إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

إشراق.."رواية في فصول" (موضوع مميز)

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • إشراق.."رواية في فصول" (موضوع مميز)

    (1)
    لم يكن سوى أنين الليل!
    وقد تفتقت خيوطه السوداء باجتماع أعظم نقيضين في هذا الوجود
    فتلك تدفع به إلى الحياة وهي تمخر عباب الموت راحلة للعالم السرمدي ، يعتلي بكاؤه في أرجاء البيت المتهالك وأنى له أن يدرك يتمه المرير ؟!تتناقله الأيادي التي لا تعلم أتصفق فرحا بقدومه ؟أم تمسح على رأسه وتنشد له ألحان المنون؟ويستقر أخيرا بين ذراعي شقيقته التي دثرته بقمط الشجون حابسة في أعماقها صرخات الفقد والوجد يشاطرها جريد الدار لوعتها ..الجدران البكماء ..الصخور الصماء ..أشجار الميس التي تحف الدار.. كل شيء حتى قلب والدها الذي طالما خالته قاس الشغاف ! فهاهو اليوم يجود بدمع كالمطر يرطب الحبال الجافة التي ما كانت لتربط بينهما ،ترنو لقسمات الصغير ثم تدير طرفها لمكان أمها الفارغ فتتراكم الحسرات في أعماقها ،صمت يسود الدار فلا يقطعه سوى مبادرة الأب بالحديث:
    -هاقد حاقت بنا الرزايا..
    تمتم بصوت خافت خنقته العبرات:
    -لطالما علمتنا أمي أن نصبر عليها!
    -نصبر!علام نصبر؟!أعلى فقدها أم على شظف عيشنا؟!أم على من يتحكم بأمورنا ويسوس رقابنا كالعبيد؟!
    -بل يجب علينا الصبر على الأدهى والأمر ...والمؤمن مبتلى..
    -كفاك لغطا وأسكتي هذا الصغير...
    يطرق باب الدار..فيتضجر الأب:
    -لا بد أنه اخوك صالح..
    يفتح الباب ليدخل الشاب منهكا...يزعق الأب به:
    -لماذا تأخرت هكذا إن الغبش في أواخره؟ أم أن اللئيم ضاعف لك العمل؟ آه ما أشرسه كم يمعن في تعذيبنا!
    -بل إني لم أستطع إنجاز العمل بسهولة ...لقد كان كم العمل كبير..
    -ولكننا في آخر الليل.
    -هذا ما حصل..
    -ألم يراعِ تورم يديك؟!
    -إنه لا يراعي الله في أعماله ليراعيني أنا!
    التفت الشاب إلى أخته التي قبعت في زاوية من زوايا الدار القاصية نسبيبا ..وقف مشدوها..لحظ دمعاتها ..رمق الوليد الذي يرقد بين ذراعيها ..أدار طرفه للأب الذي هدأت ثورته ليتسلط عليه حزن شديد!تسائل:
    -هل وضعت أمي؟!!
    لأول مرة! يعتلي بكاؤها ..كأنها وجدت من تركن إليه لتتسول منه السلوى ..أردف قائلا:
    -مابالك يارحاب؟!أثمة مكروه؟
    يجيب الأب:
    أنت تعلم أن أمك كانت عليلة...لقد...لقد اختارها الله إلى جواره بعد أن وضعت أخاك الصغير..
    فزِع! اتسعت حدقتاه!لم يكن في الدار متسع للركض..لكنه ركض بجسمه المتورم وقلبه المتقرح..فتح باب مخدعها المؤصد .. ليلاقيها جثة هامدة..تغطيها أبراد خضراء ..أخذ يبكي بمرارة ..ويهمس بغصة:
    (رحمك الله ..هل تراني أستطيع الصبر على فقدك؟! أي قذى في العين؟أي خبر بائس نُعي إلي؟!)
    غدا يواريها الثرى..لتواري قلبَه ذرات الرمال .. لينضب ينبوع الحنان الوحيد الذي كان يروي الدار في هذا الدهر الحموم.. غدا تغور غدران العذوبة في الوديان غدا تسبيه أصفاد اليتم ..غدا.. يبحث عن أمه ..يمحلق في طويلا في الفضاء..ولا يجدها!!
    وأطل الصبح متثاقلا ،يوسق بين ذراعيه أنواء الفقد .. ترافقها زفرات الألم ..وصرخات طفل صغير ..شريد في دروب اليتم..
    أنين يغرق في غمراته قلوبا حزينة تبحث عن شطآن النجاة فلا تجد..
    رويدا ..رويدا يسير النعش ..ليستقر بين اللحود ..لتضمه غياهب الأرض ..وتعطره نفحات التراب ..إنها اللحظة التي يعود بها.. ابن الأرض لها..ليعود الحمأ المسنون لمنبعه التليد.. ولتسمو الروح حيث الشأو البعيد..لتُذرف الدموع ..علها ترطب القفر الرهيب..
    مسحتها رحاب من على وجنتيها.. وواساها أخوها ببعض من روحه:
    -سلوانا رحيلها عن هذا العذاب..
    -أسكنها الله الفردوس..
    -إن شاء تعالى ..إن شاء تعالى..
    يسيران في الرمض..كالتائهين في هذه الفلوات..وماكان لهما..أن يريا..لسبيلهما..من نهاية!!
    *****



    (2)
    في حجرها تهدهده وتناغيه ..تسكب تراتيل حنانها في قلبه الغض وتحيطه بروحها ..علها تستحيل لبردة تقيه لهيب الفقد وصقيع المشاعر ..ترنو-بعينين وادعتين-لملامحه العذبة .. وترنم ألحان الوسن ينبوعا ..يروي لظى الدار الظمأى..ويدخل عليها أخوها باسما ..رغم ما ينوء به قلبه من آلام ..حاملا في جيده باقة من ورد الفل ..يعبق أريجها في أركان الدار..
    همست بشجى:
    -عجيب أن ينمو الورد في هذا القفر!
    -لا يا رحاب..بل إن في ربوع أرضنا ورود..تنمو مع كل دمعة تهطل من مآقي المحرومين..
    -الأحرى بها أن تذبل!
    -ماهذا التشاؤم؟! ماعهدتك قانطة..
    طفرت دمعة من عينها:
    -جميع الظروف تحتم عليّ التشاؤم يا صالح... بل إنها تتآزر لتصبغ دنيانا بلون القتم ! إلتفت إلى حالنا! نحن نقطة ضائعة في بحر هائج..نكابد للنجاة فلا نقدر ..ها أنت تعود من العمل وأنت لا تحمل إلا مايكفيك بالكاد لقوت يومك.. وبعد أن تجرعت آلام النهار لا تجد سكينة في الليل فقدنا طعم الأمن ..الاستقرار .. فحياتنا مهددة في كل لحظة..
    -لن تفيد ترهاتك هذه بشيء!
    -ترهات!!
    -نعم..ترهات وهراء لا جدوى منه..
    تنهد ثم أردف:
    -أنسيت يا أختاه حلو كلام والدتنا؟!أنسيت مبادءها ؟ أحاديثها الطلية المتضوعة بشذى الصبر على البلاء؟!
    -لم أنس يا صالح..ولم أنس حلمها بتغيير الواقع..ولكن جميع أحلامنا و أهدافنا تتكسر على صخرته القاسية..فماذا عسانا أن نفعل أمام هؤلاء الإقطاعيين الذين يسرقون أحلامنا في الصغر و جهودنا بالكبر؟نحن نكدح ونعمل ونشقى ليلتهموا هم ماذلنا من الجهد وأرق الليالي الطويلة..بسهولة تتحول حبات عرقنا لدنانير ذهبية تعزف ألحان الرنين في مضاجعهم..ولم أنس حكماء السقام ذوي اللحى الطويلة الذين يتجلببون برداء الدين وهم أول من يمتص دماءنا...
    -كفى..كفى ..لا طائل من هذا التبرم..
    -.............
    -هدئي من روعك يا رحاب
    -وإن فعلت ..فمن يهدأ روع غيري من المحرومين؟!..ولكني لأعتب..
    -تعتبين؟!
    -أجل أفعل ..فالجميع يوجه إلينا سهاما..سهام من زمرة البلاط ..سهام من الشعب الغارق في خضم الجهل...وسهام ممن حولنا ..ممن يدركون الواقع المؤلم ويصرون على الإستجهال.. الجميع ..الجميع ..والسهام ما فتأت تتقاذف علينا من كل صوب ..و تُغرس في أعصابنا...
    تمتم بصوت خافت مكسور:
    -هل ارتحت الآن؟!
    -كلا والله..بل إن في فؤادي جمرة تستعر..منذ نعومة أضفاري أدركت هذه الحقائق..لقد استنشقتها استنشاق النسيم وجرعتها مع دموع أمي وأحداقها الحرقى..ونمَوت معها..
    -وهل انتظرت منك أمي هذا الإنهيار؟! فأين الصبر الذي كانت تسقينا؟!
    -لا تلمني يا صالح..
    -بل سأفعل! فلستِ بحديثة في درب الصبر..إن الرزايا لا تزيد المؤمن إلا صلابة..تذكري هذا جيدا..وتذكري أن هذا الصغير ينتظرنا لنبني فيه ما بنته فينا أمنا...
    أطالت النظر إليه ..وبدأت تكفكف دمعها بشرود..بينما انعطف صالح إلى فناء الدار ..يرمق السماء التي توشحت بخمار أسود.. يتلألأ وجهها الوضاء من بين المياسين..قاذفا بسحره الفضي على ذرى..طالما تجرعت مضض الحرمان...تمتم بصوت خفيض:
    (أدرك أن كلامها صحيح..وأدرك جيدا هذا الظلم الذي استشرى في عروق بلادنا منذ زمن..منذ أن غرق أهلها في خضم الجهل و سمحوا لهؤلاء الحكماء بالتحكم بنا)
    وضع رأسه في حجره:
    (الويل لهم..أخذوا من الدين ستارا..وهو من أفعالهم براء)
    هبت نسمة هواء خريفية ..تؤذن بشتاء طويل وتلقي في الروع أطياف رهبة..
    هاهو الشتاء يقدم ..وتصحو في نفوس الناس الفاقة..الفاقة إلى مؤونة تسكت ضور أطفالهم..الفاقة إلى أسلاب تقيهم صقيع الزمهرير الذي يغزو البدن..
    ترقرقت في مقلته دمعة باردة:
    (حنانيك رباه...لطفا بنا..إنك واسع..كريم ..رحيم...)

  • #2
    (3)
    هب مذعورا!
    فقد رأى كابوسا مريعا ..لم يكن ليتبين منه سوى قشعريرة سرت بجسده النحيل..وانقباض كتم على أنفاسه وهو يرقد تحت شجرة ميس وقت الضحى..
    انتبه لصاحبه يخاطبه:

    -مالخطب يا صالح؟! لم أعهدك تنم وقت الضحى...
    -لقد أخذني الوسن..حقيقة لم أنم ليلة أمس البتة!
    -ولما ؟!لقد دلفت إلى دارك مبكرا..
    -جافاني النعاس..
    -حسنا..تذكر أن في عهدتك عمل كثير..
    -أعلم هذا يا زيد..أعلم هذا..
    -أخبرني مابك؟لقد راعني منك شحوبك...هل يتعلق الأمر بصغيركم؟!
    -لا..
    -إذا مالخطب؟! قل لي فقد أستطيع مساعدتك..
    -أو لا تعلم ما الخطب حقا؟
    حدق زيد في صاحبه طويل ثم أردف:
    -لا جدوى يا صالح..صدقني لا جدوى..
    -آن لهؤلاء الخراف أن يستيقظوا...هم المسؤولون عن حالة الضنك هذه..
    ابتسم زيد رغما عنه:
    -قطيعك ضال يا صاحبي..سُلب صوابه بتراتيل وخزعبلات يرددها ذوي اللحى الطويلة..
    -إلى متى هذا الغباء؟!إلى متى؟
    حدجه زيد بنظرة محذرة:
    -كفانا الآن فقد أقبل الإقطاعي..
    وأقبل المستأسد يصيح بصوت أجش:
    -هل أنهيتما عملكما؟
    -لقد صقلنا الكوى..وأتممنا ال...
    -حسن..
    ويبتعد متواريا عن ناظريهما..
    يهمس زيد في أذن صاحبه:
    -الشتاء على الأبواب..
    -أعلم..
    -هل لديك ما يكفي لشراء الوقود؟؟
    أسقط في يده..
    تضجر زيد:
    -إذا كلانا نعاني من ذات المعضلة..
    -ومن لا يعاني منها؟!
    -الشكوى لله..
    يدير زيد دفة الحديث:
    -هناك خطب خطير ياصالح...
    -ماذا هناك؟!
    -إن خطة شيطانية تجوس البلاد هذه الأيام
    -خطة!!
    -أجل..و..


    يزدرد زيد كلماته ..فقد لاح شبح الحكيم جوهر...أخذ يمشي الهوينا وهو يرقب النظرات المتوجهة إليه..ويتمتم ببضع كلمات يخالها المرء تسبيحات وأوراد...
    الوقار يكسوه...والكياسة تبرق في مقلتيه..وحسن الهيئة لا يجفيه ولكن..ثمة نور مسلوب من وجهه..وثمة كدرة تحوطه..كدرة من الصعب أن يتعامى عنها اللبيب..

    ابتسم الحكيم في وجه صالح محييا إياه:
    -السلام..
    -وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
    -كيف حالك يا بني؟
    -أحمد الله على كل حال..
    ثمة كلمات بين الكلمات...كلمات لا يدركها سواهما..
    -أين أبوك؟!
    -في الحانوت..
    -وكيف هو حال صغيركم؟
    -له رب يتكفله..
    اقترب منه هامسا:
    -ماذا اسميتموه؟!
    يردد بزهو:
    -علاء!
    -علاء..علاء..لعلي لا أستطيع الجزم بأنه سيحظى حقا بعلو!
    -ماذا تعني؟!
    -أعني ..وضعكم البائس..وحالكم الرثة!
    رد صالح بشجاعة معهودة:
    -لا أظن أن الفضل في حالنا..يعود إلينا..
    -بلى ..فأنت وأمثالك من المتمردين على مولاكم السلطان ترفضون النعم..
    -هو مولاك أنت ولداتك...لا مولاي ...مولاي هو الله سبحانه فقط!
    احمر وجه الحكيم..وأردف هامسا:
    -لن يضيرني تفوهك المقيت..
    -بل سيفعل!فمهما امتد زمان الظلم ..لا بد أن يأتي الخلاص..إلى متى ستخدع الناس؟!عقدا من الزمن..عقدان..ثلاثة..لا يهم..صدقني أيها ال...حكيم...ستولي أيامك و أيام زمرة البلاط الأثيمة هذه..
    -هل تدرك أني أستطيع أسرك؟!
    -افعل! ها أنت تقبرني في هذه البقعة المنبوذة من البلاد..مع الذين لا صوت لهم..ولكن ثق تماما ..أن النور لا يعوقه عائق .. ولو كان العائق قضبانا من حديد..
    -أنت لا تملك سوى الإنشاء..والعبارات الفارغة..
    -بل أملك وأنت تدرك ذلك جيدا..
    حدجه الحكيم بنظره شزراء..بعد أن لذعته الكلمات..فهو يدرك تماما أن صالحا ليس بالعدو السهل ..فإن له حضورا قويا في صفوف الشباب ..أغلبية الشباب ..حتى أبناء من لهم ثقل في المدينة..كما أنه ذكي إلى درجة كبيرة ..بل واسع الذكاء.. يدير نشاطه في الخفاء الذي يصعب فيه تحديد كل الأطراف..فإن حبسه أو أذاه ..سيزأر كليث جريح..ويؤلب صفوفا من الشباب ضد الحكماء و زمرة البلاط ..وقد تحدث أمور هم في غنى عنها..
    أقصى ما يرجوه أن يضمه إلى حياته العريضة ..الثملى بكؤوس المال والملك والجاه..
    همس الحكيم بصوت أشبه بالفحيح:
    -ستندم كثيرا أيها المؤفون..
    رمقه صالح بابتسامة هازلة ...ولم يعقّب..وابتعد عنه الحكيم مبتسما!!وكأن هذا الوجه لم يحمر من فرط الغيض قبل ثوان! وصاح بصوت تعمّد أن يكون مسموعا لدى الجميع:
    -بلغ أباك سلامي..يا بني!
    تجمعت الدماء في عروق صالح..وأسر إلى نفسه:
    -ما أمكرك يا جوهر!ولكن مكر الله اكبر
    !

    تعليق


    • #3
      (4)
      في روعها أنين ..يستتر خلف وجه منفرج القسمات...لا ضير في ردم القهر في جوانحها..فلطالما اعتادت ذلك حتى ألفته.. وفي قلبها إيمان رسيس بأنها تعيش السعادة بكامل معانيها.. فالسعادة ليست إحساسا لحظيا..بل هو شعور سرمدي..لا يتناقض مع خلجات الحزن..ولا يبلى مع أمضات الحرمان..هي كون قائم بذاته..لا يقترب من سمائه الشقاء مطلقا..الشقاء الذي لم يترك حتى الآن ..بصمته في روعها..
      سحبت على الصغير الغافي قربها بُردة ..فالخريف ينفخ.. وهبوبه لا تلامس الإيهاب وحسب..لكنها تلذع شغاف القلوب..وتنذرها بشتاء جهم..رفعت طرفها للسماء..وحده الله تعالى الذي يعلم لغة العيون!

      همس اقترب منها:

      -رحاب...هل نام علاء؟
      -أجل يا حذام..
      -لقد بكى كثيرا..وفي نشيجه نغمة لست أعهدها في بكاء الأطفال!
      تبددت ملامح الإنفراج:
      -إنه نشيج الأيتام يا خذام..
      ألقت حذام خمارا على رأسها قائلة:
      -حسنا يا عزيزتي..عليّ أن أعود إلى الدار الآن..فقرص الشمس على وشك الغروب..
      -رافقتك السلامة ..وجزاك الله عني خيرا..كنت لي خير معينة هذا اليوم..
      -أوه..دعك من هذا..نحن ابنتا حي واحد..وصديقتان حميمتان.. إنه واجبي يا حبيبتي..
      -بارك الله بك..
      -أستودعك الله الآن..
      -في أمان الله..


      شيعت صاحبتها حتى باب الدار..وانطلقت حيث الفناء..حيث الرحى التي تعمل عليها لكسب القوت..
      التبر يكسو وجه السماء..وبدت جعجعة الرحى أغنية صاخبة تملأ الفناء بالضجيج..فجأة اعتلى بكاء علاء حتى فاق الجعجعة.. هرعت إليه تحمله بين ذراعيها وتحاول اسكاته..انتبهت إلى صوت الباب يُطرق..حثت الخطى...

      -من الطارق؟
      -الحكيم جوهر!
      أوجست في قلبها ريبة..
      -هل من خطب؟
      -أين أبو صالح؟
      -في الحانوت...
      -وصالح...
      -ليس بالجوار..
      -ومتى يرجع أبو صالح؟
      -ربما..بعد الغروب..
      طافت في رأسها التساؤلات:
      (ماذا يريد منهما يا ترى؟)
      انتبهت إلى صوته:
      -أخبري صالحا..أن لنا موعدا قريبا...!!


      وابتعد..
      لم تمض سوى لحظات حتى اصطبغ الأفق بخضاب الشفق..يطبع على وجهه قبلة الغروب..
      باغتها أبوها....

      -مابالك واجمة هكذا؟!
      ردت بصوت خفيض:
      -أنا ..لاأدري..في قلبي انقباض..
      -ولمَ؟!
      -لقد كان جوهر هنا قبل لحظات..
      -جوهر!..ماذا يريد؟
      -ذكرك..وأفاد بأن له موعدا مع صالح..
      -أوه..لابد أن صالح استفزه بتصرفات رعناء من جديد..لقد سئمت من عناده..سئمت..
      -رعناء! رعناء يا أبتاه؟
      -أجل رعناء..ماذا يعتقد أنه فاعل؟ها؟هل سيقتل جوهر؟!أم يفني الإقطاعيين؟!أم ماذا؟!
      -بل يوقظ الإنسان في أعماق هؤلاء...
      -لا تتحدثي مثله!..أوَ تريدين له الهلاك؟!
      -الإستماتة في سبيل الله ليست هلاكا
      -لقد مللت ..ماعاد قلبي يحتمل..
      انفرطت دمعة من مقلته جاهد في إخفائها:
      -أنا أعلم بأي طريق ينخرط..وأعلم جيدا مع أي وحوش يتصارع .. إنهم لن يرحموه..


      لشد ما تصهر السنون الإنسان..وتذيبه في بوتقة الخضوع .. لا أحد يدرك ماذا يجول في قلب هذا الكهل ..إنه السخط..السخط بكل أبجدياته ..ولكنه لا يملك أن يفعل شيئا..فضّل السكوت .. كما فضله الكثيرون سواه..لشد ما ينعش روحه عنفوان ابنه وتوقده للحق..ولكن نفسه تفزع من فكره فقده ..أو مجرد أذاه.. وهاهي كلاكل النفس ..جثمت على ضياء الروح..وشتان بين النفس والروح...

      تعليق


      • #4
        بسمه تعالى
        اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم

        احسنت اخيه..... زينب در الفردوس
        رواية جميله من قلم مبدع
        سطرتها باسلوب جميل وسلس
        نتمنى من الله ان يلهمك المزيد ويسدد خطاك
        والمعذره على التقصير
        والله الموفق

        تعليق


        • #5
          السلام عليكم..
          أختي العزيزة نور الزهراء..
          أولا أحب أن أتقدم لك بالشكر الجزيل على ما تفضلت به علي..
          ثانيا..
          أسألك الدعاء..
          لا عدمت مرورك..

          تعليق


          • #6
            (5)

            ثمة نور..شاطر نور القمر حتى كاد يفوقه... انبعث حينما بسط الليل دياجيره وقت السحر...نور تسامى من قلبيبن مجهدين..رغم أطراف منهكة وخطوات تحكي الونى..

            التفت صالح إلى زيد هامسا:

            -دعنا نعرج على الشاطئ...
            ويحدق به زيد متعجبا:
            -أتمزح يا صالح؟! إننا نحتاج إلى الراحة بعد هذا العمل المضني
            -أعلم هذا ..ولكننا في وقت السحر..وقت الإبتهال..دعنا نذهب إلى الشاطئ ونسبِّح الله حتى يبزغ الفجر..فنقيم الصلاة..ثم نعود لمأوانا..
            أومأ زيد بالإيجاب وهو يتثاءب..
            الهدير تسبيح رقيق..والصفير ابتهال شجي.. وحفيف أوراق الميس صلاة..
            تمتم زيد:
            -الهواء بارد..
            استنشق صالح جرعة كبيرة من الهواء
            -لكنه منعش..
            رمى بجسده المنهك على التراب..
            الصمت يهيمن على البلاد..هجوع أعظم من هذا الخضم..غرق الناس في غمراته..هجوع ضمهم ليلا..ونهارا..
            أخذ صالح يسامر زيد:
            -زيد!
            -نعم..
            -متى تُزف إليك ابنة عمك؟
            انبعثت منه آهة:
            -لا أدري يا صالح..لا أدري..
            -هل من عوائق؟
            -بل قل هل من سبيل ؟جميع السبل مغلقة يا صالح...هذا الشتاء يقرع أبوابنا..وأنا لا أملك حتى ما يكسو أخويّ وأمي...
            -لكنك أخبرتني سابقا..أن الأمر سيتم قريبا..
            -كنت مخطأ في تقديري..لا سبيل للاقتران الآن..
            -........
            -طالما أغلّنا هؤلاء الإقطاعيون...فلاسبيل لأي شيء!
            -بل هناك سبيل يا زيد...سبيل وحيد فريد..إنه الله..
            رفع زيد طرفه للسماء:
            -يا الله..


            وكأنه شارك البحر ..الرياح..أشجار الميس..وكل الملكوت!
            غيّر صالح دفة الحديث:

            -لقد أُرهقت اليوم كثيرا..
            تمتم بشرود:
            -نعم..صحيح..
            وكأنه تذكر أمرا:
            -ماذا دار بينكما؟
            -من تعني؟
            -أنت وجوهر...
            -كالعادة!
            -لكنه برحك بانبساط شديد..حتى خلت أنك داهنته!!
            -ألا تعلم مكره؟!
            -بل أعلمه وأخشاه..
            -لا تخش إلا خالقك!
            -..........
            -فليذهب وتهديداته إلى الجحيم! لست ممن يتزلف إلى مثله..و سيأتي حتما ذلك اليوم..يوم يصحو هذا الشعب ويقضي على تلك البؤرة الفاسدة..
            -إن شاء الله..
            أخذ يلهث بانفعال...ثم قال:
            -ألم تأتك أنباء عن عون؟
            -بلى..هذا ما كنت أود إخطارك به..
            -مالخطب؟
            -كما قلت لك ..فكرة خبيثة تجوس البلاد!
            -أفصح يا زيد!
            -أنا لا أعلم الأمر..وحسب ما أخبرني زيد..فإنه أمر يتعلق بالسلطان..كأنه يشير إلى تأسيس جيش جديد..أو ربما حرس
            -فقط!
            -لا طبعا الموضوع أكبر من هذا بكثير...عون ذاته لم يتبين ملامح الموضوع بجلاء..فإن زمرة البلاط تتكتم عليه
            تأفف صالح ساخطا:
            -مالذي يدور في رأسهم هذه المرة؟
            -حسبنا الله ونعم الوكيل..
            زحفت الهموم إلى قلبيهما..فما بددها سوى صوت زيد هاتفا:
            فلنصلي يا صالح...
            عقّب الأخير:
            -هلمّ أخي..


            (الله أكبر)
            ترنيمة عشق أودعت في الوريد..تنساب مع الدماء لتغذي الروح والكيان..
            (الله أكبر)
            يقولها المرء ليلج إلى رياض النور..ويقطف من الذوائب كمالات روحية ..الصبر..الحِلم ..الرضا ..والطمأنينة..كلها ثمار أشجار تلك الروضة الزاهرة..
            (الله أكبر)
            معول يحطم صنم النفس ..بأياد أسبغ عليها الوضوء طهارة ونقاء..
            (الله أكبر)
            ارتفعت لتغمر الفجر بالنور...وأي نور؟‍‍

            تعليق


            • #7
              (6)

              وكأن الأيام قاطبة..ليل طويل..دامع الطرف..سهيد لا ينجلي.. قد ارتدى طيلسان الدجى..وهام في غمرات السجى..نسيجه الوضّاء واهن وعتمه المستفحل في أوصال الأيام داكن..
              هاهي الدار الفجيعة تشهد في ظلامه فصلا جديدا من فصول الإضطهاد..قد أحاطها رهط من شياطين الليل ..وأخذوا يطرقون بابها المؤصد..بطرقات ارتفعت مع زفيرهم اللاهث..طرقات قضت مضاجع أهلها..فما هي ساعة تطمأن فيها الطرقات..

              انتفض أبو صالح من نومه مذعورا ..ثم نهض من مضجعه..
              تذمر:

              -من؟‍
              -جوهر..وجماعة‍
              توجس أبو صالح ريبة..حدثته نفسه:
              ما الذي أتى به في هذا الوقت من الليل؟‍ آه..حتى صالح ليس بالجوار..
              عاود الحكيم الطرق:
              ألن تفتح الباب يا أبا صالح؟‍
              -حسنا..سأفتحه حالا...
              تباطأ في فتح الباب:
              -خيرا..ماذا هنالك؟‍‍‍
              يستحث جوهر بعضا من همته:
              -اسمعني يا أبا صالح..الشتاء اقترب حتى كاد يلقانا..
              -بلى..
              -وأنت تعلم جيدا حالك المعدم..
              -إذا؟‍‍!
              -عطفا بحالك..ورفقا به..جرت رحمة مولانا السلطان باحتضان صغيرك حديث الولادة..فما هو حالك بالذي يسمح بتربية طفل يحسب على هذه الأرض..و في ال...
              قاطعه أبو صالح مشدوها:
              -ماذا؟‍‍ تريد سلب فلذة كبدي مني؟‍!
              -ارفق بيتيمك يا أبا صالح..
              -أنت من أيتمه يا جوهر...
              -أوه..كفى هراءا..دع هذا الصغير يعش حياة أفضل من حياة أخيه الصعلوك...انظر إلى صالح ‍..انظر إلى تمرده ولا تنكر.. أن حالكم الوضيع هو السبب..
              -حالنا ليس وضيعا‍ ولن أعطيك ولدي..
              -انتبه لما تقول ولمن تخاطب! ‍
              -واحد من شياطين الليل..خال أن الظلام سيمحي آثار جريمته..
              -صه..احفظ لسانك يا هذا وإلا...
              -وإلا ماذا؟‍‍ ماذا ستفعلون بنا أكثر؟‍ سرقتم أبداننا وأنفاسنا وأحلامنا ..حتى سولت لكم أنفسكم سرقة أبنائنا..لا ..لن يكون لكم ذلك..اخرج من داري ‍
              -أنت تدرك جيدا خطورة ما تتفوه به..
              -أدرك! لم يعد لي عقل لأدرك..
              -كفاك سماجة..
              -أيها الأرذال..أيها الأرذال..
              اقترب منه جوهر:
              -أنصت إلي جيدا..الصغير سنأخذه رغما عنك..وستقول للجميع أنه مات..وإلا طار رأس ابنك صالح..
              استشاط السعير في قلبه:
              -لعنة الله عليك..أيها الموبوء..أيها الظالم..


              وصل الصراخ إلى مخدع رحاب..واعتلى بكاء الطفل ..ضمته إلى صدرها..استعاذت بالله..
              "ماذا يجري في هذا الليل؟"

              فوجئت بأبيها..يدخل مخدعها بعينين ذبيحتين..ويقول لها وهو يرتجف:

              -أعطني علاء..
              -لماذا يا أ..
              -أعطنيه...
              -ماذا ستفعل به يا أبي ..ما الخطب؟‍!
              أخذه منها قسرا‍


              ارتاعت ‌.. أخذت تعدو خلفه:
              "ما الذي يجري ؟‍‍‍ "
              رأت خيال جوهر في الوصيد..فتسمرت في مكانها خلف الباب..
              وجمت ‍‍‍
              إن أباها يعطيه علاء..
              خرج الحكيم وجماعته من الدار..ليدخل الأب إلى جوفها يبكي.. يبكي دون صوت أو دموع ‌‌
              عاجلته:

              -لماذا أعطيتهم علاء؟‍!
              -دعيني وشأني..
              -لماذا أعطيتهم علاء؟‍! ماذا يريدون به؟‍‍!
              -اصمتي..قلت اصمتي..
              وقعت على الأرض..تمحلق في الفضاء وتهذي بكلمات خنقتها العبرات:
              -كيف أعطيتهم ولدك؟‍ كيف فرّطت به؟‍ أي قلب تملك؟‍ أنا لا أصدق..لا أصدق..ماذا يريد الأوخاش به ؟ كيف سلمتهم أمانة أمي؟! أجبني يا أبي ..أجبني أرجوك..سأجن إن لم تجبني..


              لم ينبس ببنت شفة..لعل هذه التي تراه وهي تجهش بالبكاء ..لا تعلم الحمم النازفة التي أحالته إلى رماد..لقد كسر هذا الكهل .. كسر كسرا..لا يجبر أبدا...

              تعليق


              • #8
                (7)

                يا طفلي الراحل في ليل الشجون
                يا بسمة القلب أيا نور العيون
                أنت في قفري زخات المزون
                أيها الورد النضير..أيها اللحن الحنون

                أي دمعات بمنآك أريق؟
                سلب الغربان أطياب الرحيق
                إن في قلبي أضرام الحريق
                إنما وجدي إلى ربي الشفيق..


                راحت تتسول الصبر الذي طالما تشدقت به سلفا.. باتت تبحث عنه اليوم في دهاليز نفسها..لقد تجرعت هولا راتبا..ضعضع منها الكيان..
                هاهي ترمق الدار الصغيرة التي حفت بإمارات الحداد.. تبكي على طفل.. سلب من بين أحضانها عنوة..وبيد من؟!!

                تستمع إلى صوت أبيها الذي يقول للمعزين:
                -لقد ولد علاء ضعيفا!!!


                لمعت شرارة الغضب في عينيها..ما عادت تطيق هذا التصنّع.. ودت أن تصرخ باللفيف :

                لم يمت علاء..لقد سلبوه..سلبه الغربان في جنح الظلام!!

                ولكن..أنى لها أن تفعل ذلك؟!
                انتبهت إلى ذراعي حذام التي أحاطتها وهي تجهش بالبكاء.. محاولة أن تبث في أعماقها شيئا من السلوى..
                اعتلى نحيبها..
                من الصعب على الإنسان أن يُظلم..ومن الأصعب عليه أن يبقي مظلوميته رهينة صدره..لا يستطيع الإفصاح عنها حتى لأقرب الناس إليه..
                أخذت تواسيها :

                -فوضي أمرك إلى الله يا رحاب..
                تشهق الأخرى بنحيبها..
                -حبيبتي رحاب..أنت قوية الإيمان..صدقيني لقد ارتاح من هذه الدنية العصيبة..
                نهرتها بعنف:
                -كفى! أرجوك! ماعدت أطيق..


                ليت هذه التي تواسيها تعلم..أن ذلك الصغير وُضع في قلب الصراع..هاهو يخطو في درب النصب..والألم والليالي الطويلة فكيف له أن يرتاح؟! لقد بارحته الراحة للأبد..فالإنسان ..خُلق في كبد..لا راحة له..إلى أن يشرب من معين النور..فيسري العذب بأوصاله..ليرويها إيمانا..وقربا من العلي الأعلى..

                تمتمت إحدى النساء:
                -لا حول ولا قوة إلا بالله تعالى..الفتاة مجهدة الأعصاب..
                تردف جليستها:
                -تفقد الأم والأخ في بضعة أيام!!!
                تشرذم الجمع ..بينما ظلت حذام بجانب رحاب ..
                تردد في تؤدة:
                - رحاب حبيبتي ...هوني عليك..
                -..................
                -لا أدري..قد أراك ضعيفة جدا ..مقارنة بما أبديته في وفاة أمك..
                -تقصدين قتلها!
                -أعلم ما تعانين..ولكن..
                -صدقيني يا حذام..أنت بالفعل لا تعلمين ما أعاني..لا أحد سوى الله يعلم ما أعاني..
                عضّت حذام شفتيها دون أن تعقّب..ثم هبت واقفة..
                -حسنا ..أتركك الآن..


                قبلتها وانصرفت تاركة إياها في دوامة..لا تدري أتخبر صالحا.. أم تكتم الأمر عنه ؟إنها تتذكر جيدا تحذير أبيها ..
                امتعضت ..وقد طاف خاطر في رأسها:
                (لن أكترث لتهديده..لقد أعطاهم فلذة كبده..كيف أهتم بما يقول؟!!)

                باغتها صالح منتفخ الأوداج..مقطب الجبين...

                -السلام عليكم..
                -وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..خيرا..ما بالك متجهم القسمات؟!
                -لقد طردوا زيدا من العمل!
                -ولماذا؟!
                -أو تسألين لماذا؟! مذ متى كان لأفعال هؤلاء الوحوش سبب؟!
                ضرب كفيه ببعضهما..وأضاف:
                -كل هذا بسببي أنا!
                -بسببك؟!....كيف؟!
                -يحاول جوهر معاقبتي بهذا..
                -أنا لا أفهم..
                -لقد هددني وحذرني من مغبة تأليب الشباب ضده..وضمهم إلى نشاطي..ولأنه لا يقدر عليّّ..فقد..
                -لا تخدع نفسك يا صالح!
                -ماذا تعنين؟!
                -إنه يقدر عليك وعلى كل من يريد..
                -خسأ المأفون!..إنه لا يقدر إلا على من خسر نفسه وباعها للطاغوت..
                -لا يا صالح!
                يجيبها مندهشا:
                -ما بالك يا رحاب؟..أنت تعلمين أن للمؤمن قوة غيبية يمده بها الله تعالى..وتعلمين أن من كان مع الله كان الله معه..
                -بلى..
                -إذا ما جدوى ما قلته؟!
                -أنا لا أعتقد أن جوهرا لا يتمكن من اقتناصك وزجّك في مصير مظلم مجهول..ولكني أعتقد أن لمداراته معك علة أخرى..
                -مثل ماذا؟
                -إنه يطمع في ضمك إليه..كل أفعاله تشير إلى ذلك..
                زم شفتيه بغضب:
                -أتخالين هذا؟!!
                -نعم..
                يدخل عليهما والدهما..كئيب الوجه..كسير القلب..مهيض الجناح لكأنه كبر عشرات السنين بين ليلة وضحاها! يرمي بثقله على بساط هزيل ويجلس محني الظهر..ترنو إليه رحاب بعينين تلمع بهما إمارات التثريب..
                يكلم صالحا بصوت خفيض:
                -عدت باكرا هذه الليلة!
                -أجل..لقد فعلت..
                -عجبا!
                انسحب صالح بهدوء شديد مرددا:
                سأذهب للنوم..


                بينما بارحته رحاب بنظرات لم تفتر من تصويب سهام اللوم.. وقد أصابت منه مقتلا!

                تعليق


                • #9
                  بسم الله الرحمن الرحيم
                  اللهم صل على محمد وال محمد وعجدل فرجهم

                  يا طفلي الراحل في ليل الشجون
                  يا بسمة القلب أيا نور العيون
                  أنت في قفري زخات المزون
                  أيها الورد النضير..أيها اللحن الحنون

                  أي دمعات بمنآك أريق؟
                  سلب الغربان أطياب الرحيق
                  إن في قلبي أضرام الحريق
                  إنما وجدي إلى ربي الشفيق..


                  قلم مميز

                  مبدع

                  معطاء

                  بوركت اخيه على ما خط به قلمك

                  نسأل الله لك المزيد من التقدم والرقي والتميز

                  موفقه بعون الله مع التحيه

                  تعليق


                  • #10
                    عزيزتي..
                    لعلك لا تعلمين مقدار السعادة التي أحسها وأنا أرى تعليقك..
                    أسألك الدعاء..

                    تعليق


                    • #11
                      بسمه تعالى اللهعمخ صل على محمد واله الاطهار وعجل فرجهم

                      هذا تواضع منك اخيتي

                      وشرف لي ان اقف على ابداعكم

                      شكرا لك من القلب على قبول ردي المتواضع

                      مع التحيه المحمديه

                      تعليق


                      • #12
                        حبيبتي نور الزهراء (ع)..
                        لا يسعني سوى قول أشكرك..
                        وأسألك الدعاء...

                        تعليق


                        • #13
                          (8)
                          دوى الهزيم..
                          يصخب في أجواء هذه الأرض الصادية التي طالما تاقت لعذب النمير..وهطع البرق في أفق مدلهم ..رغم الشمس التي توارت خلف الدجن..وهدرت الأمطار..زخات..زخات.. تغرق اللاوجود الذي تعيش به هذه الأرض..
                          امتلأت المآزم بفيضان عنيف..هرع الناس على إثره لائذين ببيوت ..هي أوهن من أن تكون ملاذا..فالأسقف المهترئة تنث الماء نثا..وثغرات الجدران تبث الرياح بثا..والقلب في قلق وخوف ..تنهشه أغنيات الرهبة التي عزفها صفير الرياح الهائجة..

                          رحاب..
                          تجوب الدار جيئة وذهابا..تكثر من الدعاء والصلوات..فأبوها لم يعد من الحانوت..وصالح لم يُرى منذ فجر الأمس..
                          ثمة طرقات تتوالى على باب الدار..هرعت إليه ..فإذا بأبيها يُقبل مبتل الثياب..يزفر بزفرات متتالية ويتساءل
                          :
                          -أما عاد صالح؟
                          -لا..
                          -آه..آه..آه من هذا الإبن..لقد أُغلقت جميع الحوانيت والمتاجر.. ما الذي أخره؟! أم أنه يستقصد المتاعب استقصادا؟!
                          -...........
                          يحدجها بنظرة تنتظر الجواب..
                          -ولماذا لا تجيبين عليّ؟!
                          -وماذا عساي أن أقول في هذا المقام؟!
                          -يبدو أنك نسيت مع من تتحدثين..
                          -لا ..لم أنس..لم أنس يا أبتي..لم أنس أنك أبي ومُعيلي..ولم أنس أيضا أنك من قدّم أخي وبقية أمي إلى جوهر ورهطه!
                          يضيق صدره..ويهتف بعصبية:
                          -أنت .........وقحة!
                          تنهمر دموع سخينة من مآقيها:
                          -لا يا أبتي..لست وقحة! اعذرني على ما أقول فإن في صدري لظى ..لم يبرحني مذ سلمت صغيرنا إليهم..قل لي يا أبي لماذا؟! لماذا فعلت ذلك؟! صدقني إن قلت لك ..أني بت لا أشعر معك بالأمان...
                          -ماذا؟!
                          -نعم! لقد فقدت الإحساس بالأمن..بالأبوة..بالحصن والملاذ..
                          يجيب بحشرجات متقطعة:
                          -أنت لا تعين أي أمر!
                          -ساعدني كي أعي..كي أفهم..أرشدني فقد ذوى قلبي..
                          -...........
                          -أرجوك يا أبي ..قل لي أين هو؟!ولماذا سلمته إليهم..وماذا فعلوا به؟!!
                          تغرورق عيناه بالدموع..وصمت يطبق على شفتيه
                          تكفكف دمعها بشرود:
                          -لا جدوى من حديثي..لا جدوى من أي شيء...


                          بخطوات واهنة تعود لمخدعها ..ترمق في زاوية من زواياه قماطا أخضرا..تأخذه بين ذراعيها ..تشمه بعبرات سكيبة ..وتلثمه بأنين خافت ..ينبعث من فؤاد مكلوم..تتمتم بأسى:

                          "بئس ما خلفك والدي في بقيتك يا أماه..لقد رحلت عنا..ولم يبق في هذه الدار نسمة هواء..كل شيء بعدك يلتهب..يلتهب يا أماه.. يلتهب ويصهرنا.."

                          رفعت كفيها للسماء بدمع ضاهى هطول المطر ولعله فاقه.. تتضرع إلى خالق الأكوان ..وتزجي قوافل الابتهال..
                          هاهو صرير الباب يؤذن بقادم جديد وثبت سريعا لملاقاته..
                          دخل بوهن بالغ وارهاق سافر..

                          سأله أبوه:

                          -أين كنت ؟ولماذا تأخرت؟
                          -كنت مع زيد..في حانوت فضل النجاد..نحاول انقاذه..
                          -ومما تنقذانه؟
                          -من هجوم تعرض له ..
                          -وماذا عنه الآن..
                          -لقد مات!
                          -مات! إنا لله وإنا إليه راجعون..
                          -لقد سلبوا حانوته..ثم ضربوه حتى الموت..وجدناه ملقى على قارعة الطريق يلفظ أنفاسه الأخيرة..
                          -يا إلهي ..في هذا الجو العاصف!
                          -......................
                          -البلاد من مصيبة إلى مصيبة..
                          -أنا أعلم من فعل به ذلك..ولن أسكت عن هذا الظلم والاعتداء أبدا..
                          -من فعل ذلك؟
                          -من؟تسألني من؟من الذي يقتل الناس من أجل الضرائب؟من الذي يحرق البيوت على أهلها من أجل أجرة ظالمة؟من الذي يقمع الشباب؟من الذي يطردهم من العمل بهتانا وجورا؟من الذي سلبنا حق التنفس؟من يا أبي من؟؟؟


                          امتقع لون أبي صالح:
                          -اسمعني جيدا..ابتعد أنت عن الموضوع!لا شأن لك بما حدث..
                          -لا شأن لي..تقول لا شأن لي؟!!
                          -نعم لا شأن لك يا صالح..
                          -وروح ذلك الرجل الطيب!أما لها قيمة عندكم ؟ماذا لو وقع ذلك الظلم عليك؟!أجبني يا أبي..ألا تعلم أن لفضل ابنة صغيرة وهو معيلها الوحيد؟ماذا الآن بعد أن أيتمت ؟!!! أرجوك يا أبي لا تطلب مني الابتعاد عن الموضوع..لأني والله رب العالمين لن أسكن إلا بعد أن أقتص من أولئك السفلة..وأولهم جوهر واعظ السلاطين!
                          صرخ الأب حنقا:
                          -استمر..استمر في هذا..استمر حتى تفقد حياتك..
                          -ما أجمل أن أستشهد في الذود عن الحرمات..
                          رد عليه بصوت يرتجف:
                          -اسمعني جيدا..لقد قدمت الكثير من أجل حياتك ..قدمت الكثير وضحيت ب..


                          انفجر الأب بالبكاء!
                          لأول مرة..يرى صالح دمعه!
                          لأول مرة يجد انكسارا كبيرا فيه!

                          "هل كنت أجهل أبي يا ترى؟!"

                          لطالما اعتقده بارد المشاعر..صلب الفؤاد..لم يكن يتوقع أبدا أن مبعث افعاله المهاجمة له هو الخوف عليه..هاهو يتمتم بكلمات غير مفهومة بالنسبة له..إنه يقول أنه قدم ثمنا كبيرا من أجل حياته ..
                          انحنى صالح على ركبتيه قائلا:

                          -بالله عليك يا أبي..لا تبكِ
                          -ابتعد عن الموضوع يا صالح..أرجوك!
                          -اعذرني يا أبي..لأني لن أفعل..لن تضيع أية روح بريئة سدى..
                          -ولماذا تكون أنت الطالب بحقها..فليكن غيرك من يفعل..
                          -أنا أفعل ما يمليه علي إيماني وضميري..وما أدراك..لعله تكليفي في الحياة ..


                          أخذ الأب يطيل النظر إليه..هل أعاد له ذكريات جميلة.. متضوعة بشذا العنفوان والإقدام والعزة؟!
                          هل يعيده صالح إلى ذاته الحقيقية..قبل أن تمتد إليها براثن الخضوع وتنهشها؟!
                          قطع عليه صالح تأملاته قائلا:

                          -أرجوك..ارض عني يا أبي..

                          طفرت من عين الأب دمعة..وهو يلوذ بصمت أبلغ من أية كلمات
                          طرق يعتلي من باب الدار..وضربات قلب تتزايد في جوف أبي صالح..

                          -أ رأيت..لا بد أنهم العسس!
                          يجيبه صالح بثقة:
                          -ما بك يا أبي؟ أي عسس؟! أنا لم أفعل شيئا بعد..إنه زيد..جاء لاصطحابي ..
                          -وما أدراك؟!
                          -لقد اتفقنا على هذه النية صباحا..بإذن الله..
                          -وإلى أين يصطحبك في هذا الجو الماطر؟!
                          -إلى داره..
                          -ولماذا؟!!!
                          -إن لنا أعمالنا..
                          -آه..أعمالكم الطائشة..أليس كذلك!
                          -أنت تعلم أنها ليست طائشة..
                          -بني..ارحمنا وارحم نفسك..
                          أجاب وهو يخطو باتجاه الباب..
                          -الله هو أرحم الراحمين يا أبي..


                          ثم صفق الباب خلفه باسما..ليترك أباه في حيرة ما بعدها حيرة...

                          تعليق


                          • #14
                            (9)
                            يسيران في هذا المأزم الضيق..باتجاه واحد وبخطوات واحدة.. و كأن لهما قلبا واحدا..ينبض بنسق واحد!
                            يتوقفان عند دار بسيطة تسفر عن مظاهر الفاقة ..يلجان إليها تستقبلهما امرأة في العقد الخامس من عمرها بنفس مرهقة وصوت حزين ..غمرت تردداته لوعات الأسى..
                            يبتدرها صالح:

                            -السلام عليكم..طبت يا خالتي أم زيد..
                            -وعليكم السلام والرحمة..مرحبا بك يا بني..عظم الله لك الأجر بأخيك علاء..
                            -أجورنا جميعا بإذن الله تعالى..
                            -تفضل
                            ..

                            يجلسان في فناء الدار الأجرد..حيث وُضع بساط من حصير ..وتشير أم زيد لابنها فيهرع إليها لتحدثه بصوت خفيض:

                            -ليس لدينا من فروض الضيافة شيء يازيد!
                            يطرق..ويردد:
                            -لا بأس بكوز ماء يا أماه..
                            ترد عليه بصوت مبحوح:
                            -يعز عليّ ذلك ولدي..
                            -لا عليك يا أماه..إن صالحا من أهل الدار..


                            ويؤوب راجعا إلى صديقه الذي استلقى على البساط بتلقائية..

                            -يبدو أنك مجهد..
                            -بلى..
                            -هل ضاعف لك العمل بعد طردي!
                            استوى صالح في جلسته:
                            -زيد..أنا لا أعرف ما يمكنني قوله..أنت تدرك أنك طردت بسببي..
                            -لا..بل إنه طريق اخترته ..ونهج انتهجته..ثم إن الله هو المتكفل بالأرزاق لا أولئك الحثالة
                            -ثق يا زيد..أن رحمة الله أوسع من كل شيء..من بطشهم ومن ظلمهم..وما أدراك ..لعل الله يحدث أمرا..
                            شع نور الرضا في مقلتيه:
                            -أنا على يقين بذلك..
                            -ماذا عن زواجك بابنة عمك؟
                            -لقد ألغيت الفكرة
                            -ماذا؟!!
                            -وأخبرت عمي بالأمس عن ذلك..
                            -......
                            -لن اُلزم أحدا بالسير في سبيلي..ثم إن لي ثلاثة أعيلهم..
                            -وهل تأكدت من موقف الفتاة؟لعلها قانعة؟
                            -لا ..لا يمكن..
                            -لماذا؟..أعطها فرصة ..لا تحكم عليها هكذا..
                            -أنا..لا أدري


                            اقترب منهما صبي ..لم يبلغ الخامسة من عمره بعد..وقد بانت على محياه إمارات النصب..
                            صاح به زيد:

                            -تقدم يا هيثم..وألق السلام
                            يقول بوهن:
                            -السلام عليكم
                            يجيبه صالح:
                            -وعليكم السلام أيها الفارس الصغير ..
                            تذكر صالح أن في جيبه منديلا ..كان قد لف به تمرتين ..وضع يده في جيبه وأخرج المنديل قائلا:
                            -احرز ! ماذا في منديلي هذا يا هيثم؟!
                            بشغف يردد الصغير:ماذا؟!
                            يدفع المنديل إليه:خذ..وشارك أخاك.
                            يفتح هيثم المنديل..فتلمع عيناه بفرح طفولي:
                            -مرحى..إنه التمر!
                            يهرول نحو أخيه..
                            "تمر يازيد! تمر!"
                            يردف زيد:
                            "قدم إحداهما لأخيك عابد..هيا ..بسرعة..


                            يركض الصغير إلى جوف الدار مغتبطا..بينما يرمق زيد صاحبه بامتنان قائلا:

                            شكرا لك يا صالح..لقد أدخلت السرور على قلبهما..
                            يختلس صالح نظرة إلى الأرض ويردد باقتضاب:عفوا..
                            يحملق في الفضاء مرددا..
                            -لقد انقشع الغيم
                            ويرد زيد باكتئاب:
                            -نعم..مكتنزا الغيث...
                            يزفر بحرقة..
                            يتساءل صالح مغيرا دفة الحديث الكئيب إلى جهة أكثر كآبة..
                            -هل آل الطيب جادون حقا في أمر تكفل طفلة فضل رحمه الله؟
                            -نعم ..كما يبدو..
                            -وماذا عن خالتها التي تقطن في الجوار؟!
                            -ماذا عنها؟
                            -أما تخال أنها لن تقبل بذلك..
                            -في الحقيقة يا صالح..أصبح من الصعب جدا التكهن بردود أفعال الناس في هذه الأيام..فالثوابت والقيم أصبحت شواذا.. والبديهيات أصبحت منكرات...لا أمان في هذا المكان..سلب العتاة أمانا ..وهبه رب الهباد للعباد..
                            -هل تذكر عزمنا في العام السالف على إنشاء دار للأيتام؟
                            -أجل..وأذكر كيف اعترض جوهر الموبوء على ذلك..
                            -نعم..والسبب هو عدم وجود افراد أكفاء لهذه المسؤولية!
                            انفجر الإثنان بضحك قهري ..انبعث من اعماق مشتاطة
                            -لعله يرى نفسه الكفؤ الوحيد على هذه الأرض!
                            -إن ما يرثي حقا..هو اعتقاد الناس به..وتصديقهم الساذج لما يبثه من خرافات..


                            ثمة طرق على باب الدار!
                            يستغرب زيد:من ياترى؟! سأذهب لأرى..
                            يفتح الباب ليجد امرأة متشحة بأبراد سوداء ..وقد غطت وجهها بخمار كثيف..
                            يبتدرها زيد:

                            -نعم؟!
                            ويجيبه صوت لم يكن متوقعا..
                            -أنا عون يا زيد!
                            يضحك زيد رغما عنه:
                            -عون !مابك؟! أي رداء هذا؟!
                            -السلام عليكم أولا..ودعني أدخل ثانيا..هيا تنح عن طريقي يا زيد فأنا متعب..
                            يقهقه زيد:
                            -وعليكم السلام يا أختي ..تفضلي..تفضلي


                            يدخل عون الدار وهو يتبرم..
                            -دعنا من مزاحك الآن..

                            يهب صالح واقفا فور دخول عون..ويطرق معتذرا..

                            -حسنا..أستأذن أنا يا زيد..

                            ينفجر زيد ضاحكا..وباستغراب يحدجه صالح بنظراته ..بينما يرفع عون الخمار..
                            بدهشة يصيح:

                            -عون! هذا أنت!
                            يرتمي عون على الحصير الهزيل:
                            -أجل..
                            -مالخطب؟وماهذه الأبراد ؟!
                            يجيبه متنهدا:
                            -لقد بذلت جهدا جبارا في الوصول إليكما..إنها كارثة!
                            يردف زيد:هل تعني إحراقهم للمنجد؟!
                            -هه..ذلك أمر يسير..إنها طامة عظمى!
                            هب واقفا..
                            -هيا الآن..هلما معي فلا وقت لدينا..
                            بذهول يرددان:إلى أين؟!
                            ويلقي عليهما أبرادا مشابهة لما يرتدي مستحثا إياهما ..
                            فلعل الساعات تتمخض عن أمر جليل
                            !

                            تعليق


                            • #15
                              (10)
                              بكآبة ووجوم..أخذت تدير مقود الرحى في وصيد دار خاوية من عذب الصداح..لكأن جدرانها تنطق شجنا..وميسها المحدودب يُسجع الحفيف نشيجا..مشاعر مريبة تفترسها..فقد اعتادت أن ترى أباها مختلفا عن نهجها..ساخطا جل وقته..لكنها مااعتادت رؤيته مجرما ! مدانا! يضحي بفلذة كبده ..ويسلم أمانة أمها إلى الجلاد..مالدافع ياترى؟!مالسبب؟! وماهو المقابل؟!

                              أضناها التفكير ..فتوقفت عن العمل..و أخذت سبحة مصنوعة من صغير اللخاف..منضدة ابتهالاتها لله سبحانه وتعالى..
                              تذكرت أمها..لكأنها تقف أمامها الآن..وتنصت إليها وهي تقول:
                              "لا سبيل لإجلاء صدأ القلوب غير ذكر الله!"
                              كم تشعر أن الصدأ يعلو قلبها ..بل يكاد يخترق شغافه ليغزو
                              اللب!

                              هطلت دمعة دافئة على وجنتها:

                              "ترى هل أخطأت عندما كتمت الأمر عن صالح؟"

                              تتذكر كيف أعد والدها بنفسه كفنا لأخيها..كيف دفنه صوريا قرب جدث أمها..فؤادها يتلظى بين الأحشاء..تردد:

                              "لماذا ؟! لماذا يا أبي؟! لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"

                              تُباغت بطرق على الباب الطيني..

                              بصوت متهدج تتساءل:

                              - من؟!
                              -أنا عيساء يارحاب..
                              تكفكف دمعها وتفتح الباب..
                              -تفضلي..
                              -السلام عليكم
                              -وعليكم السلام..تفضلي ياعيساء..
                              تسفر قسمات الفتاة عن حزن تملكها..وأرق طويل أجهدها..
                              تستفسر رحاب:
                              -تبدين مجهدة..
                              -لم أنم منذ البارحة..
                              -لماذا؟! مالأمر؟!
                              تنهمر دموعها بغزارة:
                              -لقد ..لقد ألغى زيد فكرة اقترانه بي..
                              -آه..
                              -بالأمس أخبرني أبي بذلك..
                              تسألها رحاب بتحفظ:
                              -ألم يوضح لك العلة من ذلك؟!
                              -لا..
                              -وألم تعرفي السبب بحدسك؟
                              -وكيف لي أن أعرف؟! ..لقد أعددت لوازمي وما خطر ببالي أنه سيحجم عن الأمر!
                              -لعلك لا تعرفين..أنه..طرد من العمل..
                              -بلى أعرف..
                              -إذا أنت تعرفين السبب..
                              -لا ..لا يمكن!
                              -بل هو ممكن جدا..كيف يعيلك وهو متكفل بثلاثة؟!
                              رفعت رأسها بزهو:
                              -إن زيدا لا يفكر بهذه الطريقة ..ثم إن الله هو المتكفل بالأرزاق.
                              أطرقت صامتة ثم أردفت:
                              -ثم إني قبلت به لما يتخلق به من صبر وإقدام وبسالة..وتوقد للحق..صدقيني..لم تكن الأموال لتشكل لي أي اكتراث..
                              تجيبها رحاب بحنو:
                              -فوضي أمرك لله تعالى..
                              -لاريب أنه زهدني..
                              -لابأس عليك يا عيساء..سأحاول أن أبت بهذا إلى صالح..
                              أشرق محياها..
                              -صحيح!
                              -إن شاء تعالى..
                              تجيبها مبتسمة..

                              ------


                              أمام تل قفير شامخ..وفي ساعة الأصيل..توقفت عربة تقل ثلاثة نساء..متشحات بالسواد..مسدلات لخمر كثيفة على الوجوه.. هبطت إحداهن وهي تتكأ على عصا..وتبعتها اثنتان..إحداهن كسيحة..والأخرى على ما يبدو كفيفة لا تبصر دربها..
                              اقترب منهن رجل من العسس الكثر ..المنتشرين حول التل..

                              -إلى أين؟
                              تجيبه إحداهن بصوت تجاهد أن يكون رقيقا:
                              -نريد زيارة أختنا المريضة يا بني!
                              يسألها مستفهما:
                              -وأين تقطن أختكن؟
                              -خلف التل! في زقاق....
                              يصيح مستغربا:
                              -خلف التل؟!
                              -بلى..
                              -لا يمكن..مستحيل..لا أحد يقطن هناك الآن..لقد رحل الجميع..
                              -صدقني يا بني..دعنا نذهب إليها..
                              -ابقي مكانك يا هذه! غير مسموح بهذا أبدا
                              -لماذا؟ ماذا يجري خلف التل؟! أسمع أصوات معاول!
                              يزجرها حانقا:
                              كفاك ثرثرة أيتها العجوز..وارجعي من حيث أتيت مع هاتين..هيا بسرعة..
                              يروق لإحداهن أن تبكي:
                              -ياولدي نريد الاطمئنان على أختنا..
                              بعصبية يجيب:
                              -قلت لك لا أحد يقطن هناك الآن..ألا تفهمين؟!
                              يقترب من الجمع رجل آخر من العسس ..يستفهم من زميله:
                              -مالأمر؟!
                              -سلهن يا مقداد! يردن زيارة إختهن..خلف التل!
                              يلتفت لإحداهن:
                              -ولكن لا أحد يقطن هناك الآن يا خالة..لقد رحل السكان منذ شهرين..
                              تبكي...
                              -الويل لي..أين ذهبت أخت..سأجن إن لم أرها..
                              -لا عليك يا خالة..ستجدينها إن شاء الله في مكان آخر..


                              تختلج الكلمات في روع الثلاثة:
                              "جيد أن منكم من يعرف الله"
                              ويردف :
                              -هيا عدن لمساكنكن أرجوكن..


                              يقفلن راجعات ..يركبن العربة..وأحاسيس متضاربة تعتمل في صدورهن..أو صدورهم!!!
                              ما فتأت العربة تبتعد عن التل حتى أقبلت عربة اخرى ..مغطاة بأغطية كثيفة..فلا يُرى من تقل..
                              تمتم إحداهن:

                              -أختاه..أسمع صوت بكاء يرتفع من العربة
                              وتومئ الأخرى إيجابا:
                              -بلى..يبدو أنه بكاء طفل أو مجموعة من الأطفال..
                              وتنهرهما:
                              -كفى! دعا السائق يبصر الطريق..


                              تنطلق ضحكة مكتومة من أحد الجلوس..
                              الليل يخيم على الأرض جاثما بدجاه على صفحة السماء..وفي هذا الليل تتجه ثلاثة نساء "كما يظهر" إلى دار أبي صالح ..يضرب الباب بحذر فيرتفع الصوت المتوقع:

                              -هذا أنت يا صالح؟
                              تجيب الكسيحة!:
                              -نعم يا أبتاه..وإن معي ضيوفا..
                              يفتح أبو صالح الباب..
                              -تفضلوا
                              يهرع الثلاثة للوصيد ..ملقين بالأبراد ..فيصعق أبو صالح بمنظرهم..
                              -ما هذه الأسمال التي ترتدون؟!
                              يلتفت إلى صالح:
                              -أين كنت طوال النهار..
                              يجيبه وهو يلتقط الأنفاس..
                              -كنت...في..المدينة..مع عون وزيد..
                              -وماذا كنت تفعل هناك؟
                              -أرجوك يا أبي ..أنا متعب الآن..
                              -لقد مللت من طيشك..مللت!


                              يقفل راجعا إلى مضجعه ..وهو ينوء بحمل الهموم..بينما يخر الثلاثة على الأرض متوسدينها..وكل منهم مأخوذ بما عاينه اليوم..وقد ارتسمت الكآبة على قسماتهم..عدا أن زيد أخذ يستهزء متهكما:

                              -عون ..أيتها الأخت الكبرى ما بالك ناهرة إيانا في كل لحظة؟!
                              -ماذا تريد يا زيد! لا طاقة لي بسخريتك..
                              -شر البلية ما يضحك..


                              يستأذنهما صالح ..ويدلف إلى جوف الدار ..طارقا باب مخدع اخته التي لم تطفئ سراجها..

                              تجيب بصوت متهدج:

                              -أبي؟!
                              -لا..هذا أنا يا رحاب..
                              -تفضل يا صالح..
                              يروعه دمعها..وجنتها الحمراء..
                              -مالخطب؟ لماذا تبكين؟!
                              يرمق قميص علاء الملقى على الوسادة..يضمها إلى صدره..
                              -كفاك حزنا يا حبيبتي..
                              -لا أستطيع..
                              -تذكري أنه الآن مع أمنا..
                              -..............
                              -لقد ارتاح من العناء
                              تنفجر بكاءا
                              -رحاب! أرجوك ارحمي نفسك..
                              تهدأ قليلا..
                              -هيا عودي إلى النوم..
                              -لا..فالفجر قريب..
                              -حسنا..إن معي ضيفين..هلا أعددت لنا شيئا نضيفهما به؟!
                              -حاضر..


                              يعود إلى وصيد الدار ..وقد ضاق صدره..يبتدر المستلقيان على الحصير الهزيل..
                              -خذا قسطا من الراحة ريثما يُعد الطعام..
                              يجيبه زيد:

                              -وأي طعام يهنأ لنا بعد هذه المصيبة؟! أي طعام؟!
                              -إلى هذه الدرجة وصلت بهم السفالة؟
                              يردف زيد:
                              -مالذي يراد بهؤلاء الأطفال الرضع؟! أجبنا ياعون! أنت في قعر المدينة ولابد أن لديك ما تقول..
                              يهز عون رأسه بأسف..
                              -الأمر واضح..هؤلاء الأطفال هم ما تتكتم عليه زمرة البلاط.
                              يقف زيد منفعلا:
                              -ولكن من هم؟ولماذا يؤخذون خلف التل بالتحديد؟ومالذي يراد بهم؟!هل هم لقطاء؟!أم هم أبناء أناس سلموا أطفالهم لزمرة البلاط ...أم هم.....
                              -مختطفون!
                              يصيح صالح


                              ينظر الثلاثة لبعضهم ..بصمت أبلغ كثيرا من الكلمات..وماكان يدريهم أن ثمة من تستمع لهم وقد تفتقت أوصال قلبها....

                              تعليق

                              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                              حفظ-تلقائي
                              x

                              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                              صورة التسجيل تحديث الصورة

                              اقرأ في منتديات يا حسين

                              تقليص

                              لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                              يعمل...
                              X