السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه الغر الميامين ومن اتبعهم باحسان الى يوم الدين
حتى نبدأ ونفهم البسطاء و المتغابين أوليات الموضوع يجب بداية ان نعرف التمذهب او المذهبية
المذهبية : هي ان يقلد العامي او من لم يبلغ درجة الاجتهاد مذهب امام مجتهد سواء التزم واحد بعينه او عاش يتحول من امام لآخر
الآن لمعرفة صحة التمذهب او التقليد لا بد من التركيز على النقاط التالية:
النقطة الأولى :لا مناص من التقليد وهو مشروع باجماع المسلمين :
و التقليد هو نفس التمذهب و هو اتباع قول انسان دون معرفة الحجة على صحة هذا القول وان توفرت معرفة الحجة على صحة التقليد
الدليل على وجوب التقليد عند عدم التمكن من الاجتهاد :من وجوه:
الوجه الأول: قوله تعالى( فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لاتعلمون)
أجمع العلماء ان الأية امر لمن لا يعلم الحكم و لا يعلم دليل الحكم باتباع من يعلم ذلك وهذه الأية هي الحجة الأساسية لعلماء الأصول في وجوب التقليد للعامي
و مثل ذلك
الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي
الجزء 8.
سورة التوبة.
الآية: 122 {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}.
الآية: 122 {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}
قوله تعالى: "وما كان المؤمنون" وهي أن الجهاد ليس على الأعيان وأنه فرض كفاية كما تقدم؛ إذ لو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد وليقم فريق يتفقهون في الدين ويحفظون الحريم، حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع، وما تجدد نزول على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى: "إلا تنفروا" [التوبة: 39] وللآية التي قبلها؛ على قول مجاهد وابن زيد.
الوجه الثاني : ما دل عليه الاجماع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يتفاوتون في العلم و لم يكونوا كما يقول ابن خلدون جميعا اهل فتيا بل كان فيهم المفتي المجتهد وفيهم المستفتي المقلد و لم يكن المفتي يلتزم بذكر الدليل للمستفتي و كان النبي صلى الله عليه و سلم يبعث الفقيه من اصحابه الى المكان الذي لا يعلم اصحابه من الاسلام الا عقيدته فيتبعونه بكل ما يفتيهم به من الأعمال و العبادات و المعاملات و ربما اعترضه ما لا يوجد فيه نص صريح فيجتهد و يفتيهم باجتهاده فيتبعونه . و مثال ذلك حوار النبي صلى الله عليه و سلم مع معاذ بن جبل رضي الله عنه في مسند الامام أحمد :
مسند الأنصار رضي الله عنهم.
حديث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه.
حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي عون عن الحرث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص عن معاذ:
-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن فقال: كيف تصنع إن عرض لك قضاء قال: أقضي بما في كتاب الله قال: فإن لم يكن في كتاب الله قال: قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اجتهد رأيي لا آلو قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الغزالي في المستصفى في باب التقليد و الاستفتاء مستدلا على ان العامي ليس له الا التقليد ما نصه: و نستدل على ذلك بمسلكين : أحدهما اجماع الصحابة فانهم كانوا يفتون العوام و لا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد)
و قال الآمدي في كتابه الإحكام : ( و اما الاجماع فهو أنه لم تزل العامة في زمن الصحابة و التابعين قبل حدوث المخالفين يستفتون المجتهدين و يتبعونهم في الأحكام الشرعية و العلماء منهم يبادرون الى اجابة سؤالهم من غير إشارة الى ذكر الدليل و لا ينهونهم عن ذلك من غير نكير فكان اجماعا على جواز اتباع العامي للمجتهد مطلقا )
و قد كان المتصدرون للفتوى في عصر الصحابة أفراد محصورين عرفوا بين الصحابة بالفقه و الرواية و ملكة الاستنباط و أشهرهم الخلفاء الأربعة و عبد الله بن مسعود و ابو موسى الأشعري و معاذ بن جبل و ابي بن كعب و زيد بن ثابت أما المقلدون فهم فوق الحصر.
أما في عهد التابعين فقد اتسعت دائرة الاجتهاد و سلك المسلمون في هذه العهود نفس طريق اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الاان الاجتهاد تمثل في مذهبين رئيسين هما مذهبا الرأي و الحديث بسبب عوامل اجتهادية نذكرها فيما بعد .
و من أقطاب الرأي في العراق : علقمة بن قيس النخعي و مسروق بن الأجدع و ابراهيم بن زيد و سعيد بن جبيرو قد كان عامة من في العراق و ما حولها يقلدون هذا المذهب دون أي نكير .
و من أقطاب مذهب الحديث في الحجاز : سعيد بن المسيب و عروة بن الزبير و سالم بن عبد الله و سليمان بن يسار و كان عامة أهل الحجاز و ما حولها يقلدون هذا المذهب.
و قد كان بين أقطاب المذهبين مناقشات و خصومات حادة في بعض الأحيان و لكن العوام و المتعلمين ممن كانوا دونهم في العلم و الفقه لم يكن يعنيهم شأن تلك الخصومة اذ كانوا يقلدون من شاءوا دون أي انكار
الوجه الثالث : الدليل العقلي البين ونعبر عنه بما قاله العلامة الشيخ عبد الله درّاز: ( و الدليل المعقول هو ان من لم يكن عنده أهلية الاجتهاد اذا حدثت به حادثة فرعية فاما لا يكون متعبدا بشيء اصلا وهو خلاف الاجماع وان كان متعبدا بشيءفاما بالنظر في الدليل المثبت للحكم او بالتقليد . و الأول ممتنع لأن ذلك مما يفضي في حقه و حق الخلق أجمع الى النظر في أدلة الحوادث و الاشتغال عن المعايش و تعطيل الحرف و الصناعات , وخراب الدنيا بتعطيل الحرث و النسل و رفع التقليد رأسا وهو منتهى الحرج ........فلم يبق الا التقليد و أنه هو المتعبد به عند ذلك الفرض )
و لما رأى العلماء تكامل كل من دليل الكتاب و السنة و العقل على ان العامي او العالم الذي لم يبلغ درجة الاستنباط و الاجتهاد ليس له الا ان يقلد مجتهدا متبصرا بالدليل او الناقل لهذه الفتوى قالوا ان فتوى العالم المجتهد بالنسبة للعامي مثل دليل الكتاب و السنة بالنسبة للمجتهد ملزم بها و في بيان ذلك يقول الشاطبي : ( فتاوى المجتهدين بالنسبة للعوام كالأدلة الشرعية بالنسبة الى المجتهدين و الدليل عليه ان وجود الأدلة بالنسبة الى المقلدين و عدمها سواء اذ كانوا لا يستفيدون منها شيئا. فليس النظر في الأدلة و الاستنباط من شأنهم و لا يجوز ذلك لهم البتة وقد قال تعالى ( فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ) و المقلد غير عالم فلا يصح له الا سؤال أهل الذكر و اليهم مرجعه في أحكام الدين على الاطلاق فهم اذا القائمون له مقام الشرع و أقوالهم قائمة مقام الشرع ) فاذا ظهر الدليل الواضح على اساس النقل الصحيح و الاجماع القطعي و البداهة العقلية على مشروعية التقليد ووجوبه عند قصور المستفتي عن الاجتهاد و هو حال الأكثرية الساحقة من المسلمين دل ذلك على مشروعية تقليد المذاهب الأربعة و تقليدهم عند القصور عن رتبة الاجتهاد و الشيء الوحيد الذي يعتبر جديدا في عملهم انهم دونوا السنة و الفقه بشكل منظم ووضعوا أسسا و منهجا للاستنباط و البحث كان من نتيجته انكسار حدة الخلاف بين مذهبي الحديث و الرأي من قبلهما و الاصطلاح على ميزان جديد هو اصول الفقه المستمدة من الكتاب و السنة و الاجماع ايضا فقويت بذلك أركان المذاهب الاربعة و رسخت جذورها و تنوعت اصولها و فروعها و كان ذلك سر امتداد آجالها و انتشار كتبها مع التفاق بأن التقليد للعامي و لا يجوز للجاهل و مثال ذلك عندما سوئل القفال الشاشي عن مسألة فأجاب فسألوه هل تقلد الشافعي فيهاقال لا بل وافق اجتهادي اجتهاده
نعود لتلخيص الموضوع فنقول ان لم يبلغ درجة الاجتهاد لا يسعه الا ان يتبع اماما مجتهدا سواء التزمه او لم يلتزمه و هذا الالتزام معاذ الله ان يكون لشخصه او مزاياه بل هو لأنه ناقل و فاهم لشرع الله و هذه الحقيقة ماثلة امامنا حتى بالنسبة لاقتدائنا برسول الله صلى الله عليه و سلم من حيث اننا لا نقتدي به لشخصه بل لكونه مبلغ عن الله عزوجل و لقد عبر الامام الشاطبي عن هذا المعنى في كتابه الاعتصام 3/250 ما نصه: ان العالم بالشريعة اذا اتبع في قوله و انقاد الناس له في حكمه فهو في الحقيقة مبلغ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم المبلغ عن الله عز وجل ...)
ثم قال ( فاذا المكلف بأحكام الشريعة لا يخلو من أحد امور ثلاثة :
أحدها: ان يكون مجتهدا فحكمه ما ادى اليه اجتهاده فيها........
الثاني: ان يكون مقلدا صرفا خليا من العلم الحاكم جمله فلا بد من قائد يقوده و حاكم يحكمه و عالم يقتدي به..........)
الثالث : ان يكون غير بالغ درجة المجتهدين لكنه يفهم الدليل و موقعه و فهمه يصلح للترجيحات فلا يخلو اما ان يعتبر ترجيحه او لا فن اعتبرناه صار له حكم المجتهد في هذه المسائل و ان لم نعتبره فلا بد من رجوعه الى درجة العامي....)
اذا فهمت اخي القارىء ما قلناه بشكل منصف واعي ادركت ان من الجهل الشنيع قول المتغابين او الكائدين بهذه الأمة ان المذهب الحق هو مذهب النبي محمد صلى الله عليه و سلم ومن اين جاءت هذه المذاهب المنافسة لمذهبه صلى الله عليه و سلم
ألا يعلم هذا القائل الجاهل بتاريخ التشريع الاسلامي عن نشأة المذاهب وانها شارحة ومفسرة لأقواله صلى الله عليه و سلم
النقطة الثانية : لا يحرم و لا يجب على المقلد التزام مذهب معين :
كما اسلفنا في القول بان على الجاهل ان يقلد و الأمر في ذلك مطلق كما قال تعالى ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) فمهما سأل الجاهل أهل الذكر وقلدهم فيما افتوا به وذهبوا اليه فقد طبق امر الله بالنسبة لنفسه سواء التزم اماما معينا او لم يلتزمه .
فان اعتقد ان عليه ان يلتزم اماما بعينه لا يحيد عنه و لا يستبدل به غيره فهو مخطىء و ان اعتقد حكما من عند الله عزوجل دون ان يتبع في حكمه هذا مجتهدا كان آثما.
وان اعتقد ان من واجبه استبدال امامه كل فترة وان الالتزام محرم فهو مخطىء.
هذا هو الحكم المجمع عليه من العلماء و ادلته من وجوه :
الوجه الأول : ان ايجاب التزام امام واحد او التزام تغيير الأئمة حكم زائد على الأصل الذي هو واجب الاتباع و التقليد فلا بد له من دليل و لا دليل عليه
الوجه الثاني: انه انقضى عصر الصحابة و التابعين وجاء عصر الأئمة الأربعة و الذي يليه و لم نسمع من أحد حذر من الالتزام بامام بعينه بل نعلم العكس فلقد انفرد عطاء بن أبي رباح و مجاهد بالفتوى في مكة و كان يصيح منادي الخليفة ان لا يفتي الناس أحد الا هذين الإمامين و مضى على أهل مكة مدة من الزمن يلتزمون فيها بمذهب هذين الإمامين و ما أنكر أحد ذلك و عاش أهل العراق أمدا طويلا من الزمن وهم يلتزمون مذهب عبد الله بن مسعود متمثلا في شخصه او في تلامذته فلا ينكر أحد عليهم ذلك و نفس المبدأ في أهل الحجاز فيما يخص عبد الله بن عمر بن الخطاب
و قد تمذهب ملايين الأشخاص بمذاهب الأئمة الأربعة كل يختار ما يشاء او ما هو اقرب لموطنه و اقرأ اسماء طبقات الشافعية او غيرها مع العلم ان المذاهب الحالية ليست فقط رأي الامام الأصلي بل مجموع اجتهاده و اجتهاد من أخذ بقواعده من تلامذته و محبيه و قد يكون الرأي المجمع عليه او الحالي مخالف لرأي الامام الأصلي
واقرأ اخي المسلم ما قاله الحافظ شمس الدين الذهبي تلميذ ابن تيمية رحمهما الله في رسالة له اسمها زغل العلم و الطلب : الفقهاء المالكية على خير و اتباع و فضل ان سلم قضاتهم و مفتوهم من التسرع الى الدماء و التكفير .....ثم يقول و الفقهاء الحنفية أولو التدقيق و الذكاء و الخير من مثلهم ان سلموا من التحيل و الحيل على الربا و ابطال الزكاة ........ ثم يقول و الفقهاء الشافعية من أكيس الناس و أعلمهم بالدين فأس مذهبهم مبني على اتباع الأحاديث الثابتة المتصلة و امامهم من رؤوس اصحاب الأحاديث و مناقبه جمة .......و يقول عن الحنابلة و اما الحنابلة فعندهم علوم نافعة و فيهم دين بالجملة و لهم قلة حظ في الدنيا و الناس يتكلمون في عقيدتهم و يرمونهم بالتجسيم و بأنه يلزمهم و هم بريئون من ذلك الا النادر و الله يغفر لهم .
و ينهى هؤلاء المتمذهبين عن التعصب المذموم لأئمتهم و اعتقاد الواحد منهم بأن مذهبه أفضل المذاهب كلها و يقول ( لا تعتقد أن مذهبك أفضل المذاهب و أحبها الى الله تعالى فانك لا دليل لك على و لا لمخالفك ايضا بل الأئمة رضي الله عنهم كلهم على خير كثير و لهم في صوابهم أجران على كل مسألة و في خطئهم أجر واحد )
و ختاما ننبه على أمرين اثنين :
-انه وجد في عصور مختلفة و للآن اشخاص متعصبين لمذهبهم و هؤلاء استثناء و الاستثناء يؤكد القاعدة
-ان كلامنا السابق كله يتعلق بالفروع من الأحكام أما الأمور الاعتقادية فلا يجوز التقليد فيها بالاجماع و سبيلها معرفة الدليل القطعي الاجمالي للعامي و التفصيلي كفرض كفائي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه الغر الميامين ومن اتبعهم باحسان الى يوم الدين
حتى نبدأ ونفهم البسطاء و المتغابين أوليات الموضوع يجب بداية ان نعرف التمذهب او المذهبية
المذهبية : هي ان يقلد العامي او من لم يبلغ درجة الاجتهاد مذهب امام مجتهد سواء التزم واحد بعينه او عاش يتحول من امام لآخر
الآن لمعرفة صحة التمذهب او التقليد لا بد من التركيز على النقاط التالية:
النقطة الأولى :لا مناص من التقليد وهو مشروع باجماع المسلمين :
و التقليد هو نفس التمذهب و هو اتباع قول انسان دون معرفة الحجة على صحة هذا القول وان توفرت معرفة الحجة على صحة التقليد
الدليل على وجوب التقليد عند عدم التمكن من الاجتهاد :من وجوه:
الوجه الأول: قوله تعالى( فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لاتعلمون)
أجمع العلماء ان الأية امر لمن لا يعلم الحكم و لا يعلم دليل الحكم باتباع من يعلم ذلك وهذه الأية هي الحجة الأساسية لعلماء الأصول في وجوب التقليد للعامي
و مثل ذلك
الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي
الجزء 8.
سورة التوبة.
الآية: 122 {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}.
الآية: 122 {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}
قوله تعالى: "وما كان المؤمنون" وهي أن الجهاد ليس على الأعيان وأنه فرض كفاية كما تقدم؛ إذ لو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد وليقم فريق يتفقهون في الدين ويحفظون الحريم، حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع، وما تجدد نزول على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى: "إلا تنفروا" [التوبة: 39] وللآية التي قبلها؛ على قول مجاهد وابن زيد.
الوجه الثاني : ما دل عليه الاجماع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يتفاوتون في العلم و لم يكونوا كما يقول ابن خلدون جميعا اهل فتيا بل كان فيهم المفتي المجتهد وفيهم المستفتي المقلد و لم يكن المفتي يلتزم بذكر الدليل للمستفتي و كان النبي صلى الله عليه و سلم يبعث الفقيه من اصحابه الى المكان الذي لا يعلم اصحابه من الاسلام الا عقيدته فيتبعونه بكل ما يفتيهم به من الأعمال و العبادات و المعاملات و ربما اعترضه ما لا يوجد فيه نص صريح فيجتهد و يفتيهم باجتهاده فيتبعونه . و مثال ذلك حوار النبي صلى الله عليه و سلم مع معاذ بن جبل رضي الله عنه في مسند الامام أحمد :
مسند الأنصار رضي الله عنهم.
حديث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه.
حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي عون عن الحرث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص عن معاذ:
-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن فقال: كيف تصنع إن عرض لك قضاء قال: أقضي بما في كتاب الله قال: فإن لم يكن في كتاب الله قال: قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اجتهد رأيي لا آلو قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الغزالي في المستصفى في باب التقليد و الاستفتاء مستدلا على ان العامي ليس له الا التقليد ما نصه: و نستدل على ذلك بمسلكين : أحدهما اجماع الصحابة فانهم كانوا يفتون العوام و لا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد)
و قال الآمدي في كتابه الإحكام : ( و اما الاجماع فهو أنه لم تزل العامة في زمن الصحابة و التابعين قبل حدوث المخالفين يستفتون المجتهدين و يتبعونهم في الأحكام الشرعية و العلماء منهم يبادرون الى اجابة سؤالهم من غير إشارة الى ذكر الدليل و لا ينهونهم عن ذلك من غير نكير فكان اجماعا على جواز اتباع العامي للمجتهد مطلقا )
و قد كان المتصدرون للفتوى في عصر الصحابة أفراد محصورين عرفوا بين الصحابة بالفقه و الرواية و ملكة الاستنباط و أشهرهم الخلفاء الأربعة و عبد الله بن مسعود و ابو موسى الأشعري و معاذ بن جبل و ابي بن كعب و زيد بن ثابت أما المقلدون فهم فوق الحصر.
أما في عهد التابعين فقد اتسعت دائرة الاجتهاد و سلك المسلمون في هذه العهود نفس طريق اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الاان الاجتهاد تمثل في مذهبين رئيسين هما مذهبا الرأي و الحديث بسبب عوامل اجتهادية نذكرها فيما بعد .
و من أقطاب الرأي في العراق : علقمة بن قيس النخعي و مسروق بن الأجدع و ابراهيم بن زيد و سعيد بن جبيرو قد كان عامة من في العراق و ما حولها يقلدون هذا المذهب دون أي نكير .
و من أقطاب مذهب الحديث في الحجاز : سعيد بن المسيب و عروة بن الزبير و سالم بن عبد الله و سليمان بن يسار و كان عامة أهل الحجاز و ما حولها يقلدون هذا المذهب.
و قد كان بين أقطاب المذهبين مناقشات و خصومات حادة في بعض الأحيان و لكن العوام و المتعلمين ممن كانوا دونهم في العلم و الفقه لم يكن يعنيهم شأن تلك الخصومة اذ كانوا يقلدون من شاءوا دون أي انكار
الوجه الثالث : الدليل العقلي البين ونعبر عنه بما قاله العلامة الشيخ عبد الله درّاز: ( و الدليل المعقول هو ان من لم يكن عنده أهلية الاجتهاد اذا حدثت به حادثة فرعية فاما لا يكون متعبدا بشيء اصلا وهو خلاف الاجماع وان كان متعبدا بشيءفاما بالنظر في الدليل المثبت للحكم او بالتقليد . و الأول ممتنع لأن ذلك مما يفضي في حقه و حق الخلق أجمع الى النظر في أدلة الحوادث و الاشتغال عن المعايش و تعطيل الحرف و الصناعات , وخراب الدنيا بتعطيل الحرث و النسل و رفع التقليد رأسا وهو منتهى الحرج ........فلم يبق الا التقليد و أنه هو المتعبد به عند ذلك الفرض )
و لما رأى العلماء تكامل كل من دليل الكتاب و السنة و العقل على ان العامي او العالم الذي لم يبلغ درجة الاستنباط و الاجتهاد ليس له الا ان يقلد مجتهدا متبصرا بالدليل او الناقل لهذه الفتوى قالوا ان فتوى العالم المجتهد بالنسبة للعامي مثل دليل الكتاب و السنة بالنسبة للمجتهد ملزم بها و في بيان ذلك يقول الشاطبي : ( فتاوى المجتهدين بالنسبة للعوام كالأدلة الشرعية بالنسبة الى المجتهدين و الدليل عليه ان وجود الأدلة بالنسبة الى المقلدين و عدمها سواء اذ كانوا لا يستفيدون منها شيئا. فليس النظر في الأدلة و الاستنباط من شأنهم و لا يجوز ذلك لهم البتة وقد قال تعالى ( فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ) و المقلد غير عالم فلا يصح له الا سؤال أهل الذكر و اليهم مرجعه في أحكام الدين على الاطلاق فهم اذا القائمون له مقام الشرع و أقوالهم قائمة مقام الشرع ) فاذا ظهر الدليل الواضح على اساس النقل الصحيح و الاجماع القطعي و البداهة العقلية على مشروعية التقليد ووجوبه عند قصور المستفتي عن الاجتهاد و هو حال الأكثرية الساحقة من المسلمين دل ذلك على مشروعية تقليد المذاهب الأربعة و تقليدهم عند القصور عن رتبة الاجتهاد و الشيء الوحيد الذي يعتبر جديدا في عملهم انهم دونوا السنة و الفقه بشكل منظم ووضعوا أسسا و منهجا للاستنباط و البحث كان من نتيجته انكسار حدة الخلاف بين مذهبي الحديث و الرأي من قبلهما و الاصطلاح على ميزان جديد هو اصول الفقه المستمدة من الكتاب و السنة و الاجماع ايضا فقويت بذلك أركان المذاهب الاربعة و رسخت جذورها و تنوعت اصولها و فروعها و كان ذلك سر امتداد آجالها و انتشار كتبها مع التفاق بأن التقليد للعامي و لا يجوز للجاهل و مثال ذلك عندما سوئل القفال الشاشي عن مسألة فأجاب فسألوه هل تقلد الشافعي فيهاقال لا بل وافق اجتهادي اجتهاده
نعود لتلخيص الموضوع فنقول ان لم يبلغ درجة الاجتهاد لا يسعه الا ان يتبع اماما مجتهدا سواء التزمه او لم يلتزمه و هذا الالتزام معاذ الله ان يكون لشخصه او مزاياه بل هو لأنه ناقل و فاهم لشرع الله و هذه الحقيقة ماثلة امامنا حتى بالنسبة لاقتدائنا برسول الله صلى الله عليه و سلم من حيث اننا لا نقتدي به لشخصه بل لكونه مبلغ عن الله عزوجل و لقد عبر الامام الشاطبي عن هذا المعنى في كتابه الاعتصام 3/250 ما نصه: ان العالم بالشريعة اذا اتبع في قوله و انقاد الناس له في حكمه فهو في الحقيقة مبلغ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم المبلغ عن الله عز وجل ...)
ثم قال ( فاذا المكلف بأحكام الشريعة لا يخلو من أحد امور ثلاثة :
أحدها: ان يكون مجتهدا فحكمه ما ادى اليه اجتهاده فيها........
الثاني: ان يكون مقلدا صرفا خليا من العلم الحاكم جمله فلا بد من قائد يقوده و حاكم يحكمه و عالم يقتدي به..........)
الثالث : ان يكون غير بالغ درجة المجتهدين لكنه يفهم الدليل و موقعه و فهمه يصلح للترجيحات فلا يخلو اما ان يعتبر ترجيحه او لا فن اعتبرناه صار له حكم المجتهد في هذه المسائل و ان لم نعتبره فلا بد من رجوعه الى درجة العامي....)
اذا فهمت اخي القارىء ما قلناه بشكل منصف واعي ادركت ان من الجهل الشنيع قول المتغابين او الكائدين بهذه الأمة ان المذهب الحق هو مذهب النبي محمد صلى الله عليه و سلم ومن اين جاءت هذه المذاهب المنافسة لمذهبه صلى الله عليه و سلم
ألا يعلم هذا القائل الجاهل بتاريخ التشريع الاسلامي عن نشأة المذاهب وانها شارحة ومفسرة لأقواله صلى الله عليه و سلم
النقطة الثانية : لا يحرم و لا يجب على المقلد التزام مذهب معين :
كما اسلفنا في القول بان على الجاهل ان يقلد و الأمر في ذلك مطلق كما قال تعالى ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) فمهما سأل الجاهل أهل الذكر وقلدهم فيما افتوا به وذهبوا اليه فقد طبق امر الله بالنسبة لنفسه سواء التزم اماما معينا او لم يلتزمه .
فان اعتقد ان عليه ان يلتزم اماما بعينه لا يحيد عنه و لا يستبدل به غيره فهو مخطىء و ان اعتقد حكما من عند الله عزوجل دون ان يتبع في حكمه هذا مجتهدا كان آثما.
وان اعتقد ان من واجبه استبدال امامه كل فترة وان الالتزام محرم فهو مخطىء.
هذا هو الحكم المجمع عليه من العلماء و ادلته من وجوه :
الوجه الأول : ان ايجاب التزام امام واحد او التزام تغيير الأئمة حكم زائد على الأصل الذي هو واجب الاتباع و التقليد فلا بد له من دليل و لا دليل عليه
الوجه الثاني: انه انقضى عصر الصحابة و التابعين وجاء عصر الأئمة الأربعة و الذي يليه و لم نسمع من أحد حذر من الالتزام بامام بعينه بل نعلم العكس فلقد انفرد عطاء بن أبي رباح و مجاهد بالفتوى في مكة و كان يصيح منادي الخليفة ان لا يفتي الناس أحد الا هذين الإمامين و مضى على أهل مكة مدة من الزمن يلتزمون فيها بمذهب هذين الإمامين و ما أنكر أحد ذلك و عاش أهل العراق أمدا طويلا من الزمن وهم يلتزمون مذهب عبد الله بن مسعود متمثلا في شخصه او في تلامذته فلا ينكر أحد عليهم ذلك و نفس المبدأ في أهل الحجاز فيما يخص عبد الله بن عمر بن الخطاب
و قد تمذهب ملايين الأشخاص بمذاهب الأئمة الأربعة كل يختار ما يشاء او ما هو اقرب لموطنه و اقرأ اسماء طبقات الشافعية او غيرها مع العلم ان المذاهب الحالية ليست فقط رأي الامام الأصلي بل مجموع اجتهاده و اجتهاد من أخذ بقواعده من تلامذته و محبيه و قد يكون الرأي المجمع عليه او الحالي مخالف لرأي الامام الأصلي
واقرأ اخي المسلم ما قاله الحافظ شمس الدين الذهبي تلميذ ابن تيمية رحمهما الله في رسالة له اسمها زغل العلم و الطلب : الفقهاء المالكية على خير و اتباع و فضل ان سلم قضاتهم و مفتوهم من التسرع الى الدماء و التكفير .....ثم يقول و الفقهاء الحنفية أولو التدقيق و الذكاء و الخير من مثلهم ان سلموا من التحيل و الحيل على الربا و ابطال الزكاة ........ ثم يقول و الفقهاء الشافعية من أكيس الناس و أعلمهم بالدين فأس مذهبهم مبني على اتباع الأحاديث الثابتة المتصلة و امامهم من رؤوس اصحاب الأحاديث و مناقبه جمة .......و يقول عن الحنابلة و اما الحنابلة فعندهم علوم نافعة و فيهم دين بالجملة و لهم قلة حظ في الدنيا و الناس يتكلمون في عقيدتهم و يرمونهم بالتجسيم و بأنه يلزمهم و هم بريئون من ذلك الا النادر و الله يغفر لهم .
و ينهى هؤلاء المتمذهبين عن التعصب المذموم لأئمتهم و اعتقاد الواحد منهم بأن مذهبه أفضل المذاهب كلها و يقول ( لا تعتقد أن مذهبك أفضل المذاهب و أحبها الى الله تعالى فانك لا دليل لك على و لا لمخالفك ايضا بل الأئمة رضي الله عنهم كلهم على خير كثير و لهم في صوابهم أجران على كل مسألة و في خطئهم أجر واحد )
و ختاما ننبه على أمرين اثنين :
-انه وجد في عصور مختلفة و للآن اشخاص متعصبين لمذهبهم و هؤلاء استثناء و الاستثناء يؤكد القاعدة
-ان كلامنا السابق كله يتعلق بالفروع من الأحكام أما الأمور الاعتقادية فلا يجوز التقليد فيها بالاجماع و سبيلها معرفة الدليل القطعي الاجمالي للعامي و التفصيلي كفرض كفائي
تعليق