إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

قصص الحق

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قصص الحق


    السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

    اللهم صل على محمد وآآآآل محمد الطيبين الطاهرين



    قصص الحق ّّّ***ّّّّّّّّ قصص الحق *** قصص الحق



    قصه :::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::: :::

    سليمان (عليه السلام) وبلقيس

    كان سليمان (عليه السلام) إذا جلس على كرسيه، جاءت الجن والملائكة، والإنس فاصطفوا حواليه، على كراسي معدّة لهم.

    وجاءت جميع الطير التي سخّرها الله لسليمان، فاصطفت على رؤوس الجميع، لتظللهم من الشمس، وكان لكل طائر مكان مقرّر له، فإذا أشرقت أشعة الشمس على موضع من البساط نظر الحاضرون إلى الكوة، فعرفوا أي الطيور تخلّف عن وظيفته.

    وكان الهدهد ـ وهو طائر جميل، من خواصّه أنه ينظر إلى الماء في باطن الأرض ـ من جملة الطيور لتضلّل الجمع في الصافات على مجلس سليمان.

    (و) ذات مرّة نظر سليمان، وإذا بالشمس تخرق صفّ الطير، وتقع أشعة منها على حجر سليمان فـ(تفقّد الطير) طلبها وتعرّف إليها، ليرى أي الطير غاب عن صفه، حتى أرسلت الشمس بريدها إلى المجلس.. وإذا بسليمان يرى أن الهدهد هو الغائب (فقال مالي لا أرى الهدهد)؟ أي ما للهدهد لا أراه؟ هل حدث له حدث، (أم كان من الغائبين)؟

    وكيف يغيب الهدهد، بلا إذن؟ وهل يجوز لأحد الجند ـ طيراً كان أو غيره ـ أن يترك وظيفته ليذهب حيت يشاء؟

    غضب سليمان من هذا الحادث، وحلف قائلاً (لأعذِّبنَّه عذاباً شديداً) بنتف ريشه (أو لأذبحنّه) حتى يكون ذلك ردعاً لغيره من الجنود، وجزاءً على مخالفته الأمر، وهذا التعذيب أو الذبح يكون إذا لم يأتني الهدهد بعذر واضح (أو ليأتينّني بسلطانٍ) أي عذر لغيبته (مبينٍ) واضح لا يقبل الشك والإنكار.

    لقد غضب سليمان على الهدهد لتركه وظيفته بدون استئذان ونوى عقوبته (فمكث) سليمان مكوثاً (غير بعيد) وما هي إلا فترة قصيرة، حتى رأى الهدهد راجعاً.

    سأل سليمان الهدهد: أين كنت؟ ولماذا غبت؟ وما هي الحجة والعذر في تركك الوظيفة بدون استئذان؟

    (فقال) الهدهد يا نبي الله لا تعجّل علي بالعقوبة، فقد ذهبت استطلع لأجلك وإذا بي (أحطت) واطّلعت (بما لم تحط) ولم تطلّع (به) أنت (وجئتك من سبأ) وهي أرض في اليمن (بنبأ) أي خبر (يقين) فليس الكلام كذباً وإنما كلامٌ صادق.

    وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أن سبأ كان اسم رجل ولد له عشر أولاد، وصاروا آباء قبائل، نحا نحو الشام منهم أربعة، وهم: لخم، وجذام، وغسّان، وعاملة. ونحا نحو اليمن منهم ستةٌ، وهم: كندة، والأشعرون، والأزد، وحمير، ومذحج، وإنمار: ومن انمار صارت: خثعم، وبجيلة)(1).

    فسمّى تلك البلدة، باسم أبي هؤلاء الأولاد: رؤوس القبائل العربية.

    * * *

    قال سليمان للهدهد: وما هو النبأ الذي يكون عذراً لك في غيبتك؟

    قال الهدهد: (إني وجدت) هناك مملكة عظيمة، وأناساً كثيرين، ووجدت (امرأة تملكهم) فملكهم امرأة، وهذا أمر غريب، فهل تصلح المرأة لإدارة الأمور؟

    أليست المرأة خلقت عاطفيّة لإدارة البيت؟ وهل يمكن الجمع بين العاطفة التي تجيش بسرعة، وتخبو بسرعة، وبين الإدارة التي تحتاج إلى صلابة نفس وقوّة روح، وعدم تمايل عن الحق مهما تغلّبت العاطفة؟

    (وأوتيت) تلك المرأة الملكة (من كل شيء) فقد أعطاها الله سبحانه أموالاً، وجيوشاً وقصوراً، وبساتين، وسائر ما هو لازم للبلاد.

    وكان من قصّة الملكة، أن أباها كان ملكاً، ثم مات فاجتمع الوزراء والقواد على تتويجها، لتكون ملكاً رمزياً، وكان الذين يديرون البلاد هم كبار رجال الدولة.

    وقد كان اسم هذه الملكة (بلقيس).

    ثم قال الهدهد لسليمان (عليه السلام): (ولها عرش عظيم) وقد ورد في وصف عرشها أن مقدّمه كان من ذهب مرصّع بالياقوت الأحمر، والزمرّد الأخضر، ومؤخره من فضة، مكلّلة بألوان الجواهر وعليه سبعة أبيات، لكل بيت باب مغلق.. هناك تجلس الملكة لتحكم البلاد.

    هكذا كانت الملكة (أوتيت من كلّ شيء ولها عرشٌ عظيم) أمّا كيف كان حال الشعب فذلك مما لم ينقل إلينا، لكن الطابع العام في الحكومات الكافرة غالباً، الاعتداء والظلم والاستبداد إما من الملك، أو من طبقة الأشراف والنبلاء المحيطين به.

    * * *

    لقد حكى الهدهد لسليمان ما رآه عن الملكة وعرشها.

    لكن بقي شيء، وهو ما هو دين الملكة ودين قومها؟ لقد قال الهدهد (وجدتها وقومها يعبدون الشمس من دون الله) فهم عوض أن يعبدوا الخالق الذي أعطاهم كل شيء، يعبدون الشمس (وزيّن لهم الشيطان أعمالهم) هل أراد الهدهد بهذا تأكيد الكلام السابق بأن أراد بأعمالهم عبادتهم للشمس، أو أراد أنهم كانوا مغمورين في الفسق والفجور؟ ـ كل ذلك محتمل ـ ولعل الأقرب إرادة المعنى الثاني، فإنّ الغالب في الكفار تفشّي المنكرات والآثام والإجرام فيهم.

    وكيفما كان، فقد أتم الهدهد كلامه قائلاً: (فصدّهم) الشيطان (عن السبيل) الواضح، الذي هو طريق الله سبحانه (فهم لا يهتدون) إلى الحق في العقيدة والعمل.

    (ألاّ يسجدوا) الملكة وقومها (لله الذي يخرج الخبءَ في السماوات والأرض) إن الله سبحانه هو الذي أخرج النعم المخفية الموجودة في السماوات والأرض، فهو مخرج الشمس والقمر والنجوم، والسحاب والمطر، وما إليها مما يكون مخفياً في السماوات، يخرجها لينفع البشر.. وهو سبحانه الذي أخرج المياه والكنوز والأثمار وغيرها من جوف الأرض لينفع الإنسان.. إن الملكة وقومها لم يكونوا يسجدون لهذا الإله العظيم (و) هو الذي (يعلم ما تخفون وما تعلنون) أيتها الملكة وأيها القوم فهو المعطي وهو العالم.

    (الله لا اله إلا هو رب العرش) الملك (العظيم) الذي هو أعظم من عرش بلقيس.. هكذا أخبر الهدهد سليمان (عليه السلام) معتذراً من غيبته.

    * * *

    لما سمع سليمان (عليه السلام) الخبر المدهش من الهدهد تريّث في الأمر، قائلاً (سننظر أصدقت) في خبرك (أم كنت من الكاذبين)؟ فإن صدقت فأنت معذور في غيبتك وإلا استحققت عقابين: عقاب الغيبة بدون إذن، وعقاب الكذب.

    ثم إن سليمان (عليه السلام) كتب كتاباً، وختمه بخاتمه، وأعطاه إلى (الهدهد) ليذهب به إلى الملكة، إنه كتاب دعوة إلى الإسلام والإيمان، فهل تقبل الملكة والقوم الإيمان بالله حتى يكونوا في أمن وسلام، أم يختارون العناد والإصرار حتى تجوز لهم العقوبة؟

    دفع سليمان (عليه السلام)، الكتاب إلى الهدهد، قائلاً: (اذهب بكتابي هذا فألقه) يا هدهد (إليهم) إلى الملكة وقومها (ثمّ تولّ) ابتعد (عنهم) لتكون في موضع تسمع كلامهم، ولا يرونك (فانظر) يا هدهد (ماذا يرجعون) أي يرجع بعضهم إلى بعض الكلام حول الكتاب وقد أراد سليمان (عليه السلام) أن يتخذ التدابير اللازمة على ضوء جواب بعضهم لبعض.

    مضى الهدهد بالكتاب، حتى وصل إلى سبأ وإذا الملكة مع وزرائها في المجلس، فألقى الكتاب إلى الملكة، وإذا بها تدهش، وتفتح الكتاب فتقرأ محتواه..

    وهنا توجّهت إلى وزرائها وأشراف قومها (قالت يا أيها الملأ) الأشراف (إني ألقي إلي كتابٌ كريم) يتبين من محتواه، ومرسله أن الكتاب ذو كرامة ورفعة (إنه) أي الكتاب (من سليمان)، النبي ملك الإنس والجن والملك والحيوان (وإنه) مقرونٌ (باسم الله الرحمن الرحيم) لا باسم الشمس التي نعبدها.. أما محتوى الكتاب فهو (ألاّ تعلوا عليّ) أي لا تتكبّروا علي بعد الانصياع إلى أوامري (وائتوني) لتأتي الملكة والأشراف (مسلمين) هذا ما كان في الكتاب، وهكذا قرأته بلقيس على قومها.

    * * *

    من الطبيعي أن يعلو الوجوم جميع من في المجلس، إنه موقفٌ رهيب أن يدعو ملك أقوى، ملكاً أضعف إلى الاستسلام والانقياد فما الجواب؟ وما هو الموقف؟ وكيف التفكير؟

    ولذا تحيّرت الملكة في الجواب و(قالت) موجهةً الخطاب إلى الأشراف: (يا أيها الملأ أفتوني) أشيروا علي (في أمري) هذا، بماذا ينبغي أن أجيب؟ وما هو الأصلح بحالنا، الخصام أو الاستسلام (ما كنت قاطعة أمراً) أمضي فيه برأيي وأقرّر التقرير النهائي وحدي (حتى تشهدون) تحضرون أنتم وتعطون آراءكم حول الموضوع.

    فانبرى القوم لجواب الملكة (قالوا نحن أولو قوة) أصحاب قوة وقدرة وعَددٍ وعُددٍ (وأولو بأس شديد) شجاعة شديدة، ومراس في الحرب.. هذا ما عندنا (و) لكن (الأمر إليك) أيتها الملكة (فانظري) في الأمر (ماذا تأمرين) فنحن مطيعون لأمرك.

    تفكّرت الملكة في الأمر مليّا، فهل ترفع اليد عن دينها وتُسلم، أو ترفع اليد عن ملكها وتحارب حرباً يائسة؟ إنها تعلم بقوة سليمان وقدرته، ولذا (قالت) في جواب القوم ـ حيث ألقوا المسؤولية على عاتقها ـ : (إن الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها) فإنهم يقتلون أبناءها ويهدمون أبنيتها ـ كما هي الطبيعة في الحروب ـ (وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة) يأتون إلى الحكم بأناس جدد، ويحاسبون السلطة السابقة عما كانت تعمل.

    (وكذلك) كما قالت الملكة (يفعلون) الملوك الذين يدخلون البلاد حرباً، وعنوةً.. إذ ليس من الرأي المحادثة مع سليمان..

    * * *

    ليس من الصالح الحرب مع سليمان، لكن هل الطريق منحصرٌ في الاستسلام.

    كلا؟ إن هناك حلاً وسطاً للقضية ـ لو نفعت الحلول ـ وما هي أيتها الملكة؟ إنها المجاملة والمصانعة ليلين قلب (سليمان) وليعطف نحوهم، فيتركهم وشأنهم: (وإني مرسلة إليهم بهدية) ومن شأن الهدايا تليين الخصومات والخصوم (فناظرة بم يرجع المرسلون) الذين أرسلهم مع الهدية، فهل يرجعون ببشارة قبول سليمان الهدية وإغضائه عن المخاصمة، أم يرجعون برد الهدية، حتى نرى في الأمر؟

    هكذا قرّرت الملكة، ووافق الوزراء على التقرير، وما أجمله من حلّ ـ إن أفاد ـ؟ فأرسلت الملكة هديّة ثمينة ـ ربّما تبالغ القصص في مزاياها وخصوصيّاتها ـ لكنها على كل حال، كانت ثمينة، تليق بمقام المرسلة، وبمكانة المرسل إليه، ونوعيّة العطف المترقب من ورائها.

    (فلمّا جاء) المرسل بالهدية القيمة (سليمان) استنكر سليمان الأمر، وذوي عنهم، إنه نبي لا يريد إلا هداية البشر، فكيف يترك أمّة كبيرة تتحكّم فيها الخرافات فتعبد الشمس من دون الله؟

    (قال) مستنكراً: (أتمدّونني بمالٍ) أي أتزوّدونني بمال الدنيا؟ إني لا أحتاج إلى المال (فما آتاني الله خيرٌ مما آتاكم) فإني أملك الملكين: الملك الدنيوي والملك الإلهي ـ بفضل الله تعالى ـ .

    (بل أنتم) يا أهل الدنيا (بهديّتكم) أي بإهداء بعضكم لبعض الهدايا (تفرحون) أما أنبياء الله وأهل الآخرة، فإن فرحتهم تابعة لمرضاة الله تعالى فإن رضي عنهم فإنهم يفرحون، وإلا فلا فرح له فيما سوى ذلك.

    * * *

    توجه سليمان إلى رسول الملكة قائلاً: (ارجع إليهم) بالهدية، وأخبرهم أنهم إن لم يؤمنوا وتمادوا في الغي (فلنأتينّهم بجنود) كثيرة (لا قبل لهم بها) ولا طاقة لهم بتلك الجنود، ولا قدرة لهم على دفعها (و) إذا حاربناهم (لنخرجنّهم منها) أي من تلك القرية (سبأ) (أذلّة وهم صاغرون) حقراء لا قدر لهم ولا قيمة.

    جاء الرسول إلى (بلقيس) وقومها، وأخبرهم بمقالة سليمان، وعلمت الملكة أنه نبي من عند الله وليس ملكاً فحسب، ولذا لم تجد بدّاً من الاستسلام والإسلام، فتجهزت الملكة مع أشراف قومها للمسير إلى سليمان (عليه السلام)، وكأنها أرادت بذلك إظهار خضوعها، وأنها مُسلّمة إليه مقاليد البلاد، ونفسها، فأخبر جبرئيل (عليه السلام) سليمان بمسيرها.

    أراد سليمان (عليه السلام)، أن يري لها عظمته، حتى تكون أقرب إلى الطاعة والانقياد، ولتكون حجّة على نبوّته، ولذا طلب من زعماء أصحابه أن يأتوا بعرشها العظيم إلى حيث مقرّ سليمان، فقال: (يا أيها الملأ) الأشراف من أصحابي (أيكم يأتيني بعرشها) أي سرير ملكها الموجود في (سبأ) (قبل أن يأتوني) هي وأشراف قومها (مسلمين) منقادين لله مطيعين لي؟

    (قال عفريت) ماردٌ قويٌ (من الجن) الذين كانوا مسخرين لسليمان: (أنا آتيك) يا نبي الله (به) أي بالعرش (قبل أن تقوم من مقامك) أي من مجلسك، وهذا كنايةٌ عن الإتيان به في نصف يوم تقريباً (وإني عليه لقويٌ) قادر على حمله، والإتيان به في هذه المدة القصيرة (أمين) لا أخون في ذهبه وجواهره وحليه.

    (قال الذي عنده علمٌ من الكتاب) وهو آصف بن برخيا، وزير سليمان، وكان يعرف اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب فوراً ـ ولعل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ ـ (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) بمقدار لمح البصر.

    * * *

    استحسن سليمان كلام (آصف)، وطلب منه إحضار العرش. وقد أراد سليمان بذلك إظهار فضل (آصف) وإلا فالأنبياء هم أقدر الناس على إنجاز المهام ودعاؤهم مستجاب غير مردود.. فدعا الله سبحانه (آصف) أن يحضر العرش، وذكر الاسم الأعظم، وإذا بالعرش العظيم حاضرٌ عند سليمان.

    (فلمّا رآه) سليمان (عليه السلام) (مستقرّا عنده) حاضراً لديه، توجه إلى الله سبحانه في ابتهال، (قال هذا من فضل ربي) وإحسانه بالنسبة إلي، وإنما تفضّل علي بهذه النعمة (ليبلوني) أي يختبرني (أأشكر) نعمته (أم أكفر)؟ كفران النعمة عبارة عن عدم شكرها.

    ثم أردف سليمان (عليه السلام)، قائلاً: (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) فإن فائدة الشكر عائدة إلى نفس الشاكر ـ كما قال سبحانه: (لئن شكرتم لأزيدنكم) ـ (ومن كفر) ولم يشكر نعم الله تعالى (فإن) ذلك لا يضر الله تعالى لأن (ربي غنيٌ) عن العالمين (كريم) يتفضّل على المؤمن والكافر، فلا يضرّه الكفران.

    وتوجه سليمان إلى أصحابه و(قال) لهم (نكّروا لها عرشها) أي غيّروا السرير تغييراً إلى حال تنكره بلقيس ولا تعرفه إذا رأته، إما بتغيير لونه أو تغيير هيكله، وقد أراد سليمان بذلك اختبار عقل بلقيس هل تعرف أنه عرشها أم لا؟ (ننظر) إلى عقلها (أتهتدي) وتعرف أنه عرشها (أم تكون من الذين لا يهتدون)؟

    وهكذا تم أمر سليمان، ونكّر العرش، واستعد سليمان للقاء الملكة وقومها ـ والملكة لا تعرف عن أمر عرشها شيئاً ـ .

    * * *

    لقد أمر سليمان قبل مجيء بلقيس، الجن والبنّائين، أن يعملوا (صرحاً) أي قصراً من الزجاج، وفرش أرض القصر بالزجاج الصافي، وكان ما تحت الزجاج فارغاً، فأمر بملئه ماء، وجعل فيه الأسماك والضفادع، وما أشبه، وجعل سريره في أعلى القصر، حتى إذا رآه الإنسان غير العارف بحقيقة الأمر، تخيّل أن ساحة القصر مملوءة بالماء والأسماك، وأن سرير سليمان موضوع على الماء.. ولعلّه فعل ذلك إظهاراً للعظمة، حتى تكون بلقيس وقومها أسرع في الإيمان والانقياد ـ إذ قد اعتادت النفوس اتباع العظماء وأهل الجلال والثروة ـ أو لاختبار عقلها هل تعرف الزجاج من الماء أم لا؟

    انتهى السير بالملكة وقومها، إلى محل العرش (فلمّا جاءت قيل) لها، والقائل بعض من حضر (أهكذا عرشك)؟ وكانت بلقيس حصيفة، ففكّرت في نفسها: هل هو عرشها أم غيره؟ إن كان هو فكيف جيء به؟ واحتملت قدرة سليمان على مثل هذا الأمر؟ ولذا (قالت كأنه هو) فلم تجب لا بالإيجاب التام، ولا بالسّلب الكامل، وإنما قالت كلمة تحتمل الأمرين، لئلاً تكذّب، إذا خالف كلامها الواقع.

    ثم قالت ـ وهي تظهر عدم استغرابها من إتيان سليمان بعرشها ـ : (وأوتينا العلم من قبلها) أي قبل أن تنظر إلى آية سليمان في مجيء العرش (وكنّا مسلمين) لسليمان، ولذا أتيناه (وصدها) سابقاً عن الحق ـ حيث كانت تعبد الشمس ـ (ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين) بالله، عابدة هي وقومها للشمس.

    * * *

    مرّت بلقيس من موضع عرشها، حتى وصلت إلى باب (الصّرح) الذي جلس فيه سليمان، لاستقبالها، فلمّا وصلت، ونظرت إلى الماء والأسماك (قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته) توقّفت إذ (حسبته) وظنّت أن الصرح (لجّةً) من الماء.

    ثم.. لمّا لم تر بدّاً من الدخول (كشفت عن ساقيها) فرفعت ثوبها، لئلا يبتلّ بالماء (قال) لها سليمان (إنه) ليس ماء بل هو (صرحٌ ممرّدٌ) مملّس (من قوارير) جمع قارورة، وهي الزجاجة.

    فدخلت، و(قالت) ضارعةً إلى الله سبحانه، مستغفرة عمّا كانت عليه سابقاً من الكفر وعبادة الشمس (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت) الآن (مع سليمان) فإني مسلمة معه، معترفة (لله رب العالمين).

    وقد ورد في بعض الأخبار، أن سليمان (عليه السلام)، رأى ما على رجل الملكة من شعر فأمر الجن أن يصنعوا لإزالة الشعر دواءً، فصنعوا الحمّام واخترعوا (النورة).. وكان سليمان (عليه السلام) تزوّج بالملكة، وأسلم أهل سبأ، وانتهى الأمر بسلام.. كلّ ذلك بفضل عزم سليمان، وحكمة (بلقيس).

    وقد علم ـ هذا النبي العظيم، وهذه الملكة العاقلة ـ الناس، الاهتمام بأمر الدين، وقوة العزيمة في هداية الناس، مهما كلف الأمر حيث لم يقل سليمان: (لنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها...)؟ ثم ... ألم تكن من حكمة بلقيس أنها رجّحت الانقياد لله ولسليمان على الكبر والغرور والبقاء في الكفر والضّلال؟

    وهكذا فليتعلّم الناس، هداة ومدعوين إلى الهداية.

    * * *

    وقعت في زمن (داود) والد (سليمان) عليهما السلام، قصّة دلّت على فضل سليمان ونبله، فقد كان في بني إسرائيل رجل كان له (كرم) شجر العنب، فنفشت ورعت في بستانه غنمٌ لرجل آخر، في الليل، فقضمته وأفسدته.

    ولمّا جاء الصباح، وجاء صاحب البستان فرأى الفساد وانجال في بستانه، فجاء بصاحب الغنم إلى داود (عليه السلام) ليحكم بينهما.

    لكن داود، أحال الحكم على ولده سليمان، ليظهر للناس علمه وقضاءه ويكون ذلك تمهيداً لخلافته من بعده. فذهبا إلى سليمان ليحكم بينهما.

    قال سليمان: إن كانت الغنم أكلت الأصل والفرع، فعلى صاحب الغنم أن يدفع إلى صاحب الكرم الغنم وما في بطنها، وإن كانت الغنم ذهبت بالفرع، ولم تذهب بالأصل فعلى صاحب الغنم أن يدفع إلى صاحب الكرم أولادها فقط دون أصل الغنم.

    ولعل هذا الحكم كان لأجل تساوي أصول الكروم للأمهات، وفروع الكروم للأولاد، قيمةً، فكان من باب تطبيق الضّمان على الغنم، كما أنه من الممكن أن هذا كان حكم شريعة موسى (عليه السلام)، فإن داود وسليمان كانا متعبّدين لشريعة موسى.

    وبهذا ظهر علم سليمان وفضله على الناس (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) الزرع الذي أكله الغنم (إذ نفشت) رعت ليلاً (فيه غنم القوم وكنّا لحكمهم شاهدين) نرى ماذا يحكمان (ففهّمناها) أي القضيّة وحكمها (سليمان وكلاًّ) من داود وسليمان (آتينا حكماً) قضاءً بين الناس (وعلماً) فإن كليهما كان نبياً من عنده سبحانه.

    * * *

    وذات مرة وقف سليمان (عليه السلام) ليستعرض الخيل التي كان هيأها لجهاد الكفار ـ كما هي العادة في الاستعراضات العسكرية ـ واشتغل بذلك حتى فاتته صلاة نافلة كان يصليها.

    فتأثّر سليمان (عليه السلام) من ذلك تأثراً بليغاً، كيف فاتته النافلة وإن كانت هي مستحبة، ولماذا اشتغل بالخيل عن ذكر الله؟

    ولذا وقف تلك الخيل في سبيل الله تعالى، حتى يدرك بعض الثواب الذي فاته بسبب تركه النافلة(2).

    (ووهبنا لداود) النبي (عليه السلام) (سليمان) وسليمان (نعم العبد) المطيع لله تعالى (إنه أوّاب) كان كثير الأوب والرجوع إلى الله تعالى حتى إنه إذا فاتته نافلة آب ورجع وتدارك ذلك بالإتيان ثواب غيرها (إذ عرض عليه) أي على سليمان (بالعشي) في وقت العصر، الأفراس (الصّافنات) وهي التي تقف على ثلاث، وترفع إحدى قوائمها، وذلك لا يكون إلا في الخيل الجيد (الجياد) جمع جيد.

    وطال العرض حتى غابت الشمس، ولم يصل سليمان نافلته المعتادة كل يوم (فقال) سليمان متحسّراً على ما فاته (إني أحببت حب الخير) أي حب الأفراس حتى ألهاني ذلك (عن ذكر ربي) بإقامة النافلة (حتى توارت) الشمس (بالحجاب) فكأنها لما غربت فقد توارت واختفت تحت حجاب الأفق.

    ثم أردف سليمان قائلاً: (ردّوها) أي الخيل (عليّ) فردّت (فطفق) أي شرع يمسح (مسحاً بالسوق) أي سيقان الخيل (والأعناق) يمسح عليها عطفاً وحناناً، ويوقفها في سبيل الله سبحانه.

    * * *

    وقصة أخرى حدثت لسليمان (عليه السلام)، فإنه لما تزوّج ببلقيس (ملكة اليمن) رزق منها مولوداً ذكراً.. ففرح بذلك فرحاً كثيراً، ثم خاف عليه من الشياطين أن يؤذوه لئلا يخلف سليمان، فيكونون مسخّرين له كما كانوا مسخّرين للوالد.

    ولذا أودع ولده السّحاب ـ وكان ذلك ممكناً لسليمان (عليه السلام)، حيث كان بأمره الكون.

    لكن هذا العمل لم يكن ينبغي لمثل سليمان النبي الذي يجب أن يكون في أرقى درجة من التوكل وتفويض الأمر لله تعالى.

    ولذا أمر سبحانه ملك الموت أن يقبض روح الولد، فمات الولد وذات يوم جاء سليمان ليجلس على كرسي الحكم ويقضي بين الناس فرأى الولد ميتاً ملقى على كرسيّه.

    وهنا عرف أنه كان ينبغي له أن لا يدع الولد للسحاب فإن الموت والحياة بيد الله تعالى، ولذا استغفر الله تعالى (ولقد فتنّا) وامتحنّا (سليمان) لنرى صبره ولننبّهنّم على أن الأولى به أن يكون في درجة رفيعة من التوكل (وألقينا على كرسيه) الذي كان يحكم عليه (جسداً) لولده الميت (ثم أناب) وتاب.

    (قال) سليمان: (رب اغفر لي) اعتمادي على السحاب في حفظ الولد ـ وإن كان هذا الاعتماد جائزاً، إذ من الجائز للإنسان أن يدبّر شؤونه حسب الصلاح والحكمة ـ (وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب) فاستجاب الله سبحانه دعاءه، بل تفضّل عليه حيث يقول: (فسخّرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب) إلى كل مكان أراد الذهاب إليه.

    * * *

    وهناك قصة شيّقة من قصص سليمان (عليه السلام)، فقد بنى أبوه (داود) (عليه السلام) بيت المقدس، ولم يكمّله حتى وافاه الأجل. وأخذ (سليمان) في تكميل البناء حتى كملت البناية على أحسن ما يرام.

    ثم أمر سليمان الجن الأقوياء بالبناء، فأخذوا في البناء بكل سرعة، وذات يوم وقف سليمان متّكئاً على عصاه ينظر إلى العمل والعمّال.

    وإذا به يرى شابّاً حسن الصورة إلى جنبه. سأله سليمان: من أنت؟ ومن أذن لك في الدخول عليّ بدون إجازتي؟ قال الشاب: أنا الذي لا أقبل إرثاً، ولا أهاب الملوك، فعرف سليمان أنه ملك الموت جاءه ليقبض روحه.

    فقبض ملك الموت روح سليمان، وهو متّكئ على عصاه، والجنّ يظنّون أنه حي، ويتعجبون كيف لا يتعب؟ وكيف لا يأكل ولا يشرب؟ وكان (آصف بن برخيا) وزير سليمان وخليفته، يدير شأن البناء والعمّال، حتى مضت مدّة طويلة.

    (فلمّا قضينا عليه) أي حكمنا على سليمان (الموت ما دلّهم على موته إلا دابّة الأرض) الأرضة (تأكل منسأته) أي أخذت تأكل عصاه، حتى إذا فسدت خرّ سليمان واقعاً على الأرض ـ لذهاب متّكئه ـ (فلمّا خرّ سليمان (تبيّنت الجن) وعرفت (أن لو كانوا يعلمون الغيب) الشيء الغائب عن حواسّهم (ما لبثوا) هذه المدة المديدة (في العذاب المهين) أي تعب العمل الذي كانوا يعملونه لسليمان في بناء ما يريده من الأبنية.

    إلى هنا تنتهي مقتطفات من قصة سليمان ابن داود (عليه السلام).

    * * *

    وقد كان سليمان كسائر الأنبياء، مثالاً للطهارة والنزاهة، والعدل والإرشاد، والزهد والتقوى.

    أما ما ينسب إليه في بعض كتب أهل الكتاب، أو كتب بعض المفسّرين والمؤرخين، مما لا يليق بمقام الأنبياء، فذلك غير صحيح، فقد حرّف أهل الكتاب بعض الحقائق جهلاً أو عناداً، ثم تسرّبت تلك الأمور المشوّهة إلى بعض التفاسير وكتب السير.

    بقيت نكتة ينبغي التنبيه عليها، وهي:

    إن في (بعلبك) بلبنان قلعة عجيبة، بقيت أطلالها إلى هذا اليوم، وقسم من أهل الاطّلاع يقولون: إن هذا ليس من صنع البشر، لعدم وصول وسائل البناء في العصور السابقة، إلى ما يستطيع الإنسان معها من إنشاء مثل هذه (القلعة).

    ولعلّ هذه القلعة من بناء (الجن) الذين كانوا مسخرين لسليمان (عليه السلام)، فقد ورد في كتب السير: أن محل سليمان ومسكنه كانا في (بعلبك) مدة من الزمن، وكان يسير منها ـ في البساط ـ إلى بيت المقدس كل يوم، لأجل البناء.

    والله العالم بالحقائق، وهو المستعان.



    1 ـ بحار الأنوار: ج66، ص335.

    2 ـ في الآية، اختلاف كثير، ولعل بما ذكرناه يمكن الجمع بين ظاهر الآية، وبين الروايات، وبين عصمة الأنبياء.





    نســــــــــالكم الدعاء والزيارة ..

  • #2
    السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

    اللهم صل على محمد وآآآآل محمد الطيبين الطاهرين



    قصص الحق ::::::::: قصص الحق ::::::::: قصص الحق



    قصه اليوم هي بعنوان :

    موسى (عليه السلام) في البحر

    لقد لقي بنو إسرائيل في مصر العنت والإرهاق من كبت فرعون وظلمه فانهم وإن أمِنوا على أنفسهم ـ نوعاً ما ـ من القتل، بعد أن أرى موسى لفرعون الآيات، من الدم، والقمّل، والضّفادع، وغيرها ـ إلا أن فرعون العنيد ، وأتباعه الكفرة ما زالوا يضايقون موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل، حتى ضاقوا بالأمر ذرعاً.

    إن الأغلبية السّاحقة من المصريّين كانوا ينظرون إلى موسى والمؤمنين شزراً، وكانوا يشبعونهم إهانات، والمؤمنون صابرون صامدون، لكن إلى متى؟ وكثرت الشكوى إلى موسى حول هذا الموضوع.

    ولكن ما هو العلاج؟

    وجاء الفرج.. وذلك بأن أوحى الله تعالى إلى موسى بالخروج من مصر، وهل المكان منحصرٌ في مصر؟ كلاّ! إذن إلى أين؟ وكيف؟ وهل هذا الأمر سهل؟ كلاّ! فإنه خروج مما يقارب الثلاثة أرباع المليون، تاركين وراءهم مكاسبهم ومنازلهم، وكلّ ما يتعلّق بهم من أصعب الأمور.

    غير أن الاضطرار قد يكلّف الإنسان رهقاً.

    * * *

    قرر موسى ـ حسب أمر الله تعالى ـ الهجرة من مصر مع بني إسرائيل أجمع، ويا له من قرار خطير!

    ثم هل يمكنهم الفرار من يد الطاغية فرعون، وهو يرصدهم، ويبغي لهم الغوائل؟ لكن قدرة الله تعالى أكبر من كل شيء وتدبيره أحسن من كل تدبير، لقد أفجع سبحانه آل فرعون بنفوس أعزّائهم، فمات كثيرٌ منهم، مما أشغل بالهم، وأخذوا في النّواح والنّدبة لأعزائهم.

    وهنا حان الوقت ليفرّ بنو إسرائيل من مصر، حين اشتغال القبط بأنفسهم وكان الذين يريدون الفرار، يقاربون ثلاثة أرباع المليون، وفي ليلة الميعاد المقرّر خرج هذا الجمع الغفير، تحت ظلام الليل، وأسرعوا من المدينة مع موسى وهارون أحدهما يقود الجمع، والآخر يسوقهم، لئلا يفرط منهم، ولا يسير أحد بدون قيادة.

    وهكذا ساروا بكل سرعة وهدوء، حذرين خائفين، وإن جاسوساً واحداً لفرعون يكفي لإدراك الطلب.

    وهل من الممكن أن يسير الجمع الكثير بدون أن ينتبه قبطي واحد؟ وهل من الممكن الإفلات من قبضة فرعون الحديدية، الذي كان يعتبر هؤلاء ـ إن ظفر بهم ـ عبيداً آبقين؟

    وفي أثناء السير ـ والذعر قد أخذ منهم كل مأخذ ـ إذا بهم يصطدمون بالبحر يا لها من مفاجأة! ماذا يصنعون؟ هل يرجعون أو يبقون؟ وكلا الأمرين فيه خطرٌ وأي خطر؟ لا بد وأن يدركهم فرعون، وهناك العذاب والتنكيل.

    * * *

    لمّا رأوا البحر أمامهم، (قال أصحاب موسى إنا لمدركون) يدركنا فرعون وجنوده.

    (قال) موسى: (كلاّ إن معي ربّي) يحفظني، ولا يكلني إلى الأعداء فـ(سيهدين) طريق الخلاص ممّا أمامنا من البحر، وممّا وراءنا من فرعون.

    وهنا جاءتهم النجدة من الله تعالى، فأوحى إلى موسى: (فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى) فضرب موسى (عليه السلام) عصاه بالبحر، فانجاب الماء، وظهرت في البحر طريقٌ، وكان طول البحر الذي يلزمهم عبوره (أربعة فراسخ) فيا للهول، وقف الماء كأنه جمد، في حافتي الطريق، وفي الوسط طريق لاحب.

    خاف أصحاب موسى من العبور قائلين: كيف نعبر في الوحل؟ فأرسل الله الرياح، وأشرقت الشمس في الطريق فيبست، ثم ماذا؟

    قال أصحاب موسى: إنا لا نعبر في طريق واحد، ونحن اثنتا عشرة قبيلة، فمن يتقدم ومن يتأخّر؟

    فضرب موسى عصاه بالبحر حتى صار اثني عشر طريقاً، لكل سبط طريق والماء بين الطرق كالحاجز.. وهل من عذرٍ بعد؟

    نعم.. قالوا لموسى كيف نعبر وبعض الأسباط لا يرى السبط الآخر، ولعل أذى يصيبه، لأن الماء حاجز بين الطرق؟

    ورحابة صدر موسى العظيم تقبل حتى هذا العذر التافه، ويجعل له حلاً، إذ أشار موسى بــعصاه فصارت الحواجز كأنها شبابيك، يتمكن كل سبط أن يرى سائر الأسباط طول الطريق.

    * * *

    (انفلق) الماء ببركة عصا موسى (فكان كل فرق كالطود) أي الجبل العظيم فانسابت القبائل في الطريق المهول، إن الأرض جافةٌ، والشمس مشرقةٌ عليهم، وهم كثرةٌ هائلة، يحدث بعضهم بعضاً، وكلّهم مطمئنّو القلب بحكمة القائد والسائق، واثقين بوعد الله ولطفه.

    ولكن هل يبعث ذلك كله الاطمئنان الكامل؟ كيف والماء ماء، والبحر بحر، والطريق طويل، إنه ليس ذراعاً وأذرعاً، وإنما يبلغ أربعة فراسخ؟ وممّا زادهم قلقاً وارتباكاً، ما لمحوه من بعيدٍ من الجيش اللجب العرمرم، الذي قاده فرعون لإدراكهم.

    فقد عرف فرعون بعد لأيٍ أن بني إسرائيل نزحوا عن المدينة، فتعجّب إلى أين ذهبوا؟ وبعد التحقيق تبين أنهم فرّوا ليلاً في اتجاه البحر فثار فرعون وهيّأ جيشاً ضخماً، قوامه مليون وستمائة ألف جندي.

    واطمأنّ فرعون بالنصر، فإن الأمر لديه واضحٌ كل الوضوح، إنه ليست هناك سفن تقلّ أصحاب موسى عبر البحر، ولا طاقة لبني إسرائيل حتى يقاوموا جيش فرعون المنظم المسلّح، فما هي إلا عشية أو ضحاها، حتى ينتقم من الفارّين أشد انتقام؟

    وهكذا جاء فرعون حتى وصل إلى البحر وهنا رأى العجب! هاهي المياه تراكم بعضاً على بعض، حتى فتحت الطرق! ما أغرب هذا الأمر! وما العمل؟

    خاف قوم موسى قائلين: (إنا لمدركون). لكن موسى لم يخف إنه واثق بفضل الله ونجاته. ووصل أصحاب موسى إلى منتصف البحر، حين وصل فرعون إلى أوّله.

    * * *

    لقد خاف فرعون عاقبة الأمر، ولم يدر ماذا يصنع؟ أيرجع؟ وفي رجوعه الفشل الذريع، أم يبقى؟ وما فائدة البقاء؟ أم يسير في البحر وهو لا يأمن الغرق؟ إنه يعلم أنّ الأمر معجزة موسى (عليه السلام)، لكن هل بإمكانه أن يظهر ذلك لقومه، وهو يقول: أنا ربّكم الأعلى؟

    وأخيراً قاده غروره، إلى أن يقول لقومه: إن انفلاق البحر معجزة لي، ولمّا علم بأني قاصدٌ صوبه، انجاب إجلالاً لكبريائي.

    وهل انطلت الكذبة على أصحابه؟ ذلك ما لا نعلمه، وإن كنّا نعلم أن الأذكياء من أصحاب المستبدين، يعرفون كل شيء، ولا يتمكنّون أن يتكلّموا بكلمة!

    تقدّم منجم فرعون قائلاً له: لا تدخل البحر فإنه خطر. وتوقّف فرس فرعون، فلم يدخل البحر.

    ومن هناك أراد موسى أن يضرب بعصاه البحر خلفهم، ليرجع الماء كما كان، فلا يلتحق بهم فرعون.

    لكن كل ذلك لم يحل دون إرادة الله سبحانه.

    فلقد أوحى إلى موسى قائلاً: (اترك البحر رهواً) ساكناً حتى يدخله فرعون وجنده (إنهم جند مغرقون). ولم يبال فرعون بقول منجّمه، إذ أبى ذلك غروره وكبرياؤه.

    وركب جبرئيل (عليه السلام) (رمكة) فدخل في البحر أمام حصان فرعون.. وتبع الحصان الرّمكة، فدخل فرعون، ودخل الجيش وراءه. وسار الجمعان أصحاب موسى، وأصحاب فرعون، وليس الفاصل بينهم، إلا ما يقارب نصف البحر، وكلّ قلق خائف: أصحاب موسى من العدوّ، وأصحاب فرعون من الغرق.

    * * *

    وصل أصحاب موسى إلى شاطئ البحر مخلفين وراءهم البحر بطرقه، والعدو الذي يتبعهم حثيثاً.

    ووصل فرعون وأصحابه إلى وسط البحر...

    وهنا، أمر الله الماء أن يرجع كما كان، وإذا بجبال الماء تلفُّهم في أعماق البحر، وإذا بهذا الجيش الكثيف يعلو وينزل في الماء، كأنه كرات بيد صبيان، وإذ أدرك فرعون الغرق (قال آمنت إنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) فقد انجاب عنه سحاب الغرور، وظهر لديه عجزه وحقارته، فقال: (وأنا من المسلمين).

    وهل ينفع هذا الإيمان؟ فإنه (ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن).

    ولذا ظهر له جبرئيل (عليه السلام) قائلاً: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) لا، لا، لا ينفع مثل هذا الإيمان في النجاة من عذاب الآخرة، وضرب على فمه بكتلةٍ من (الحماة).

    لكن هل يلفّ البحر جسد فرعون؟ كلا! إن الناس اعتادوا أن يزعموا بقاء العظماء والمتجبّرين على حد سواء، ولذا ظنّ بنو إسرائيل الذين ملأ قلوبهم جبروت فرعون: أنه لم يمت ولم يغرق، وهكذا زعمت البقية الباقية من القبط الذين لم يخرجوا مع فرعون لإدراك موسى.

    ولذا أبقى الله جسد فرعون قائلاً: (فاليوم ننجيك ببدنك) بعد إزهاق روحك (لتكون لمن خلفك آية) وعلامة على هلاكك، وأنك لم تكن ربّاً ـ كما كنت تقول ـ وهل يغرق الرب؟

    * * *

    لقد غرق فرعون وآل فرعون، و(كم تركوا من جنّات) بساتين ونخيل، (وعيون) مياه جارية، (وزروع ومقام كريم) من قصور وبيوت ومساكن، (ونعمة كانوا فيها فاكهين) بكلّ سلام ودعة (كذلك وأورثناها قوماً آخرين) من بني إسرائيل وغيرهم.

    ومن طريف ما يحكى: أن امرأة من بني إسرائيل لما عبروا البحر، جلست على الماء تغسل بعض حاجاتها، وإذا بها ترى جثّة فرعون، وضربها الماء حتى أتت الجثّة قرب المرأة، فأخذت المرأة تقتطع بعض الجواهر التي علّقها فرعون في لحيته وتذكّرت هناك قصّة عذابها على أيدي عمّال هذا الطاغية:

    فقد كان أمر فرعون جلاوزته بتعذيب بني إسرائيل بأنواع العذاب لعلّهم يرجعون عن الإيمان بإله موسى. تخلّصاً من العذاب، فقد كانوا (يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم) فكانت الجلاوزة تسخّر النساء لأعمال شاقة، حمل الطين وما أشبه على السلالم، إلى السطوح.

    وكانت هذه المرأة ـ صاحبة القصّة ـ ممن شملهم العذاب، فقد سخّرت ذات مرّة لرفع الطين، وكانت حاملاً، وفي رجلها قيدٌ، لئلا تهرب، فأدّى الحمل والقيد والطين إلى سقوطها عن الدرج، فرضّت عظامها وأسقطت جنينها.. فرفعت رأسها، وهي مذهولة، وخاطبت ربّها: هل أنت نائم يا رب؟

    واليوم حيث أخذت تقتطع جواهر لحية فرعون الغريق، ذكرت القصة، وسمعت منادياً غيبيّاً يجيبها، عن كلامها ذاك: (لا، لسنا نائمين)!!

    * * *

    لقد غرق الطاغية فرعون بعد ما فسد وأفسد، وضلّ وأضلّ، وطغى وتجبّر، فأين فرعون، وأين جلاوزته، وأين جلاّدوه، وأين سجونه، وأين أعوانه وأنصاره؟؟

    بل أين صرحه المدهش؟ فقد (قال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) وموسى كاذبٌ في مقالته أن للكون إلهاً (فأوقد لي يا هامان على الطين) أوقد النار على الطين، ليكون أجرّاً وجصّاً، (فاجعل لي صرحاً) قصراً عالياً في الهواء. فأصعد إلى السطح (لعلّي أطّلع إلى إله موسى) وقد ظنّ فرعون أنّ الله مقرّه السماء جاهلاً أو متجاهلاً أنه لا مكان لله تعالى، كما أنه لا زمان له سبحانه (وإني لأظنه) أي أظن موسى (من الكاذبين) في قوله إن للكون إلهاً.

    وهكذا أمر فرعون وزيره (هامان) وامتثل هامان، فسخّر ما يقارب المائة ألف من أهل مصر، لبناء صرح لم ير مثله في العلو والارتفاع، حتى تم البناء، وصعد فرعون وهامان سطح القصر، ثم هيأ (هامان) مهداً ذا أربعة قوائم صاعدة فوقه، وأربعة أساطين نازلة تحته وهيأ أربع نسور قويّة، وربطها بالأساطين، وعلّق فوق القوائم أربع ذبائح، وجوّع النسور.

    ثم جلس فرعون وهامان في المهد، في أعلى سطح الصّرح، فأخذت الطيور في الطيران كأنها تحاول الوصول إلى الذبائح، حتى بلغ المهد مبلغاً كبيراً في الارتفاع. وهناك لم يريا إلا السماء والأنجم، حيث جنّهم الليل ـ وزاد خوفهما من الصعود أكثر.. فقلّبا وضع النسور واللحوم، بالبكرات والحبال التي كان هامان قد هيأها لمثل هذه المهمّة، إذ نقل النسور من الأساطين إلى القوائم، ونقل اللحوم من القوائم إلى الأساطين.

    والنسور الجائعة، رأت اللحم في أسفل فأخذت في الهبوط لتصل إليه سدّاً لجوعتها، وهكذا نزل المهد، ولم يظفر فرعون ببغيته.

    لقد ذهب فرعون الطاغي، وذهب أتباعه وجلاوزته، وذهبت كنوزه وقصوره، وذهب صرحه الذي سخّر له العمال الكثيرين، ليطّلع إلى إله موسى ويشاطره ـ بزعمه ـ الملك والحكم!

    ورجع البحر رهواً كما كان، كأنه لم يَحْو في بطنه شيئاً من ذلك الجيش اللّجب، بعدده وأسلحته ومعدّاته. ولم يبق إلا جثّة فرعون الهامدة، على رابية قرب البحر حيث قذفته الأمواج (ليكون لمن خلفه آيةً) وعبرة، يعتبر به الجبابرة.

    ويقال إن إحدى جثث الفراعنة الموجودة في متحف القاهرة هي جثّة هذا الرجل الطاغي، وسواء كان الخبر صدقاً أم مخالفاً للواقع، فقد لفت فرعون وقومه لعنة الأبد، وبقي أمثولةً للاستبداد والكبر، حتى إن الناس اشتقّوا لفظة (تفرعن) من اسمه أي طغى وتجبّر.

    وبقي موسى (عليه السلام) وقومه المؤمنون الصابرون، مثلاً أعلى لكل فضيلة.

    * * *

    لقد عبّر بنو إسرائيل البحر في سلام، وهاهم يرون أمام أعينهم غرق ألدّ أعدائهم، والمعاونين له في إيذائهم، فقد انقضى كلّ شيء، وانتهى أمر فرعون.

    فلننظر إلى موسى وقومه..

    فمن غريب الأمر أن يكون بنو إسرائيل، بعد هذا الاضطهاد والاستعباد، وبعد تلك المعجزات والغرائب، لم تتبلور في نفوسهم روحيّة التوحيد، فإنهم بعد ما خرجوا من البحر، (أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)! وماذا يقول موسى العظيم لهؤلاء القوم؟ (قال موسى إنكم قوم تجهلون) وهل بعد هذه الآيات محلٌّ للكلام؟ لكن قد أُشرِب في قلب جماعة منهم حب الأوثان أليسوا قد عبدوا العجل بعد مدة أخرى أيضاً؟

    هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى..

    (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون) ينظر إليهم فرعون بنظر الضعف والمهانة (مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) فقد صارت أراضي مصر وأراضي سوريّا، تحت سلطة موسى وقومه.

    (وتمّت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) فقد دمّر الله سبحانه قصور فرعون، وبالأخص صرحه الذي بناه له (هامان).

    وذلك بأن ضرب جبرئيل (الصرح) بجناحه، فصار دكّاً ولم يبق منه أثر.

    أما مصر: فبعد أن هلك فرعون، بعث موسى جندين عظيمين من بني إسرائيل كل جند اثنا عشر ألفاً، إلى مدائن فرعون ـ ولعل البعث كان بالسفن ـ وتلك المدائن كانت خالية من أهلها، لم يبق منهم إلا النساء والصبيان والزمنى والمرضى والهرمى.

    وجعل الآمر على أحد الجندين (يوشع بن نون) وعلى الجند الآخر (كالب بن يوفنا) فدخلوا بلاد فرعون.

    هاهي البلاد خالية! وهاهو محل القوم الذين طالما عتوا وطغوا وبغوا في الأرض بغير حق! وهاهي قصور فرعون وبساتينه وحدائقه، خلت من الطاغية الذي سام هؤلاء أشدّ ألوان العذاب، فكان (يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم) تجاوب السوم في أرجائها، عوض المستبد العاتي الذي كان ينادي بملء فمه (أنا ربكم الأعلى) و(ما علمت لكم من إله غيري).

    إنه من الطبيعي أن تجيش في صدور بني إسرائيل الذين يرون كل ذلك ألف جائشة وجائشة، ويتذكّروا أيّامهم الماضية التي قاسوها، تحت الذل والاستعباد، والظلم والاضطهاد.. كيف أخرجوا بغير حق إلا أن يقولوا: ربّنا الله؟ وكيف اضطرّوا إلى ترك بلادهم بدون مبرّر؟!

    وكيف كان الأمر، فهل أمروا من قبل النبي الظافر موسى بن عمران (عليه السلام) بأخذ الغنائم، ولذا حملوا كنوزهم وأموالهم، وما أقلّت الحمولة من أثاث ورياش، كما أنهم باعوا قسماً مما وجدوا له مشترياً.

    أما الجيشان فقد قفلا راجعين إلى موسى، بعد ما خلّف (يوشع) رجلاً صالحاً على تلك البلاد، ليملأ الأرض بصوت التوحيد، بعد ما ملأها فرعون بصوت الكفر والوثنية.

    * * *

    إلى أين مسير هذه الجماعة الغفيرة التي تقارب ثلاثة أرباع المليون؟

    إن مثل هؤلاء الجماعة لابد وان يسكنوا بلداً يسعهم، ولكن أي البلاد يستطيع أن يرحب بمثل هذه الكثرة العظيمة؟ وكيف يتمكّنون من أن يعيشوا في بلاد غربةٍ بدون مؤهلات؟ إنها مشكلة كبرى لهم، وللبلد الذي ينزلون فيه، ولقائدهم موسى بن عمران (عليه السلام) الذي لابد وأن يلاقي الصعوبة من قومه ومن أهل ذلك البلد الذين يريدون النزول فيه.

    ولا يتمكّنون من أن يعيشوا في برّيّة.. إذن فما العلاج؟

    لقد حل الله المشكلة، فأوحى إلى موسى أن ينحو نحو الأرض المقدسة، أرض الشام، التي قدّست وبوركت بكثرة الأنبياء، وبكثرة الفاكهة والمياه، وطيب الهواء.

    وكان ذلك في نفس الوقت حلاً لمشكلتين: مشكلة هؤلاء النازحين، الذين يحدو بهم السير نحو بلاد يعيشون فيها آمنين، يؤدّون شعائرهم بكل حرّية، ويعبدون الله جهاراً، بلا خوف ولا رقابة.. ومشكلة الكفّار الذين كانوا في (الشام) وكانوا إخوان (فرعون) في العقيدة والعمل، فقد كان العمالقة الساكنون في (الشام) كفّاراً عتاةً يفسدون ويظلمون ويبغون في الأرض بغير الحق.

    أما إذا جاء موسى وبنو إسرائيل وأخضعوهم، فإن صبغة البلاد تنقلب من الكفر إلى الإيمان، ومن الطغيان إلى العدل.

    أمّا.. لماذا لم يصمّم بنو إسرائيل على الرجوع إلى (مصر) مقرّهم، بعد هلاك عدوّهم؟ فكان ذلك بأمر الله الذي أراد لهم أن يسكنوا الأرض المقدّسة، ولعلّ الغرض من ذلك كان إرادة تطهيرها من الوثنية وعبادة الطاغوت، وقطع يد الظالمين عنها.

    * * *

    نزل قوم موسى عند نهر الأردن، وكان من المقرر أن يواصلوا السير حتى يصلوا إلى الشام، لكنهم خانوا وتردّدوا، أمّا موسى فلم يتردد، بل خاطبهم قائلاً: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) أن تدخلوها (ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) بعدم إطاعة أوامر الله، فإن ذلك يوجب خسران الدنيا والآخرة.

    لكن القوم بقوا على عنادهم، فـ(قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبّارين) هم العمالقة الذين كانوا أقوياء في البنية، أشدّاء، منحرفي العقيدة والعمل (وإنا لن ندخلها) إذ نخاف أن تكون نساؤنا وأطفالنا غنيمة باردةً لهم، ونقع في أسرهم كما كنا في أسر فرعون من ذي قبل (حتى يخرجوا) أي العمالقة (منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون).

    وقد همّ جماعة من بني إسرائيل بالانصراف إلى مصر، ثم إن موسى بعث من كل سبط من الأسباط الاثني عشر، رجلاً، ليروا وضع الأرض المقدسة، لعلّهم يتشجّعون على دخولها، لكن القوم رجعوا بعكس ذلك، وبعضهم عادوا خائفين وجلين مما شاهدوا من أمر العمالقة.

    أمر موسى (عليه السلام) الرجال الاثني عشر أن يكتموا ما شاهدوا، لئلا يجبن أصحابه فكتم بعضهم، وأفشى الآخرون، مما زاد الأمر إعضالاً، واستبدّ القوم في عدم الدخول.

    فـ(قال رجلان) هما (يوشع) و(كالب) (من الذين يخافون) الله ويتبعون أوامره، ممن قد (أنعم الله عليهما) بالإيمان والتقوى: يا قوم لا تخافوا و(ادخلوا عليهم) أي على العمالقة (الباب) باب المدينة، (فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) فإن من الطبيعي أن يكون المهاجم رابحاً للمعركة ـ (فما غزي قومٌ في عقر دارهم إلا ذلّوا)(1) ـ (وعلى الله فتوكّلوا) يا قوم (إن كنتم مؤمنين).

    سخر القوم من كلام (يوشع) و(كالب) وأرادوا أن يرجموهما بالحجارة، وتوجّهوا إلى موسى قائلين: (يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها) فليس لنا طاقة بهم، وقد أُرهقنا في مصر، فلا نوقع أنفسنا في مشكلة ثانية لا ندري ماذا تكون عاقبتها، فإذا أردت أن لا نرجع إلى مصر (فاذهب) يا موسى (أنت وربك فقاتلا) العمالقة حتى تتغلّبا عليهم (إنا هاهنا قاعدون) فإن طهّرت البلاد منهم دخلناها، وإلا فلسنا نحن بداخلين.

    هنا غضب موسى (عليه السلام)، وتحيّر ماذا يصنع بهم؟ بعد ما أنقذهم من يد عدوّهم (فرعون) وأراهم تلك الآيات البينات. ثم.. توجّه إلى الله سبحانه في ضراعةٍ قال: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) هارون (فافرق) وباعد يا رب (بيننا وبين القوم الفاسقين) وإذ لم يسمع القوم كلام الله المنزل على نبيه، وخالفوا موسى بن عمران، استحقوا العقاب والعذاب.

    فقد أوحى الله تعالى إلى موسى (قال فإنّها) أي الأرض المقدسة (محرّمة عليهم) تحريماً تكوينيّاً، فإني لا أقسم دخولها لهم بعد ما عصوا وعتوا (أربعين سنة).

    وماذا يكون مصير القوم إذن؟ إنهم في هذه المدة (يتيهون في الأرض) حائرين لا يرجعون إلى مصر، ولا يدخلون الشام، بل هم في هذه المدة تائهون في الصحراء (فلا تأس) ولا تغتم يا موسى (على القوم الفاسقين) مما ينالهم من الصعوبات في هذه المدة.

    * * *

    ربما يستغرب كيف يمكن أن يتيه قوم يبلغ عددهم ثلاثة أرباع المليون ـ تقريباً ـ في صحراء، يمكن أن يهتدي إلى الطريق فيها أنفار قليلون في أيام معدودات؟

    لكن هذا الاستغراب يتلاشى لو علم الإنسان قدرة الله تعالى على كل شيء، وإنه سبحانه هو الذي أراد هذا التيه لبني إسرائيل عقوبة على ما اقترفوه من المعصية بعدم إطاعة موسى في دخول الأرض المقدسة.

    هذا.. مع غضّ النظر عن أن الشخص غير المسلم يمكن أن يرى بقاءهم في الصحراء في هذه المدّة طبيعياً، إنهم لم يكونوا يقدرون على الرجوع إلى مصر، بعد أن انقلعت عنها قلوبهم، كما انتقلت عنها أقدامهم، لم يكونوا قادرين ـ حسب زعمهم ـ على دخول الأرض المقدسة، لأن فيها قوماً جبّارين، ولا قبل لبني إسرائيل بهم.

    إذن فما من حيلة إلا البقاء في الصحراء، حتى ينكشف لهم الطريق الصحيح؟ والجمع الكثير يتمكّنون من إيجاد مرافق الحياة لأنفسهم حتى في المفازة ـ هكذا يعلّل الأمور من لا يريد الإيمان بالقدرة الإلهية المطلقة ـ أمّا نحن ففي غنى عن مثل هذه الكلمات والتوجيهات.

    فما يتراءى من بعض الذين انهزموا أمام التيارات الإلحادية ـ التي لا تؤمن بالإعجاز ـ من تأويل كلّ معجزة بأمور طبيعية، شطط في القول، وتناقض في التفكير، في فرق بين الإعجاز بالوحي على الرسول، وبين الإعجاز بالتيه في الأرض، أو ضرب العصا بالبحر الموجب لانفلاقه؟

    وإن قبلنا الرسالة يلزم أن نقبل كل توابعها، وإن لم نقبل التوابع، فما هو الفارق بين الأمرين؟

    فلندع بني إسرائيل في التيه، لنرى إلى ماذا انتهى أمرهم وأمر موسى (عليه السلام) وكيف عاشوا في التيه هذه المدة الطويلة؟



    1 ـ نهج البلاغة: ج1، ص68.



    تعليق


    • #3


      السلام عليكم جميعن وعلى محمد وأهل البيت اجمعين
      ممكن قصيدة الأمام (على) كرم الله وجهه عندما خلع باب خيبر عندما خرج الية اليهودي مرحب الذي قال انا الذي سمتني أمي مرحبا .
      ممكن القصيدة اذا سمحتم

      تعليق

      المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
      حفظ-تلقائي
      x

      رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

      صورة التسجيل تحديث الصورة

      اقرأ في منتديات يا حسين

      تقليص

      المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
      أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, اليوم, 07:21 AM
      ردود 2
      12 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة ibrahim aly awaly
      بواسطة ibrahim aly awaly
       
      يعمل...
      X