لم نفاجأ بالمصافحة المزدوجة التي تمت بين الرئيس السوري بشار الاسد ونظيره الاسرائيلي موشيه كاتساف، على هامش تشييع جنازة البابا يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان يوم الجمعة. فالزعماء العرب، وقادة الدول الثورية على وجه الخصوص، باتوا يشاركون بحضور هذه الجنازات، ليس من اجل اداء واجب العزاء، وانما من اجل البحث عن اياد اسرائيلية لمصافحتها، على أمل الحصول على صك بالاعتراف، واذن رسمي بالدخول الى القلب الامريكي، عبر البوابة الاسرائيلية!
الرئيس السوري، ومنذ عامين، وهو يبعث برسائل تطبيعية الى تل ابيب، تارة عبر العراب الاكبر حسني مبارك، وتارة اخرى من خلال تصريحات علنية تستجدي استئناف المفاوضات من أي نقطة كانت، فالهدف الاساسي الذي يتقدم على كل الاهداف الاخرى، هو كيفية البقاء في الحكم، ونيل الرضا الامريكي.
الامر المؤسف والمستهجن ان هذه الطريقة المتهافتة والمبتذلة لاستجداء التطبيع مع الدولة العبرية وزعاماتها لن تنقذ النظام السوري، ولن تعيد الاراضي السورية المغتصبة. بل ربما تأتي بنتائج عكسية تماما، أي تعجل بسقوط النظام، لانها تنزع عنه آخر ورقة تستر خلفها، واستخدمها للبطش بشعبه ومصادرة حرياته وسرقة أرزاقه وقتل الآلاف من ابنائه!
القيادات العربية الحاكمة، والنظام السوري على رأسها، تفضل التنازل والانبطاح للاسرائيليين والامريكان على التجاوب مع مطالب شعوبها المشروعة، لانها وببساطة شديدة، لا تخشى هذه الشعوب، بل لا تعترف بها على الاطلاق.
فقد كان من المتوقع وفي ظل هذا الاستهداف الامريكي لسورية، ان يتصالح النظام مع شعبه، وان يستمع الى مطالبه العادلة في الديمقراطية واطلاق الحريات، وتطبيق مبدأ التعددية، وتوسيع دائرة المشاركة في السلطة المحنطة، وتفريغ السجون قبيحة السمعة من المعتقلين، ولكن ما حدث هو العكس تماما، اي مصالحة اسرائيل، ومصافحة قيادتها من اجل ضمان الاستمرار في القمع والدكتاتورية وتكميم الافواه.
ماذا سيقول الرئيس السوري واجهزة اعلامه للمعارضة اللبنانية، التي اتهمها بالاستقواء بالامريكان، والاتصال بالاسرائيليين، بعد هذه المصافحة، بل ماذا سيقول للسيد حسن نصر الله، قائد حزب الله ، الذي خرج عن المألوف قبل بضعة ايام، عندما اشاد بالرئيس السوري ونظامه، كقلعة للصمود والمواجهة قل نظيرها في زمن التطبيع العربي الرسمي مع الكيان الاسرائيلي؟!
الاخطر من ذلك، كيف سيبرر النظام السوري، بحرسيه القديم والجديد، اعدام الآلاف من السوريين الشرفاء بتهمة العمالة للاجنبي، والاتصال بالسفارات الغربية بعد هذه المصافحة المزدوجة والمتعمدة مع الرئيس الاسرائيلي؟
انه التطبيع المجاني، ومحاولة البقاء في سدة الحكم بأي طريقة كانت، ولاطول فترة ممكنة، ودون انتظار اي مقابل سياسي، فالمهم هو الاستسلام كليا للعدو الغاصب.
مسكين الشهيد رفيق الحريري، مات قبل ان يقرأ ويسمع ويشاهد، هؤلاء الذين استأسدوا عليه، واهانوه، وامروه ان يمدد للرئيس لحود، تحت ذرائع الوطنية والشرف والكرامة، واتهموه بأنه يسعى لتوقيع صفقة مع الاسرائيليين تؤدي الى اتفاق آيار آخر، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان!
ينتقدون بعض فصائل المعارضة، لانها تستقوي بالاجنبي، والامريكي على وجه الخصوص، ويخوّنونها، ثم يتهافتون على اليد الاسرائيلية والامريكية، اي يحللون لانفسهم ما يحرمونه على غيرهم، وفوق كل هذا وذاك يدعون البطولة والوطنية في معلقاتهم وخطاباتهم، ويزايدون على الجميع!
كنا نعتقد ان النظام السوري سيكون آخر المطبعين، ليس لانه الاقوى والاكثر وطنية، وانما لانه الاكثر معايرة واستعلاء على صغار المطبعين وكبارهم، ولان اراضيه محتلة، وسوّق سابقة التوريث للشعب السوري على اساس مبدأ الاستمرارية الثورية، وكم كنا مخطئين في اعتقادنا. فقد اثبتت هذه المصافحة المتأخرة، صحة كل ما تسرب من لقاءات سرية بين مسؤولين سوريين واسرائيليين في عواصم عربية واجنبية، لاستئناف المفاوضات.
لقد تبين لنا ان الطرف الاسرائيلي هو الذي يتدلل ويرفض العودة الى مائدة المفاوضات، رغم التنازلات السورية الرسمية السخية، وليس النظام السوري نفسه، مثلما كان يشاع دائما، ويجد من يصدقه في اوساط العرب، والسوريون منهم على وجه التحديد.
الاسرائيليون سيواصلون التجبر، وسيتمسكون اكثر بمواقفهم الرافضة لتقديم اي تنازلات للعرب، وسيؤكد هذا التهافت لمصافحتهم قناعاتهم المسبقة بان العرب هم الطرف الاضعف، فاقد الكرامة، وزمام المبادرة، وسيبنون سياستهم على اساس ممارسة المزيد من الاذلال والحاق اكبر قدر من المهانة بهم، حتى يقفوا عراة تماما طالبين الصفح والغفران.
نحمد الله ان جميع اوراق التوت قد سقطت، حتى ترى الشعوب العربية حكامها على حقيقتهم، وتبدأ التحرك من اجل التغيير المأمول. فقد ثبت ان هذه الانظمة عصية على الاصلاح، وغير مؤهلة للقيادة، بل غير مؤهلة للتفاوض، لانها تجهل ابسط ابجدياته.
كنا نتمنى لو ان الرئيس الاسد اخذ العبرة من الطيار السوري، الذي هرب بطائرته الحربية الى اسرائيل طالبا اللجوء، وكيف انتهى مجرما منبوذا مطاردا، فقد اخذ الاسرائيليون منه كل ما يريدون، اخذوا منه طائرته وكرامته وقذفوا به ذليلا الى الشارع كما قذفوا من قبله بانطوان لحد وقادة جيشه. فهؤلاء لا يخشون الا من الذين يحترمون انفسهم، ويقاومون دفاعا عن حقوقهم وارضهم ومقدساتهم.
لا نعرف كيف سيكون رد فعل الشعب السوري على هذه المصافحة المهينة من قبل رئيسه، ولكننا ندرك ان قيادات المعارضة الوطنية التي رفض الرئيس مصافحتها، بل زج بها في غياهب السجون ومعتقلات التعذيب، ستقوي كلمتها وتصبح مدوية، وتواصل معركتها من اجل التغيير الوطني المخلص، الذي يعيد لسورية مكانتها وارضها وعروبتها.
فهذا الشعب لن يقبل ببقاء الوطنيين، امثال عارف دليلة ورياض الترك ومأمون حمصي، ومئات غيرهم، في المعتقلات بتهمة الاتصال بالسفارات الاجنبية، والرئيس السوري يصافح الاسرائيليين علانية وبحرارة، ويسعى لفتح أي حوار معهم!
في جنازة الملك المغربي الحسن الثاني صافح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة والشيخ سعد العبد الله ولي عهد الكويت شمعون بيريس، واليوم في جنازة البابا يصافح الرئيس السوري نظيره الاسرائيلي، ويتبادل الرئيس خاتمي معه التحايا باللغة الفارسية.
ويعلم الله ماذا سيحدث في الجنازة المقبلة، الارجح اننا سنرى مصافحة حارة بين الامير سعود الفيصل وزير خارجية السعودية وسلفان شالوم، وزير الخارجية الاسرائيلي، فالمسألة مسألة توقيت، وتهيئة الاسباب الملائمة. فالسعودية قالت انها ستكون آخر المصافحين، وباتت فعلا هي آخرهم.
نشعر بالحزن والاسى والتبرم والضيق، ونحن نتذكر آلاف الشهداء الذين سقطوا دفاعا عن هذه الامة وكرامتها وشرفها، من سوريين ومصريين وفلسطينيين ولبنانيين وعراقيين وكل العرب الآخرين. هؤلاء الذين صدقوا زعاماتهم، ونفذوا تعليماتهم، وضحوا بارواحهم الطاهرة. وكان الاجدر بهم ان يقاتلوا من اجل الديمقراطية والحرية في اوطانهم قبل ان يقاتلوا الاعداء ويستشهدوا، لان الاوطان الحرة هي التي تقاتل وتنتصر، اما الدكتاتوريات الفاسدة فتقود شعوبها من هزيمة الى اخرى!
المصافحون لم يشيعوا البابا فقط الى مثواه الاخير، وانما شيعوا آخر ما تبقى من القيم والمبادئ والاخلاق والكرامة العربية ايضا؟!
تعليق