ولكن أباك والفاروق إبتزا حقه وأخذا أمره، وبعد هذا نحن شعرنا أن بإمكاننا أن ندخل في ميدان المساومة مع هذا الرجل!!
إذاً فعلي(ع) حينما واجهه عبد الرحمن بن ملجم بتلك الضربة القاتلة على رأسه الشريف، كان ماضيه كله ماضي حرمان والم وخسارة لم يكن قد حصل على شيء منه، لكن الأشخاص الذين، حسب مقاييس أهل الدنيا، حصلوا على شيء عظيم من هذا البناء هم أولئك الذين لم يساهموا في هذا البناء هم أولئك الذي كانوا على استعداد دائم للتنازل عن مستوى هذا البناء في أية لحظة من اللحظات أولئك حصلوا على مكاسب عريضة من هذا البناء أما هذا الإمام الممتحن الذي لم يفر لحظة الذي لم يتلكأ في أي آن، الذي لم يتلعثم في قول او عمل، هذا الامام العظيم لم يحصل على أي مكسب من هذا البناء بأي شكل من الأشكال انظروا إن هذه الحادثة يمكن أن تفجر قلب الانسان، وما الانسان غير العامل، حينما ينظر في حال عامل على هذا الترتيب يتفجر قلبه ألماً لحال هذا العامل المسكين، لحال هذا العامل التعيس، الذي بنى فغير الدنيا ثم لم يستفد من هذا التغيير ثم تعالوا انظروا إلى المستقبل الذي ينظره الامام علي (ع) بعين الغيب هذا ماضيه، فماذا عن مستقبله؟
كان يرى بعين الغيب أن عدوه اللدود سوف يطأ منبره، سوف يطأ مسجده، سوف ينتهك كل الحرمات والكرامات التي ضحى وجاهد في سبيلها سوف يستقل بهذه المنابر التي شيدت بجهاده وجهوده ودمه، سوف يستغلها في لعنه وسبه عشرات السنين هو الذي كان يقول لبعض الخلّص من اصحابه انه سوف يعرض عليكم سبي ولعني والبراءة مني أما السب فسبوني واما البراءة مني فلا تتبرؤوا مني.
إذاً فهو كان ينظر بعين الغيب إلى المستقبل بهذه النظرة لم يكن يرى في المستقبل نوعاً من التكذيب يتدارك به هذا الحرمان، الاجيال التي سوف تأتي بعد أن يفارق الدنيا، كانت ضحية مؤامرة أموية جعلتها لا تدرك أبداً دور الامام علي (ع) في بناء الاسلام.
هذا هو حرمان الماضي وهذا هو حرمان المستقبل.
علي(ع) والآخرة
وبالرغم من كل هذا قال (ع): فزت ورب الكعبة، حينما أدرك انها اللحظة الاخيرة وانه انتهى خط جهاده وهو في قمة جهاده وانتهى خط محنته وهو في قمة صلاته وعبادته قال: فزت ورب الكعبة، لأنه لم يكن إنسان الدنيا ولو كان إنسان الدنيا لكان اتعس انسان على الاطلاق لو كان انسان الدنيا لكان قلبه يتفجر الماً وكان قلبه ينفجر حسرة ولكنه لم يكن انسان الدنيا، لو كان انسان الدنيا فسوف يندم ندماً لا ينفعه معه شيء، لانه بنى شيئاً انقلب عليه ليحطمه أي شيء يمكن أن ينفع هذا الشخص؟ اذا فرضنا أن شخصاً اراد أن يربي شخصاً آخر لكي يخدمه فلما ربى ذاك الشخص ونمى واكتمل رشده جاء ليقتله ماذا ينفع هذا الشخص ندمه غير أن يموت؟
هذا الإمام العظيم قال: فزت ورب الكعبة، كان أسعد إنسان ولم يكن أشقى إنسان لأنه كان يعيش لهدفه، ولم يكن يعيش للدنيا، كان يعيش لهدفه ولم يكن يعيش لمكاسبه ولم يتردد لحظة وهو في قمة المآسي والمحن، في صحة ماضيه، وفي صحة حاضره، وفي أنه أدى دوره الذي كان يجب عليه.
كونوا مع علي(ع)
هذه هي العبرة التي يجب أن نأخذها.
نحن يجب أن نستشعر دائماً أن السعادة في عمل العامل لا تنبع من المكاسب التي تعود إليه نتيجة لهذا العمل.
يجب أن لا نقِّيم سعادة العامل على أساس كهذا لأننا لو قيّمناه على هذا الأساس فقد يكون حظنا كحظ هذا الامام الذي بنى إسلاماً ووجّه أمة، ثم بعد هذا انقلبت عليه هذه الأمة لتلعنه على المنابر ألف شهر.
نحن يجب أن لا نجعل مقياس سعادة العامل في عمله هو المكاسب والفوائد التي تنجم عن هذا العمل وإنما رضى الله سبحانه وتعالى وأحقية العمل، كون العمل حقاً وكفى، وحينئذ سوف نكون سعداء سواء أثر عملنا أو لم يؤثر، سواء قدر الناس عملنا أم لم يقدروا، سواء رمونا باللعن او بالحجارة على أي حال سوف نستقبل الله سبحانه وتعالى ونحن سعداء لأننا أدينا حقنا وواجبنا وهناك من لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، لئن ضيع هؤلاء السعادة ولئن ضيعوا فهمهم، ولئن استولى عليهم الغباء فخلطوا بين علي(ع) ومعاوية، لئن انصرفوا عن علي وهم في قمة الحاجة إليه فهناك من لا يختلط عليه الحال، من يميز بين علي(ع) وبين أي شخص آخر، هناك من قد أعطى لعلي(ع) نتيجة لعمل واحد من أعماله مثل عبادة الثقلين.
ذاك هو الحق وتلك هي السعادة.
اللهم احشرنا معه واجعلنا من شيعته والمترسمين خطاه والحمد للّه.
آية الله العظمى السيد الشهيد محمد باقر الصدر
19 شهر رمضان 1388هـ
هذه الليلة........
ذكرى أشأم ليلة بعد يوم توفي فيه رسول اللّه (ص) فاليوم الذي توفي فيه رسول الله (ص) كان اليوم الذي خلف فيه النبي (ص) تجربته الاسلامية في مهب القدر، في مهبّ المؤامرات التي اتت عليها بعد برهة من الزمن، واليوم الذي اغتيل فيه الامام امير المؤمنين عليه السلام كان اليوم الذي قضى على آخر أمل في إعادة خط تلك التجربة الصحيحة، هذا الامل الذي كان لا يزال يعيش في نفوس المسلمين الواعين متجسدا في شخص هذا الرجل العظيم، الذي عاش منذ اللحظة الاولى هموم الدعوة وآلامها و اكتوى بنارها و شارك في بنائها لبنة لبنة..... واقام صرحها مع استاذه (ص) مدماكاً فوق مدماك .
هذا الرجل الذي كان يعبّر عن كل هذه المراحل بكل همومها.... ومشاكلها وآلامها... هذا الرجل هو الذي كان يمثل هذا الامل الوحيد الذي بقي للمسلمين الواعين في أن تسترجع التجربة خطها الواضح الصريح وأسلوبها النبوي المستقيم.... حيث إن الانحراف في الواقع كان قد طغى وتجبر واتسع بحيث لم يكن هناك أي امل في قهر هذا الانحراف.... اللهم الا على يد رجل واحد كعلي بن ابي طالب (ع) ولهذا كانت حادثة اغتيال هذا الامام العظيم.... حينما خر صريعا في مثل هذه الليلة تقويضاً حقيقياً لآخر أمل حقيقي في قيام مجتمع اسلامي صحيح على وجه الارض إلى يوم غير معلوم، وأجل غير محدود.
كان هذا الاغتيال المشؤوم عقيب حكم مارسه الامام (ع) طيلة أربع أو خمس سنوات تقريباً حيث بدأ منذ اللحظة الاولى لتسلم زمام الحكم عقلية التغيير الحقيقية في كيان هذه التجربة المنحرفة وواصل سعيه في سبيل انجاح عملية التغيير واستشهد، وخر صريعاً بالمسجد وهو في قمة هذه المحاولة أو في آخر محاولة انجاح عملية التغيير وتصفية الانحراف الذي كان قد ترسخ في جسم المجتمع الاسلامي متمثلاً في معسكر منفصل عن الدولة الاسلامية الأم.
لا مساومة
والظاهرة الواضحة في هذه الأربع أو الخمس سنوات التي مارس فيها الامام(ع) عملية الحكم، هي أنه كان غير مستعد بأي شكل من الأشكال وفي أي صيغة من الصيغ لتقبل انصاف الحلول بالنسبة إلى تصفية هذا الانحراف أو لتقبل أي معنى من معاني المساومة أو المعاملة على حساب هذه الامة التي كان يرى بكل حرقة وألم انها تهدر كرامتها وتباع بأرخص ثمن.
هذه الظاهرة تسترعي الانتباه سياسياً من ناحية وتسترعي الانتباه فقهياً من ناحية اخرى:
ـ أما من الناحية السياسية فهناك مقولة استرعت انتباه أشخاص معاصرين للامام (ع) واسترعت انتباه اشخاص حاولوا أن يحللوا ويدرسوا حياة الامام(ع) فقالوا: إن عدم تقبله لهذه المساومات وأنصاف الحلول بأي شكل من الأشكال كان يُعَقّدُ عليه الموقف ويثير أمامه الصعاب ويرسخ المشاكل ويجعله عاجزاً عن مواجهة مهمته السياسية والمضي بخط تجربته إلى حيث يريد.
فمثلاً: ذاك الشخص الذي جاء اليه بعقلية هذه المساومات واقترح عليه أن يبقي معاوية بن ابي سفيان والياً على الشام برهة من الزمن قائلاً: إن بإمكانك ابقاء معاوية والياً على الشام برهة من الزمن وهو في هذه الحالة سوف يخضع ويبايع وبعدها يكون بامكانك استبداله او تغييره بأي شخص آخر بعد أن تكون قد استقطبت كل اطراف الدولة وقد تمت لك البيعة والطاعة في كل ارجاء العالم الاسلامي، فاشتر الحكم بإبقاء هذا الوالي او ذلك الوالي، هذا الحاكم او ذلك الحاكم، بابقاء هذه الثروات المحرمة في جيب هذا السارق او في جيب ذلك السارق برهة من الزمن ثم بعد هذا يمكنك أن تصفي كل هؤلاء الولاة الفجرة وترجع كل هذه الثروات المحرمة إلى بيت المال.
ولكن ماذا كان جواب الإمام(ع) لهذا الشخص؟، لقد رفض هذا المنطق واستمر في خطه السياسي يرفض كل مساومة ومعاملة من هذا القبيل، ومن هنا قال معاصروه، وقال غير معاصريه انه كان بامكانه أن يسجل نجاحاً كبيراً، وان يحقق توفيقاً من الناحية السياسية اكثر، لو انه قبل انصاف الحلول، ولو انه مارس هذا النوع من المساومات ولو بشكل مؤقت، حسبما زعم هؤلاء، ولكن هيهات لإمام كعليٍّ(ع) أن يساوم في حقٍّ عام.
ـ أما من الناحية الفقهية فهي ناحية التزاحم، الفقه يقول: إذا توقف واجب مهم على مقدمة محرمة فلا بد من الحفاظ على ذلك الواجب الأهم من المقدمة ولا يجوز تبرير ترك الواجب الأهم، ومنه مثلاً إذا توقف إنقاذ نفس محترمة من الغرق على اجتياز أرض مغصوبة لا يرضى صاحبها باجتيازها، فلا بد من اجتيازها حيث تسقط هنا حرية هذا المالك وعدم رضاه، لأن النتيجة اهم من هذه المقدمة، كما فعل رسول الله(ص) في بعض غزواته مثالاً مشابهاً لهذا المثال، حيث كان الجيش الإسلامي مضطراً إلى الخروج من المدينة عن طريق معين، وهذا الطريق كان فيه مزرعة لأحد الصحابة، وكان لا بد للجيش أن يمر على هذه المزرعة وبحكم طبيعة مروره كجيش لا بد أن يتلف كثيراً من محاصيل هذه المزرعة ويصيبها بأضرار، لذلك فإن صاحب المزرعة لم يرض بذلك ولم يقبل التضحية في سبيل الله وفي سبيل الرسالة.... فاحتج على ذلك وصرخ ثم جاء إلى رسول الله(ص) فقال: مزرعتي ومالي، فلم يجبه رسول الله (ص) واصدر اوامره إلى الجيش، فمشى في هذه المزرعة حتى لم يبق في هذه المزرعة شيء مما كان يخاف تلفه صاحب المزرعة الا وتلف.
كل ذلك لان النتيجة كانت اهم من المقدمة كان هذا الجيش يسير لأجل أن يغير وجه الدنيا ولأجل تغيير وجه الدنيا اذا تلفت مزرعة، اذا ضاعت هناك ثروة صغيرة لشخص، في سبيل أن يحفظ مقياس توزيع الثروات في العالم على الخط الطويل الطويل، فهذا أمر صحيح ومعقول من الناحية الفقهية فمن الناحية الفقهية دائماً يقرر أن الواجب اذا توقف على مقدمة محرمة وكان ملاك الواجب اقوى من ملاك الحرمة: فلا بد أن يقدم الواجب على الحرام.
وعلى هذا الضوء تثار هذه القضية في وجه امير المؤمنين (ع) كحاكم:
لماذا لم يطبّق هذه القاعدة في سبيل استباحة كثير من المقدمات المحرمة، أليس اجماع الرأي عليه، أليس تملّكه زمام قيادة مجتمع اسلامي، أليس هذا امراً واجباً لتحقيق لمكسب اسلامي كبير، لأن ذلك سيفتح أبواب الخيرات والبركات ويقيم حكومة الله على الارض.... ؟؟؟
إذن فلماذا لا يكون مؤقتاً في سبيل تحقيق هذا الهدف، اذا توقف هذا الهدف على مقدمة محرمة من قبيل امضاء ولاية معاوية بن أبي سفيان برهة من الزمن، أو إمضاء الاموال المحرمة التي نهبها آل امية، او غيرهم من الاسر التي وزع عليها عثمان بن عفان اموال المسلمين.... ؟؟
لماذا لا يكون السكوت مؤقتاً عن هذا النهب والسلب مقدمة للواجب الأهم.
ولماذا لا يكون جائزاً حينئذ على أساس توقف الواجب الاهم على ذلك... ؟؟
لماذا لم يساوم علي(ع)؟
الواقع هو أن الامام (ع) كان لا بد له أن ينهج هذا الطريق ولم يكن بامكانه كقائد رسالي يمثل الإسلام وأهدافه، أن يقبل هذه المساومات وانصاف الحلول ولو كمقدمة وليس قانون باب التزاحم الفقهي هنا صالحاً للانطباق على موقف امير المؤمنين (ع) وذلك بعد اخذ النقاط التالية بعين الاعتبار:
النقطة الاولى: انه لا بد وان يلحظ في المقام أن امير المؤمنين (ع) كان يريد أن يرسخ قاعدة سلطانه في قطر جديد من اقطار العالم الاسلامي وهذا القطر هو العراق.
وكان شعب العراق وابناء العراق مرتبطين روحياً وعاطفباً مع الامام (ع) ولكن لم يكن شعب العراق ولا أبناء العراق يعون رسالة علي (ع) وعياً حقيقياً كاملاً، ولهذا كان الامام بحاجة إلى أن يبني تلك الطليعة العقائدية، ذلك الجيش العقائدي الذي يكون اميناً على الرسالة واميناً على الاهداف وساعداً له ومنطلقاً إلى ترسيخ هذه الاهداف في كل ارجاء العالم الاسلامي.
والإمام(ع) لم يكن يملك هذه القاعدة بل كان بحاجة إلى أن يبنيها، فكيف إذن يبني هذه القاعدة؟
هل يمكن أن يبني هذه القاعدة في جو من المساومات وأنصاف الحلول؟ حتى لو كانت هذه المساومات وانصاف الحلول جائزة شرعاً الا أن جوازها الشرعي لا يؤثر في هذه الحقيقة النفسية الواقعية شيئاً وهي أن شخصاً لا يمكن أن يعيش في جو من المساومات وانصاف الحلول فيكتسب روحية أبي ذر، أو يكتسب روحية عمار بن ياسر، روحية الجيش العقائدي الواعي البصير بأن المعركة ليست للذات وانما هي للأهداف الكبيرة التي هي أكبر من الذات.
هذه الروحية لا يمكن أن تنمو ولا يمكن لعلي(ع) أن يحققها في من حوله في حاشيته وفي أوساطه وقواعده الشعبية، في جو من المشاحنات والمساومات وأنصاف الحلول حتى لو كانت جائزة... إن جوازها لايغير من مدلولها التربوي شيئاً ولا من دورها في تكوين نفسية هذا الشخص بأي شكل من الأشكال...
إذن فالامام(ع) كانت أمامه حاجة ملحة حقيقية، في بناء دولته إلى قاعدة شعبية واعية يعتمد عليها في ترسيخ الاهداف في النطاق الاوسع وهذه القاعدة الشعبية لم تكن جاهزة له حينما تسلم زمام الحكم حتى يستطيع أن يتفق معها.
على أن هذه المساومات وأنصاف الحلول ضرورات استثنائية لاتوجب الانحراف عن ذلك الخط... انما كان على علي (ع) أن يبني ذلك الجيش العقائدي كان على علي(ع) أن ينتزع الخيّر الخيّر والطيّب الطيّب من جماعته وحاشيته لكي يشكل منهم كتلة واعية من قبيل مالك الاشتر وغيره وهؤلاء لم يكن بالإمكان بناءهم نفسياً وروحياً وفكرياً وعاطفياً في جو مليء بالمساومات وانصاف الحلول... كانت المساومات وانصاف الحلول نكسة بالنسبة إلى عملية التربية لهذا الجيش العقائدي وكان فقدان هذا الجيش العقائدي يعني فقدان القوة الحقيقية التي يعتمد عليها الامام(ع) في بناء دولته لأن أية دولة عقائدية بحاجة إلى طليعة عقائدية تستشعر بشكل معمق وموسع أهداف الدولة وواقع أهميتها وضرورتها التاريخية ولهذا كان لا بد من الحفاظ على صفاء وطهر عملية التربية لبناء هذا الجيش العقائدي كان لا بد لآلاف من مالك الاشتر أن يشهدوا إنساناً لا تزعزعه المغريات، ولا يتنازل ولا يساوم، حتى يستطيعوا من خلال حياة هذا الرجل العظيم أن يتبينوا المدلول الرسالي الكامل لأطروحته الشاملة للصيغة الاسلامية للحياة اذن فكان على علي (ع) لأجل ممارسة عملية التربية لبناء هذا الجيش العقائدي كان لا بد له أن يترفع عن هذه المساومات والحلول الوسط، لكي يستطيع أن يخلق ذلك الجو الرفيع نفسياً وفكرياً وروحياً والذي سوف ينشأ في داخله وفي اعماقه... جيل يستطيع أن يحتضن أهداف أمير المؤمنين (ع) ويضحي من أجلها في حياته وبعد وفاته...
النقطة الثانية: لا بد من الالتفات ايضاً إلى أن أمير المؤمنين (ع) جاء في أعقاب ثورة، ولم يجئ في حالة اعتيادية، ومعنى ذلك أن البقية الباقية من العواطف الاسلامية، كل هذه العواطف تجمعت، ثم ضغطت، ثم انفجرت في لحظة ارتفاع... وماذا ينتظر القائد الرسالي غير لحظة ارتفاع في حياة امة، لكي يستطيع أن يستثمر هذه اللحظة في سبيل اعادة هذه الامة إلى سيرها الطبيعي...
كان لا بد للإمام(ع) أن يستثمر لحظة الارتفاع الثورية هذه، لأن المزاج النفسي والروحي وقتئذ لشعوب العالم الاسلامي، لم يكن ذاك المزاج الاعتيادي الهادئ الساكن لكي يمشي حسب مخطط تدريجي ، وانما كان المزاج الثوري الذي استطاع أن يرتفع إلى مستوى قتل الحاكم والاطاحة به، لأنه انحرف عن كتاب الله وسنة نبيه(ص). إذن هذا الارتفاع الذي وُجد في لحظة في حياة الأمة الإسلامية لم يكن من الهيِّن إعادته، وبعد ذلك كان لا بد للحاكم الذي يستلم زمام المسؤولية في مثل هذه اللحظة أن يعمق هذه اللحظة أن يمدد هذه اللحظة، أن يرسخ المضمون العاطفي والنفسي في هذه اللحظة عن طريق هذه الاجراءات الثورية التي قام بها أمير المؤمنين...
لو أن الإمام علي(ع) أبقى الباطل مؤقتاً وأمضى التصرفات الكيفية التي قام بها الحكام من قبل، لو أنه سكت عن معاوية وسكت عن أحزاب أخرى مشابهة لمعاوية بن أبي سفيان إذن لهدأت العاصفة ولانكمش هذا التيار العاطفي النفسي، وبعد انكماش هذا التيار العاطفي وهدوء تلك العاصفة سوف لن يكون بمقدور الامام(ع) أن يقوم بمثل هذه الاجراءات.
النقطة الثالثة: ولا بد ايضاً من الالتفات إلى نقطة هي: أن الامام (ع)، كان حريصاً على أن تدرك الامة كأمة أن واقع المعركة بينه (ع) وبين خصومه، بينه وبين معاوية ليست معركة بين شخصين، بين قائدين، بين قبيلتين، وانما هي معركة بين الإسلام والجاهلية.
كان حريصاً على أن يفهم الناس أن واقع المعركة هو واقع المعركة بين رسول الله(ص) وبين الجاهلية التي حاربته في بدر واُحد وغيرهما من الغزوات وكان هذا الحرص سوف يمنى بنكسة كبيرة لو أنه(ع) أقر معاوية، وأقر مخلفات عثمان السياسية والمالية، لو أنه أقر هذه المخلفات ولو إلى برهة من الزمن اذن لترسخ في اذهان الناس، وفي اذهان المسلمين بشكل عام شك في أن القضية ليست قضية رسالية وانما هي قضية اهداف حكم، اذا انسجمت مع واقع هذه المخلفات فتلغي هذه المخلفات ذلك الشك الذي نما عند الامة في أمير المؤمنين (ع) بالرغم من أنه لم يكن يوجد لهذا الشك أي مبرر موضوعي وإنما كانت له مبرراته الذاتية، وبالرغم من هذا استفحل هذا الشك، وامتحن هذا الامام العظيم(ع) بهذا الشك ومات واستشهد والأمة شاكة... ثم استسلمت الأمة بعد هذا وتحولت إلى كتلة هامدة بين يدي الامام الحسن(ع) هذا كله بالرغم من أن الشك لم يكن له مبرر موضوعي فكيف اذا افترضنا أن الشك وجدت له مبررات موضوعية بحسب الصورة الشكلية.
كيف لو أن المسلمين رأوا أن علي بن أبي طالب (ع) الذي هو رمز الاطروحة ورمز الاهداف الرسالية هذا الشخص يساوم ويعمل ويبيع الامة ولو مؤقتاً مع خيار الفسخ.
كيف يمكن للأمة أن تدرك الفرق بين بيع بلا خيار الفسخ وبين بيع يكون فيه خيار الفسخ، إن البيع على أي حال هو البيع وأمير المؤمنين (ع) كانت مهمته الكبرى هي أن يحافظ على وجود الأمة ويحصنها ضد أن تتنازل عن وجودها، عملية التنازل عن الوجود كان يمثلها معاوية بن أبي سفيان، وجذور معاوية في تاريخ الاسلام، هذا الذي عبر عنه وقتئذ، بأن الاسلام أصبح هرقلية وكسروية الهرقلية والكسروية كان يكنى بها عن تنازل الامة عن وجودها، يعني تحولت التجربة الاسلامية من أمة تحمل رسالة إلى ملك وسلطان يحمل هذه الرسالة بمستوى وعيه لهذه الرسالة واخلاصه لهذه الرسالة سلباً وايجاباً، هذه المؤامرة الكبيرة التي نجحت بعد هذا والتي تُوجت بكل المآسي والمحن والكوارث التي كانت ولاتزال إلى يومنا هذا هي نتيجة تنازل الامة عن وجودها، نتيجة خداع الامة، وتحجيمها او الضغط عليها حتى تنازلت عن وجودها في عقد لا يقبل الفسخ...
أمير المؤمنين (ع) كان يريد وقد أدرك الامة في اللحظات الاخيرة من وجودها المستقل، أن يمدد هذا الوجود المستقل أن يشعر الأمة بأنها ليست سلعة تباع وتشترى، أنها ليست شيئاً يُساوَم عليها، اذن كيف يشعرها بأنها ليست سلعة تباع وتشترى، إذا كان هو، فرضاً، يبيعها ويشتريها، ولو في عقود قابلة للفسخ؟
كيف يستطيع أن يشعر الأمة بأنها لا تباع ولا تشترى، ليست وفق رغبات السلاطين وليست وفق رغبات الحكام، وانما تمثل خلافة الله في الارض، لأجل أن تحقق أهداف هذه الخلافة في الارض؟
كيف يمكن أن يُفهم الامة ذلك اذا كان هو يبيع قطاعات من هذه الامة لحكام فجرة من قبيل معاوية بن أبي سفيان، في سبيل أن يسترجع هذه القطاعات بعد ذلك؟
بطبيعة الحال كان هذا معناه مواكبة المؤامرة التي كان روح العصر يتفجر او يتمخض عن مثلها والتي كان أمير المؤمنين (ع) واقفاً لأجل أن يحبطها وينقذ الامة منها، وحينئذ لايمكن بحال من الاحوال أن نفترض أن الامام (ع) يساهم في حبك هذه المؤامرة.
النقطة الرابعة والاخيرة: هي أن علي بن أبي طالب (ع) لم يكن يتعامل مع الفترة الزمنية القصيرة التي عاشها فقط، وانما كان يحمل هدفاً أكبر من ذلك، أمير المؤمنين (ع) كان يحس بأنه قد أدرك المريض وهو في آخر مرضه، قد أدركه حيث لا ينفع العلاج ولكنه كان يفكر في ابعاد أطول وأوسع للمعركة.
لم يكن يفكّر فقط في الفترة الزمنية التي عاشها وانما كان يفكر على مستوى اخر أوسع وأعمق، هذا المستوى يعني أن الاسلام كان بحاجة إلى أن تقدم له في خضم الانحراف بين يدي الأمة أطروحة واضحة صريحة نقية لا شائبة فيها ولا غموض، لا التواء فيها ولا تعقيد، لا مساومة فيها ولا نفاق ولا تدجيل.
تقويم الإنحراف
لماذا..؟ لأن الأمة كتب عليها أن تعيش الحكم الاسلامي المنحرف منذ نجحت السقيفة في أهدافها، والاسلام الذي تعطيه السقيفة امتدادها التاريخي هذا الاسلام إسلام مشوه ممسوخ إسلام لا يحفظ الصلة العاطفية فضلاً عن الفكرية بين الأمة ككل وبين الرسالة، بين أشرف رسالات السماء وأشرف أمم الارض لا يمكن أن يحفظ هذه الصلة العاطفية والروحية بين الأمة الإسلامية وبين الاسلام الذي هو على وزن الاسلام المعطى لهارون الرشيد، ولمعاوية بن أبي سفيان، ولعبد الملك بن مروان، هذا الاسلام لا يمكن أن يحفظ هذه الصلة فكان لا بد لحفظ هذه الصلة بين جماهير الامة الاسلامية وبين هذه الرسالة، من إعطاء صورة واضحة محدودة للاسلام وهذه الصورة اعطيت نظرياً على مستوى ثقافة أهل البيت (ع) وأعطيت عملياً على مستوى تجربة الامام (ع) فكان الامام (ع) في تأكيده على العناوين الاولية في التشريع الاسلامي، وفي تأكيده على الخطوط الرئيسية في الصيغة الاسلامية للحياة، يريد أن يقدّم المنهاج الاسلامي واضحاً غير ملوّث بلوثة الانحراف التي كتبت على تاريخ الاسلام مدة طويلة من الزمن وكان لا بد لكي يتحقق هذا الهدف من أن يعطي هذه التجربة بهذا النوع من الصفاء والنقاء والوضوح دون أن يعمل ما اسميناه بقوانين باب التزاحم...
صمود الإمام(ع)
وهكذا كان وظل الامام (ع) صامداً مواجهاً لكل المؤامرات التي كانت الامة تساهم في صنعها وفي حياكتها على اساس جهلها وعدم وعيها وعدم شعورها بالدور الحقيقي الذي يمارسه عليه السلام في سبيل حماية وجودها من الضياع وحماية كرامتها من أن تتحول إلى سلعة تباع وتشترى حتى خر صريعاً على يد شخص من هذه الامة التي ضحى في سبيلها... خر صريعاً في المسجد فقال: "فزت ورب الكعبة"...
لنحاسب علياً وهو في آخر لحظة من لحظات حياته (ع) حينما قال: فزت ورب الكعبة.
هل كان علي أسعد إنسان أو أتعس إنسان..؟
هنا مقياسان:
فتارة نقيس علياً(ع) بمقياس الدنيا.
وأخرى نقيس علياً بمقاييس الله سبحانه وتعالى...
علي(ع) ومقاييس أهل الدنيا
لو كان قد عمل كل عمله للدنيا، لنفسه، فهو أتعس إنسان... ومن أتعس من علي(ع)، حسب مقاييس أهل الدنيا، إذ بنى كل ما بنى وأقام كل ما أقام من صرح ثم حرم من كل هذا البناء ومن كل هذه الصروح؟
هذا الاسلام الشامخ العظيم الذي أنار الدنيا شرقاً وغرباً هذا الاسلام بني بدم علي(ع) بني بخفقات قلب علي(ع) بني بآلام علي(ع)، بني بنار علي(ع)، كان علي هو شريك البناء بكل محن هذا البناء بكل آلام هذا البناء وفي كل مآسي هذا البناء أي لحظة محرجة وُجدت بتاريخ هذا البناء لم يكن علي (ع) هو الانسان الوحيد الذي يتجه إليه نظر البنّاء الأول(ص) ونظر المسلمين جميعاً لأجل إنقاذ عملية البناء، إذاً فعلي(ع) كان هو المضحي دائماً في سبيل هذا البناء، هو الشخص الذي أعطى ولم يبخل، الذي ضحى ولم يتردد الذي كان يضع دمه على كفه في كل غزوة في كل معركة، في كل تصعيد جديد لهذا العمل الاسلامي الراسخ العظيم...
اذن شيدت كل هذه المنابر بيد علي (ع) واتسعت ارجاء هذه المملكة بسيف علي(ع).
جهاد علي كان هو القاعدة لقيام هذه الدولة الواسعة الاطراف لكن ماذا حصّل علي(ع) من كل هذا البناء في مقاييس الدنيا، اذا اعتمدنا مقاييس الدنيا..؟
لو كان علي (ع) يعمل لنفسه فماذا حصّل علي (ع) من كل هذه التضحيات من كل هذه البطولات؟ ماذا حصل غير الحرمان الطويل الطويل، غير الاقصاء عن حقه الطبيعي بقطع النظر عن نص او تعيين من الله سبحانه وتعالى؟ كان حقه الطبيعي أن يحكم بعد أن يموت النبي (ص) لأنه الشخص الثاني عطاء للدعوة وتضحية في سبيلها .
أُقصي من حقه الطبيعي، قاسى ألوان الحرمان، أنكرت عليه كل امتيازاته، معاوية بن أبي سفيان هو الذي يقول لمحمد بن ابي بكر، كان علي كالنجم في السماء في أيام رسول الله(ص) ولكن أباك والفاروق إبتزا حقه وأخذا أمره، وبعد هذا نحن شعرنا أن بإمكاننا أن ندخل في ميدان المساومة مع هذا الرجل!!
إذاً فعلي(ع) حينما واجهه عبد الرحمن بن ملجم بتلك الضربة القاتلة على رأسه الشريف، كان ماضيه كله ماضي حرمان والم وخسارة لم يكن قد حصل على شيء منه، لكن الأشخاص الذين، حسب مقاييس أهل الدنيا، حصلوا على شيء عظيم من هذا البناء هم أولئك الذين لم يساهموا في هذا البناء هم أولئك الذي كانوا على استعداد دائم للتنازل عن مستوى هذا البناء في أية لحظة من اللحظات أولئك حصلوا على مكاسب عريضة من هذا البناء أما هذا الإمام الممتحن الذي لم يفر لحظة الذي لم يتلكأ في أي آن، الذي لم يتلعثم في قول او عمل، هذا الامام العظيم لم يحصل على أي مكسب من هذا البناء بأي شكل من الأشكال انظروا إن هذه الحادثة يمكن أن تفجر قلب الانسان، وما الانسان غير العامل، حينما ينظر في حال عامل على هذا الترتيب يتفجر قلبه ألماً لحال هذا العامل المسكين، لحال هذا العامل التعيس، الذي بنى فغير الدنيا ثم لم يستفد من هذا التغيير ثم تعالوا انظروا إلى المستقبل الذي ينظره الامام علي (ع) بعين الغيب هذا ماضيه، فماذا عن مستقبله؟
كان يرى بعين الغيب أن عدوه اللدود سوف يطأ منبره، سوف يطأ مسجده، سوف ينتهك كل الحرمات والكرامات التي ضحى وجاهد في سبيلها سوف يستقل بهذه المنابر التي شيدت بجهاده وجهوده ودمه، سوف يستغلها في لعنه وسبه عشرات السنين هو الذي كان يقول لبعض الخلّص من اصحابه انه سوف يعرض عليكم سبي ولعني والبراءة مني أما السب فسبوني واما البراءة مني فلا تتبرؤوا مني.
إذاً فهو كان ينظر بعين الغيب إلى المستقبل بهذه النظرة لم يكن يرى في المستقبل نوعاً من التكذيب يتدارك به هذا الحرمان، الاجيال التي سوف تأتي بعد أن يفارق الدنيا، كانت ضحية مؤامرة أموية جعلتها لا تدرك أبداً دور الامام علي (ع) في بناء الاسلام.
هذا هو حرمان الماضي وهذا هو حرمان المستقبل.
علي(ع) والآخرة
وبالرغم من كل هذا قال (ع): فزت ورب الكعبة، حينما أدرك انها اللحظة الاخيرة وانه انتهى خط جهاده وهو في قمة جهاده وانتهى خط محنته وهو في قمة صلاته وعبادته قال: فزت ورب الكعبة، لأنه لم يكن إنسان الدنيا ولو كان إنسان الدنيا لكان اتعس انسان على الاطلاق لو كان انسان الدنيا لكان قلبه يتفجر الماً وكان قلبه ينفجر حسرة ولكنه لم يكن انسان الدنيا، لو كان انسان الدنيا فسوف يندم ندماً لا ينفعه معه شيء، لانه بنى شيئاً انقلب عليه ليحطمه أي شيء يمكن أن ينفع هذا الشخص؟ اذا فرضنا أن شخصاً اراد أن يربي شخصاً آخر لكي يخدمه فلما ربى ذاك الشخص ونمى واكتمل رشده جاء ليقتله ماذا ينفع هذا الشخص ندمه غير أن يموت؟
هذا الإمام العظيم قال: فزت ورب الكعبة، كان أسعد إنسان ولم يكن أشقى إنسان لأنه كان يعيش لهدفه، ولم يكن يعيش للدنيا، كان يعيش لهدفه ولم يكن يعيش لمكاسبه ولم يتردد لحظة وهو في قمة المآسي والمحن، في صحة ماضيه، وفي صحة حاضره، وفي أنه أدى دوره الذي كان يجب عليه.
كونوا مع علي(ع)
هذه هي العبرة التي يجب أن نأخذها.
نحن يجب أن نستشعر دائماً أن السعادة في عمل العامل لا تنبع من المكاسب التي تعود إليه نتيجة لهذا العمل.
يجب أن لا نقِّيم سعادة العامل على أساس كهذا لأننا لو قيّمناه على هذا الأساس فقد يكون حظنا كحظ هذا الامام الذي بنى إسلاماً ووجّه أمة، ثم بعد هذا انقلبت عليه هذه الأمة لتلعنه على المنابر ألف شهر.
نحن يجب أن لا نجعل مقياس سعادة العامل في عمله هو المكاسب والفوائد التي تنجم عن هذا العمل وإنما رضى الله سبحانه وتعالى وأحقية العمل، كون العمل حقاً وكفى، وحينئذ سوف نكون سعداء سواء أثر عملنا أو لم يؤثر، سواء قدر الناس عملنا أم لم يقدروا، سواء رمونا باللعن او بالحجارة على أي حال سوف نستقبل الله سبحانه وتعالى ونحن سعداء لأننا أدينا حقنا وواجبنا وهناك من لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، لئن ضيع هؤلاء السعادة ولئن ضيعوا فهمهم، ولئن استولى عليهم الغباء فخلطوا بين علي(ع) ومعاوية، لئن انصرفوا عن علي وهم في قمة الحاجة إليه فهناك من لا يختلط عليه الحال، من يميز بين علي(ع) وبين أي شخص آخر، هناك من قد أعطى لعلي(ع) نتيجة لعمل واحد من أعماله مثل عبادة الثقلين.
ذاك هو الحق وتلك هي السعادة.
اللهم احشرنا معه واجعلنا من شيعته والمترسمين خطاه والحمد للّه.
تعليق