بسم الله الرحمن الرحيم
يعتقدُ الشيعةُ أنّ عقيدةَ الفناء في الذات الإلهية، ووحدة الوجود والموجود، عقيدةٌ فاسدةٌ تضاهي قول النصارى في عيسى ابن مريم بل تزيد عليه كثيراً.
رغم ذلك يكثر المتصوِّفة والعرفاء من السعي لتوجيه هذه العقيدة، وقد ناقشنا جملةً من أقوالهم في كتاب (عرفان آل محمد عليهم السلام).
وههنا شبهةٌ تُطرح مفادها:
أن الذات التي يقصدها المتصوّفة والعرفاء عند حديثهم عن معرفة الذات أو الاندكاك والفناء فيها هي (الذات في مقام الواحدية لا مقام الأحدية).
وبناءً على ذلك، فإن كلامَ المتصوفة والعرفاء صحيحٌ، والإشكالُ عليهم ناشئ من عدم فهم مُرادهم.
والجواب على ذلك:
أولاً: ما هو المراد من مقام الواحدية ومقام الأحدية؟
لقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله:
يَا أَعْرَابِيُّ إِنَّ القَوْلَ فِي أَنَّ الله وَاحِدٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، فَوَجْهَانِ مِنْهَا لَا يَجُوزَانِ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وَوَجْهَانِ يَثْبُتَانِ فِيهِ:
.. وَأَمَّا الوَجْهَانِ اللَّذَانِ يَثْبُتَانِ فِيهِ:
1. فَقَوْلُ القَائِلِ: هُوَ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ فِي الأَشْيَاء شِبْهٌ، كَذَلِكَ رَبُّنَا.
2. وَقَوْلُ القَائِلِ: إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدِيُّ المَعْنَى، يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ فِي وُجُودٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا وَهْمٍ، كَذَلِكَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ (التوحيد للصدوق ص83).
فشَمَلَ قولُنا (أن الله واحدٌ) نَفيَ الشبيه له، ونَفيَ الإنقسام في وجودٍ أو عقلٍ أو وهم، وهذا يعني أنه أحديُّ المعنى، فلفظ (الله واحد) يشمل معنى (الله أحدٌ)، وبهذا يتّضح أن المراد من (الواحد والأحد) معاً هو التوحيد، وأنّه قد يُكتفى بالأول لدلالته فيما يتضمن على أنّ الله (أحديُّ المعنى).
ولذا لمّا سئل الإمام عليه السلام عن معنى الواحد مرةً، وعن معنى الأحد مرة أخرى، أجاب بنفس الجواب:
فلما سئل عن معنى (الواحد) قال: الَّذِي اجْتِمَاعُ الْأَلْسُنِ عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (التوحيد ص83).
ولما سئل عن معنى (الأحد) قال أيضاً: الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، أَ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّه) (الإحتجاج ج2 ص442).
ومثله في الصراحة قول الباقر عليه السلام: الْأَحَدُ الْفَرْدُ الْمُتَفَرِّدُ (التوحيد ص90).
لذا قال الشيخ الصدوق رحمه الله:
(والأحد والواحد بمعنى واحد، وهو المتفرد الذي لا نظير له، والتوحيد الإقرار بالوحدة وهو الانفراد).
وفي مجمع البحرين ج3 ص157: والوَاحِدُ الأَحَد: اسمان دالان على معنى الوحدانية.
نعم ذُكِرَت وجوهٌ في التفريق بين الواحد والأحد، لكنّها كلّها على فرض صحّتها وتماميتها ليست مقصودة في كلماتنا كما تبيّن من النصوص أعلاه، وليست مؤثِّرةً في تغيير معنى التوحيد الذي ثبت أعلاه، ومن رغب بمراجعة بعضها أمكنه الرجوع على سبيل المثال إلى شرح أصول الكافي لمولى صالح المازندراني ج3 ص142 وج5 ص204 ومجمع البحرين ج3 ص157 وسواها.
إذا تبيّن ذلك، فإنه ليس عندنا ما يسمى بمقام (الواحدية) ومقام (الأحدية)، فقولنا (الله واحدٌ) وقولنا (الله أحدٌ) يعني توحيد الله تعالى، ومَن زعم الاندكاك أو الفناء في الذات الإلهية المقدسة كان منحرفاً عن التوحيد ولو حاول تغطية ذلك بالتمييز بين الواحد والأحد..
ثانياً: هل للمتصوفة اصطلاح خاصٌ في ذلك؟
قد يقال بأن للمتصوفة اصطلاحٌ خاصٌّ في ذلك.. فينبغي النظر فيما قالوه.
لقد ذكر ابن عربي في مقام التفريق بين الواحدية والأحدية ما يلي:
- الأحد والأحدية، والوتر والوترية، أسماء للذات المقدسة باعتبار انتفاء الأسماء، والصفات، والنسب، والإضافات.
- والواحد والواحدية، والشفع والشفعية، أسماء للذات باعتبار إثبات الأسماء والصفات والنسب والإضافات (كتاب المعرفة 74)
فصار الفرق بين الأحدية والواحدية:
أنّ الأولى اسمٌ باعتبار انتفاء الأسماء والصفات!
والثانية اسمٌ باعتبار إثبات الأسماء والصفات!
هو أمرٌ اعتباريٌّ إذاً.. ولمّا كانت الصفات على قسمين:
1. صِفات الذات، فلا يمكن اعتبار انتفائها، لأنّه لا يمكن اعتبار الله تعالى دون صفة القدرة والعلم مثلاً!
2. وصِفات الفعل كالخلق والرزق، فهي غير ثابتة للذات إلا كفعلٍ من أفعال الله تعالى، فلا صلة لإثباتها أو نفيها بالواحدية والأحدية!
ثم يقول ابن عربي:
اعلم أن الحضرة الأحدية اعتبارها بنفي الكثرة عن عينها لكنها معقولة فيها كمالاتها.
وأما الحضرة الواحدية ففيها تظهر:
الكثرة الأسمائية كالحي، والعالم، وباقي الأسماء.
و الكثرة الصفاتية، كالحياة، والعلم، وباقيها.
و الكثرة النسبية، كالربوبية، و لمالكية، والإلهية.
و الكثرة الإضافية، كالخالقية، والرازقية، ونحوهما.(كتاب المعرفة ص116)
فإذا كانت الواحدية فيها كثرةٌ من حيث الصفات كالحياة والعلم، فإما أن تكون هذه الصفات عين الذات فلا فرق حينها بين الواحدية والأحدية، وإما أن لا تكون كذلك فيثبت تعدد صفات الله القديمة وتركُّبُه منها وهو خلافُ التوحيد.
هكذا كان كلام ابن عربي في كتاب المعرفة، لكنّه خالفه في كتاب الفصوص فقال:
أعلم أن مسمى اللَّه أحديٌّ بالذات، كلٌ بالأسماء.. فأحديته مجموع كله بالقوة (فصوص الحكم ج1 ص90)
فإن أحديّته تعالى تعني عنده هنا مجموع الأسماء الإلهية بالقوة! والحال أنّها كانت تعني في كتاب المعرفة (اعتبار انتفاء الأسماء، والصفات)..
فصارت الأحدية تعني عنده انتفاء الأسماء والصفات، وإثبات الأسماء والصفات، وهو جمعٌ بين المتناقضين، وابن عربي لا يرى ضيراً في ذلك كما يصرح بنفسه!
فإن قيل: هو إثباتٌ للمجموع بالقوة، وانتفاءٌ له بالفعل.
قلنا: هذا يخالف صريح كلامه من أنّه: (ما في الكون أحديةٌ إلّا أحدية المجموع) (كتاب المعرفة ص37) وهي التي تعني عنده أنّ الله تعالى: (عين كلّ كائن)! هذا أولاً.
وثانياً: يرجع الإشكال نفسه، فإنّ العلم والحياة من صفات الذات لا يمكن إثباتها بالقوة دون الفعل.
وأما صفات الفعل فإنّ إثباتها بالقوة يعني رجوعها إلى القدرة، وهي من صفات الذات، فيلزم الجمع بين النقيضين مجدداً، وهو محال.
والشاهد على أن المورد من موارد الجمع بين النقيضين هو قوله:
أشهدني الحق بمشهد نور الأحدية، و طلوع نجم العبودية.
و قال لي: ارتبطت الأحدية بالعبودية ارتباطا هذا لا.
ثم قال لي: أنا الأصل، و أنت الفرع.
ثم قال لي: الأصل أنت، و الفرع أنا.
ثم قال لي: أنت الواحد، و أنا الأحد..
ثم قال لي: لا توحد فتكون نصرانيا، و لا تؤمن فتكون مقلدا، و إن أسلمت كنت منافقا، و إن أشركت كنت مجوسياً (مشاهد الاسرار القدسية ومطالع الانوار الالهية ص85)
فهذا نورُ الأحدية عنده جعله الأصلَ والفرعَ معاً، وجعله هو الواحد مقابل الله الأحد!
ثم يزعم أن الله تعالى نهاه عن التوحيد والإيمان.. وقال له أن الإسلام هو النفاق!
فأيُّ دينٍ وأيُّ عرفانٍ هذا؟!
إن هو إلا تيهٌ وضلال، ومنشؤه ما ذكره الإمام الرضا عليه السلام من وصفهم لله تعالى بصفات المخلوقين، فعنه عليه السلام:
.. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى تَاهُوا وَتَحَيَّرُوا وَطَلَبُوا الْخَلَاصَ مِنَ الظُّلْمَةِ بِالظُّلْمَةِ فِي وَصْفِهِمُ الله بِصِفَةِ أَنْفُسِهِمْ فَازْدَادُوا مِنَ الحقِّ بُعْداً، وَلَوْ وَصَفُوا الله عَزَّ وَجَلَّ بِصِفَاتِهِ وَوَصَفُوا المخْلُوقِينَ بِصِفَاتِهِمْ لَقَالُوا بِالْفَهْمِ وَالْيَقِينِ وَلَمَا اخْتَلَفُوا، فَلَمَّا طَلَبُوا مِنْ ذَلِكَ مَا تَحَيَّرُوا فِيهِ ارْتَبَكُوا، والله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيم (التوحيد للصدوق ص439).
ثالثاً: هل التزم العرفاء بذلك؟
رغم بطلان ما ذهبوا إليه من التفريق بين ما أسموه مقام الواحدية والأحدية، فإن المتصوفة والعرفاء ما التزموا بالتفريق بين هذين المقامين، فصرَّحوا بحصول التحقُّق بالحقيقة الأحدية كما الواحدية، وبالفناء في الذات الأحدية!
وهو ما يعني أن محاولةَ الدفاع عنهم هذه ليست مقبولةً حتى عندهم!
فمن كلماتهم ما ذكره عبد الرزاق قاساني (المتوفى سنة 730 هـ) وغيره أنّ:
صورة الحق: هو محمد صلى اللّه عليه وسلّم لتحققه بالحقيقة الأحدية والواحدية (اصطلاحات الصوفية ص40)
فلا فرق في التحقق بين هاتين الحقيقتين عندهم!
ويذهب إلى ذلك العرفاء المعاصرون أيضاً!
يقول السيد محسن الطهراني عن اتحاد العارف بالذات الإلهية (الأحدية) بتعبيره:
وصارت ذاته بمعيّة الذات الأحدية بل صارت متّحدة بها. وبعبارة أخرى: أن يكونوا قد خرجوا من أنفسهم وصاروا متّحدين به تعالى (أسرار الملكوت ج2 ص37).
ويقول: حقيقة مقام العارف الواصل وشخصية الفاني في ذات الحضرة الأحدية (أسرار الملكوت ج2 ص109).
ويتحدث عن: الفناء التام والمطلق في الذات الأحدية، وحذف جميع التعينات الماهوية والبشرية واندكاكها في الذات الإلهية وصيرورته ذات الله، فلم يعد بشراً (الشمس المنيرة ص27).
ويصف الولي بأنه: من كان قد اندكّ وجوده في مقام الولاية، وفنيَ في الذات الأحدية وانمحى بتمام معنى الكلمة وعلى الإطلاق (الشمس المنيرة ص28-30)
ويقول: ولازم هذه المرتبة هو أن يندكّ السالك تماماً في ذات الحضرة الأحديّة، وهي التي يعبّر عنها في لسان أهل المعرفة بالفناء الذاتي والتجرّد التام (أسرار الملكوت ج2 ص91).
ويقول:
نعم إن منهج وطريقة هؤلاء العظام هو السير والسلوك إلى الله حتى الوصول إلى مرتبة الذات الأَحديّة؛ أي مرتبة الإدراك الحقيقي لكافّة مراتب الأسماء والصفات الإلهية، وبعد ذلك الاندكاك والانمحاء والفناء في ذات حضرة الحق المقدسة؛ بحيث لا يبقى أي اسم أو رسم لذات السالك، ولا يبقى وجود لأية حقيقة سوى حقيقة الذات الأحدية (حريم القدس 65).
بهذا نخلص إلى ثمرتين في غاية الأهمية:
الأولى: أن لا فرق ما بين الواحد والأحد في مقام التوحيد من حيث إمكان الفناء في أحدهما دون الآخر! وأنّ من زعم فناءه فيما عبّر عنه بالذات الواحدية أو الأحدية فهو منحرِفٌ عن التوحيد بلا شبهة لكون صفات الله تعالى هي عين ذاته.
الثانية: أنّ المتصوفة والعرفاء قد وصفوا الله تعالى بصفات المخلوقين، وقاسوا الله بعقولهم الناقصة فحاروا وتاهوا وخلطوا حتى جمعوا بين المتناقضين، وما زادوا بذلك عن الله إلا بُعداً.
والحمد لله على نهمة الهداية
5 شعبان 1442 هـ
الموافق 19 - 3 - 2021 م
شعيب العاملي
يعتقدُ الشيعةُ أنّ عقيدةَ الفناء في الذات الإلهية، ووحدة الوجود والموجود، عقيدةٌ فاسدةٌ تضاهي قول النصارى في عيسى ابن مريم بل تزيد عليه كثيراً.
رغم ذلك يكثر المتصوِّفة والعرفاء من السعي لتوجيه هذه العقيدة، وقد ناقشنا جملةً من أقوالهم في كتاب (عرفان آل محمد عليهم السلام).
وههنا شبهةٌ تُطرح مفادها:
أن الذات التي يقصدها المتصوّفة والعرفاء عند حديثهم عن معرفة الذات أو الاندكاك والفناء فيها هي (الذات في مقام الواحدية لا مقام الأحدية).
وبناءً على ذلك، فإن كلامَ المتصوفة والعرفاء صحيحٌ، والإشكالُ عليهم ناشئ من عدم فهم مُرادهم.
والجواب على ذلك:
أولاً: ما هو المراد من مقام الواحدية ومقام الأحدية؟
لقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله:
يَا أَعْرَابِيُّ إِنَّ القَوْلَ فِي أَنَّ الله وَاحِدٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، فَوَجْهَانِ مِنْهَا لَا يَجُوزَانِ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وَوَجْهَانِ يَثْبُتَانِ فِيهِ:
.. وَأَمَّا الوَجْهَانِ اللَّذَانِ يَثْبُتَانِ فِيهِ:
1. فَقَوْلُ القَائِلِ: هُوَ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ فِي الأَشْيَاء شِبْهٌ، كَذَلِكَ رَبُّنَا.
2. وَقَوْلُ القَائِلِ: إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدِيُّ المَعْنَى، يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ فِي وُجُودٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا وَهْمٍ، كَذَلِكَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ (التوحيد للصدوق ص83).
فشَمَلَ قولُنا (أن الله واحدٌ) نَفيَ الشبيه له، ونَفيَ الإنقسام في وجودٍ أو عقلٍ أو وهم، وهذا يعني أنه أحديُّ المعنى، فلفظ (الله واحد) يشمل معنى (الله أحدٌ)، وبهذا يتّضح أن المراد من (الواحد والأحد) معاً هو التوحيد، وأنّه قد يُكتفى بالأول لدلالته فيما يتضمن على أنّ الله (أحديُّ المعنى).
ولذا لمّا سئل الإمام عليه السلام عن معنى الواحد مرةً، وعن معنى الأحد مرة أخرى، أجاب بنفس الجواب:
فلما سئل عن معنى (الواحد) قال: الَّذِي اجْتِمَاعُ الْأَلْسُنِ عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (التوحيد ص83).
ولما سئل عن معنى (الأحد) قال أيضاً: الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، أَ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّه) (الإحتجاج ج2 ص442).
ومثله في الصراحة قول الباقر عليه السلام: الْأَحَدُ الْفَرْدُ الْمُتَفَرِّدُ (التوحيد ص90).
لذا قال الشيخ الصدوق رحمه الله:
(والأحد والواحد بمعنى واحد، وهو المتفرد الذي لا نظير له، والتوحيد الإقرار بالوحدة وهو الانفراد).
وفي مجمع البحرين ج3 ص157: والوَاحِدُ الأَحَد: اسمان دالان على معنى الوحدانية.
نعم ذُكِرَت وجوهٌ في التفريق بين الواحد والأحد، لكنّها كلّها على فرض صحّتها وتماميتها ليست مقصودة في كلماتنا كما تبيّن من النصوص أعلاه، وليست مؤثِّرةً في تغيير معنى التوحيد الذي ثبت أعلاه، ومن رغب بمراجعة بعضها أمكنه الرجوع على سبيل المثال إلى شرح أصول الكافي لمولى صالح المازندراني ج3 ص142 وج5 ص204 ومجمع البحرين ج3 ص157 وسواها.
إذا تبيّن ذلك، فإنه ليس عندنا ما يسمى بمقام (الواحدية) ومقام (الأحدية)، فقولنا (الله واحدٌ) وقولنا (الله أحدٌ) يعني توحيد الله تعالى، ومَن زعم الاندكاك أو الفناء في الذات الإلهية المقدسة كان منحرفاً عن التوحيد ولو حاول تغطية ذلك بالتمييز بين الواحد والأحد..
ثانياً: هل للمتصوفة اصطلاح خاصٌ في ذلك؟
قد يقال بأن للمتصوفة اصطلاحٌ خاصٌّ في ذلك.. فينبغي النظر فيما قالوه.
لقد ذكر ابن عربي في مقام التفريق بين الواحدية والأحدية ما يلي:
- الأحد والأحدية، والوتر والوترية، أسماء للذات المقدسة باعتبار انتفاء الأسماء، والصفات، والنسب، والإضافات.
- والواحد والواحدية، والشفع والشفعية، أسماء للذات باعتبار إثبات الأسماء والصفات والنسب والإضافات (كتاب المعرفة 74)
فصار الفرق بين الأحدية والواحدية:
أنّ الأولى اسمٌ باعتبار انتفاء الأسماء والصفات!
والثانية اسمٌ باعتبار إثبات الأسماء والصفات!
هو أمرٌ اعتباريٌّ إذاً.. ولمّا كانت الصفات على قسمين:
1. صِفات الذات، فلا يمكن اعتبار انتفائها، لأنّه لا يمكن اعتبار الله تعالى دون صفة القدرة والعلم مثلاً!
2. وصِفات الفعل كالخلق والرزق، فهي غير ثابتة للذات إلا كفعلٍ من أفعال الله تعالى، فلا صلة لإثباتها أو نفيها بالواحدية والأحدية!
ثم يقول ابن عربي:
اعلم أن الحضرة الأحدية اعتبارها بنفي الكثرة عن عينها لكنها معقولة فيها كمالاتها.
وأما الحضرة الواحدية ففيها تظهر:
الكثرة الأسمائية كالحي، والعالم، وباقي الأسماء.
و الكثرة الصفاتية، كالحياة، والعلم، وباقيها.
و الكثرة النسبية، كالربوبية، و لمالكية، والإلهية.
و الكثرة الإضافية، كالخالقية، والرازقية، ونحوهما.(كتاب المعرفة ص116)
فإذا كانت الواحدية فيها كثرةٌ من حيث الصفات كالحياة والعلم، فإما أن تكون هذه الصفات عين الذات فلا فرق حينها بين الواحدية والأحدية، وإما أن لا تكون كذلك فيثبت تعدد صفات الله القديمة وتركُّبُه منها وهو خلافُ التوحيد.
هكذا كان كلام ابن عربي في كتاب المعرفة، لكنّه خالفه في كتاب الفصوص فقال:
أعلم أن مسمى اللَّه أحديٌّ بالذات، كلٌ بالأسماء.. فأحديته مجموع كله بالقوة (فصوص الحكم ج1 ص90)
فإن أحديّته تعالى تعني عنده هنا مجموع الأسماء الإلهية بالقوة! والحال أنّها كانت تعني في كتاب المعرفة (اعتبار انتفاء الأسماء، والصفات)..
فصارت الأحدية تعني عنده انتفاء الأسماء والصفات، وإثبات الأسماء والصفات، وهو جمعٌ بين المتناقضين، وابن عربي لا يرى ضيراً في ذلك كما يصرح بنفسه!
فإن قيل: هو إثباتٌ للمجموع بالقوة، وانتفاءٌ له بالفعل.
قلنا: هذا يخالف صريح كلامه من أنّه: (ما في الكون أحديةٌ إلّا أحدية المجموع) (كتاب المعرفة ص37) وهي التي تعني عنده أنّ الله تعالى: (عين كلّ كائن)! هذا أولاً.
وثانياً: يرجع الإشكال نفسه، فإنّ العلم والحياة من صفات الذات لا يمكن إثباتها بالقوة دون الفعل.
وأما صفات الفعل فإنّ إثباتها بالقوة يعني رجوعها إلى القدرة، وهي من صفات الذات، فيلزم الجمع بين النقيضين مجدداً، وهو محال.
والشاهد على أن المورد من موارد الجمع بين النقيضين هو قوله:
أشهدني الحق بمشهد نور الأحدية، و طلوع نجم العبودية.
و قال لي: ارتبطت الأحدية بالعبودية ارتباطا هذا لا.
ثم قال لي: أنا الأصل، و أنت الفرع.
ثم قال لي: الأصل أنت، و الفرع أنا.
ثم قال لي: أنت الواحد، و أنا الأحد..
ثم قال لي: لا توحد فتكون نصرانيا، و لا تؤمن فتكون مقلدا، و إن أسلمت كنت منافقا، و إن أشركت كنت مجوسياً (مشاهد الاسرار القدسية ومطالع الانوار الالهية ص85)
فهذا نورُ الأحدية عنده جعله الأصلَ والفرعَ معاً، وجعله هو الواحد مقابل الله الأحد!
ثم يزعم أن الله تعالى نهاه عن التوحيد والإيمان.. وقال له أن الإسلام هو النفاق!
فأيُّ دينٍ وأيُّ عرفانٍ هذا؟!
إن هو إلا تيهٌ وضلال، ومنشؤه ما ذكره الإمام الرضا عليه السلام من وصفهم لله تعالى بصفات المخلوقين، فعنه عليه السلام:
.. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى تَاهُوا وَتَحَيَّرُوا وَطَلَبُوا الْخَلَاصَ مِنَ الظُّلْمَةِ بِالظُّلْمَةِ فِي وَصْفِهِمُ الله بِصِفَةِ أَنْفُسِهِمْ فَازْدَادُوا مِنَ الحقِّ بُعْداً، وَلَوْ وَصَفُوا الله عَزَّ وَجَلَّ بِصِفَاتِهِ وَوَصَفُوا المخْلُوقِينَ بِصِفَاتِهِمْ لَقَالُوا بِالْفَهْمِ وَالْيَقِينِ وَلَمَا اخْتَلَفُوا، فَلَمَّا طَلَبُوا مِنْ ذَلِكَ مَا تَحَيَّرُوا فِيهِ ارْتَبَكُوا، والله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيم (التوحيد للصدوق ص439).
ثالثاً: هل التزم العرفاء بذلك؟
رغم بطلان ما ذهبوا إليه من التفريق بين ما أسموه مقام الواحدية والأحدية، فإن المتصوفة والعرفاء ما التزموا بالتفريق بين هذين المقامين، فصرَّحوا بحصول التحقُّق بالحقيقة الأحدية كما الواحدية، وبالفناء في الذات الأحدية!
وهو ما يعني أن محاولةَ الدفاع عنهم هذه ليست مقبولةً حتى عندهم!
فمن كلماتهم ما ذكره عبد الرزاق قاساني (المتوفى سنة 730 هـ) وغيره أنّ:
صورة الحق: هو محمد صلى اللّه عليه وسلّم لتحققه بالحقيقة الأحدية والواحدية (اصطلاحات الصوفية ص40)
فلا فرق في التحقق بين هاتين الحقيقتين عندهم!
ويذهب إلى ذلك العرفاء المعاصرون أيضاً!
يقول السيد محسن الطهراني عن اتحاد العارف بالذات الإلهية (الأحدية) بتعبيره:
وصارت ذاته بمعيّة الذات الأحدية بل صارت متّحدة بها. وبعبارة أخرى: أن يكونوا قد خرجوا من أنفسهم وصاروا متّحدين به تعالى (أسرار الملكوت ج2 ص37).
ويقول: حقيقة مقام العارف الواصل وشخصية الفاني في ذات الحضرة الأحدية (أسرار الملكوت ج2 ص109).
ويتحدث عن: الفناء التام والمطلق في الذات الأحدية، وحذف جميع التعينات الماهوية والبشرية واندكاكها في الذات الإلهية وصيرورته ذات الله، فلم يعد بشراً (الشمس المنيرة ص27).
ويصف الولي بأنه: من كان قد اندكّ وجوده في مقام الولاية، وفنيَ في الذات الأحدية وانمحى بتمام معنى الكلمة وعلى الإطلاق (الشمس المنيرة ص28-30)
ويقول: ولازم هذه المرتبة هو أن يندكّ السالك تماماً في ذات الحضرة الأحديّة، وهي التي يعبّر عنها في لسان أهل المعرفة بالفناء الذاتي والتجرّد التام (أسرار الملكوت ج2 ص91).
ويقول:
نعم إن منهج وطريقة هؤلاء العظام هو السير والسلوك إلى الله حتى الوصول إلى مرتبة الذات الأَحديّة؛ أي مرتبة الإدراك الحقيقي لكافّة مراتب الأسماء والصفات الإلهية، وبعد ذلك الاندكاك والانمحاء والفناء في ذات حضرة الحق المقدسة؛ بحيث لا يبقى أي اسم أو رسم لذات السالك، ولا يبقى وجود لأية حقيقة سوى حقيقة الذات الأحدية (حريم القدس 65).
بهذا نخلص إلى ثمرتين في غاية الأهمية:
الأولى: أن لا فرق ما بين الواحد والأحد في مقام التوحيد من حيث إمكان الفناء في أحدهما دون الآخر! وأنّ من زعم فناءه فيما عبّر عنه بالذات الواحدية أو الأحدية فهو منحرِفٌ عن التوحيد بلا شبهة لكون صفات الله تعالى هي عين ذاته.
الثانية: أنّ المتصوفة والعرفاء قد وصفوا الله تعالى بصفات المخلوقين، وقاسوا الله بعقولهم الناقصة فحاروا وتاهوا وخلطوا حتى جمعوا بين المتناقضين، وما زادوا بذلك عن الله إلا بُعداً.
والحمد لله على نهمة الهداية
5 شعبان 1442 هـ
الموافق 19 - 3 - 2021 م
شعيب العاملي