بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
ذكرنا في مقالنا السابق سؤالين قاصمين للفكر السنَّي من حيث انَّ هذا الفكر، وهو في تأسيسه فكر أموي، غير قادر على ايراد إجابة مقنعة للجمهور الاسلامي عنهما، والسؤالان هما:
س1- القرآن الكريم هو المصدر الأساسي الأول للدين، فكيف إكتمل الدين بنزول آية إكمال الدين في سنة حجة الوداع ولم يكتمل القرآن الذي هو احد مصادر الدين، بسبب نزول آيات عديدة بعد آية إكمال الدين؟!
س2- السُنَّة النبوية الشريفة هي المصدر الأساسي الثاني للدين، فكيف إكتمل الدين بنزول آية إكمال الدين في سنة حجة الوداع، ولم تكتمل السُنّة النبوية الا بعد نزولها بفترة، حيث لا تكتمل السُنة الا بوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
وملخصهما معاً:
سؤال: كيف يكتمل الدين ولم يكتمل القرآن ولا السُنّة؟!!
وسنناقش في مقالنا هذا بعض الوجوه المحتملة التي قالها أو نحتمل أن يتقولها بعض علماء أهل السنّة، كإجابة لهذين السؤالين أو أحدهما، لنبين أنّ جميع ما قالوه أو يمكن أن يقولوه لا يصلح كدليل أو حجّة أو قرينة صالحة لإجابة أحد هذين السؤالين أو كليهما!!
اجوبة لبعض علماء أهل السنّة عن إشكال مسألتنا
ذكر الشيخ جلال الدين السيوطي أنَّ ابن جرير الطبري (224-310)هـ أي في القرن الثالث الهجري، هو أول من لاحظ مشكلة إكمال الدين قبل إكتمال نزول القرآن!! فحاول توجيه ذلك بقوله: (تنبيه: من المشكل على ما تقدم قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع، وظاهرها إكمال الفرائض والأحكام قبلها، وقد صرح بذلك جماعة منهم السدى فقال: لم ينزل بعدها حلال ولا حرام، مع أنه ورد في آية الربا والدين والكلالة أنها نزلت بعد ذلك. وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال: الأولى أن يتأول على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه حتى حجة المسلمون لا يخالطهم المشركون، ثم أيده بما أخرجه من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا، فلما نزلت براءة لفى المشركون عن البيت وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكان ذلك من تمام النعمة وأتممت عليكم نعمتي)[1].
فجعل معنى إكتمال الدين - بالرجوع الى ابن جرير الطبري في تفسيره - بأنه منع المشركين من الحج الى بيت الله الحرام!! وهو تفسير واضح الضعف. فالآية تتحدث عن إكمال الدين وإتمام النعمة وإرتضاء الإسلام ديناً، ومن غير المعقول أن يكتمل الدين سنة 10هـ لأن تشريع منع المشركين من حج بيت الله الحرام نزل قبل ذلك بسنة أي سنة نزول سورة التوبة في 9هـ!! فهل كانت مشكلة الاسلام وحروب المسلمين المتعددة مع المشركين هي في منع المشركين من الحج حتى إذا تحقق أصبح إكمالاً للدين وإتماماً للنعمة!! أم كان الاسلام يسعى لكسر شوكة الكفر ورفع راية التوحيد وبناء المجتمع الإيماني المؤمن بالتوحيد الحق والنبوة واليوم الآخر؟!
وسنلقي المزيد من الضوء على ضعف كلام ابن جرير الطبري، في الفقرة التالية.
أجوبة معاصرة عن إشكال مسألتنا
احد الذين حاولوا مناقشة هذا الموضوع من الوهابية (السلفية) هو الدكتور فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومّي[2]، وهو في مناقشته لنفس الإشكال لم يجد بُدّاً من اللجوء الى كلام ابن جرير الطبري في تفسيره، والظاهر انَّه لم يعثر على رأي لأبن تيمية في آية إكمال الدين وتعارضها مع نزول آيات فرائض أخرى بعدها[3]!! فاضطر الى اللجوء الى رأي ابن جرير الطبري! فقال: (إشكال ودفعه: قد يشكل فهم قوله تعالى: ((اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً)). فإن لم تكن هذه الآية هي آخر ما نزل، بل نزل بعدها آيات فكيف يقول: ((اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ))؟ والجواب: أن هذه الآية نزلت على الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يخطب في يوم عرفة في حجة الوداع[4] في السنة العاشرة، وبالتحديد ظهر يوم الجمعة 9/12/10هـ وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام توفي يوم الأثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة 11 هــ فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بنحو واحد وثمانين يوماً، وقد مرّ بنا أنّ قوله تعالى: (واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله)) قد نزلت قبل وفاته عليه الصلاة والسلام بتسع ليالٍ، وبهذا يظهر أن المراد بقوله تعالى: ((اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) الآية، ليس إكمال نزول القرآن أو أنَّ هذه الآية هي آخر ما نزل منه. وقد بيّن العلماء المراد بإكمال الدين فمن ذلك:
ما رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) وهو الاسلام قال: أخبر نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون الى زيادة أبداً، وقد أتمه الله – عزَّ ذكره – فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه فلا يسخطه أبداً وفسر قوله: ((وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)) بقوله: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً، فلما نزلت "براءة" فنفى المشركين عن البيت، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكان ذلك من تمام النعمة ((وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)).
أن المراد بإكمال الدين إكمال الحج، والمعنى اليوم أكملت لكم حجكم، فأفردتم بالبلد الحرام تحجونه أنتم أيها المؤمنون دون المشركين، لا يخالطكم في حجكم مشرك.
أن المراد بإكمال الدين إعلاء كلمته وظهوره على الدين كله، وفي حجة الوداع ظهرت شوكة هذا الدين وعلت كلمته، فقد كان المشركون يحجون مع المسلمين ويزاحمونهم في المشاعر فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يحج مشرك، فامتثل المشركون امره، وأعلى الله كلمته، ولم يجرؤ أحد منهم على مخالفته. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "وأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يقال: أن الله عزَّ وجلَّ أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أنه أكمل لهم – يوم أنزل هذه الآية – دينهم بإفرادهم البلد الحرام وإجلائه عنه المشركين، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطونهم المشركون")[5].
فهذا الجواب يتضمن ثلاث اجابات محتملة للإشكال تدور جميعها حول منع المشركين من الحج، مع انَّ هذا المنع نزل بسورة براءة سنة 9 هـ وتم تشريعه بقوله تعالى في الآية (28) من سورة التوبة: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)). فلماذا لم تنزل آية إكمال الدين بعد نزول تشريع منع المشركين من الحج؟!
وقد يقول قائل أن الدين إكتمل ليس لمنع المشركين من الحج في سورة براءة سنة 9هـ، بل بسبب تطبيق هذا المنع فعلاً والذي تمَّ في حجة الوداع! فنقول: هل إنَّ إكتمال الدين يكون بنزوله ام بتطبيقه؟ فإن كان بنزوله فهو حجة عليهم لأن نزول آية منع المشركين من الحج كان في سنة 9هـ، وإن كان في تطبيقه فقد تقهقر الزمان اليوم ولم يعد الدين بشريعته مطبّقاً في معظم البلاد الاسلامية كما اُنزِل، فهل الدين اليوم لم يعد مكتملاً؟!
فهب أنَّه في آخر الزمان عاد مشركون الى الحج فهل أنّه لن يكون الدين حينئذٍ مكتملاً؟!! ثم ألستم تنبزون الشيعة والصوفية وسائر أهل السنة من الاشعرية بأنهم "قبوريون" وأنَّهم "مشركون" لتعظيمهم الصالحين وقبورهم وأن ذلك شرك، مع أنهم يحجون في كل عام الى بيت الله الحرام، فعلى قولكم ذلك فإنَّ الدين لم يعد مكتملاً الآن!!
ثم أنَّه إذا كان الدين قد إكتمل وقت التطبيق لا وقت التنزيل فلماذا عمد بعض الصحابة الى تغيير بعض شرائعه "إجتهاداً" منهم في مقابل النص الواضح الجليِّ[6]! أليس تغيير التطبيق يعني تغييراً في إكمال الدين في هذه الحالة؟!
على أية حال، وكما يرى القاريء، لم نجد في كلام الدكتور فهد الرومي جواباً شافياً لإشكالية نزول آيات قرآنية بعد آية إكمال الدين.
تتمة كلام ابن جرير الطبري:
قال الطبري في تفسيره: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه (ص) والمؤمنين به، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم، بإفرادهم بالبلد الحرام، وإجلائه عنه المشركين، حتى حجه المسلمون دونهم، لا يخالطونهم المشركون. فأما الفرائض والاحكام، فإنه قد اختلف فيها، هل كانت أكملت ذلك اليوم أم لا؟ فروي عن ابن عباس والسدي ما ذكرنا عنهما قبل. وروي عن البراء بن عازب أن آخر آية نزلت من القرآن: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة. ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله (ص) إلى أن قبض، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا. فإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة آخرها نزولا وكان ذلك من الاحكام والفرائض، كان معلوما أن معنى قوله: اليوم أكملت لكم دينكم على خلاف الوجه الذي تأوله من تأوله، أعني: كمال العبادات والاحكام والفرائض. فإن قال قائل: فما جعل قول من قال: قد نزل بعد ذلك فرض أولى من قول من قال: لم ينزل؟ قيل لان الذي قال لم ينزل، مخبر أنه لا يعلم نزول فرض، والنفي لا يكون شهادة، والشهادة قول من قال: نزل، وغير جائز دفع خبر الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقا)[7].
وقد ناقشنا في الفقرة السابقة الجزء الاول من كلامه، ونناقش هنا الجزء الاخير من كلامه وهوقوله (لان الذي قال لم ينزل، مخبر أنه لا يعلم نزول فرض)، والحق ان من قال لم ينزل ليس أنه لا يعلم بنزول فرض بل انه يجزم بعدم نزوله، وشتان بين الأمرين، وتأويل ابن جرير لهذا الامر فيه تدليس على اصحاب الرأي القائل بأنه لم ينزل فرض بعد آية إكمال الدين، وابرزهم ابن عباس والسدّي. انظر الى كلامهما الذي نقله ابن جرير الطبري نفسه:
"عن ابن عباس، قوله: اليوم أكملت لكم دينكم وهو الاسلام، قال: أخبر الله نبيه (ص) والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الايمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا"[8].
وروى بسنده وفيه: "ثنا أسباط عن السدي، قوله: اليوم أكملت لكم دينكم هذا نزل يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ورجع رسول الله (ص) فمات"[9].
وكلام ابن جرير قد يخص الرواية الثانية عن السدّي، إذ كلام ابن عباس أجنبي عن مقصد ابن جرير. فليس كلام السدّي انه لا يعلم بنزول فريضه بعدها لكي يصح ما قاله ابن جرير عن تقديم الاثبات على النفي، بل السدّي يجزم بعدم نزول فريضة بعد آية إكمال الدين أي أنًّ لديه علم بعدم نزول الفريضة.
أقوال "آخر آية اُنزِلَتْ" غير مرفوعة
يقول بعض أهل السنّة أنَّ الأقوال المذكورة حول آخر آية هي غير مرفوعة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم). قال السيوطي في الاتقان: (وقال القاضي أبو بكر في الانتصار: هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع الى النبي صلى الله عليه وسلم وكل قاله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن ويحتمل أن كلا منهم أخبر ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو ويحتمل أيضاً أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم مع آيات نزلت معها فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب انتهى)[10].
وقال البيهقي حول الآختلاف في آخر ما نزل من القرآن الكريم: (هذا الاختلاف يرجع، والله اعلم، الى ان كل واحد منهم أخبر بما عنده من العلم، أو اراد أن ما ذكر من أواخر الآيات التي نزلت، والله اعلم)[11]. وقال الذهبي: (فحاصله أن كلا منهم أخبر بمقتضى ما عنده من العلم)[12]!
فعجباً لأولئك الصحابة والتابعين، فعلى قول البيهقي الاخير فلماذا لم يقل اي صحابي أو تابعي أنَّ آية إكمال الدين هي من "أواخر الآيات التي نزلت" على حد تعبير البيهقي! فإن لم تكن آية إكمال الدين هي آخر آية اُنزِلَتْ فهي من المحتمل جداً أنّها قد تكون ما قبل الأخيرة[13]، ومع ذلك لم يتطرق اليها أي صحابي أو تابعي!! وعلى قول الذهبي فهل أصبح الدين مستنداً الى قول رجال يقولون بحسب معرفتهم الناقصة فإن اختلفت معرفتهم اختلف دينهم!!
فعلى ما ذكره السيوطي والبيهقي يمكن ان يُخطأ قائل تلك الأقوال، من الصحابة والتابعين، خصوصاً من قالوا بنزول آيات الفرائض بعد آية إكمال الدين. وأن الحق هو قول من يقول بنزول آيات هداية دون آيات فرائض، بعد آية إكمال الدين، فيكون الدين مكتملاً رغم عدم إكتمال القرآن بنزول آيات من غير آيات الفرائض. ونفس الأمر بالنسبة للسُنّة النبوية، فما صدر منها وهو متعلق بالفرائض قد إكتمل صدوره ولذلك نزلت آية إكمال الدين أمّا بقية السُنّة التي صدرت بعد ذلك فهي متعلقة بأمور الهداية العامة!!
وجواب ذلك ان قولهم بأن الدين إكتمل بإتمام آيات الفرائض يعني أنّ الدين هو الفرائض فقط ! فهذا يعني أنَّ آيات الهداية التي نزلت بعد آية إكمال الدين ليست من الدين، وكذلك السُنَّة النبوية المتعلقة بالهداية والعقيدة والتي صدرت بعد نزول آية إكمال الدين هي ليست من الدين!! وهذا يعني أيضاً أنَّ مفهوم الدين عندهم هو فقط المفهوم (الفقهي) المتعلق بالفرائض!! فهل يقبل أهل السُنّة بهذا التعريف للدين أي أنَّه فقط (الفقه) أو (الفروع) فقط دون أصول الدين والاخلاق! وعلى هذا هل يقبل اهل السُنّة بأنَّ قوله تعالى في الآية (19) من سورة آل عمران (عليهم السلام): ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)) يعني بالدين (الفقه فقط) وليس مجمل المنظومة من اصول (عقيدة)، وفروع (فقه)، واخلاق.
وهذا الإشكال لا ينطبق على الشيعة لكون قولهم بأنَّ آية إكمال الدين نزلت بعد نزول آخر الفرائض وهي "فريضة الولاية" لا يتعارض مع نزول آيات أخرى متعلقة بالعقيدة أو الهداية أو بفرائض أخرى بعد آية إكمال الدين[14]، لأن الهداية عندهم مستمرة بإستمرارية الولاية والإمامة لكونهم هم الهُداة الى الحق، وهم مصدر حيّ للعقيدة والفقه والاخلاق، فالإمام (عليه السلام) هو مصدر الهداية المستمرة عندهم كما إنّه القيّم على الدين والممثل له والمحافظ عليه.
ومن جهة أخرى انّه إذا أخطأ علماء أهل السنة تبعاً لخطأ الصحابة والتابعين في معرفة الآية الاخيرة التي نزلت فهذا يعني عدم حجّية قول الصحابي! وأنَّهم قد اخطأوا في معرفة ترتيب نزول آيات القرآن الكريم وبذلك يكونون قد أخطأوا في معرفة الناسخ والمنسوخ فيكون فقههم باطلاً!! ليس هذا فحسب بل هناك جملة من الفوائد ذكروها لمعرفة اوائل واواخر ما نزل من آيات القرآن الكريم، سنستعرضها بعد قليل. فخطأهم في معرفة آخر آيات القرآن نزولاً يعني انتفاء هذه الفوائد المذكورة، وما في ذلك من خطورة على الفقه والتاريخ والسيرة!!
والفوائد التي ذكروها لمعرفة أوائل وآخر ما نزل من القرآن الكريم هي كما كتبها الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني[15]:
1- تمييز الناسخ من المنسوخ فيما إذا وردت آيتان أو آيات على موضوع واحد وكان الحكم في إحدى هذه الآيات يغاير الحكم في الأخرى. واضاف الدكتور الرومي: فإن معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل تعين على معرفة الناسخ من المنسوخ"[16].
2- ومن فوائده أيضاً، معرفة تاريخ التشريع الإسلامي ومراقبة سيره التدريجي والوصول من وراء ذلك إلى حكمة الإسلام وسياسته في أخذه الناس بالهوادة والرفق، والبعد بهم عن غوائل الطفْرَة والعُنف، سواءً في ذلك هدم ما مَرَدُوا عليه من باطل، وبناء ما لم يحيطوا بعلمه من حق. وقال الدكتور الرومي: "معرفة تاريخ التشريع الإسلامي وتدرجه الحكيم في التشريع، وقد مر بنا استعراض المراحل التي مر بها تحريم الخمر وكيف تمت مراعاة أحوالهم حيث اعتادوا شرب الخمر، لا يكاد يخلو منها بيت وكيف تدرج في علاج هذه المشكلة حتى خرجوا إلى بر الأمان والسلامة والإسلام بحكمة بالغة"[17].
إظهار مدى العناية التي اُحيط بها القرآن الكريم، حتى عُرف فيه أول ما نزل وآخر ما نزل، كما عُرف مكيّه ومدنيه، وسفريه وحضريه، الى غير ذلك، ولا ريب أنّ هذا مظهر من مظاهر الثقة به، ودليل على سلامته من التغيير والتبديل ((لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم))[18].
قال الدكتور فهد الرومي في فوائدها: "الاستعانة بمعرفة أول ما نزل وآخر ما نزل في تفسير القرآن التفسير السليم واستنباط الحكم الصحيح، وقد عرفنا ذلك في معرفة أول وآخر ما نزل في الربا والجهاد والخطأ الذي وقع فيه بعضهم بسبب جهل معرفة أول وآخر ما نزل[19].
قال الدكتور فهد الرومي في فوائدها: " تذوق أساليب القرآن الكريم والاستفادة من ذلك في أسلوب الدعوة إلى الله تعالى حيث يكون بأسلوب لتقرير حكم ثم يختلف الأسلوب لتقرير حكم آخر بالوعد مرة والوعيد أخرى وبالترغيب أو الترهيب أو بالتخيير أو الإلزام حسب ما يناسب الحال.
قال الدكتور فهد الرومي في فوائدها: " معرفة السيرة النبوية وترتيب أحداثها حسب حديث القرآن عنها ومتابعة أحوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومواقفه في الدعوة في مكة وسيرته في الدعوة إلى الله بعد الهجرة؛ مما يوقف الدعاة خاصة والمسلمين عامة على أصدق حديث عن أفضل سيرة لأحسن قدوة عليه الصلاة والسلام[20].
وقال الدكتور فهد الرومي في فوائدها: " إظهار عناية الصحابة والعلماء من بعدهم بالقرآن الكريم حتى عرفوا أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن كله وفي كل حكم من أحكامه الذي لا يمكن الوصول إليه وإدراكه إلا بالجهد الكبير والاهتمام العظيم مما يوجب على من بعدهم الاقتداء بهم والسير على نهجهم"[21].
فالقول بأن الصحابة والتابعين أخطأوا في تعيين آخر ما نزل من القرآن الكريم يعني الطعن في هذه الفوائد المذكورة آنفاً، فمن يخطيء في موضع منها يمكن أن يخطيء في المواضع الأخرى!! وفي هذا القول مجازفة كبيرة.
يوم إكمال الدين ليس مخصوصاً!
هناك رأي رواه ابن جرير الطبري عن ابن عباس ومفاده ان يوم إكمال الدين ليس يوماً مخصوصاً!! قال: (وقال آخرون: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس، وإنما معناه اليوم الذي أعلمه أنا دون خلقي، أكملت لكم دينكم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: اليوم أكملت لكم دينكم يقول: ليس بيوم معلوم يعلمه الناس)[22].
فهذه الرواية تذكر ان يوم إكمال الدين "مجهول"! ولكن في نفس الوقت هناك روايات أخرى تبيِّن المقصود بإتمام النعمة! فكيف يجهلون يوم إكمال الدين ويعرفون إتمام النعمة، وهما مرتبطان معاً!! قال ابن جرير الطبري في تفسيره: (حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا، فلما نزلت براءة، فنفي المشركين عن البيت، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكأن ذلك من تمام النعمة: وأتممت عليكم نعمتي)[23]!
وقال الرازي في تفسيره: (ومعنى أتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشريعة كأنه قال: اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي بسبب ذلك الاكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام)[24].
إذن هل حقاً جهلوا يوم إكمال الدين وعرفوا يوم إتمام النعمة!! أم إنَّ هناك ما يخفونه بخصوص يوم إكمال الدين، وهو ما يقوله الشيعة من انّه يوم بيعة امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) يوم الغدير.
رأي لعدد مهم من علماء أهل السنة في معنى إكمال الدين
خلافاً لرأي من يقول من علماء أهل السنّة بأن معنى إكمال الدين هو منع المشركين من الحج في حجة الوداع، فقد ذهب عدد معتد به من علماء أهل السنة الى رأي آخر يفسر معنى إكمال الدين، وهذا يعني ان رأي ابن جرير الطبري حول: "ارتباط إكمال الدين بمنع المشركين من الحج"، لم يكن مقنعاً لهم. وكما يلي:
قال ابن حجر في فتح الباري: (وقوله سبحانه اليوم أكملت لكم دينكم ظاهره يدل على أن أمور الدين كملت عند هذه المقالة وهي قبل موته صلى الله عليه وسلم بنحو ثمانين يوما فعلى هذا لم ينزل بعد ذلك من الاحكام شئ وفيه نظر وقد ذهب جماعة إلى أن المراد بالاكمال ما يتعلق بأصول الأركان لا ما يتفرع عنها)[25]. فما هي اصول الأركان التي نزلت في ذلك اليوم سوى ما يقوله الشيعة من انها نزول ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والتي هي ركن من أركان الاسلام عندهم!
وقال العيني في عمدة القاريء: (وقال ابن بطال: هذه الآية يعني قوله تعالى: * ( اليوم أكملت لكم دينكم ) * ( المائدة: 3 ) حجة في زيادة الإيمان ونقصانه، لأنها نزلت يوم كملت الفرائض والسنن واستقر الدين، وأراد الله عز وجل قبض نبيه، فدلت هذه الآية أن كمال الدين إنما يحصل بتمام الشريعة، فتصور كماله يقتضي تصور نقصانه، وليس المراد التوحيد، ولوجوده قبل نزول الآية)[26]. فماذا حصل في ذلك اليوم الذي يعتبرونه يوم إكمال الفرائض؟ ما هي الفريضة التي نزلت والتي اكتملت بها الفرائض يا أهل السُنّة؟!
وقال البيضاوي في تفسيره: (( اليوم أكملت لكم دينكم ) بالنصر والإظهار على الأديان كلها أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد. * ( وأتممت عليكم نعمتي ) * بالهداية والتوفيق أو بإكمال الدين أو بفتح مكة وهدم منار الجاهلية * ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) * اخترته لكم دينا من بين الأديان وهو الدين عند الله لا غير)[27].
وقال الغرناطي الكلبي[28]: ((اليوم أكملت لكم دينكم) * هذا الإكمال يحتمل أن يكون بالنصر والظهور أو بتعليم الشرائع وبيان الحلال والحرام)[29].
ولنا ان نسأل البيضاوي والغرناطي الكلبي، ومن خلالهما جميع أهل السنة: ما هي قواعد العقائد واصول الشرائع التي اشار اليها البيضاوي وما هي شرائع الحلال والحرام التي تمّ بيانها وبسببها إكتمل الدين؟ فإن قالوا هو إقامة الحج بدون مشاركة المشركين فقد بيّنا أنَّ الامر بهذا كان في سورة براءة سنة 9 هجرية، وإن قالوا إنَّه وقت تطبيق هذا الامر، فقد ناقشنا هذا المطلب في الفقرة السابقة تحت عنوان (أجوبة معاصرة عن إشكال مسألتنا)، فراجعها قبل قليل لطفاً.
وفي تفسير السعدي قال: (( اليوم أكملت لكم دينكم ) بتمام النصر، وتكميل الشرائع، الظاهرة والباطنة، الأصول والفروع. ولهذا كان الكتاب والسنة، كافيين كل الكفاية، في أحكام الدين، وأصوله وفروعه)[30]. إذن عنده إنَّه يوم إكمال الدين بتكميل الشرائع! ولكن ما هي الشرائع التي تمَّ تكميلها في ذلك اليوم؟ حيث لم يذكر أنّه نزلت في يوم عرفة من حجة الوداع آيات جديدة بالحلال والحرام!! وهكذا يبقى الأمر غامضاً حتى مع هذا التفسير الذي هو من التفاسير المعتبرة عند الوهابية (السلفية)!
(التتمة في الفقرة القادمة)
مقدمة
ذكرنا في مقالنا السابق سؤالين قاصمين للفكر السنَّي من حيث انَّ هذا الفكر، وهو في تأسيسه فكر أموي، غير قادر على ايراد إجابة مقنعة للجمهور الاسلامي عنهما، والسؤالان هما:
س1- القرآن الكريم هو المصدر الأساسي الأول للدين، فكيف إكتمل الدين بنزول آية إكمال الدين في سنة حجة الوداع ولم يكتمل القرآن الذي هو احد مصادر الدين، بسبب نزول آيات عديدة بعد آية إكمال الدين؟!
س2- السُنَّة النبوية الشريفة هي المصدر الأساسي الثاني للدين، فكيف إكتمل الدين بنزول آية إكمال الدين في سنة حجة الوداع، ولم تكتمل السُنّة النبوية الا بعد نزولها بفترة، حيث لا تكتمل السُنة الا بوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
وملخصهما معاً:
سؤال: كيف يكتمل الدين ولم يكتمل القرآن ولا السُنّة؟!!
وسنناقش في مقالنا هذا بعض الوجوه المحتملة التي قالها أو نحتمل أن يتقولها بعض علماء أهل السنّة، كإجابة لهذين السؤالين أو أحدهما، لنبين أنّ جميع ما قالوه أو يمكن أن يقولوه لا يصلح كدليل أو حجّة أو قرينة صالحة لإجابة أحد هذين السؤالين أو كليهما!!
اجوبة لبعض علماء أهل السنّة عن إشكال مسألتنا
ذكر الشيخ جلال الدين السيوطي أنَّ ابن جرير الطبري (224-310)هـ أي في القرن الثالث الهجري، هو أول من لاحظ مشكلة إكمال الدين قبل إكتمال نزول القرآن!! فحاول توجيه ذلك بقوله: (تنبيه: من المشكل على ما تقدم قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع، وظاهرها إكمال الفرائض والأحكام قبلها، وقد صرح بذلك جماعة منهم السدى فقال: لم ينزل بعدها حلال ولا حرام، مع أنه ورد في آية الربا والدين والكلالة أنها نزلت بعد ذلك. وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال: الأولى أن يتأول على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه حتى حجة المسلمون لا يخالطهم المشركون، ثم أيده بما أخرجه من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا، فلما نزلت براءة لفى المشركون عن البيت وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكان ذلك من تمام النعمة وأتممت عليكم نعمتي)[1].
فجعل معنى إكتمال الدين - بالرجوع الى ابن جرير الطبري في تفسيره - بأنه منع المشركين من الحج الى بيت الله الحرام!! وهو تفسير واضح الضعف. فالآية تتحدث عن إكمال الدين وإتمام النعمة وإرتضاء الإسلام ديناً، ومن غير المعقول أن يكتمل الدين سنة 10هـ لأن تشريع منع المشركين من حج بيت الله الحرام نزل قبل ذلك بسنة أي سنة نزول سورة التوبة في 9هـ!! فهل كانت مشكلة الاسلام وحروب المسلمين المتعددة مع المشركين هي في منع المشركين من الحج حتى إذا تحقق أصبح إكمالاً للدين وإتماماً للنعمة!! أم كان الاسلام يسعى لكسر شوكة الكفر ورفع راية التوحيد وبناء المجتمع الإيماني المؤمن بالتوحيد الحق والنبوة واليوم الآخر؟!
وسنلقي المزيد من الضوء على ضعف كلام ابن جرير الطبري، في الفقرة التالية.
أجوبة معاصرة عن إشكال مسألتنا
احد الذين حاولوا مناقشة هذا الموضوع من الوهابية (السلفية) هو الدكتور فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومّي[2]، وهو في مناقشته لنفس الإشكال لم يجد بُدّاً من اللجوء الى كلام ابن جرير الطبري في تفسيره، والظاهر انَّه لم يعثر على رأي لأبن تيمية في آية إكمال الدين وتعارضها مع نزول آيات فرائض أخرى بعدها[3]!! فاضطر الى اللجوء الى رأي ابن جرير الطبري! فقال: (إشكال ودفعه: قد يشكل فهم قوله تعالى: ((اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً)). فإن لم تكن هذه الآية هي آخر ما نزل، بل نزل بعدها آيات فكيف يقول: ((اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ))؟ والجواب: أن هذه الآية نزلت على الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يخطب في يوم عرفة في حجة الوداع[4] في السنة العاشرة، وبالتحديد ظهر يوم الجمعة 9/12/10هـ وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام توفي يوم الأثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة 11 هــ فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بنحو واحد وثمانين يوماً، وقد مرّ بنا أنّ قوله تعالى: (واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله)) قد نزلت قبل وفاته عليه الصلاة والسلام بتسع ليالٍ، وبهذا يظهر أن المراد بقوله تعالى: ((اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) الآية، ليس إكمال نزول القرآن أو أنَّ هذه الآية هي آخر ما نزل منه. وقد بيّن العلماء المراد بإكمال الدين فمن ذلك:
ما رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) وهو الاسلام قال: أخبر نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون الى زيادة أبداً، وقد أتمه الله – عزَّ ذكره – فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه فلا يسخطه أبداً وفسر قوله: ((وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)) بقوله: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً، فلما نزلت "براءة" فنفى المشركين عن البيت، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكان ذلك من تمام النعمة ((وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)).
أن المراد بإكمال الدين إكمال الحج، والمعنى اليوم أكملت لكم حجكم، فأفردتم بالبلد الحرام تحجونه أنتم أيها المؤمنون دون المشركين، لا يخالطكم في حجكم مشرك.
أن المراد بإكمال الدين إعلاء كلمته وظهوره على الدين كله، وفي حجة الوداع ظهرت شوكة هذا الدين وعلت كلمته، فقد كان المشركون يحجون مع المسلمين ويزاحمونهم في المشاعر فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يحج مشرك، فامتثل المشركون امره، وأعلى الله كلمته، ولم يجرؤ أحد منهم على مخالفته. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "وأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يقال: أن الله عزَّ وجلَّ أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أنه أكمل لهم – يوم أنزل هذه الآية – دينهم بإفرادهم البلد الحرام وإجلائه عنه المشركين، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطونهم المشركون")[5].
فهذا الجواب يتضمن ثلاث اجابات محتملة للإشكال تدور جميعها حول منع المشركين من الحج، مع انَّ هذا المنع نزل بسورة براءة سنة 9 هـ وتم تشريعه بقوله تعالى في الآية (28) من سورة التوبة: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)). فلماذا لم تنزل آية إكمال الدين بعد نزول تشريع منع المشركين من الحج؟!
وقد يقول قائل أن الدين إكتمل ليس لمنع المشركين من الحج في سورة براءة سنة 9هـ، بل بسبب تطبيق هذا المنع فعلاً والذي تمَّ في حجة الوداع! فنقول: هل إنَّ إكتمال الدين يكون بنزوله ام بتطبيقه؟ فإن كان بنزوله فهو حجة عليهم لأن نزول آية منع المشركين من الحج كان في سنة 9هـ، وإن كان في تطبيقه فقد تقهقر الزمان اليوم ولم يعد الدين بشريعته مطبّقاً في معظم البلاد الاسلامية كما اُنزِل، فهل الدين اليوم لم يعد مكتملاً؟!
فهب أنَّه في آخر الزمان عاد مشركون الى الحج فهل أنّه لن يكون الدين حينئذٍ مكتملاً؟!! ثم ألستم تنبزون الشيعة والصوفية وسائر أهل السنة من الاشعرية بأنهم "قبوريون" وأنَّهم "مشركون" لتعظيمهم الصالحين وقبورهم وأن ذلك شرك، مع أنهم يحجون في كل عام الى بيت الله الحرام، فعلى قولكم ذلك فإنَّ الدين لم يعد مكتملاً الآن!!
ثم أنَّه إذا كان الدين قد إكتمل وقت التطبيق لا وقت التنزيل فلماذا عمد بعض الصحابة الى تغيير بعض شرائعه "إجتهاداً" منهم في مقابل النص الواضح الجليِّ[6]! أليس تغيير التطبيق يعني تغييراً في إكمال الدين في هذه الحالة؟!
على أية حال، وكما يرى القاريء، لم نجد في كلام الدكتور فهد الرومي جواباً شافياً لإشكالية نزول آيات قرآنية بعد آية إكمال الدين.
تتمة كلام ابن جرير الطبري:
قال الطبري في تفسيره: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه (ص) والمؤمنين به، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم، بإفرادهم بالبلد الحرام، وإجلائه عنه المشركين، حتى حجه المسلمون دونهم، لا يخالطونهم المشركون. فأما الفرائض والاحكام، فإنه قد اختلف فيها، هل كانت أكملت ذلك اليوم أم لا؟ فروي عن ابن عباس والسدي ما ذكرنا عنهما قبل. وروي عن البراء بن عازب أن آخر آية نزلت من القرآن: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة. ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله (ص) إلى أن قبض، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا. فإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة آخرها نزولا وكان ذلك من الاحكام والفرائض، كان معلوما أن معنى قوله: اليوم أكملت لكم دينكم على خلاف الوجه الذي تأوله من تأوله، أعني: كمال العبادات والاحكام والفرائض. فإن قال قائل: فما جعل قول من قال: قد نزل بعد ذلك فرض أولى من قول من قال: لم ينزل؟ قيل لان الذي قال لم ينزل، مخبر أنه لا يعلم نزول فرض، والنفي لا يكون شهادة، والشهادة قول من قال: نزل، وغير جائز دفع خبر الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقا)[7].
وقد ناقشنا في الفقرة السابقة الجزء الاول من كلامه، ونناقش هنا الجزء الاخير من كلامه وهوقوله (لان الذي قال لم ينزل، مخبر أنه لا يعلم نزول فرض)، والحق ان من قال لم ينزل ليس أنه لا يعلم بنزول فرض بل انه يجزم بعدم نزوله، وشتان بين الأمرين، وتأويل ابن جرير لهذا الامر فيه تدليس على اصحاب الرأي القائل بأنه لم ينزل فرض بعد آية إكمال الدين، وابرزهم ابن عباس والسدّي. انظر الى كلامهما الذي نقله ابن جرير الطبري نفسه:
"عن ابن عباس، قوله: اليوم أكملت لكم دينكم وهو الاسلام، قال: أخبر الله نبيه (ص) والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الايمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا"[8].
وروى بسنده وفيه: "ثنا أسباط عن السدي، قوله: اليوم أكملت لكم دينكم هذا نزل يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ورجع رسول الله (ص) فمات"[9].
وكلام ابن جرير قد يخص الرواية الثانية عن السدّي، إذ كلام ابن عباس أجنبي عن مقصد ابن جرير. فليس كلام السدّي انه لا يعلم بنزول فريضه بعدها لكي يصح ما قاله ابن جرير عن تقديم الاثبات على النفي، بل السدّي يجزم بعدم نزول فريضة بعد آية إكمال الدين أي أنًّ لديه علم بعدم نزول الفريضة.
أقوال "آخر آية اُنزِلَتْ" غير مرفوعة
يقول بعض أهل السنّة أنَّ الأقوال المذكورة حول آخر آية هي غير مرفوعة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم). قال السيوطي في الاتقان: (وقال القاضي أبو بكر في الانتصار: هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع الى النبي صلى الله عليه وسلم وكل قاله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن ويحتمل أن كلا منهم أخبر ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو ويحتمل أيضاً أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم مع آيات نزلت معها فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب انتهى)[10].
وقال البيهقي حول الآختلاف في آخر ما نزل من القرآن الكريم: (هذا الاختلاف يرجع، والله اعلم، الى ان كل واحد منهم أخبر بما عنده من العلم، أو اراد أن ما ذكر من أواخر الآيات التي نزلت، والله اعلم)[11]. وقال الذهبي: (فحاصله أن كلا منهم أخبر بمقتضى ما عنده من العلم)[12]!
فعجباً لأولئك الصحابة والتابعين، فعلى قول البيهقي الاخير فلماذا لم يقل اي صحابي أو تابعي أنَّ آية إكمال الدين هي من "أواخر الآيات التي نزلت" على حد تعبير البيهقي! فإن لم تكن آية إكمال الدين هي آخر آية اُنزِلَتْ فهي من المحتمل جداً أنّها قد تكون ما قبل الأخيرة[13]، ومع ذلك لم يتطرق اليها أي صحابي أو تابعي!! وعلى قول الذهبي فهل أصبح الدين مستنداً الى قول رجال يقولون بحسب معرفتهم الناقصة فإن اختلفت معرفتهم اختلف دينهم!!
فعلى ما ذكره السيوطي والبيهقي يمكن ان يُخطأ قائل تلك الأقوال، من الصحابة والتابعين، خصوصاً من قالوا بنزول آيات الفرائض بعد آية إكمال الدين. وأن الحق هو قول من يقول بنزول آيات هداية دون آيات فرائض، بعد آية إكمال الدين، فيكون الدين مكتملاً رغم عدم إكتمال القرآن بنزول آيات من غير آيات الفرائض. ونفس الأمر بالنسبة للسُنّة النبوية، فما صدر منها وهو متعلق بالفرائض قد إكتمل صدوره ولذلك نزلت آية إكمال الدين أمّا بقية السُنّة التي صدرت بعد ذلك فهي متعلقة بأمور الهداية العامة!!
وجواب ذلك ان قولهم بأن الدين إكتمل بإتمام آيات الفرائض يعني أنّ الدين هو الفرائض فقط ! فهذا يعني أنَّ آيات الهداية التي نزلت بعد آية إكمال الدين ليست من الدين، وكذلك السُنَّة النبوية المتعلقة بالهداية والعقيدة والتي صدرت بعد نزول آية إكمال الدين هي ليست من الدين!! وهذا يعني أيضاً أنَّ مفهوم الدين عندهم هو فقط المفهوم (الفقهي) المتعلق بالفرائض!! فهل يقبل أهل السُنّة بهذا التعريف للدين أي أنَّه فقط (الفقه) أو (الفروع) فقط دون أصول الدين والاخلاق! وعلى هذا هل يقبل اهل السُنّة بأنَّ قوله تعالى في الآية (19) من سورة آل عمران (عليهم السلام): ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)) يعني بالدين (الفقه فقط) وليس مجمل المنظومة من اصول (عقيدة)، وفروع (فقه)، واخلاق.
وهذا الإشكال لا ينطبق على الشيعة لكون قولهم بأنَّ آية إكمال الدين نزلت بعد نزول آخر الفرائض وهي "فريضة الولاية" لا يتعارض مع نزول آيات أخرى متعلقة بالعقيدة أو الهداية أو بفرائض أخرى بعد آية إكمال الدين[14]، لأن الهداية عندهم مستمرة بإستمرارية الولاية والإمامة لكونهم هم الهُداة الى الحق، وهم مصدر حيّ للعقيدة والفقه والاخلاق، فالإمام (عليه السلام) هو مصدر الهداية المستمرة عندهم كما إنّه القيّم على الدين والممثل له والمحافظ عليه.
ومن جهة أخرى انّه إذا أخطأ علماء أهل السنة تبعاً لخطأ الصحابة والتابعين في معرفة الآية الاخيرة التي نزلت فهذا يعني عدم حجّية قول الصحابي! وأنَّهم قد اخطأوا في معرفة ترتيب نزول آيات القرآن الكريم وبذلك يكونون قد أخطأوا في معرفة الناسخ والمنسوخ فيكون فقههم باطلاً!! ليس هذا فحسب بل هناك جملة من الفوائد ذكروها لمعرفة اوائل واواخر ما نزل من آيات القرآن الكريم، سنستعرضها بعد قليل. فخطأهم في معرفة آخر آيات القرآن نزولاً يعني انتفاء هذه الفوائد المذكورة، وما في ذلك من خطورة على الفقه والتاريخ والسيرة!!
والفوائد التي ذكروها لمعرفة أوائل وآخر ما نزل من القرآن الكريم هي كما كتبها الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني[15]:
1- تمييز الناسخ من المنسوخ فيما إذا وردت آيتان أو آيات على موضوع واحد وكان الحكم في إحدى هذه الآيات يغاير الحكم في الأخرى. واضاف الدكتور الرومي: فإن معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل تعين على معرفة الناسخ من المنسوخ"[16].
2- ومن فوائده أيضاً، معرفة تاريخ التشريع الإسلامي ومراقبة سيره التدريجي والوصول من وراء ذلك إلى حكمة الإسلام وسياسته في أخذه الناس بالهوادة والرفق، والبعد بهم عن غوائل الطفْرَة والعُنف، سواءً في ذلك هدم ما مَرَدُوا عليه من باطل، وبناء ما لم يحيطوا بعلمه من حق. وقال الدكتور الرومي: "معرفة تاريخ التشريع الإسلامي وتدرجه الحكيم في التشريع، وقد مر بنا استعراض المراحل التي مر بها تحريم الخمر وكيف تمت مراعاة أحوالهم حيث اعتادوا شرب الخمر، لا يكاد يخلو منها بيت وكيف تدرج في علاج هذه المشكلة حتى خرجوا إلى بر الأمان والسلامة والإسلام بحكمة بالغة"[17].
إظهار مدى العناية التي اُحيط بها القرآن الكريم، حتى عُرف فيه أول ما نزل وآخر ما نزل، كما عُرف مكيّه ومدنيه، وسفريه وحضريه، الى غير ذلك، ولا ريب أنّ هذا مظهر من مظاهر الثقة به، ودليل على سلامته من التغيير والتبديل ((لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم))[18].
قال الدكتور فهد الرومي في فوائدها: "الاستعانة بمعرفة أول ما نزل وآخر ما نزل في تفسير القرآن التفسير السليم واستنباط الحكم الصحيح، وقد عرفنا ذلك في معرفة أول وآخر ما نزل في الربا والجهاد والخطأ الذي وقع فيه بعضهم بسبب جهل معرفة أول وآخر ما نزل[19].
قال الدكتور فهد الرومي في فوائدها: " تذوق أساليب القرآن الكريم والاستفادة من ذلك في أسلوب الدعوة إلى الله تعالى حيث يكون بأسلوب لتقرير حكم ثم يختلف الأسلوب لتقرير حكم آخر بالوعد مرة والوعيد أخرى وبالترغيب أو الترهيب أو بالتخيير أو الإلزام حسب ما يناسب الحال.
قال الدكتور فهد الرومي في فوائدها: " معرفة السيرة النبوية وترتيب أحداثها حسب حديث القرآن عنها ومتابعة أحوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومواقفه في الدعوة في مكة وسيرته في الدعوة إلى الله بعد الهجرة؛ مما يوقف الدعاة خاصة والمسلمين عامة على أصدق حديث عن أفضل سيرة لأحسن قدوة عليه الصلاة والسلام[20].
وقال الدكتور فهد الرومي في فوائدها: " إظهار عناية الصحابة والعلماء من بعدهم بالقرآن الكريم حتى عرفوا أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن كله وفي كل حكم من أحكامه الذي لا يمكن الوصول إليه وإدراكه إلا بالجهد الكبير والاهتمام العظيم مما يوجب على من بعدهم الاقتداء بهم والسير على نهجهم"[21].
فالقول بأن الصحابة والتابعين أخطأوا في تعيين آخر ما نزل من القرآن الكريم يعني الطعن في هذه الفوائد المذكورة آنفاً، فمن يخطيء في موضع منها يمكن أن يخطيء في المواضع الأخرى!! وفي هذا القول مجازفة كبيرة.
يوم إكمال الدين ليس مخصوصاً!
هناك رأي رواه ابن جرير الطبري عن ابن عباس ومفاده ان يوم إكمال الدين ليس يوماً مخصوصاً!! قال: (وقال آخرون: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس، وإنما معناه اليوم الذي أعلمه أنا دون خلقي، أكملت لكم دينكم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: اليوم أكملت لكم دينكم يقول: ليس بيوم معلوم يعلمه الناس)[22].
فهذه الرواية تذكر ان يوم إكمال الدين "مجهول"! ولكن في نفس الوقت هناك روايات أخرى تبيِّن المقصود بإتمام النعمة! فكيف يجهلون يوم إكمال الدين ويعرفون إتمام النعمة، وهما مرتبطان معاً!! قال ابن جرير الطبري في تفسيره: (حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا، فلما نزلت براءة، فنفي المشركين عن البيت، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكأن ذلك من تمام النعمة: وأتممت عليكم نعمتي)[23]!
وقال الرازي في تفسيره: (ومعنى أتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشريعة كأنه قال: اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي بسبب ذلك الاكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام)[24].
إذن هل حقاً جهلوا يوم إكمال الدين وعرفوا يوم إتمام النعمة!! أم إنَّ هناك ما يخفونه بخصوص يوم إكمال الدين، وهو ما يقوله الشيعة من انّه يوم بيعة امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) يوم الغدير.
رأي لعدد مهم من علماء أهل السنة في معنى إكمال الدين
خلافاً لرأي من يقول من علماء أهل السنّة بأن معنى إكمال الدين هو منع المشركين من الحج في حجة الوداع، فقد ذهب عدد معتد به من علماء أهل السنة الى رأي آخر يفسر معنى إكمال الدين، وهذا يعني ان رأي ابن جرير الطبري حول: "ارتباط إكمال الدين بمنع المشركين من الحج"، لم يكن مقنعاً لهم. وكما يلي:
قال ابن حجر في فتح الباري: (وقوله سبحانه اليوم أكملت لكم دينكم ظاهره يدل على أن أمور الدين كملت عند هذه المقالة وهي قبل موته صلى الله عليه وسلم بنحو ثمانين يوما فعلى هذا لم ينزل بعد ذلك من الاحكام شئ وفيه نظر وقد ذهب جماعة إلى أن المراد بالاكمال ما يتعلق بأصول الأركان لا ما يتفرع عنها)[25]. فما هي اصول الأركان التي نزلت في ذلك اليوم سوى ما يقوله الشيعة من انها نزول ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والتي هي ركن من أركان الاسلام عندهم!
وقال العيني في عمدة القاريء: (وقال ابن بطال: هذه الآية يعني قوله تعالى: * ( اليوم أكملت لكم دينكم ) * ( المائدة: 3 ) حجة في زيادة الإيمان ونقصانه، لأنها نزلت يوم كملت الفرائض والسنن واستقر الدين، وأراد الله عز وجل قبض نبيه، فدلت هذه الآية أن كمال الدين إنما يحصل بتمام الشريعة، فتصور كماله يقتضي تصور نقصانه، وليس المراد التوحيد، ولوجوده قبل نزول الآية)[26]. فماذا حصل في ذلك اليوم الذي يعتبرونه يوم إكمال الفرائض؟ ما هي الفريضة التي نزلت والتي اكتملت بها الفرائض يا أهل السُنّة؟!
وقال البيضاوي في تفسيره: (( اليوم أكملت لكم دينكم ) بالنصر والإظهار على الأديان كلها أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد. * ( وأتممت عليكم نعمتي ) * بالهداية والتوفيق أو بإكمال الدين أو بفتح مكة وهدم منار الجاهلية * ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) * اخترته لكم دينا من بين الأديان وهو الدين عند الله لا غير)[27].
وقال الغرناطي الكلبي[28]: ((اليوم أكملت لكم دينكم) * هذا الإكمال يحتمل أن يكون بالنصر والظهور أو بتعليم الشرائع وبيان الحلال والحرام)[29].
ولنا ان نسأل البيضاوي والغرناطي الكلبي، ومن خلالهما جميع أهل السنة: ما هي قواعد العقائد واصول الشرائع التي اشار اليها البيضاوي وما هي شرائع الحلال والحرام التي تمّ بيانها وبسببها إكتمل الدين؟ فإن قالوا هو إقامة الحج بدون مشاركة المشركين فقد بيّنا أنَّ الامر بهذا كان في سورة براءة سنة 9 هجرية، وإن قالوا إنَّه وقت تطبيق هذا الامر، فقد ناقشنا هذا المطلب في الفقرة السابقة تحت عنوان (أجوبة معاصرة عن إشكال مسألتنا)، فراجعها قبل قليل لطفاً.
وفي تفسير السعدي قال: (( اليوم أكملت لكم دينكم ) بتمام النصر، وتكميل الشرائع، الظاهرة والباطنة، الأصول والفروع. ولهذا كان الكتاب والسنة، كافيين كل الكفاية، في أحكام الدين، وأصوله وفروعه)[30]. إذن عنده إنَّه يوم إكمال الدين بتكميل الشرائع! ولكن ما هي الشرائع التي تمَّ تكميلها في ذلك اليوم؟ حيث لم يذكر أنّه نزلت في يوم عرفة من حجة الوداع آيات جديدة بالحلال والحرام!! وهكذا يبقى الأمر غامضاً حتى مع هذا التفسير الذي هو من التفاسير المعتبرة عند الوهابية (السلفية)!
(التتمة في الفقرة القادمة)
تعليق