السيد هاني فحص - « العراق الجديد » - 1 / 7 / 2005م - 11:23 م
من غير الزيدية والإسماعيلية، الذين لا يحرصون كثيراً على نعتهم بالتشيع، ينصرف لفظ الشيعة الآن إلى أكبر فرقهم المتبقية، بعدما تلاشت تماماً فرق أخرى منهم في فترات تاريخية مختلفة، وهذه الفرقة أو الطائفة هي الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، الذين يسمون كذلك بالجعفرية نسبة إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق، والذين تبلور مذهبهم فقهياً في عصره (أوائل العصر العباسي) ومن خلال نشاطه العلمي الواسع في الكوفة حيث كان أبو حنيفة النعمان إمام الحنفية من تلاميذه.
وكان أهل بلاد الشام حتى منتصف القرن العشرين يسمونهم المتاولة - أي الموالين أو المتولين لأئمة أهل البيت - ومن خصائصهم أنهم يقولون بوجود اثني عشر إماماً معصوماً ومنصوصاً على كل واحد منهم بالإمامة من سابقه.
وهؤلاء الأئمة يبدأون بعلي بن أبي طالب وينتهون بمحمد بن الحسن العسكري، المهدي المنتظر، الذي ولد في أواسط القرن الثالث الهجري وغاب وما زال حياً وسيخرج ليملأ الدنيا عدلاً وقسطاً، بحسب الاعتقاد.
ومرجعهم أو مراجعهم المجتهدون هم نواب هذا الإمام المنتظر ومختلفون على سعة مساحة هذه النيابة وضيقها التي يصل بها بعضهم إلى الشمولية اي ولاية الفقيه/ العامة أو المطلقة ويحصرها أكثرهم في الأمور الحسبية - الولاية على القاصر، طلاق المرأة الغائب عنها زوجها، وراثة من لا وارث له الخ. والشيعة الإمامية الاثنا عشرية البالغ عددهم في العالم مائتي مليون منتشرون في أصقاع عدة، من تايلاند وبورما وشبه القارة الهندية إلى شرق أفريقيا مروراً بالبلاد العربية وأكثر الدول الإسلامية.
وتربط بينهم منظومة عقائدية محددة، ومختلف بين علمائهم على بعض تفاصيلها، إلى مجموعة من الذكريات المكونة وأهمها استشهاد الإمام الحسين في كربلاء عام 60 للهجرة.
كما يلتزمون بفقه علمائهم المؤسس على الكتاب والسنة في رواية الأئمة. وهذا الفقه يلزمهم بالولاء والمعاملة الصحيحة مع إخوانهم المسلمين من سائر المذاهب ويلزمهم كما يلتزم به المسلمون على أساس التوحيد الإبراهيمي بالتعامل الشرعي الودود مع أهل الأديان السماوية والمسيحية منهما بصورة خاصة ومميزة.
هذا كله على نسبة من الاختلاف العلمي، كما بين أي مذهب إسلامي وآخر، وإن كانت هذه النسبة من الاختلاف بين الاثني عشرية والمذاهب الأربعة والزيدية والإسماعيلية تتسع هنا في المجال العقدي أو هناك في المجال الفقهي، من عقيدة الإمامة والعصمة مثلاً إلى عدم الأخذ بالقياس والرأي فقهياً، كما هو عند الحنابلة مثلاً، وفي واقع حياتهم وسلوكهم وعباداتهم ومعاملاتهم والأحكام الفقهية العائدة لها، يجتمعون في ظل مرجعيتهم الدينية، التي كانت مدينة النجف في العراق، ومنذ منتصف القرن الخامس الهجري، اي منذ بداية الحكم السلجوقي للعراق، مكان الحوزة العلمية والمرجعية الشيعية الأولى وشبه الحصرية، بعدما اضطر كبير علمائهم جعفر بن الحسن الطوسي (ت 460هـ) إلى مغادرة بغداد عندما وصلها السلاجقة بقيادة طغرل بك وأسقطوا الدولة البويهية.
هذا مع وجود مراكز وفروع كانت ولا تزال تغيب وتحضر تبعاً للظروف (كربلاء - الحلة - الهند - خراسان - أصفهان - جنوب لبنان/ جبل عامل) إلى (قم) التي أعيد تأسيسها في عشرينات القرن العشرين على يد الشيخ عبدالكريم الحائري المجتهد وخريج النجف.
وعلا شأن قم كجامعة دينية (حوزة) قبل الثورة (1979) ولكن هذا الشأن تعاظم بعد انتصار الثورة في إيران وفي ظل الدولة الإيرانية الإسلامية الجديدة متزامناً مع نجاح النظام العراقي السابق، في تشتيت الحوزة النجفية وتحجيم دورها من دون أن يستطيع إلغاءها تماماً، بفضل صمود المرجعية فيها مع عدد محدود من العلماء والطلاب الذين عانوا مرارات الحصار والتجويع والسجن والتعذيب والقتل.
ومنذ أواسط تسعينات القرن الفائت أصبح السيد علي السيستاني هو مرجعها الأول بعد وفاة السيد أبو القاسم الخوئي، مع عدد من المراجع وترجع أكثرية الشيعة إلى السيد السيستاني حتى شيعة إيران.
ما يؤكد أن المرجعية لدى الشيعة ما زالت تقوم على شروطها التاريخية (الكلاسيكية المتجددة) وان السلطة أو السياسة لم تؤثر تأثيراً عميقاً في هذا المجال. وهذا يجرنا إلى الكلام عن الشروط الدينية العلمية لهذه المرجعية وكيفية التحقق من توافرها في المرشح للمرجعية أو المتصدي لها.
وفي البداية لا يشترط في المرجع أن يكون عائداً في نسبه إلى أي فرع من الهاشميين أو أهل البيت . اي لا يشترط أن يكون من السادة اي الأشراف الذين يعتمرون العمة السوداء منذ أوائل العصر العباسي، وإن كان بعضهم بقي حتى الآن، وفي حدود ضيقة، يعتمر العمة الخضراء أو يضع لفافة خضراء على غطاء رأسه (الطربوش).
علماً أن الفقه الشيعي والإسلامي عموماً، واستناداً إلى عدد من المرويات، يؤكد استحباب العمة البيضاء، التي يعتمرها رجال الدين الشيعة من غير السادة، وهذا لا علاقة له بالمرجعية، أي انه لا يدخل النسب أو العمة السوداء في شروط المرجعية، ويمكن أن يكون المرجع من السادة الهاشميين ومن غيرهم بشرط الإسلام والبلوغ والعقل والذكورة وطهارة المولد كشروط طبيعية، يضاف إليها الشرط العلمي وهو أن يكون مجتهداً اي قادراً على استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من مصادرها (الكتاب والسنة وغيرهما) بما يعني ذلك من ضرورة إتقان العلوم الضرورية لفهم النص والدليل، من نحو وصرف وبلاغة ومنطق وتاريخ ودراية ورواية وعلم رجال وهيئة (فلك) الخ.
وتأميناً لأقل احتمالات الخطأ في تعيين الحكم الشرعي للواقعة، يتفق علماء الشيعة أو أكثريتهم الساحقة على أن يكون المرجع المجتهد الذي يقلده ويعود إليه غير المجتهدين في الأحكام، هو أعلم المجتهدين، أما من يعين أن هذا مجتهد اعلم فالمعوَّل فيه على الخبرة الشخصية لكل عالم من العلماء، اي معرفة العالم بالعالم علمياً، أو البينة بمعناها الشرعي والعلمي، اي أن يشهد اثنان من العلماء الموثوقين في علمهم ودينهم، بأن فلاناً هو المجتهد الأعلم، ويجب أو يجوز الرجوع إليه فيرجع إليه من يطمئن إلى شهادتهما فيه، ويكتفي البعض بأن تكون الأعلمية شائعة بين المعنيين بالمرجعية مع الاطمئنان إلى عدم وجود عصبية أو محاباة حتى يصح التقليد.
هذا السياق هو الذي يسمح أو يقتضي تعدد المراجع، على أساس أن المرجع هو الذي يختاره المكلف ليرجع إليه بمحض إرادته، فلا يمنع ذلك أن يختار مكلف آخر مرجعاً آخر يرى أن الشروط متحققة فيه أكثر من الأول.
والشرط الثاني للمرجعية هو: العدالة، اي الأهلية الراسخة بالخبرة والتجربة والمعرفة والسلوك الاختياري على اتباع العدل في نفسه وأهله ورهطه والناس أجمعين، وفي كل حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله، اي انه ذو ملكة مكتسبة تمنعه من ارتكاب الكبائر أو الإصرار على الصغائر مع التواضع والزهد والعفة.
والمرجع يتواصل مع مقلديه (اتباعه بالمعنى الفقهي) في الحوزات العلمية مباشرة، أو بقليل من الوسائط، وخارجها يتواصل من خلال وكلاء موكلين خطياً من جانبه، وهم عادة من زملائه أو تلامذته الموثوقين علمياً وخلقياً، وبعد انتشار الطباعة، أصبح المرجع يتواصل من خلال كتاب الأحكام الذي يسمى «الرسالة العلمية» ويتضمن فتاوى المرجع وردوده على الاستفتاءات التي ترد إليه من سائر الأقطار في وقائع محددة.
وتستفيد المرجعية حالياً من وسائل الاتصال الحديثة، من الهاتف حتى الانترنت. وأهم الأدوار التي تكرس مرجعية المرجع استمراره في التدريس اليومي للطلاب في المراحل العليا (درس الخارج أو الأبحاث المعمقة والممهدة للاجتهاد).
إذاً فالمرجع في المحصلة هو تلميذ عدد من المجتهدين وأستاذ عدد من المجتهدين، ومن دون ذلك يبقى اجتهاده أو مرجعيته موضع شك أو رفض أو إدانة، ولا تنفع معها دعاية إعلامية منظمة أو اي أسلوب استقطاب آخر (مالي مثلاً أو سياسي)... هذا إلى إقامته صلاة الجماعة مع توفر الظروف، وإشرافه عبر فريق عمل متخصص، على المدارس الدينية القريبة والبعيدة مع تصديه لكل المشكلات الشرعية في مختلف الأبواب والأقطار، ومع هذا كله يرعى المرجع عبر مؤسساته ومعاونيه ووكلائه الشؤون الثقافية والعلمية والاجتماعية ويتحول إلى ملاذ في الظروف الصعبة للجميع.
وفي السنوات الأخيرة، اي منذ أكثر من عشر سنوات تقريباً، أبدى المرجع السيستاني اهتماماً مميزاً وواسعاً بالمؤسسات الثقافية والدعائية ومراكز الأبحاث والتحقيق والطباعة وإعداد البرامج للتعليم الديني، ونشر معاونوه ووكلاؤه هذه المؤسسات في عشرات الأقطار الإسلامية والعربية والغربية، إضافة إلى المؤسسات الخيرية المتعددة الاهتمامات.
والحوزات الدينية لدى الشيعة قامت وتقوم على الاستقلالية المالية التامة عن الدول، وتكاد مصادرها المالية أن تكون محصورة في المجال الشعبي أو الأهلي، من خلال الالتزام الطوعي بالتبرعات والهبات، وريوع الأوقاف على الحوزات، والزكاة والأخماس التي يوجبها الفقه الشيعي في فاضل المؤونة من أرباح السنة لدى اي مكلف بالغ، وترسل الأموال إلى المرجع من طريق وكلائه في الأمصار أو تقدم إليه مباشرة، ويتسلم من يقدمها إيصالات موقعة، وتعطى الأولوية في الصرف والنفقة لبناء المدارس ورواتب الطلاب المحتاجين في شكل يتناسب مع احتياجاتهم وجديتهم في الدراسة وانضباطهم المسلكي، وكذلك يصرف قسم من المال على التبليغ الديني في المدن والأحياء والقرى في أوطان المبلغين وفي المهاجر.
وللفقراء والمحتاجين من الناس العاديين حصتهم التي تصلهم من طريق الوكلاء، إضافة إلى المشاريع العلمية والعمرانية التي تعود على الفقراء بالنفع، وبناء المؤسسات الصحية، وغير ذلك. وتتسع قدرات المرجع المالية تبعاً لاتساع مساحة مقلديه، ومن هنا يأتي تعبير المرجع الأعلى، اي الأكثر انتشاراً، وإلا ففي الواقع يعتبر كل مرجع هو المرجع الأعلى لدى من يقلدونه.
ختاماً نشير إلى أن المرجعية لا بد فيها من التصدي، اي أن المجتهد لا بد من أن يعلن عن قناعته بصلاحيته لأن يكون مرجعاً ويصرح لمن يسأله بأنه هو الذي يصلح للتقليد، والمرجعية لا تورث ولا تمنح من احد لأحد، ولا يفيد فيها إعلام ولا دعاية ولا عصبية سياسية أو اجتماعية أو قومية أو عائلية، جل ما في الأمر أن المرجع لا بد من أن يكون متقناً للغة العربية اتقاناً علمياً عميقاً وشاملاً يمكنه من فهم النص فهماً صحيحاً، من دون أن يكون بالضرورة متمكناً من التحدث بها بطلاقة، أو من دون لكنة إذا لم يكن عربياً، لأن ذلك يتأتى عادة من الاختلاط اليومي بالحالة الشعبية، ما لا يتوافر للذين ينكبون على الدراسة في أوائل سنوات عمرهم وحتى عمر متقدم، ومن هنا، ولصعوبة الوصول، قلّ في تاريخ الشيعة الحديثة ونتيجة لاتساع حقول المعرفة وتنوعها، أن يصبح المرجع مرجعاً في سن مبكرة إلا في حالات نادرة (حالة السيد محمد باقر الصدر مثلاً) هذا وأكثر فقهاء الشيعة يقولون بوجوب أن يكون الذي يقلده المكلف ابتداء، اي يتخذه مرجعاً من دون أن يكون مسبوقاً بتقليد أحد غيره قبل البلوغ أو لإهماله في سن البلوغ لذلك... يقولون بوجوب أن يكون هذا المرجع حياً ويفصلون في هذه المسألة بين من يجيز تقليد الميت وهم نادرون، ومن لا يجيز مطلقاً، ومن يجيز في حدود المسائل التي تعلمها الشخص من المرجع الميت وعمل بها، دون ما لم يتعلمه ويعمل به والذي يجب فيه الرجوع إلى أعلم العلماء من الأحياء، وهذا لا بد فيه كذلك من أن يكون مطابقاً لفتوى الأعلم من هؤلاء الأحياء (أي البقاء المشروط على تقليد الميت جزئياً).ومن مراجع الشيعة خلال القرن العشرين من خريجي حوزة النجف إضافة إلى الأحياء الآن:
السيد علي السيستاني (إيراني)
السيد محمد سعيد الحكيم (عراقي)
الشيخ بشير النجفي (باكستاني)
الشيخ إسحاق الفياض (أفغاني)
السيد محمد سعيد الحبوبي (عراقي)
السيد محسن الأمين (لبناني)
السيد حسين الحمامي (عراقي)
الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (عراقي)
الشيخ محمد حسن المظفر والشيخ محمد حسين المظفر (عراقيان)
الشيخ محمد حسين الأصفهاني (إيراني)
والشيخ محمد حسين النائيني (إيراني)
الميرزا محمد تقي الشيرازي (إيراني)
الشيخ مرتضى آل ياسين (عراقي)
الشيخ محمد طاهر آل راضي (عراقي)
الشيخ عبدالحسين الحلي (عراقي)
السيد أبو الحسن الأصفهاني (إيراني)
السيد أبو القاسم الخوئي (إيراني)
السيد محمود الشاهرودي (إيراني)
السيد محسن الحكيم (عراقي)
السيد محمد باقر الصدر (عراقي)
من غير الزيدية والإسماعيلية، الذين لا يحرصون كثيراً على نعتهم بالتشيع، ينصرف لفظ الشيعة الآن إلى أكبر فرقهم المتبقية، بعدما تلاشت تماماً فرق أخرى منهم في فترات تاريخية مختلفة، وهذه الفرقة أو الطائفة هي الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، الذين يسمون كذلك بالجعفرية نسبة إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق، والذين تبلور مذهبهم فقهياً في عصره (أوائل العصر العباسي) ومن خلال نشاطه العلمي الواسع في الكوفة حيث كان أبو حنيفة النعمان إمام الحنفية من تلاميذه.
وكان أهل بلاد الشام حتى منتصف القرن العشرين يسمونهم المتاولة - أي الموالين أو المتولين لأئمة أهل البيت - ومن خصائصهم أنهم يقولون بوجود اثني عشر إماماً معصوماً ومنصوصاً على كل واحد منهم بالإمامة من سابقه.
وهؤلاء الأئمة يبدأون بعلي بن أبي طالب وينتهون بمحمد بن الحسن العسكري، المهدي المنتظر، الذي ولد في أواسط القرن الثالث الهجري وغاب وما زال حياً وسيخرج ليملأ الدنيا عدلاً وقسطاً، بحسب الاعتقاد.
ومرجعهم أو مراجعهم المجتهدون هم نواب هذا الإمام المنتظر ومختلفون على سعة مساحة هذه النيابة وضيقها التي يصل بها بعضهم إلى الشمولية اي ولاية الفقيه/ العامة أو المطلقة ويحصرها أكثرهم في الأمور الحسبية - الولاية على القاصر، طلاق المرأة الغائب عنها زوجها، وراثة من لا وارث له الخ. والشيعة الإمامية الاثنا عشرية البالغ عددهم في العالم مائتي مليون منتشرون في أصقاع عدة، من تايلاند وبورما وشبه القارة الهندية إلى شرق أفريقيا مروراً بالبلاد العربية وأكثر الدول الإسلامية.
وتربط بينهم منظومة عقائدية محددة، ومختلف بين علمائهم على بعض تفاصيلها، إلى مجموعة من الذكريات المكونة وأهمها استشهاد الإمام الحسين في كربلاء عام 60 للهجرة.
كما يلتزمون بفقه علمائهم المؤسس على الكتاب والسنة في رواية الأئمة. وهذا الفقه يلزمهم بالولاء والمعاملة الصحيحة مع إخوانهم المسلمين من سائر المذاهب ويلزمهم كما يلتزم به المسلمون على أساس التوحيد الإبراهيمي بالتعامل الشرعي الودود مع أهل الأديان السماوية والمسيحية منهما بصورة خاصة ومميزة.
هذا كله على نسبة من الاختلاف العلمي، كما بين أي مذهب إسلامي وآخر، وإن كانت هذه النسبة من الاختلاف بين الاثني عشرية والمذاهب الأربعة والزيدية والإسماعيلية تتسع هنا في المجال العقدي أو هناك في المجال الفقهي، من عقيدة الإمامة والعصمة مثلاً إلى عدم الأخذ بالقياس والرأي فقهياً، كما هو عند الحنابلة مثلاً، وفي واقع حياتهم وسلوكهم وعباداتهم ومعاملاتهم والأحكام الفقهية العائدة لها، يجتمعون في ظل مرجعيتهم الدينية، التي كانت مدينة النجف في العراق، ومنذ منتصف القرن الخامس الهجري، اي منذ بداية الحكم السلجوقي للعراق، مكان الحوزة العلمية والمرجعية الشيعية الأولى وشبه الحصرية، بعدما اضطر كبير علمائهم جعفر بن الحسن الطوسي (ت 460هـ) إلى مغادرة بغداد عندما وصلها السلاجقة بقيادة طغرل بك وأسقطوا الدولة البويهية.
هذا مع وجود مراكز وفروع كانت ولا تزال تغيب وتحضر تبعاً للظروف (كربلاء - الحلة - الهند - خراسان - أصفهان - جنوب لبنان/ جبل عامل) إلى (قم) التي أعيد تأسيسها في عشرينات القرن العشرين على يد الشيخ عبدالكريم الحائري المجتهد وخريج النجف.
وعلا شأن قم كجامعة دينية (حوزة) قبل الثورة (1979) ولكن هذا الشأن تعاظم بعد انتصار الثورة في إيران وفي ظل الدولة الإيرانية الإسلامية الجديدة متزامناً مع نجاح النظام العراقي السابق، في تشتيت الحوزة النجفية وتحجيم دورها من دون أن يستطيع إلغاءها تماماً، بفضل صمود المرجعية فيها مع عدد محدود من العلماء والطلاب الذين عانوا مرارات الحصار والتجويع والسجن والتعذيب والقتل.
ومنذ أواسط تسعينات القرن الفائت أصبح السيد علي السيستاني هو مرجعها الأول بعد وفاة السيد أبو القاسم الخوئي، مع عدد من المراجع وترجع أكثرية الشيعة إلى السيد السيستاني حتى شيعة إيران.
ما يؤكد أن المرجعية لدى الشيعة ما زالت تقوم على شروطها التاريخية (الكلاسيكية المتجددة) وان السلطة أو السياسة لم تؤثر تأثيراً عميقاً في هذا المجال. وهذا يجرنا إلى الكلام عن الشروط الدينية العلمية لهذه المرجعية وكيفية التحقق من توافرها في المرشح للمرجعية أو المتصدي لها.
وفي البداية لا يشترط في المرجع أن يكون عائداً في نسبه إلى أي فرع من الهاشميين أو أهل البيت . اي لا يشترط أن يكون من السادة اي الأشراف الذين يعتمرون العمة السوداء منذ أوائل العصر العباسي، وإن كان بعضهم بقي حتى الآن، وفي حدود ضيقة، يعتمر العمة الخضراء أو يضع لفافة خضراء على غطاء رأسه (الطربوش).
علماً أن الفقه الشيعي والإسلامي عموماً، واستناداً إلى عدد من المرويات، يؤكد استحباب العمة البيضاء، التي يعتمرها رجال الدين الشيعة من غير السادة، وهذا لا علاقة له بالمرجعية، أي انه لا يدخل النسب أو العمة السوداء في شروط المرجعية، ويمكن أن يكون المرجع من السادة الهاشميين ومن غيرهم بشرط الإسلام والبلوغ والعقل والذكورة وطهارة المولد كشروط طبيعية، يضاف إليها الشرط العلمي وهو أن يكون مجتهداً اي قادراً على استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من مصادرها (الكتاب والسنة وغيرهما) بما يعني ذلك من ضرورة إتقان العلوم الضرورية لفهم النص والدليل، من نحو وصرف وبلاغة ومنطق وتاريخ ودراية ورواية وعلم رجال وهيئة (فلك) الخ.
وتأميناً لأقل احتمالات الخطأ في تعيين الحكم الشرعي للواقعة، يتفق علماء الشيعة أو أكثريتهم الساحقة على أن يكون المرجع المجتهد الذي يقلده ويعود إليه غير المجتهدين في الأحكام، هو أعلم المجتهدين، أما من يعين أن هذا مجتهد اعلم فالمعوَّل فيه على الخبرة الشخصية لكل عالم من العلماء، اي معرفة العالم بالعالم علمياً، أو البينة بمعناها الشرعي والعلمي، اي أن يشهد اثنان من العلماء الموثوقين في علمهم ودينهم، بأن فلاناً هو المجتهد الأعلم، ويجب أو يجوز الرجوع إليه فيرجع إليه من يطمئن إلى شهادتهما فيه، ويكتفي البعض بأن تكون الأعلمية شائعة بين المعنيين بالمرجعية مع الاطمئنان إلى عدم وجود عصبية أو محاباة حتى يصح التقليد.
هذا السياق هو الذي يسمح أو يقتضي تعدد المراجع، على أساس أن المرجع هو الذي يختاره المكلف ليرجع إليه بمحض إرادته، فلا يمنع ذلك أن يختار مكلف آخر مرجعاً آخر يرى أن الشروط متحققة فيه أكثر من الأول.
والشرط الثاني للمرجعية هو: العدالة، اي الأهلية الراسخة بالخبرة والتجربة والمعرفة والسلوك الاختياري على اتباع العدل في نفسه وأهله ورهطه والناس أجمعين، وفي كل حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله، اي انه ذو ملكة مكتسبة تمنعه من ارتكاب الكبائر أو الإصرار على الصغائر مع التواضع والزهد والعفة.
والمرجع يتواصل مع مقلديه (اتباعه بالمعنى الفقهي) في الحوزات العلمية مباشرة، أو بقليل من الوسائط، وخارجها يتواصل من خلال وكلاء موكلين خطياً من جانبه، وهم عادة من زملائه أو تلامذته الموثوقين علمياً وخلقياً، وبعد انتشار الطباعة، أصبح المرجع يتواصل من خلال كتاب الأحكام الذي يسمى «الرسالة العلمية» ويتضمن فتاوى المرجع وردوده على الاستفتاءات التي ترد إليه من سائر الأقطار في وقائع محددة.
وتستفيد المرجعية حالياً من وسائل الاتصال الحديثة، من الهاتف حتى الانترنت. وأهم الأدوار التي تكرس مرجعية المرجع استمراره في التدريس اليومي للطلاب في المراحل العليا (درس الخارج أو الأبحاث المعمقة والممهدة للاجتهاد).
إذاً فالمرجع في المحصلة هو تلميذ عدد من المجتهدين وأستاذ عدد من المجتهدين، ومن دون ذلك يبقى اجتهاده أو مرجعيته موضع شك أو رفض أو إدانة، ولا تنفع معها دعاية إعلامية منظمة أو اي أسلوب استقطاب آخر (مالي مثلاً أو سياسي)... هذا إلى إقامته صلاة الجماعة مع توفر الظروف، وإشرافه عبر فريق عمل متخصص، على المدارس الدينية القريبة والبعيدة مع تصديه لكل المشكلات الشرعية في مختلف الأبواب والأقطار، ومع هذا كله يرعى المرجع عبر مؤسساته ومعاونيه ووكلائه الشؤون الثقافية والعلمية والاجتماعية ويتحول إلى ملاذ في الظروف الصعبة للجميع.
وفي السنوات الأخيرة، اي منذ أكثر من عشر سنوات تقريباً، أبدى المرجع السيستاني اهتماماً مميزاً وواسعاً بالمؤسسات الثقافية والدعائية ومراكز الأبحاث والتحقيق والطباعة وإعداد البرامج للتعليم الديني، ونشر معاونوه ووكلاؤه هذه المؤسسات في عشرات الأقطار الإسلامية والعربية والغربية، إضافة إلى المؤسسات الخيرية المتعددة الاهتمامات.
والحوزات الدينية لدى الشيعة قامت وتقوم على الاستقلالية المالية التامة عن الدول، وتكاد مصادرها المالية أن تكون محصورة في المجال الشعبي أو الأهلي، من خلال الالتزام الطوعي بالتبرعات والهبات، وريوع الأوقاف على الحوزات، والزكاة والأخماس التي يوجبها الفقه الشيعي في فاضل المؤونة من أرباح السنة لدى اي مكلف بالغ، وترسل الأموال إلى المرجع من طريق وكلائه في الأمصار أو تقدم إليه مباشرة، ويتسلم من يقدمها إيصالات موقعة، وتعطى الأولوية في الصرف والنفقة لبناء المدارس ورواتب الطلاب المحتاجين في شكل يتناسب مع احتياجاتهم وجديتهم في الدراسة وانضباطهم المسلكي، وكذلك يصرف قسم من المال على التبليغ الديني في المدن والأحياء والقرى في أوطان المبلغين وفي المهاجر.
وللفقراء والمحتاجين من الناس العاديين حصتهم التي تصلهم من طريق الوكلاء، إضافة إلى المشاريع العلمية والعمرانية التي تعود على الفقراء بالنفع، وبناء المؤسسات الصحية، وغير ذلك. وتتسع قدرات المرجع المالية تبعاً لاتساع مساحة مقلديه، ومن هنا يأتي تعبير المرجع الأعلى، اي الأكثر انتشاراً، وإلا ففي الواقع يعتبر كل مرجع هو المرجع الأعلى لدى من يقلدونه.
ختاماً نشير إلى أن المرجعية لا بد فيها من التصدي، اي أن المجتهد لا بد من أن يعلن عن قناعته بصلاحيته لأن يكون مرجعاً ويصرح لمن يسأله بأنه هو الذي يصلح للتقليد، والمرجعية لا تورث ولا تمنح من احد لأحد، ولا يفيد فيها إعلام ولا دعاية ولا عصبية سياسية أو اجتماعية أو قومية أو عائلية، جل ما في الأمر أن المرجع لا بد من أن يكون متقناً للغة العربية اتقاناً علمياً عميقاً وشاملاً يمكنه من فهم النص فهماً صحيحاً، من دون أن يكون بالضرورة متمكناً من التحدث بها بطلاقة، أو من دون لكنة إذا لم يكن عربياً، لأن ذلك يتأتى عادة من الاختلاط اليومي بالحالة الشعبية، ما لا يتوافر للذين ينكبون على الدراسة في أوائل سنوات عمرهم وحتى عمر متقدم، ومن هنا، ولصعوبة الوصول، قلّ في تاريخ الشيعة الحديثة ونتيجة لاتساع حقول المعرفة وتنوعها، أن يصبح المرجع مرجعاً في سن مبكرة إلا في حالات نادرة (حالة السيد محمد باقر الصدر مثلاً) هذا وأكثر فقهاء الشيعة يقولون بوجوب أن يكون الذي يقلده المكلف ابتداء، اي يتخذه مرجعاً من دون أن يكون مسبوقاً بتقليد أحد غيره قبل البلوغ أو لإهماله في سن البلوغ لذلك... يقولون بوجوب أن يكون هذا المرجع حياً ويفصلون في هذه المسألة بين من يجيز تقليد الميت وهم نادرون، ومن لا يجيز مطلقاً، ومن يجيز في حدود المسائل التي تعلمها الشخص من المرجع الميت وعمل بها، دون ما لم يتعلمه ويعمل به والذي يجب فيه الرجوع إلى أعلم العلماء من الأحياء، وهذا لا بد فيه كذلك من أن يكون مطابقاً لفتوى الأعلم من هؤلاء الأحياء (أي البقاء المشروط على تقليد الميت جزئياً).ومن مراجع الشيعة خلال القرن العشرين من خريجي حوزة النجف إضافة إلى الأحياء الآن:
السيد علي السيستاني (إيراني)
السيد محمد سعيد الحكيم (عراقي)
الشيخ بشير النجفي (باكستاني)
الشيخ إسحاق الفياض (أفغاني)
السيد محمد سعيد الحبوبي (عراقي)
السيد محسن الأمين (لبناني)
السيد حسين الحمامي (عراقي)
الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (عراقي)
الشيخ محمد حسن المظفر والشيخ محمد حسين المظفر (عراقيان)
الشيخ محمد حسين الأصفهاني (إيراني)
والشيخ محمد حسين النائيني (إيراني)
الميرزا محمد تقي الشيرازي (إيراني)
الشيخ مرتضى آل ياسين (عراقي)
الشيخ محمد طاهر آل راضي (عراقي)
الشيخ عبدالحسين الحلي (عراقي)
السيد أبو الحسن الأصفهاني (إيراني)
السيد أبو القاسم الخوئي (إيراني)
السيد محمود الشاهرودي (إيراني)
السيد محسن الحكيم (عراقي)
السيد محمد باقر الصدر (عراقي)
تعليق