نحو التحقيق الدولي
جوزف سماحة
صدر أخيراً، التقرير المنتظر للجنة تقصي الحقائق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. انه نوع من التقارير يسمح للمعارضة باستئناف هجوم كانت شرعت فيه، كما يسمح للموالاة بأن تحتمي ببعض ما ورد فيه.
يمكن تقسيم التقرير إلى ثلاثة أجزاء: سياسي، أمني، عملاني.
يبدو بيتر فيتزجيرالد حاسماً في الشق السياسي. تذهب المسؤولية مباشرة إلى دمشق في <<توتير>> الاجواء السابقة للاغتيال. ويكاد يكون هذا الشق تكراراً لرواية المعارضة اللبنانية عن الاحداث اعتباراً من التمديد وصدور القرار 1559 بما في ذلك الايحاء بأن الأول هو الاصل. صحيح ان البعثة تنقل آراء موالين ولكنها تفعل ذلك من باب رفع العتب. وعند توصيف الدور السياسي للرئيس الشهيد تتبنى البعثة رأي غلاة المعارضين في الدور الاعتراضي للحريري وهو رأي يستحق، في أقل تقدير، نقاشاً مستفيضاً من أجل جلاء التعقيدات التي وإن ابعدت الحريري عن الموالاة فإنها لا تضعه في الخانة نفسها للمعارضين كافة.
أما في ما يخص الشق الأمني فإن التقرير يبدو أقل حسماً في تناوله لهذه المسألة بمعناها العام. صحيح ان ثمة اتهامات واضحة بعدم الرغبة في التوصل إلى <<الحقيقة>>، ولكن الصحيح، أيضاً، ان الاشارات عديدة إلى عدم القدرة، وإلى الفوضى، وإلى ضعف التنسيق، وإلى عدم احترام مسرح الجريمة، الخ... ويصعب أحياناً الفصل بين الأمرين خاصة إذا احتكمنا، كما هو مطلوب، إلى المعايير الدولية.
أما في ما يخص الشق العملاني فإن التقرير يطرح أسئلة أكثر مما يقدم أجوبة. وهو يعترف بذلك ويستند إليه للمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دولية ولكن بعد إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية. في هذا الشق يشكك التقرير في روايات رسمية، ولكنه ينفي نفياً قاطعاً روايات نسبت إلى معارضين وشكلت أساساً لحملة إعلامية وسياسية في منتهى الشراسة حاولت الانتقال من الاستدلال إلى القرينة.
يشبه التقرير، بهذا المعنى، التظاهرات والاعتصامات في ساحة الشهداء. فهذه تنهض على فرضيتين: الأولى اننا نعرف الحقيقة تماماً بدءاً من المسؤولية السياسية وصولاً إلى المسؤولية الجنائية، والثانية أننا نطالب بمعرفة الحقيقة. الفرضيتان متعارضتان إلا إذا كان القصد بتطلب الحقيقة التعرّف على التفاصيل التقنية. لم يسبق ان طالب مليون شخص بحقيقة يعرفونها أو يعيشون ثقة لا التباس فيها بأنهم قابضون على ناصيتها.
يهبط التقرير، بمجرد صدوره، على واقع سياسي مأزوم فيزيده تأزماً. إذا أخذنا موضوع الحكومة المؤجل تشكيلها مثلاً فإننا سنشهد زيادة التداخل بين السياسي والأمني. لقد بات صعباً جداً تشكيل حكومة وحدة وطنية لا تتبنى بندي التقرير (لجنة التحقيق الدولي، وإعادة هيكلة الأجهزة) ما يعني ان الرئيس عمر كرامي متجه نحو استقالة محتومة إذا لم يوافق على الشرطين. غير ان السؤال هو ما إذا كان التقرير اطاح أم لا بفكرة الحكومة الحيادية. ان هذا الموضوع سيكون مطروحاً، إذا كان مطروحاً، في وقت يتأهب فيه مجلس الأمن لإصدار قرار جديد بتشكيل لجنة تحقيق دولية. لا حياد في هذا المجال. على الحكومة العتيدة ان تقبل التعاون أو ان ترفضه. ويمكن ترجيح انه بين الاسماء المطروحة لترؤس حكومة حيادية ما من اسم يرضى صاحبه الدخول في مواجهة مع <<المجتمع الدولي>>، علما انها مواجهة لا تمت بصلة، من ناحية صعوبتها الداخلية، إلى تلك التي يمكن ان تخاض ضد القرار 1559.
يبقى، إذاً، اللجوء إلى حكومة اللون الواحد (إلا إذا حصلت مفاجأة يقدم عليها الرئيس اميل لحود). إلا ان حكومة اللون الواحد المتجهة نحو خسارة مؤكدة في الانتخابات النيابية القريبة لن تقبل ان تتحول إلى حكومة تسليم شؤون البلاد إلى معارضة تطلب رأسها، لا شيء يمنع ان يقترح البعض إدخال تعديل جذري على قانون الانتخاب. ولا شيء يمنع، إذا اعلنت جدولة الانسحاب السوري، ان ترتفع اصوات تطالب بالتطبيق الفوري لبنود اخرى معلقة في <<اتفاق الطائف>>، لا يعني ما تقدم ان هذه المبادرات ستأتي في سياق البحث عن حلول. كلا، ستكون، على الارجح، جزءاً من قرار باستمرار المواجهة وتصعيدها ودفعها نحو الاحتدام مع ما قد يعنيه ذلك من تأجيل للانتخابات اللبنانية.
إننا اليوم امام وضع يتسم بالتالي: ان الازمة اللبنانية المفتوحة هي، اليوم، مفتوحة اكثر وقد امكن ايجاد عنصر الربط بينها وبين الوضع السوري. ان هذا هو الجديد المهم في الاستثمار السياسي المحتمل للتقرير الدولي. انه استثمار قد لا يمانع في تعليق الازمة اللبنانية معتبراً ان العلاج هو في افتتاح ازمة سورية. والمقصود بالازمة السورية المراوحة بين حدين. الحد الاول هو الضغط الكثيف على دمشق من أجل حرمانها من اي دور لها في لبنان وإرغامها على التسليم بإفراغ الساحة للآخرين الذين يحق لهم،
وحدهم، ملء الفراغ. أما الحد الثاني فهو الاستناد الى التحقيق الدولي من اجل مد اليد الى الداخل السوري وفي قضية شديدة الحساسية من نوع عمل الاجهزة الامنية ومسؤولياتها وتراتبيتها ومرجعياتها السياسية.
ان اعادة قراءة دقيقة للتقرير الدولي، في الجانب المتعلق منه بسوريا، تقودنا الى ملاحظة الامور التالية:
اولا ان <<المشكلة>>، في عرف التقرير، هي في النفوذ السياسي السوري في لبنان لا في الوجود العسكري. ان رسم الاطار السياسي للجريمة، كما ورد في التقرير، يعني ان الصلة المباشرة قائمة بين الرغبة في ممارسة هذا النفوذ وبين الاضطراب الحاصل في لبنان.
ثانيا ان المشكلة، ايضاً، ليست في تجاوزات تقدم عليها اجهزة الاستخبارات السورية في لبنان. انها في القرار السياسي المركزي المتخذ على أعلى المستويات قاطبة في دمشق. وليس تفصيلاً ان ترد جملة تفيد ان هناك من طلب مقابلة الرئيس بشار الأسد لتوجيه اسئلة إليه. هل تسند هذه المهمة، او يلوّح بأسنادها، الى اللجنة الجديدة؟
ثالثا ان المشكلة، أيضا وأخيراً، هي في الصياغة السورية الاجمالية للوضعين الأمني والسياسي اللبناني.
إذا توجه مجلس الأمن بسرعة نحو الدعوة الى تشكيل لجنة تحقيق دولية، تؤسس على تقصّي الحقائق وتذهب ابعد من ذلك، وإذا كانت صلاحيات اللجنة واسعة، فإن المؤشرات الكافية متوافرة من اجل توقع تصاعد حاد في الازمة، علما بأنه لا مجال، لا سياسيا ولا أخلاقيا، لرفض التحقيق الدولي.
قد لا يجعلنا ذلك نقترب من ملامسة <<الحقيقة>> التي يريدها لبنانيون. غير اننا سنقترب، بالضرورة، من <<حقيقة>> السياسة الاميركية حيال المنطقة، وهي سياسة لا يتوجب الكف عن القول إنها تجمع عدوانية الغزوة الاستعمارية الى التوسعية الاسرائيلية. واللافت ان هذه <<الحقيقة السياسية>> لا يضعف حجم الإقبال الايجابي عليها نتيجة إقدام التقرير على إرجاء معرفة <<الحقيقة>> الاخرى الى تحقيق لاحق.
جوزف سماحة
صدر أخيراً، التقرير المنتظر للجنة تقصي الحقائق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. انه نوع من التقارير يسمح للمعارضة باستئناف هجوم كانت شرعت فيه، كما يسمح للموالاة بأن تحتمي ببعض ما ورد فيه.
يمكن تقسيم التقرير إلى ثلاثة أجزاء: سياسي، أمني، عملاني.
يبدو بيتر فيتزجيرالد حاسماً في الشق السياسي. تذهب المسؤولية مباشرة إلى دمشق في <<توتير>> الاجواء السابقة للاغتيال. ويكاد يكون هذا الشق تكراراً لرواية المعارضة اللبنانية عن الاحداث اعتباراً من التمديد وصدور القرار 1559 بما في ذلك الايحاء بأن الأول هو الاصل. صحيح ان البعثة تنقل آراء موالين ولكنها تفعل ذلك من باب رفع العتب. وعند توصيف الدور السياسي للرئيس الشهيد تتبنى البعثة رأي غلاة المعارضين في الدور الاعتراضي للحريري وهو رأي يستحق، في أقل تقدير، نقاشاً مستفيضاً من أجل جلاء التعقيدات التي وإن ابعدت الحريري عن الموالاة فإنها لا تضعه في الخانة نفسها للمعارضين كافة.
أما في ما يخص الشق الأمني فإن التقرير يبدو أقل حسماً في تناوله لهذه المسألة بمعناها العام. صحيح ان ثمة اتهامات واضحة بعدم الرغبة في التوصل إلى <<الحقيقة>>، ولكن الصحيح، أيضاً، ان الاشارات عديدة إلى عدم القدرة، وإلى الفوضى، وإلى ضعف التنسيق، وإلى عدم احترام مسرح الجريمة، الخ... ويصعب أحياناً الفصل بين الأمرين خاصة إذا احتكمنا، كما هو مطلوب، إلى المعايير الدولية.
أما في ما يخص الشق العملاني فإن التقرير يطرح أسئلة أكثر مما يقدم أجوبة. وهو يعترف بذلك ويستند إليه للمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دولية ولكن بعد إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية. في هذا الشق يشكك التقرير في روايات رسمية، ولكنه ينفي نفياً قاطعاً روايات نسبت إلى معارضين وشكلت أساساً لحملة إعلامية وسياسية في منتهى الشراسة حاولت الانتقال من الاستدلال إلى القرينة.
يشبه التقرير، بهذا المعنى، التظاهرات والاعتصامات في ساحة الشهداء. فهذه تنهض على فرضيتين: الأولى اننا نعرف الحقيقة تماماً بدءاً من المسؤولية السياسية وصولاً إلى المسؤولية الجنائية، والثانية أننا نطالب بمعرفة الحقيقة. الفرضيتان متعارضتان إلا إذا كان القصد بتطلب الحقيقة التعرّف على التفاصيل التقنية. لم يسبق ان طالب مليون شخص بحقيقة يعرفونها أو يعيشون ثقة لا التباس فيها بأنهم قابضون على ناصيتها.
يهبط التقرير، بمجرد صدوره، على واقع سياسي مأزوم فيزيده تأزماً. إذا أخذنا موضوع الحكومة المؤجل تشكيلها مثلاً فإننا سنشهد زيادة التداخل بين السياسي والأمني. لقد بات صعباً جداً تشكيل حكومة وحدة وطنية لا تتبنى بندي التقرير (لجنة التحقيق الدولي، وإعادة هيكلة الأجهزة) ما يعني ان الرئيس عمر كرامي متجه نحو استقالة محتومة إذا لم يوافق على الشرطين. غير ان السؤال هو ما إذا كان التقرير اطاح أم لا بفكرة الحكومة الحيادية. ان هذا الموضوع سيكون مطروحاً، إذا كان مطروحاً، في وقت يتأهب فيه مجلس الأمن لإصدار قرار جديد بتشكيل لجنة تحقيق دولية. لا حياد في هذا المجال. على الحكومة العتيدة ان تقبل التعاون أو ان ترفضه. ويمكن ترجيح انه بين الاسماء المطروحة لترؤس حكومة حيادية ما من اسم يرضى صاحبه الدخول في مواجهة مع <<المجتمع الدولي>>، علما انها مواجهة لا تمت بصلة، من ناحية صعوبتها الداخلية، إلى تلك التي يمكن ان تخاض ضد القرار 1559.
يبقى، إذاً، اللجوء إلى حكومة اللون الواحد (إلا إذا حصلت مفاجأة يقدم عليها الرئيس اميل لحود). إلا ان حكومة اللون الواحد المتجهة نحو خسارة مؤكدة في الانتخابات النيابية القريبة لن تقبل ان تتحول إلى حكومة تسليم شؤون البلاد إلى معارضة تطلب رأسها، لا شيء يمنع ان يقترح البعض إدخال تعديل جذري على قانون الانتخاب. ولا شيء يمنع، إذا اعلنت جدولة الانسحاب السوري، ان ترتفع اصوات تطالب بالتطبيق الفوري لبنود اخرى معلقة في <<اتفاق الطائف>>، لا يعني ما تقدم ان هذه المبادرات ستأتي في سياق البحث عن حلول. كلا، ستكون، على الارجح، جزءاً من قرار باستمرار المواجهة وتصعيدها ودفعها نحو الاحتدام مع ما قد يعنيه ذلك من تأجيل للانتخابات اللبنانية.
إننا اليوم امام وضع يتسم بالتالي: ان الازمة اللبنانية المفتوحة هي، اليوم، مفتوحة اكثر وقد امكن ايجاد عنصر الربط بينها وبين الوضع السوري. ان هذا هو الجديد المهم في الاستثمار السياسي المحتمل للتقرير الدولي. انه استثمار قد لا يمانع في تعليق الازمة اللبنانية معتبراً ان العلاج هو في افتتاح ازمة سورية. والمقصود بالازمة السورية المراوحة بين حدين. الحد الاول هو الضغط الكثيف على دمشق من أجل حرمانها من اي دور لها في لبنان وإرغامها على التسليم بإفراغ الساحة للآخرين الذين يحق لهم،
وحدهم، ملء الفراغ. أما الحد الثاني فهو الاستناد الى التحقيق الدولي من اجل مد اليد الى الداخل السوري وفي قضية شديدة الحساسية من نوع عمل الاجهزة الامنية ومسؤولياتها وتراتبيتها ومرجعياتها السياسية.
ان اعادة قراءة دقيقة للتقرير الدولي، في الجانب المتعلق منه بسوريا، تقودنا الى ملاحظة الامور التالية:
اولا ان <<المشكلة>>، في عرف التقرير، هي في النفوذ السياسي السوري في لبنان لا في الوجود العسكري. ان رسم الاطار السياسي للجريمة، كما ورد في التقرير، يعني ان الصلة المباشرة قائمة بين الرغبة في ممارسة هذا النفوذ وبين الاضطراب الحاصل في لبنان.
ثانيا ان المشكلة، ايضاً، ليست في تجاوزات تقدم عليها اجهزة الاستخبارات السورية في لبنان. انها في القرار السياسي المركزي المتخذ على أعلى المستويات قاطبة في دمشق. وليس تفصيلاً ان ترد جملة تفيد ان هناك من طلب مقابلة الرئيس بشار الأسد لتوجيه اسئلة إليه. هل تسند هذه المهمة، او يلوّح بأسنادها، الى اللجنة الجديدة؟
ثالثا ان المشكلة، أيضا وأخيراً، هي في الصياغة السورية الاجمالية للوضعين الأمني والسياسي اللبناني.
إذا توجه مجلس الأمن بسرعة نحو الدعوة الى تشكيل لجنة تحقيق دولية، تؤسس على تقصّي الحقائق وتذهب ابعد من ذلك، وإذا كانت صلاحيات اللجنة واسعة، فإن المؤشرات الكافية متوافرة من اجل توقع تصاعد حاد في الازمة، علما بأنه لا مجال، لا سياسيا ولا أخلاقيا، لرفض التحقيق الدولي.
قد لا يجعلنا ذلك نقترب من ملامسة <<الحقيقة>> التي يريدها لبنانيون. غير اننا سنقترب، بالضرورة، من <<حقيقة>> السياسة الاميركية حيال المنطقة، وهي سياسة لا يتوجب الكف عن القول إنها تجمع عدوانية الغزوة الاستعمارية الى التوسعية الاسرائيلية. واللافت ان هذه <<الحقيقة السياسية>> لا يضعف حجم الإقبال الايجابي عليها نتيجة إقدام التقرير على إرجاء معرفة <<الحقيقة>> الاخرى الى تحقيق لاحق.
تعليق