بسم الله الرحمن الرحيم و الحمدلله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و اله الطاهرين
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
إن التاريخ بحاجة إلى كتابة جديدة. وأحداثه في حاجة إلى أن يتم تجريدها من السياسة التي علقت بها. و في حاجة إلى أن يتم تجريدها من أهواء المؤرخين ونزعاتهم.
وشخصية صلاح الدين في حاجة إلى قراءة جديدة. كما أن هناك شخصيات تاريخية كثيرة في حاجة إلى إعادة قراءة.
وصلاح الدين هو واحد من أولئك الذين غطت السيوف على انحرافاتهم وحجبت عن أعيننا مساوئهم وغمرت بالدماء التي أسالتها جسد الحقيقة.
إن السيوف لم تشهر في كل حين ابتغاء مرضاة الله. و أن أكثر السيوف التي شهرت في الإسلام كانت في سبيل السياسة. والقليل منها شهر في سبيل الله.
والتاريخ يحدثنا عن قادة كبار بل وصحابة شهروا سيوفهم وأبلوا بلاء حسنا من أجل الحصول على مغنم أو حكم و لاية كثيرة الخراج.
إننا في حاجة ماسة إلى التحرر من أوهام كثيرة حولها التاريخ إلى حقائق. في حاجة إلى الوعي بأحداث عومتها السياسة وظللتها السيوف.
لقد قامت دول بالحق على حساب دول قامت بالباطل. و قامت دول بالباطل على حساب دول قامت بالحق.
و بين قيام الدول وسقوطها تضيع حقائق وتبرز أباطيل و تموت عقائد وتحيا مذاهب ويذهب فقهاء ويأتي أدعياء.
ومع سقوط الفاطميين و قيام الأيوبيين غابت حقائق وضاعت عقائد وارتفعت رايات وطويت رايات.
مع قيام الأيوبيين دخلت مصر مرحلة جديدة في ظل عقيدة جديدة ونظام حكم جديد فرض عليها فرضا.
و منذ ذلك الحين استبدلت عقيدة الشيعة بعقيدة السنة.
واستبدلت الأسرة الفاطمية بالأسرة الأيوبية.
واستبدل الجامع الأزهر بالمدارس الشافعية والمالكية والأشعرية.
إنقلاب صلاح الدين في مصر
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تم ذلك في هدوء دون أي صعوبات.؟
لقد دخل صلاح الدين مصر في عام 564 هـ واستولى على الحكم فيها بعد وفاة العاضد عام 567 هـ و بين هاتين الفترتين كانت هناك مآس ودماء.
يروي المقريزي: أرسل العاضد يستصرخ نور الدين محمود زنكي ويطالبه إنقاذ المسلمين من الفرنجة - بعد أن تحالف معهم شاور - فجهز أسد الدين شيركوه ومعه صلاح الدين عسكرا كثيرا وسيرهم إلى مصر. ونزل شيركوه القاهرة - بعد قتل شاور - فخلع عليه العاضد وأكرمه وتقلد شيركوه وزارة العاضد و قام بالدولة شهرين وخمسة أيام و مات.
وفوض العاضد الوزارة لصلاح الدين يوسف بن أيوب فساس الأمور ودبر
لنفسه فبذل الأموال وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال. فلم يزل أمره في ازدياد و أمر العاضد في نقصان.
وأقطع أصحابه البلاد. وأبعد أهل مصر وأضعفهم. واستبد بالأمور و منع العاضد من التصرف. حتى تبين للناس ما يريده من إزالة الدولة. وتتبع جند العاضد وأخذ دور الأمراء وإقصاعاتهم فوهبها لأصحابه. و بعث إلى أبيه وإخوته. وأهله فقدموا من الشام عليه.
فلما كان في سنة ست وستين أبطل المكوس من ديار مصر. وهدم دار المعونة بمصر وعمرها مدرسة للشافعية. و أنشأ مدرسة أخرى للمالكية. وعزل قضاة مصر الشيعة وقلد القضاء صدر الدين عبد الملك بن درباس الشافعي. وجعل إليه الحكم في إقليم مصر كله. وعزل سائر القضاة - في الأقاليم - واستناب قضاة شافعية. فتظاهر الناس من تلك السنة بمذهب مالك والشافعي. واختفى مذهب الشيعة إلى أن نسي من مصر. ثم قبض على سائر من بقي من أمراء الدولة و أنزل أصحابه في دورهم في ليلة واحدة. فأصبح البلد من العويل والبكاء ما يذهل.
وتحكم أصحابه في البلد بأيديهم وأخرج أقطاعات سائر المصريين لأصحابه.
وقبض على القصور وسلمها إلى الطواش بهاء الدين قراقوش الأسدي وجعله زمامها. وصار العاضد معتقلا تحت يده. وأبطل من الآذان حي على خير العمل.
وأزال شعار الدولة وخطب لخليفة بغداد 1.
هذه هي ملامح الإنقلاب الأيوبي في مصر. ذلك الإنقلاب الذي باركه الفقهاء والمؤرخون. لكونه أرحامهم من خصومهم الشيعة. و أن كان لم يحقق شيئا للإسلام و أنما حقق النفوذ والتمكن لآل أيوب.
وهو من وجهة نظر هؤلاء الفقهاء والمؤرخون يعتبر هذا الإنقلاب نصرا للإسلام باعتبار أن مذهب أهل السنة الذي يمثله صلاح الدين هو الإسلام الحق.
أما مذهب الشيعة فهو مذهب الزنادقة الباطنية.
و قد عبر كثير من الفقهاء المؤرخين عن فرحتهم بسقوط دولة الفاطميين وشاركوا العباسيين هذه الفرحة التاريخية بانهيار صرح الشيعة الذي أسهموا جميعا في هدمه.
يروي ابن الأثير: كتب نور الدين إلى صلاح الدين يأمره بقطع الخطبة للعاضد وإقامة الخطبة للمستضئ العباسي. فامتنع صلاح الدين واعتذر بالخوف من قيام الديار المصرية عليهم لميلهم إلى العلويين. و كان صلاح الدين يكره قطع الخطبة ويريد بقاءهم (بني فاطمة) خوفا من نور الدين فإنه كان يخاف أن يدخل إلى الديار المصرية يأخذها منه فكان يريد أن يكون العاضد معه. حتى إن قصده نور الدين امتنع به وبأهل مصر عليه. فلما اعتذر لنور الدين بذلك لم يقبل عذره وألح عليه بقطع خطبته وألزمه إلزاما لا فسحة له في مخالفته. واتفق أن مرض العاضد مرضا شديدا واستشار صلاح الدين أمراءه فاختلفوا و كان أن قام أحد الفقهاء ويلقب بالأمير العالم وصعد المنبر في يوم الجمعة الأولى من محرم قبل الخطيب ودعا للمستضئ. فلم ينتطح فيه عنزان وكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر ففعلوا.
و لما مات العاضد جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على القصر و ما فيه.
ووصلت البشارة إلى بغداد بذلك فضربت البشائر بها عدة أيام وزينت بغداد وظهر من الفرح والجذل ما لا حد له.
وسيرت الخلع من بغداد إلى نور الدين وصلاح الدين وللخطباء بالديار المصرية وأرسلت معها الرايات السود رايات العباسيين 2. ويروي ابن إياس عن أسباب موت العاضد قوله: فلما قطع الخطبة عن اسمه حصل له قهر عظيم وصار مع صلاح الدين كالمحجور عليه. و لا يتصرف في الأمور إلا بعد مشورة صلاح الدين. فما أطاق العاضد ذلك. فقيل إنه ابتلع فص ألماس فمات من يومه 3.
والعجيب أن صلاح الدين وهو المتسبب الأول في موت العاضد - جلس للعزاء فيه ومشى في جنازته 4.
استئصال الشيعة
بعد أن أسقط صلاح الدين حكم الفاطميين وأمسك بزمام الأمور في مصر استدار نحو جماهير الشيعة والمجتمع المصري ليمحو الشيعة من ساحته.
لقد كان من الممكن لصلاح الدين أن يترك الجماهير على عقيدتها ما دام قد سيطر على البلاد واعتقل العائلة الفاطمية. إلا أنه أبي وأصر على أن يستأصل الشيعة والتشيع من مصر. فهل كان موقفه المتشدد هذا تجاه الشيعة نابعا من عقيدته السنية. أم كانت له دوافعه السياسية.؟
يحدثنا التاريخ أن صلاح الدين كان شافعيا. وهنا تبرز صفته المذهبية بصورة تدعونا إلى تفسير موقفه تجاه الشيعة. على أساس أنه حماية للعقيدة كما يحلو للبعض من المؤرخين والفقهاء أن يصور الأمر على أنه صراع بين الحق والباطل.
الحق الذي مثله صلاح الدين وأقامه.
والباطل الذي مثله الفاطميين و سقطوا.
والحق أن القضية كما هي واضحة من رواية ابن الأثير السابقة لا صلة لها بالدين و أنما هي قضية سياسية في المقام الأول الهدف منها تثبيت حكم صلاح الدين. في مواجهة خطر داهم يتهدده وهو خطر الجماهير الشيعية المتربصة به.
من هنا أخذ صلاح الدين الشيعة بجريرة الفاطميين و لو كان منصفا لاكتفى بتصفية الفاطميين كحكم وسلطة. لكنه تجاوز هذا الحد إلى مطاردة المذهب ذاته وتصفية أتباعه والبطش بهم بكل الوسائل والسبل مما دفع بالشيعة الذين استفزتهم هذه الممارسات العدو أنية إلى الثورة في وجهه والتربص به لقتله.
و لو كان الشيعة وقتئذ أقلية لما تطلب الأمر من صلاح الدين أن يتطرف في مواجهتهم إلى هذا الحد.
و لو كان الشيعة لا وزن لهم و لا فاعلية لما كان هناك مبرر لاستئصالهم.
و لو كان الوجود الإعلامي للشيعة ضعيفا لما تطلب الأمر منه أن يقوم بدعم المدارس الشافعية والمالكية ويغدق عليها العطاء ويفرضها فرضا على المصريين 5.
ومما يثير التساؤل والتعجب أن هذا البطش و هذه القسوة التي واجه بها صلاح الدين شعب مصر - و لا أقول شيعة مصر - و قد ترك عليها تابعة قراقوش الذي يضرب به المثل إلى اليوم في مصر - هذا البطش و هذه القسوة يقابلها تسامح وتساهل مع أعداء الإسلام والمسلمين من الصليبيين يكاد يخرج عن حدود الإسلام.
وسبحان الله رغم ما فعل صلاح الدين في مصر لا تجد له ذكر فيها بينما الفاطميون الذين قضى عليهم لا زال ذكرهم على الألسن إلى اليوم. لا زال الناس يذكرون المعز لدين الله الفاطمي وجوهر الصقلي والحاكم بأمر الله وهناك شارع باسم المعز في قلب القاهرة القديمة وكذلك هناك شارع باسم جوهر الصقلي.
و لا زال جامع الأنور على باب الفتوح الذي بناه الحاكم قائما. و لا زال مسجد الصالح طلائع خارج باب زويلة موجودا ويطلق عليه العامة مسجد طلائع. كذلك مسجد الأقمر الذي بناه الوزير أبو عبد الله الأقمر وزير الآمر بأحكام الله.
حتى القلعة التي بناها وأكملها أو لاده استولى عليها محمد علي وبنى عليها مسجده الضخم الذي غطى عليها وسميت القلعة باسمه. وأصبح العامة يطلقون عليها قلعة محمد علي.
وتروي لنا كتب التاريخ أن الصليبيين كانوا يخرجون من بيت المقدس بعربات محملة بالنفائس والجواهر والذهب ومعهم أطفالهم ونسائهم ومتعلقاتهم وكذلك اليهود. وهم حين دخلوا بيت المقدس جعلوا الدماء تجري فيها كالأنهار و لم يرحموا طفلا و لا شيخا و لا امرأة. فعل هذا صلاح الدين مع الصليبيين واليهود لكنه لم يفعله مع المسلمين من الشيعة. فقد بطش بهم البطشة الكبرى وفعل بهم ما تقشعر له الأبدان 6.
يتبع....
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
إن التاريخ بحاجة إلى كتابة جديدة. وأحداثه في حاجة إلى أن يتم تجريدها من السياسة التي علقت بها. و في حاجة إلى أن يتم تجريدها من أهواء المؤرخين ونزعاتهم.
وشخصية صلاح الدين في حاجة إلى قراءة جديدة. كما أن هناك شخصيات تاريخية كثيرة في حاجة إلى إعادة قراءة.
وصلاح الدين هو واحد من أولئك الذين غطت السيوف على انحرافاتهم وحجبت عن أعيننا مساوئهم وغمرت بالدماء التي أسالتها جسد الحقيقة.
إن السيوف لم تشهر في كل حين ابتغاء مرضاة الله. و أن أكثر السيوف التي شهرت في الإسلام كانت في سبيل السياسة. والقليل منها شهر في سبيل الله.
والتاريخ يحدثنا عن قادة كبار بل وصحابة شهروا سيوفهم وأبلوا بلاء حسنا من أجل الحصول على مغنم أو حكم و لاية كثيرة الخراج.
إننا في حاجة ماسة إلى التحرر من أوهام كثيرة حولها التاريخ إلى حقائق. في حاجة إلى الوعي بأحداث عومتها السياسة وظللتها السيوف.
لقد قامت دول بالحق على حساب دول قامت بالباطل. و قامت دول بالباطل على حساب دول قامت بالحق.
و بين قيام الدول وسقوطها تضيع حقائق وتبرز أباطيل و تموت عقائد وتحيا مذاهب ويذهب فقهاء ويأتي أدعياء.
ومع سقوط الفاطميين و قيام الأيوبيين غابت حقائق وضاعت عقائد وارتفعت رايات وطويت رايات.
مع قيام الأيوبيين دخلت مصر مرحلة جديدة في ظل عقيدة جديدة ونظام حكم جديد فرض عليها فرضا.
و منذ ذلك الحين استبدلت عقيدة الشيعة بعقيدة السنة.
واستبدلت الأسرة الفاطمية بالأسرة الأيوبية.
واستبدل الجامع الأزهر بالمدارس الشافعية والمالكية والأشعرية.
إنقلاب صلاح الدين في مصر
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تم ذلك في هدوء دون أي صعوبات.؟
لقد دخل صلاح الدين مصر في عام 564 هـ واستولى على الحكم فيها بعد وفاة العاضد عام 567 هـ و بين هاتين الفترتين كانت هناك مآس ودماء.
يروي المقريزي: أرسل العاضد يستصرخ نور الدين محمود زنكي ويطالبه إنقاذ المسلمين من الفرنجة - بعد أن تحالف معهم شاور - فجهز أسد الدين شيركوه ومعه صلاح الدين عسكرا كثيرا وسيرهم إلى مصر. ونزل شيركوه القاهرة - بعد قتل شاور - فخلع عليه العاضد وأكرمه وتقلد شيركوه وزارة العاضد و قام بالدولة شهرين وخمسة أيام و مات.
وفوض العاضد الوزارة لصلاح الدين يوسف بن أيوب فساس الأمور ودبر
لنفسه فبذل الأموال وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال. فلم يزل أمره في ازدياد و أمر العاضد في نقصان.
وأقطع أصحابه البلاد. وأبعد أهل مصر وأضعفهم. واستبد بالأمور و منع العاضد من التصرف. حتى تبين للناس ما يريده من إزالة الدولة. وتتبع جند العاضد وأخذ دور الأمراء وإقصاعاتهم فوهبها لأصحابه. و بعث إلى أبيه وإخوته. وأهله فقدموا من الشام عليه.
فلما كان في سنة ست وستين أبطل المكوس من ديار مصر. وهدم دار المعونة بمصر وعمرها مدرسة للشافعية. و أنشأ مدرسة أخرى للمالكية. وعزل قضاة مصر الشيعة وقلد القضاء صدر الدين عبد الملك بن درباس الشافعي. وجعل إليه الحكم في إقليم مصر كله. وعزل سائر القضاة - في الأقاليم - واستناب قضاة شافعية. فتظاهر الناس من تلك السنة بمذهب مالك والشافعي. واختفى مذهب الشيعة إلى أن نسي من مصر. ثم قبض على سائر من بقي من أمراء الدولة و أنزل أصحابه في دورهم في ليلة واحدة. فأصبح البلد من العويل والبكاء ما يذهل.
وتحكم أصحابه في البلد بأيديهم وأخرج أقطاعات سائر المصريين لأصحابه.
وقبض على القصور وسلمها إلى الطواش بهاء الدين قراقوش الأسدي وجعله زمامها. وصار العاضد معتقلا تحت يده. وأبطل من الآذان حي على خير العمل.
وأزال شعار الدولة وخطب لخليفة بغداد 1.
هذه هي ملامح الإنقلاب الأيوبي في مصر. ذلك الإنقلاب الذي باركه الفقهاء والمؤرخون. لكونه أرحامهم من خصومهم الشيعة. و أن كان لم يحقق شيئا للإسلام و أنما حقق النفوذ والتمكن لآل أيوب.
وهو من وجهة نظر هؤلاء الفقهاء والمؤرخون يعتبر هذا الإنقلاب نصرا للإسلام باعتبار أن مذهب أهل السنة الذي يمثله صلاح الدين هو الإسلام الحق.
أما مذهب الشيعة فهو مذهب الزنادقة الباطنية.
و قد عبر كثير من الفقهاء المؤرخين عن فرحتهم بسقوط دولة الفاطميين وشاركوا العباسيين هذه الفرحة التاريخية بانهيار صرح الشيعة الذي أسهموا جميعا في هدمه.
يروي ابن الأثير: كتب نور الدين إلى صلاح الدين يأمره بقطع الخطبة للعاضد وإقامة الخطبة للمستضئ العباسي. فامتنع صلاح الدين واعتذر بالخوف من قيام الديار المصرية عليهم لميلهم إلى العلويين. و كان صلاح الدين يكره قطع الخطبة ويريد بقاءهم (بني فاطمة) خوفا من نور الدين فإنه كان يخاف أن يدخل إلى الديار المصرية يأخذها منه فكان يريد أن يكون العاضد معه. حتى إن قصده نور الدين امتنع به وبأهل مصر عليه. فلما اعتذر لنور الدين بذلك لم يقبل عذره وألح عليه بقطع خطبته وألزمه إلزاما لا فسحة له في مخالفته. واتفق أن مرض العاضد مرضا شديدا واستشار صلاح الدين أمراءه فاختلفوا و كان أن قام أحد الفقهاء ويلقب بالأمير العالم وصعد المنبر في يوم الجمعة الأولى من محرم قبل الخطيب ودعا للمستضئ. فلم ينتطح فيه عنزان وكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر ففعلوا.
و لما مات العاضد جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على القصر و ما فيه.
ووصلت البشارة إلى بغداد بذلك فضربت البشائر بها عدة أيام وزينت بغداد وظهر من الفرح والجذل ما لا حد له.
وسيرت الخلع من بغداد إلى نور الدين وصلاح الدين وللخطباء بالديار المصرية وأرسلت معها الرايات السود رايات العباسيين 2. ويروي ابن إياس عن أسباب موت العاضد قوله: فلما قطع الخطبة عن اسمه حصل له قهر عظيم وصار مع صلاح الدين كالمحجور عليه. و لا يتصرف في الأمور إلا بعد مشورة صلاح الدين. فما أطاق العاضد ذلك. فقيل إنه ابتلع فص ألماس فمات من يومه 3.
والعجيب أن صلاح الدين وهو المتسبب الأول في موت العاضد - جلس للعزاء فيه ومشى في جنازته 4.
استئصال الشيعة
بعد أن أسقط صلاح الدين حكم الفاطميين وأمسك بزمام الأمور في مصر استدار نحو جماهير الشيعة والمجتمع المصري ليمحو الشيعة من ساحته.
لقد كان من الممكن لصلاح الدين أن يترك الجماهير على عقيدتها ما دام قد سيطر على البلاد واعتقل العائلة الفاطمية. إلا أنه أبي وأصر على أن يستأصل الشيعة والتشيع من مصر. فهل كان موقفه المتشدد هذا تجاه الشيعة نابعا من عقيدته السنية. أم كانت له دوافعه السياسية.؟
يحدثنا التاريخ أن صلاح الدين كان شافعيا. وهنا تبرز صفته المذهبية بصورة تدعونا إلى تفسير موقفه تجاه الشيعة. على أساس أنه حماية للعقيدة كما يحلو للبعض من المؤرخين والفقهاء أن يصور الأمر على أنه صراع بين الحق والباطل.
الحق الذي مثله صلاح الدين وأقامه.
والباطل الذي مثله الفاطميين و سقطوا.
والحق أن القضية كما هي واضحة من رواية ابن الأثير السابقة لا صلة لها بالدين و أنما هي قضية سياسية في المقام الأول الهدف منها تثبيت حكم صلاح الدين. في مواجهة خطر داهم يتهدده وهو خطر الجماهير الشيعية المتربصة به.
من هنا أخذ صلاح الدين الشيعة بجريرة الفاطميين و لو كان منصفا لاكتفى بتصفية الفاطميين كحكم وسلطة. لكنه تجاوز هذا الحد إلى مطاردة المذهب ذاته وتصفية أتباعه والبطش بهم بكل الوسائل والسبل مما دفع بالشيعة الذين استفزتهم هذه الممارسات العدو أنية إلى الثورة في وجهه والتربص به لقتله.
و لو كان الشيعة وقتئذ أقلية لما تطلب الأمر من صلاح الدين أن يتطرف في مواجهتهم إلى هذا الحد.
و لو كان الشيعة لا وزن لهم و لا فاعلية لما كان هناك مبرر لاستئصالهم.
و لو كان الوجود الإعلامي للشيعة ضعيفا لما تطلب الأمر منه أن يقوم بدعم المدارس الشافعية والمالكية ويغدق عليها العطاء ويفرضها فرضا على المصريين 5.
ومما يثير التساؤل والتعجب أن هذا البطش و هذه القسوة التي واجه بها صلاح الدين شعب مصر - و لا أقول شيعة مصر - و قد ترك عليها تابعة قراقوش الذي يضرب به المثل إلى اليوم في مصر - هذا البطش و هذه القسوة يقابلها تسامح وتساهل مع أعداء الإسلام والمسلمين من الصليبيين يكاد يخرج عن حدود الإسلام.
وسبحان الله رغم ما فعل صلاح الدين في مصر لا تجد له ذكر فيها بينما الفاطميون الذين قضى عليهم لا زال ذكرهم على الألسن إلى اليوم. لا زال الناس يذكرون المعز لدين الله الفاطمي وجوهر الصقلي والحاكم بأمر الله وهناك شارع باسم المعز في قلب القاهرة القديمة وكذلك هناك شارع باسم جوهر الصقلي.
و لا زال جامع الأنور على باب الفتوح الذي بناه الحاكم قائما. و لا زال مسجد الصالح طلائع خارج باب زويلة موجودا ويطلق عليه العامة مسجد طلائع. كذلك مسجد الأقمر الذي بناه الوزير أبو عبد الله الأقمر وزير الآمر بأحكام الله.
حتى القلعة التي بناها وأكملها أو لاده استولى عليها محمد علي وبنى عليها مسجده الضخم الذي غطى عليها وسميت القلعة باسمه. وأصبح العامة يطلقون عليها قلعة محمد علي.
وتروي لنا كتب التاريخ أن الصليبيين كانوا يخرجون من بيت المقدس بعربات محملة بالنفائس والجواهر والذهب ومعهم أطفالهم ونسائهم ومتعلقاتهم وكذلك اليهود. وهم حين دخلوا بيت المقدس جعلوا الدماء تجري فيها كالأنهار و لم يرحموا طفلا و لا شيخا و لا امرأة. فعل هذا صلاح الدين مع الصليبيين واليهود لكنه لم يفعله مع المسلمين من الشيعة. فقد بطش بهم البطشة الكبرى وفعل بهم ما تقشعر له الأبدان 6.
يتبع....
تعليق