في فقه التمكين الأميركي
فهمي هويدي
تفكيك الأمة سابق على تفكيك الملة. والذين يحاولون جاهدين الآن صياغة <<إسلام أميركي>> لنا، ما كان لهم أن يجرؤوا على ذلك او يفكروا فيه الا بعد النجاح الذي احرزوه في انصياع المنطقة للسياسات الاميركية. علما بأن ذلك كله من تجليات انتعاش <<فقه التمكين>> في الولايات المتحدة، الذي لا يريد للمنطقة أفقاً خارج دائرة الخضوع والامتثال.
عبد السلام الحيلة ضابط مخابرات يمني برتبة عميد، كان يتحرك باعتباره رجل أعمال. وبهذه الصفة الاخيرة غادر صنعاء في شهر ايلول عام 2002، إلى إحدى العواصم العربية الكبرى. وبعد سفره ظل يتصل بأسرته يوميا، ثم انقطع اتصاله بهم فجأة، واستمر مصير الرجل مجهولا حتى شهر نيسان عام 2004، حيث تلقت منه رسالة افادت بأنه مسجون في قاعدة <<غوانتانامو>>، التابعة لسلاح البحرية الاميركية في كوبا، الامر الذي بدا لغزاً محيرا، كشفت <<منظمة هيومان رايتس واتش>> عن اسراره الاسبوع الماضي.
حسب تقرير المنظمة فإن الضابط اليمني اختطف من احد شوارع العاصمة العربية بواسطة عملاء المخابرات الاميركية، ثم نقل الى افغانستان. وبعدها رُحّل الى غوانتانامو، وخلال رحلته لم يكن صاحبنا متهما بشيء نسب اليه، ولكنه ظل يُستجوب عن اوضاع المقاتلين العرب الذين كانوا في افغانستان. ثم انتقلوا الى اوروبا، وبقي نفر منهم هناك. لان عمله كضابط مخابرات في اوساط اولئك العرب وفّر له معلومات غزيرة عنهم، اراد المحققون الاميركيون الحصول عليها والافادة منها.
صحيح أن وضع العميد عبد السلام الحيلة افضل من ذلك اليمني الذي اشتبه في انتمائه ل<<القاعدة>>، واختفى في بلاده، ولكن طائرة اميركية بدون طيار رصدته وقتلته بصاروخ مزقه ارباً، وهو فوق تراب اليمن. لكن تقرير منظمة <<هيومان رايتش واتش>> ذكر أن ثمة حالات مماثلة، اختطفت فيها اعداد من الشباب المسلم من بلادهم، او من بلاد اخرى تواجدوا فيها، بواسطة عملاء المخابرات الاميركية، او بأيدي اجهزة الامن المحلية، التي <<اهدتهم>> الى الاميركيين. وهؤلاء نقلوا على متن طائرات اميركية، كانت بمثابة سجون طائرة عابرة للقارات وأودعوا سجونا مختلفة، عذبوا فيها وجرى استنطاقهم. وانتهى بهم المطاف في غوانتانامو او أفرج عنهم في صمت (احدهم مصري يحمل الجنسية الالمانية غيّب في السجون لمدة عام، بعد اختطافه من كرواتيا ثم أطلق سراحه وأعيد الى المكان ذاته الذي اختطف منه. وثمة ازمة قائمة الآن بسببه بين المخابرات الالمانية والاميركية).
كل هذه الاجراءات تهدر القانون وتنتهك حقوق الانسان بشكل صارخ. وما ذكرته <<هيومان رايتس واتش>> مجرد نقطة في محيط كبير يحفل بالانتهاكات التي اطاحت بكل القوانين والاعراف، فضلا عن القيم والمبادئ. الامر الذي يشكل سجلا للعار يشين اي مجتمع انساني ينتسب الى الحضارة من اي باب.
ليس دقيقا القول بأن الولايات المتحدة مارست تلك الانتهاكات لاجل مكافحة الارهاب، لان الاستقواء والاستعلاء الاميركيين سابقان على حكاية الحرب ضد الارهاب. ذلك ان <<فقه التمكين>> في الولايات المتحدة انتعش وراجت سوقه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات، وما اسفر عنه من خلو الساحة لصالح القطب الاوحد. وهو ما هيأ ظرفا مواتيا لانطلاق افكار التوسع والهيمنة على العالم، والحديث عن القرن الاميركي وصراع الحضارات ونهاية التاريخ. وكل ما فعلته احداث 11 سبتمبر، انها فتحت الباب واسعا لتنزيل ذلك الفقه على الواقع، حيث بدا الشرق الاوسط مختبراً مثالياً، ليس فقط لان الذين فعلوها في احداث 11 سبتمبر من ابناء تلك المنطقة، ولكن ايضا لان المغريات فيها بلا حدود (النفط). ثم ان حالة الهشاشة والضعف فيها ايضا بلا حدود (انت ادرى!)، كما ان التحريض الاسرائيلي عليها كان بدوره بلا حدود.
مجمل هذه الظروف أنعشت كثيرا فقه التمكين، الذي تصدت له العديد من مراكز الابحاث في الولايات المتحدة، وباعها مشهود في صناعة القرار الاميركي. وقد ساهم في تنشيط تلك المراكز كون اكثرها متعاطفا مع اسرائيل، لذلك فإنها لا تتمنى للعرب خيرا، ولا تنشغل الا بأمرين: ان تصبح الولايات المتحدة قوة عالمية كبرى، وأن تغدو اسرائيل قوة اقليمية كبرى، لا منافس لها ولا منازع.
بين يدي نموذج حديث للاجتهاد الاميركي في فقه التمكين، يجيب على السؤال: كيف يمكن تأديب وتهذيب العالم العربي، لكي يدخل في بيت الطاعة الاميركي ولا يخرج منه ابدا؟
صاحب هذا الاجتهاد هو الدكتور روبرت ساتلوف مدير مؤسسة واشنطن لشؤون الشرق الادنى، وهو من ابرز العقول المؤثرة في التفكير الاستراتيجي الاميركي. واهتمامه الاساسي منصب علي موضوع العلاقات العربية الاميركية الاسرائيلية (يجيد العربية والفرنسية والعبرية الى جانب لغته الانكليزية الام).
في منتصف آذار الماضي نشر الدكتور ساتلوف على موقع الانترنت الخاص بالمؤسسة دراسة من حلقتين حول السياسية الاميركية في الشرق الاوسط، ورؤيته لاستراتيجية <<الاضطراب البناء>> التي ينتهجها الرئيس بوش في المنطقة، وتستهدف إحداث او تشجيع هزات عنيفة في اقطارها، لخلخلة اوضاعها، ثم اعادة بنائها علي اساس <<ديموقراطي>>. وهي السياسة التي نقرأها نحن بحسبانها تستهدف تفكيك المنطقة ثم اعادة تركيبها بمواصفات جديدة، تلبي المتطلبات الاميركية والتطلعات الاسرائيلية ضمنا.
في الدراسة افكار متعددة، سأتعرض لخطوطها الاساسية حالاً، لكن قارئها يلاحظ ان ساتلوف تحدث عن المنطقة باعتبارها كيانا متهالكا منزوع العافية، وكل ما يشغله هو كيفية تكريس الاستسلام للتطلعات الاميركية والاسرائيلية. لذلك فإنه في الجزء الاول من دراسته (المنشورة في 15/3) ركز على الوضع في لبنان وسوريا وشدد علي عدة امور اهمها ما يلي:
الدعوة الي استئصال اي نفوذ سوري في لبنان، بعد ضمان استئصال الوجود السوري هناك. وقال ان الرقابة الدولية على الانتخابات اللبنانية يجب ان تكون محكمة للغاية، بحيث يتولى الفريق الدولي المرشح لتلك المهمة (الذي سيوفده مركز كارتر) ليس فقط مراقبة عملية التصويت، ولكن عليه ان يراقب الحملة الانتخابية ذاتها.
الاصرار على نزع سلاح حزب الله حتى لا يشكل اي تهديد لاسرائيل، وقطع الطريق على تلقيه اي مساندة او عون عسكري من إيران، والقبول بوجود الحزب في الساحة الساسية فقط، وذلك شرط اساسي لرفعه من القائمة السوداء التي تتضمن المنظمات الارهابية.
بعد ضمان استئصال الحضور السوري في لبنان، ينبغي ان يلاحق النظام البعثي في دمشق ذاتها عن طريق: تركيز النشاط الاستخباراتي لمراقبة الوضع في الداخل فتح ملفات الديموقراطية وحقوق الانسان وحكم القانون في سوريا انهاك النظام هناك الا اذا استجاب لشرطين:
اولهما زيارة الرئيس بشار الاسد لاسرائيل والتحاقه بمسيرة السلام معها، وثانيهما طرد منظمات المقاومة <<الارهابية>> من دمشق وإغلاق مكاتبها هناك.
تحريك اوضاع العالم العربي كان محور الجزء الثاني من دراسة روبرت ساتلوف، التي دعا فيها الى توسيع نطاق العمل بسياسية <<الاضطراب البناء>>. وقال ان ادارة الرئيس بوش ترى ان عملية اعادة رسم الخرائط في المنطقة سوف تستغرق عقدا بأكمله حوالى عشر سنوات وأن هذه المدة ليس مقطوعا بها، نظرا لتسارع التحولات في العالم العربي، في ظل هرولة الانظمة صوب محاولة استرضاء الولايات المتحدة بكل السبل. ولاجل تحقيق ذلك الاسترضاء فإنه تحدث عن دول عربية عملت على التقرب من اسرائيل وتلطيف الاجواء معها، وأخرى لجأت الى اتخاذ بعض الخطوات الاصلاحية استجابة للضغوط الاميركية، في حين ان دولا ثالثة لعبت علي الحبلين، فأشاعت قدرا من الدفء في علاقتها بإسرائيل، وأعلنت عن اصلاحات داخلية.
وهو يرصد مظاهر الاسترضاء العربي للادراة الاميركية حرصا على كسب ودها، قال الدكتور ساتلوف ان بعض العواصم تنافست علي تأييد قرار مجلس الامن رقم 1559 الداعي الى الانسحاب السوري من لبنان، كما تسابقت على اقناع دمشق بالانسحاب من لبنان بأسرع وقت. ولم يقف الامر عند ذلك الحد، وانما تنافست بعض الدول العربية على ابلاغ واشنطن بأن الجهود التي بذلتها لاقناع الرئيس الاسد بالانسحاب، كان لها الفضل في امتثاله واستجابته لقرار مجلس الامن. ولفت الانتباه في هذا الصدد اشارته الى ان الرئيس بوش كافأ احدى تلك الدول على موقفها من اقناع سوريا بالانسحاب، بأن خفف من انتقاداته لها في احدى خطبه، وغض الطرف عن تباطئها في اجراء الاصلاحات الداخلية.
اهم ما قاله صاحبنا في هذا الجزء كان دعوته الى عدم اكتفاء واشنطن بتشجيع الديموقراطية في العالم العربي، ومطالبته بضرورة مساندتها المعنوية والمادية للديمقراطيين ايضا. الامر الذي يستدعي المراهنة على الليبراليين العلمانيين العرب، الذين هم يشاركون الاميركيين قيمهم، ويعتبرون نظامهم السياسي مثلا أعلى يتعين احتذاؤه. وفي هذا السياق فإنه ابدى تحفظه علي الرأي الذي يتبناه البعض في واشنطن، ممن يدعون الى الحوار مع <<الاسلاميين المعتدلين>>، معتبرا ان تلك مغامرة غير مضمونة النتائج، لانها قد تسفر في نهاية المطاف الى تعزيز موقف اولئك الاسلاميين وإضفاء شرعية عليهم، في حين ان الليبراليين اقرب الى الاميركيين وعواطفهم تجاه الولايات المتحدة أضمن.
حتى مجلس الامن اصبح اداة اميركية التمكين. اذ لم يعد الامر مقصورا على قرار يصدره مجلس الشيوخ الاميركي لمحاسبة هذه الدولة او تلك (كما حدث مع سوريا) وإنما بات بوسع واشنطن ان تستصدر ما تريد من قرارات الإخضاع من خلال مجلس الامن. وهو ما حدث مع السودان مؤخراً، حيث اجاز المجلس (في30/3) مشروع قرار اميركيا وضع السودان تقريبا تحت الوصاية، ففرضت عليه حظر السفر وتجميد ارصدة المسؤولين عن ارتكاب جرائم بحق المدنيين في دارفور، والذين ينتهكون الهدنة هناك. كما فرض حظرا على الطيران الحكومي فوق الاقليم الا بإذن من الامم المتحدة. وفي يوم لاحق قرر المجلس احالة 51 مسؤولا سودانيا الى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، لاتهامهم بالمسؤولية عما جرى في دارفور. وتلك اول قضية تنظرها المحكمة، التي تحفظت واشنطن على اقامتها كما هو معلوم، كي لا يحاسب اي جندي او مسؤول اميركي امامها في اي وقت (لهذا السبب تولت فرنسا تقديم مشروع القرار).
هكذا، فإن منطق التفكيك وإعادة التركيب حسب الهوى الاميركي، يجلد السودان ويوضع تحت الوصاية، ويقدم بعض مسؤوليه الى العدالة الدولية، في حين يرفع التكليف عن سحق روسيا للمسلمين في الشيشان، وعن جرائم اسرائيل في فلسطين، واستمرارها في اقامة الجدار الوحشي الذي ادانته وحكمت ببطلانه محكمة العدل الدولية. وذات المنظق هو الذي يقيم الدنيا ولا يقعدها لوقف البرنامج النووي الايراني، رغم التأكيد على توظيفه للاغراض السلمية، في حين يغض الطرف عن البرنامج النووي الاسرائيلي، الذي بات الجميع يعرفون امر المئتي قنبلة ذرية التي في حوزتها، فضلا عن استمرارها في انتاج بقية الاسلحة الاخري الكيماوية والبيولوجية.
حين يحدث ذلك في امور السياسة، ويكون الرد العربي عليه متمثلا في الانصياع والامتثال والتسابق على استرضاء واشنطن، فينبغي الا نستغرب او نستنكر ان يفتح باب الخوض في الدين على مصراعيه، تفكيكا وتركيبا حسب الطلب!
() كاتب مصري
فهمي هويدي
تفكيك الأمة سابق على تفكيك الملة. والذين يحاولون جاهدين الآن صياغة <<إسلام أميركي>> لنا، ما كان لهم أن يجرؤوا على ذلك او يفكروا فيه الا بعد النجاح الذي احرزوه في انصياع المنطقة للسياسات الاميركية. علما بأن ذلك كله من تجليات انتعاش <<فقه التمكين>> في الولايات المتحدة، الذي لا يريد للمنطقة أفقاً خارج دائرة الخضوع والامتثال.
عبد السلام الحيلة ضابط مخابرات يمني برتبة عميد، كان يتحرك باعتباره رجل أعمال. وبهذه الصفة الاخيرة غادر صنعاء في شهر ايلول عام 2002، إلى إحدى العواصم العربية الكبرى. وبعد سفره ظل يتصل بأسرته يوميا، ثم انقطع اتصاله بهم فجأة، واستمر مصير الرجل مجهولا حتى شهر نيسان عام 2004، حيث تلقت منه رسالة افادت بأنه مسجون في قاعدة <<غوانتانامو>>، التابعة لسلاح البحرية الاميركية في كوبا، الامر الذي بدا لغزاً محيرا، كشفت <<منظمة هيومان رايتس واتش>> عن اسراره الاسبوع الماضي.
حسب تقرير المنظمة فإن الضابط اليمني اختطف من احد شوارع العاصمة العربية بواسطة عملاء المخابرات الاميركية، ثم نقل الى افغانستان. وبعدها رُحّل الى غوانتانامو، وخلال رحلته لم يكن صاحبنا متهما بشيء نسب اليه، ولكنه ظل يُستجوب عن اوضاع المقاتلين العرب الذين كانوا في افغانستان. ثم انتقلوا الى اوروبا، وبقي نفر منهم هناك. لان عمله كضابط مخابرات في اوساط اولئك العرب وفّر له معلومات غزيرة عنهم، اراد المحققون الاميركيون الحصول عليها والافادة منها.
صحيح أن وضع العميد عبد السلام الحيلة افضل من ذلك اليمني الذي اشتبه في انتمائه ل<<القاعدة>>، واختفى في بلاده، ولكن طائرة اميركية بدون طيار رصدته وقتلته بصاروخ مزقه ارباً، وهو فوق تراب اليمن. لكن تقرير منظمة <<هيومان رايتش واتش>> ذكر أن ثمة حالات مماثلة، اختطفت فيها اعداد من الشباب المسلم من بلادهم، او من بلاد اخرى تواجدوا فيها، بواسطة عملاء المخابرات الاميركية، او بأيدي اجهزة الامن المحلية، التي <<اهدتهم>> الى الاميركيين. وهؤلاء نقلوا على متن طائرات اميركية، كانت بمثابة سجون طائرة عابرة للقارات وأودعوا سجونا مختلفة، عذبوا فيها وجرى استنطاقهم. وانتهى بهم المطاف في غوانتانامو او أفرج عنهم في صمت (احدهم مصري يحمل الجنسية الالمانية غيّب في السجون لمدة عام، بعد اختطافه من كرواتيا ثم أطلق سراحه وأعيد الى المكان ذاته الذي اختطف منه. وثمة ازمة قائمة الآن بسببه بين المخابرات الالمانية والاميركية).
كل هذه الاجراءات تهدر القانون وتنتهك حقوق الانسان بشكل صارخ. وما ذكرته <<هيومان رايتس واتش>> مجرد نقطة في محيط كبير يحفل بالانتهاكات التي اطاحت بكل القوانين والاعراف، فضلا عن القيم والمبادئ. الامر الذي يشكل سجلا للعار يشين اي مجتمع انساني ينتسب الى الحضارة من اي باب.
ليس دقيقا القول بأن الولايات المتحدة مارست تلك الانتهاكات لاجل مكافحة الارهاب، لان الاستقواء والاستعلاء الاميركيين سابقان على حكاية الحرب ضد الارهاب. ذلك ان <<فقه التمكين>> في الولايات المتحدة انتعش وراجت سوقه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات، وما اسفر عنه من خلو الساحة لصالح القطب الاوحد. وهو ما هيأ ظرفا مواتيا لانطلاق افكار التوسع والهيمنة على العالم، والحديث عن القرن الاميركي وصراع الحضارات ونهاية التاريخ. وكل ما فعلته احداث 11 سبتمبر، انها فتحت الباب واسعا لتنزيل ذلك الفقه على الواقع، حيث بدا الشرق الاوسط مختبراً مثالياً، ليس فقط لان الذين فعلوها في احداث 11 سبتمبر من ابناء تلك المنطقة، ولكن ايضا لان المغريات فيها بلا حدود (النفط). ثم ان حالة الهشاشة والضعف فيها ايضا بلا حدود (انت ادرى!)، كما ان التحريض الاسرائيلي عليها كان بدوره بلا حدود.
مجمل هذه الظروف أنعشت كثيرا فقه التمكين، الذي تصدت له العديد من مراكز الابحاث في الولايات المتحدة، وباعها مشهود في صناعة القرار الاميركي. وقد ساهم في تنشيط تلك المراكز كون اكثرها متعاطفا مع اسرائيل، لذلك فإنها لا تتمنى للعرب خيرا، ولا تنشغل الا بأمرين: ان تصبح الولايات المتحدة قوة عالمية كبرى، وأن تغدو اسرائيل قوة اقليمية كبرى، لا منافس لها ولا منازع.
بين يدي نموذج حديث للاجتهاد الاميركي في فقه التمكين، يجيب على السؤال: كيف يمكن تأديب وتهذيب العالم العربي، لكي يدخل في بيت الطاعة الاميركي ولا يخرج منه ابدا؟
صاحب هذا الاجتهاد هو الدكتور روبرت ساتلوف مدير مؤسسة واشنطن لشؤون الشرق الادنى، وهو من ابرز العقول المؤثرة في التفكير الاستراتيجي الاميركي. واهتمامه الاساسي منصب علي موضوع العلاقات العربية الاميركية الاسرائيلية (يجيد العربية والفرنسية والعبرية الى جانب لغته الانكليزية الام).
في منتصف آذار الماضي نشر الدكتور ساتلوف على موقع الانترنت الخاص بالمؤسسة دراسة من حلقتين حول السياسية الاميركية في الشرق الاوسط، ورؤيته لاستراتيجية <<الاضطراب البناء>> التي ينتهجها الرئيس بوش في المنطقة، وتستهدف إحداث او تشجيع هزات عنيفة في اقطارها، لخلخلة اوضاعها، ثم اعادة بنائها علي اساس <<ديموقراطي>>. وهي السياسة التي نقرأها نحن بحسبانها تستهدف تفكيك المنطقة ثم اعادة تركيبها بمواصفات جديدة، تلبي المتطلبات الاميركية والتطلعات الاسرائيلية ضمنا.
في الدراسة افكار متعددة، سأتعرض لخطوطها الاساسية حالاً، لكن قارئها يلاحظ ان ساتلوف تحدث عن المنطقة باعتبارها كيانا متهالكا منزوع العافية، وكل ما يشغله هو كيفية تكريس الاستسلام للتطلعات الاميركية والاسرائيلية. لذلك فإنه في الجزء الاول من دراسته (المنشورة في 15/3) ركز على الوضع في لبنان وسوريا وشدد علي عدة امور اهمها ما يلي:
الدعوة الي استئصال اي نفوذ سوري في لبنان، بعد ضمان استئصال الوجود السوري هناك. وقال ان الرقابة الدولية على الانتخابات اللبنانية يجب ان تكون محكمة للغاية، بحيث يتولى الفريق الدولي المرشح لتلك المهمة (الذي سيوفده مركز كارتر) ليس فقط مراقبة عملية التصويت، ولكن عليه ان يراقب الحملة الانتخابية ذاتها.
الاصرار على نزع سلاح حزب الله حتى لا يشكل اي تهديد لاسرائيل، وقطع الطريق على تلقيه اي مساندة او عون عسكري من إيران، والقبول بوجود الحزب في الساحة الساسية فقط، وذلك شرط اساسي لرفعه من القائمة السوداء التي تتضمن المنظمات الارهابية.
بعد ضمان استئصال الحضور السوري في لبنان، ينبغي ان يلاحق النظام البعثي في دمشق ذاتها عن طريق: تركيز النشاط الاستخباراتي لمراقبة الوضع في الداخل فتح ملفات الديموقراطية وحقوق الانسان وحكم القانون في سوريا انهاك النظام هناك الا اذا استجاب لشرطين:
اولهما زيارة الرئيس بشار الاسد لاسرائيل والتحاقه بمسيرة السلام معها، وثانيهما طرد منظمات المقاومة <<الارهابية>> من دمشق وإغلاق مكاتبها هناك.
تحريك اوضاع العالم العربي كان محور الجزء الثاني من دراسة روبرت ساتلوف، التي دعا فيها الى توسيع نطاق العمل بسياسية <<الاضطراب البناء>>. وقال ان ادارة الرئيس بوش ترى ان عملية اعادة رسم الخرائط في المنطقة سوف تستغرق عقدا بأكمله حوالى عشر سنوات وأن هذه المدة ليس مقطوعا بها، نظرا لتسارع التحولات في العالم العربي، في ظل هرولة الانظمة صوب محاولة استرضاء الولايات المتحدة بكل السبل. ولاجل تحقيق ذلك الاسترضاء فإنه تحدث عن دول عربية عملت على التقرب من اسرائيل وتلطيف الاجواء معها، وأخرى لجأت الى اتخاذ بعض الخطوات الاصلاحية استجابة للضغوط الاميركية، في حين ان دولا ثالثة لعبت علي الحبلين، فأشاعت قدرا من الدفء في علاقتها بإسرائيل، وأعلنت عن اصلاحات داخلية.
وهو يرصد مظاهر الاسترضاء العربي للادراة الاميركية حرصا على كسب ودها، قال الدكتور ساتلوف ان بعض العواصم تنافست علي تأييد قرار مجلس الامن رقم 1559 الداعي الى الانسحاب السوري من لبنان، كما تسابقت على اقناع دمشق بالانسحاب من لبنان بأسرع وقت. ولم يقف الامر عند ذلك الحد، وانما تنافست بعض الدول العربية على ابلاغ واشنطن بأن الجهود التي بذلتها لاقناع الرئيس الاسد بالانسحاب، كان لها الفضل في امتثاله واستجابته لقرار مجلس الامن. ولفت الانتباه في هذا الصدد اشارته الى ان الرئيس بوش كافأ احدى تلك الدول على موقفها من اقناع سوريا بالانسحاب، بأن خفف من انتقاداته لها في احدى خطبه، وغض الطرف عن تباطئها في اجراء الاصلاحات الداخلية.
اهم ما قاله صاحبنا في هذا الجزء كان دعوته الى عدم اكتفاء واشنطن بتشجيع الديموقراطية في العالم العربي، ومطالبته بضرورة مساندتها المعنوية والمادية للديمقراطيين ايضا. الامر الذي يستدعي المراهنة على الليبراليين العلمانيين العرب، الذين هم يشاركون الاميركيين قيمهم، ويعتبرون نظامهم السياسي مثلا أعلى يتعين احتذاؤه. وفي هذا السياق فإنه ابدى تحفظه علي الرأي الذي يتبناه البعض في واشنطن، ممن يدعون الى الحوار مع <<الاسلاميين المعتدلين>>، معتبرا ان تلك مغامرة غير مضمونة النتائج، لانها قد تسفر في نهاية المطاف الى تعزيز موقف اولئك الاسلاميين وإضفاء شرعية عليهم، في حين ان الليبراليين اقرب الى الاميركيين وعواطفهم تجاه الولايات المتحدة أضمن.
حتى مجلس الامن اصبح اداة اميركية التمكين. اذ لم يعد الامر مقصورا على قرار يصدره مجلس الشيوخ الاميركي لمحاسبة هذه الدولة او تلك (كما حدث مع سوريا) وإنما بات بوسع واشنطن ان تستصدر ما تريد من قرارات الإخضاع من خلال مجلس الامن. وهو ما حدث مع السودان مؤخراً، حيث اجاز المجلس (في30/3) مشروع قرار اميركيا وضع السودان تقريبا تحت الوصاية، ففرضت عليه حظر السفر وتجميد ارصدة المسؤولين عن ارتكاب جرائم بحق المدنيين في دارفور، والذين ينتهكون الهدنة هناك. كما فرض حظرا على الطيران الحكومي فوق الاقليم الا بإذن من الامم المتحدة. وفي يوم لاحق قرر المجلس احالة 51 مسؤولا سودانيا الى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، لاتهامهم بالمسؤولية عما جرى في دارفور. وتلك اول قضية تنظرها المحكمة، التي تحفظت واشنطن على اقامتها كما هو معلوم، كي لا يحاسب اي جندي او مسؤول اميركي امامها في اي وقت (لهذا السبب تولت فرنسا تقديم مشروع القرار).
هكذا، فإن منطق التفكيك وإعادة التركيب حسب الهوى الاميركي، يجلد السودان ويوضع تحت الوصاية، ويقدم بعض مسؤوليه الى العدالة الدولية، في حين يرفع التكليف عن سحق روسيا للمسلمين في الشيشان، وعن جرائم اسرائيل في فلسطين، واستمرارها في اقامة الجدار الوحشي الذي ادانته وحكمت ببطلانه محكمة العدل الدولية. وذات المنظق هو الذي يقيم الدنيا ولا يقعدها لوقف البرنامج النووي الايراني، رغم التأكيد على توظيفه للاغراض السلمية، في حين يغض الطرف عن البرنامج النووي الاسرائيلي، الذي بات الجميع يعرفون امر المئتي قنبلة ذرية التي في حوزتها، فضلا عن استمرارها في انتاج بقية الاسلحة الاخري الكيماوية والبيولوجية.
حين يحدث ذلك في امور السياسة، ويكون الرد العربي عليه متمثلا في الانصياع والامتثال والتسابق على استرضاء واشنطن، فينبغي الا نستغرب او نستنكر ان يفتح باب الخوض في الدين على مصراعيه، تفكيكا وتركيبا حسب الطلب!
() كاتب مصري
تعليق