(1)
لم يكن سوى أنين الليل!
وقد تفتقت خيوطه السوداء باجتماع أعظم نقيضين في هذا الوجود
فتلك تدفع به إلى الحياة وهي تمخر عباب الموت راحلة للعالم السرمدي ، يعتلي بكاؤه في أرجاء البيت المتهالك وأنى له أن يدرك يتمه المرير ؟!تتناقله الأيادي التي لا تعلم أتصفق فرحا بقدومه ؟أم تمسح على رأسه وتنشد له ألحان المنون؟ويستقر أخيرا بين ذراعي شقيقته التي دثرته بقمط الشجون حابسة في أعماقها صرخات الفقد والوجد يشاطرها جريد الدار لوعتها ..الجدران البكماء ..الصخور الصماء ..أشجار الميس التي تحف الدار.. كل شيء حتى قلب والدها الذي طالما خالته قاس الشغاف ! فهاهو اليوم يجود بدمع كالمطر يرطب الحبال الجافة التي ما كانت لتربط بينهما ،ترنو لقسمات الصغير ثم تدير طرفها لمكان أمها الفارغ فتتراكم الحسرات في أعماقها ،صمت يسود الدار فلا يقطعه سوى مبادرة الأب بالحديث:
-هاقد حاقت بنا الرزايا..
تمتم بصوت خافت خنقته العبرات:
-لطالما علمتنا أمي أن نصبر عليها!
-نصبر!علام نصبر؟!أعلى فقدها أم على شظف عيشنا؟!أم على من يتحكم بأمورنا ويسوس رقابنا كالعبيد؟!
-بل يجب علينا الصبر على الأدهى والأمر ...والمؤمن مبتلى..
-كفاك لغطا وأسكتي هذا الصغير...
يطرق باب الدار..فيتضجر الأب:
-لا بد أنه اخوك صالح..
يفتح الباب ليدخل الشاب منهكا...يزعق الأب به:
-لماذا تأخرت هكذا إن الغبش في أواخره؟ أم أن اللئيم ضاعف لك العمل؟ آه ما أشرسه كم يمعن في تعذيبنا!
-بل إني لم أستطع إنجاز العمل بسهولة ...لقد كان كم العمل كبير..
-ولكننا في آخر الليل.
-هذا ما حصل..
-ألم يراعِ تورم يديك؟!
-إنه لا يراعي الله في أعماله ليراعيني أنا!
التفت الشاب إلى أخته التي قبعت في زاوية من زوايا الدار القاصية نسبيبا ..وقف مشدوها..لحظ دمعاتها ..رمق الوليد الذي يرقد بين ذراعيها ..أدار طرفه للأب الذي هدأت ثورته ليتسلط عليه حزن شديد!تسائل:
-هل وضعت أمي؟!!
لأول مرة! يعتلي بكاؤها ..كأنها وجدت من تركن إليه لتتسول منه السلوى ..أردف قائلا:
-مابالك يارحاب؟!أثمة مكروه؟
يجيب الأب:
أنت تعلم أن أمك كانت عليلة...لقد...لقد اختارها الله إلى جواره بعد أن وضعت أخاك الصغير..
فزِع! اتسعت حدقتاه!لم يكن في الدار متسع للركض..لكنه ركض بجسمه المتورم وقلبه المتقرح..فتح باب مخدعها المؤصد .. ليلاقيها جثة هامدة..تغطيها أبراد خضراء ..أخذ يبكي بمرارة ..ويهمس بغصة:
(رحمك الله ..هل تراني أستطيع الصبر على فقدك؟! أي قذى في العين؟أي خبر بائس نُعي إلي؟!)
غدا يواريها الثرى..لتواري قلبَه ذرات الرمال .. لينضب ينبوع الحنان الوحيد الذي كان يروي الدار في هذا الدهر الحموم.. غدا تغور غدران العذوبة في الوديان غدا تسبيه أصفاد اليتم ..غدا.. يبحث عن أمه ..يمحلق في طويلا في الفضاء..ولا يجدها!!
وأطل الصبح متثاقلا ،يوسق بين ذراعيه أنواء الفقد .. ترافقها زفرات الألم ..وصرخات طفل صغير ..شريد في دروب اليتم..
أنين يغرق في غمراته قلوبا حزينة تبحث عن شطآن النجاة فلا تجد..
رويدا ..رويدا يسير النعش ..ليستقر بين اللحود ..لتضمه غياهب الأرض ..وتعطره نفحات التراب ..إنها اللحظة التي يعود بها.. ابن الأرض لها..ليعود الحمأ المسنون لمنبعه التليد.. ولتسمو الروح حيث الشأو البعيد..لتُذرف الدموع ..علها ترطب القفر الرهيب..
مسحتها رحاب من على وجنتيها.. وواساها أخوها ببعض من روحه:
-سلوانا رحيلها عن هذا العذاب..
-أسكنها الله الفردوس..
-إن شاء تعالى ..إن شاء تعالى..
يسيران في الرمض..كالتائهين في هذه الفلوات..وماكان لهما..أن يريا..لسبيلهما..من نهاية!!
*****
(2)
في حجرها تهدهده وتناغيه ..تسكب تراتيل حنانها في قلبه الغض وتحيطه بروحها ..علها تستحيل لبردة تقيه لهيب الفقد وصقيع المشاعر ..ترنو-بعينين وادعتين-لملامحه العذبة .. وترنم ألحان الوسن ينبوعا ..يروي لظى الدار الظمأى..ويدخل عليها أخوها باسما ..رغم ما ينوء به قلبه من آلام ..حاملا في جيده باقة من ورد الفل ..يعبق أريجها في أركان الدار..
همست بشجى:
-عجيب أن ينمو الورد في هذا القفر!
-لا يا رحاب..بل إن في ربوع أرضنا ورود..تنمو مع كل دمعة تهطل من مآقي المحرومين..
-الأحرى بها أن تذبل!
-ماهذا التشاؤم؟! ماعهدتك قانطة..
طفرت دمعة من عينها:
-جميع الظروف تحتم عليّ التشاؤم يا صالح... بل إنها تتآزر لتصبغ دنيانا بلون القتم ! إلتفت إلى حالنا! نحن نقطة ضائعة في بحر هائج..نكابد للنجاة فلا نقدر ..ها أنت تعود من العمل وأنت لا تحمل إلا مايكفيك بالكاد لقوت يومك.. وبعد أن تجرعت آلام النهار لا تجد سكينة في الليل فقدنا طعم الأمن ..الاستقرار .. فحياتنا مهددة في كل لحظة..
-لن تفيد ترهاتك هذه بشيء!
-ترهات!!
-نعم..ترهات وهراء لا جدوى منه..
تنهد ثم أردف:
-أنسيت يا أختاه حلو كلام والدتنا؟!أنسيت مبادءها ؟ أحاديثها الطلية المتضوعة بشذى الصبر على البلاء؟!
-لم أنس يا صالح..ولم أنس حلمها بتغيير الواقع..ولكن جميع أحلامنا و أهدافنا تتكسر على صخرته القاسية..فماذا عسانا أن نفعل أمام هؤلاء الإقطاعيين الذين يسرقون أحلامنا في الصغر و جهودنا بالكبر؟نحن نكدح ونعمل ونشقى ليلتهموا هم ماذلنا من الجهد وأرق الليالي الطويلة..بسهولة تتحول حبات عرقنا لدنانير ذهبية تعزف ألحان الرنين في مضاجعهم..ولم أنس حكماء السقام ذوي اللحى الطويلة الذين يتجلببون برداء الدين وهم أول من يمتص دماءنا...
-كفى..كفى ..لا طائل من هذا التبرم..
-.............
-هدئي من روعك يا رحاب
-وإن فعلت ..فمن يهدأ روع غيري من المحرومين؟!..ولكني لأعتب..
-تعتبين؟!
-أجل أفعل ..فالجميع يوجه إلينا سهاما..سهام من زمرة البلاط ..سهام من الشعب الغارق في خضم الجهل...وسهام ممن حولنا ..ممن يدركون الواقع المؤلم ويصرون على الإستجهال.. الجميع ..الجميع ..والسهام ما فتأت تتقاذف علينا من كل صوب ..و تُغرس في أعصابنا...
تمتم بصوت خافت مكسور:
-هل ارتحت الآن؟!
-كلا والله..بل إن في فؤادي جمرة تستعر..منذ نعومة أضفاري أدركت هذه الحقائق..لقد استنشقتها استنشاق النسيم وجرعتها مع دموع أمي وأحداقها الحرقى..ونمَوت معها..
-وهل انتظرت منك أمي هذا الإنهيار؟! فأين الصبر الذي كانت تسقينا؟!
-لا تلمني يا صالح..
-بل سأفعل! فلستِ بحديثة في درب الصبر..إن الرزايا لا تزيد المؤمن إلا صلابة..تذكري هذا جيدا..وتذكري أن هذا الصغير ينتظرنا لنبني فيه ما بنته فينا أمنا...
أطالت النظر إليه ..وبدأت تكفكف دمعها بشرود..بينما انعطف صالح إلى فناء الدار ..يرمق السماء التي توشحت بخمار أسود.. يتلألأ وجهها الوضاء من بين المياسين..قاذفا بسحره الفضي على ذرى..طالما تجرعت مضض الحرمان...تمتم بصوت خفيض:
(أدرك أن كلامها صحيح..وأدرك جيدا هذا الظلم الذي استشرى في عروق بلادنا منذ زمن..منذ أن غرق أهلها في خضم الجهل و سمحوا لهؤلاء الحكماء بالتحكم بنا)
وضع رأسه في حجره:
(الويل لهم..أخذوا من الدين ستارا..وهو من أفعالهم براء)
هبت نسمة هواء خريفية ..تؤذن بشتاء طويل وتلقي في الروع أطياف رهبة..
هاهو الشتاء يقدم ..وتصحو في نفوس الناس الفاقة..الفاقة إلى مؤونة تسكت ضور أطفالهم..الفاقة إلى أسلاب تقيهم صقيع الزمهرير الذي يغزو البدن..
ترقرقت في مقلته دمعة باردة:
(حنانيك رباه...لطفا بنا..إنك واسع..كريم ..رحيم...)
لم يكن سوى أنين الليل!
وقد تفتقت خيوطه السوداء باجتماع أعظم نقيضين في هذا الوجود
فتلك تدفع به إلى الحياة وهي تمخر عباب الموت راحلة للعالم السرمدي ، يعتلي بكاؤه في أرجاء البيت المتهالك وأنى له أن يدرك يتمه المرير ؟!تتناقله الأيادي التي لا تعلم أتصفق فرحا بقدومه ؟أم تمسح على رأسه وتنشد له ألحان المنون؟ويستقر أخيرا بين ذراعي شقيقته التي دثرته بقمط الشجون حابسة في أعماقها صرخات الفقد والوجد يشاطرها جريد الدار لوعتها ..الجدران البكماء ..الصخور الصماء ..أشجار الميس التي تحف الدار.. كل شيء حتى قلب والدها الذي طالما خالته قاس الشغاف ! فهاهو اليوم يجود بدمع كالمطر يرطب الحبال الجافة التي ما كانت لتربط بينهما ،ترنو لقسمات الصغير ثم تدير طرفها لمكان أمها الفارغ فتتراكم الحسرات في أعماقها ،صمت يسود الدار فلا يقطعه سوى مبادرة الأب بالحديث:
-هاقد حاقت بنا الرزايا..
تمتم بصوت خافت خنقته العبرات:
-لطالما علمتنا أمي أن نصبر عليها!
-نصبر!علام نصبر؟!أعلى فقدها أم على شظف عيشنا؟!أم على من يتحكم بأمورنا ويسوس رقابنا كالعبيد؟!
-بل يجب علينا الصبر على الأدهى والأمر ...والمؤمن مبتلى..
-كفاك لغطا وأسكتي هذا الصغير...
يطرق باب الدار..فيتضجر الأب:
-لا بد أنه اخوك صالح..
يفتح الباب ليدخل الشاب منهكا...يزعق الأب به:
-لماذا تأخرت هكذا إن الغبش في أواخره؟ أم أن اللئيم ضاعف لك العمل؟ آه ما أشرسه كم يمعن في تعذيبنا!
-بل إني لم أستطع إنجاز العمل بسهولة ...لقد كان كم العمل كبير..
-ولكننا في آخر الليل.
-هذا ما حصل..
-ألم يراعِ تورم يديك؟!
-إنه لا يراعي الله في أعماله ليراعيني أنا!
التفت الشاب إلى أخته التي قبعت في زاوية من زوايا الدار القاصية نسبيبا ..وقف مشدوها..لحظ دمعاتها ..رمق الوليد الذي يرقد بين ذراعيها ..أدار طرفه للأب الذي هدأت ثورته ليتسلط عليه حزن شديد!تسائل:
-هل وضعت أمي؟!!
لأول مرة! يعتلي بكاؤها ..كأنها وجدت من تركن إليه لتتسول منه السلوى ..أردف قائلا:
-مابالك يارحاب؟!أثمة مكروه؟
يجيب الأب:
أنت تعلم أن أمك كانت عليلة...لقد...لقد اختارها الله إلى جواره بعد أن وضعت أخاك الصغير..
فزِع! اتسعت حدقتاه!لم يكن في الدار متسع للركض..لكنه ركض بجسمه المتورم وقلبه المتقرح..فتح باب مخدعها المؤصد .. ليلاقيها جثة هامدة..تغطيها أبراد خضراء ..أخذ يبكي بمرارة ..ويهمس بغصة:
(رحمك الله ..هل تراني أستطيع الصبر على فقدك؟! أي قذى في العين؟أي خبر بائس نُعي إلي؟!)
غدا يواريها الثرى..لتواري قلبَه ذرات الرمال .. لينضب ينبوع الحنان الوحيد الذي كان يروي الدار في هذا الدهر الحموم.. غدا تغور غدران العذوبة في الوديان غدا تسبيه أصفاد اليتم ..غدا.. يبحث عن أمه ..يمحلق في طويلا في الفضاء..ولا يجدها!!
وأطل الصبح متثاقلا ،يوسق بين ذراعيه أنواء الفقد .. ترافقها زفرات الألم ..وصرخات طفل صغير ..شريد في دروب اليتم..
أنين يغرق في غمراته قلوبا حزينة تبحث عن شطآن النجاة فلا تجد..
رويدا ..رويدا يسير النعش ..ليستقر بين اللحود ..لتضمه غياهب الأرض ..وتعطره نفحات التراب ..إنها اللحظة التي يعود بها.. ابن الأرض لها..ليعود الحمأ المسنون لمنبعه التليد.. ولتسمو الروح حيث الشأو البعيد..لتُذرف الدموع ..علها ترطب القفر الرهيب..
مسحتها رحاب من على وجنتيها.. وواساها أخوها ببعض من روحه:
-سلوانا رحيلها عن هذا العذاب..
-أسكنها الله الفردوس..
-إن شاء تعالى ..إن شاء تعالى..
يسيران في الرمض..كالتائهين في هذه الفلوات..وماكان لهما..أن يريا..لسبيلهما..من نهاية!!
*****
(2)
في حجرها تهدهده وتناغيه ..تسكب تراتيل حنانها في قلبه الغض وتحيطه بروحها ..علها تستحيل لبردة تقيه لهيب الفقد وصقيع المشاعر ..ترنو-بعينين وادعتين-لملامحه العذبة .. وترنم ألحان الوسن ينبوعا ..يروي لظى الدار الظمأى..ويدخل عليها أخوها باسما ..رغم ما ينوء به قلبه من آلام ..حاملا في جيده باقة من ورد الفل ..يعبق أريجها في أركان الدار..
همست بشجى:
-عجيب أن ينمو الورد في هذا القفر!
-لا يا رحاب..بل إن في ربوع أرضنا ورود..تنمو مع كل دمعة تهطل من مآقي المحرومين..
-الأحرى بها أن تذبل!
-ماهذا التشاؤم؟! ماعهدتك قانطة..
طفرت دمعة من عينها:
-جميع الظروف تحتم عليّ التشاؤم يا صالح... بل إنها تتآزر لتصبغ دنيانا بلون القتم ! إلتفت إلى حالنا! نحن نقطة ضائعة في بحر هائج..نكابد للنجاة فلا نقدر ..ها أنت تعود من العمل وأنت لا تحمل إلا مايكفيك بالكاد لقوت يومك.. وبعد أن تجرعت آلام النهار لا تجد سكينة في الليل فقدنا طعم الأمن ..الاستقرار .. فحياتنا مهددة في كل لحظة..
-لن تفيد ترهاتك هذه بشيء!
-ترهات!!
-نعم..ترهات وهراء لا جدوى منه..
تنهد ثم أردف:
-أنسيت يا أختاه حلو كلام والدتنا؟!أنسيت مبادءها ؟ أحاديثها الطلية المتضوعة بشذى الصبر على البلاء؟!
-لم أنس يا صالح..ولم أنس حلمها بتغيير الواقع..ولكن جميع أحلامنا و أهدافنا تتكسر على صخرته القاسية..فماذا عسانا أن نفعل أمام هؤلاء الإقطاعيين الذين يسرقون أحلامنا في الصغر و جهودنا بالكبر؟نحن نكدح ونعمل ونشقى ليلتهموا هم ماذلنا من الجهد وأرق الليالي الطويلة..بسهولة تتحول حبات عرقنا لدنانير ذهبية تعزف ألحان الرنين في مضاجعهم..ولم أنس حكماء السقام ذوي اللحى الطويلة الذين يتجلببون برداء الدين وهم أول من يمتص دماءنا...
-كفى..كفى ..لا طائل من هذا التبرم..
-.............
-هدئي من روعك يا رحاب
-وإن فعلت ..فمن يهدأ روع غيري من المحرومين؟!..ولكني لأعتب..
-تعتبين؟!
-أجل أفعل ..فالجميع يوجه إلينا سهاما..سهام من زمرة البلاط ..سهام من الشعب الغارق في خضم الجهل...وسهام ممن حولنا ..ممن يدركون الواقع المؤلم ويصرون على الإستجهال.. الجميع ..الجميع ..والسهام ما فتأت تتقاذف علينا من كل صوب ..و تُغرس في أعصابنا...
تمتم بصوت خافت مكسور:
-هل ارتحت الآن؟!
-كلا والله..بل إن في فؤادي جمرة تستعر..منذ نعومة أضفاري أدركت هذه الحقائق..لقد استنشقتها استنشاق النسيم وجرعتها مع دموع أمي وأحداقها الحرقى..ونمَوت معها..
-وهل انتظرت منك أمي هذا الإنهيار؟! فأين الصبر الذي كانت تسقينا؟!
-لا تلمني يا صالح..
-بل سأفعل! فلستِ بحديثة في درب الصبر..إن الرزايا لا تزيد المؤمن إلا صلابة..تذكري هذا جيدا..وتذكري أن هذا الصغير ينتظرنا لنبني فيه ما بنته فينا أمنا...
أطالت النظر إليه ..وبدأت تكفكف دمعها بشرود..بينما انعطف صالح إلى فناء الدار ..يرمق السماء التي توشحت بخمار أسود.. يتلألأ وجهها الوضاء من بين المياسين..قاذفا بسحره الفضي على ذرى..طالما تجرعت مضض الحرمان...تمتم بصوت خفيض:
(أدرك أن كلامها صحيح..وأدرك جيدا هذا الظلم الذي استشرى في عروق بلادنا منذ زمن..منذ أن غرق أهلها في خضم الجهل و سمحوا لهؤلاء الحكماء بالتحكم بنا)
وضع رأسه في حجره:
(الويل لهم..أخذوا من الدين ستارا..وهو من أفعالهم براء)
هبت نسمة هواء خريفية ..تؤذن بشتاء طويل وتلقي في الروع أطياف رهبة..
هاهو الشتاء يقدم ..وتصحو في نفوس الناس الفاقة..الفاقة إلى مؤونة تسكت ضور أطفالهم..الفاقة إلى أسلاب تقيهم صقيع الزمهرير الذي يغزو البدن..
ترقرقت في مقلته دمعة باردة:
(حنانيك رباه...لطفا بنا..إنك واسع..كريم ..رحيم...)
تعليق