ما قبله--------
وزبدة المخض أن أكثر الصحابة ـ المهاجرين منهم والأنصار ـ أعرضوا عن النصوص المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) في مسألة الخلافة، وصدرت منهم اجتهادات خالفوا بها النصوص الثابتة، ثم التمسوا لهم الأعذار فيها، والتمس مَن جاء بعدهم لهم ما يصحِّح اجتهاداتهم تلك.
ويدلّ على ذلك أن الأنصار اجتمعوا في السقيفة وهم كثرة، ليختاروا منهم خليفة للمسلمين، مع أنهم يعلمون ـ كما في حديث السقيفة ـ أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (الأئمة من قريش)، فتجاوزوا هذا النص الصريح الواضح في هذه المسألة حرصاً منهم على الإمارة، كما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) فيما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، أنه قال: إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فَنِعْمَ المرضعة، وبئس الفاطمة(80).
وكان ذلك مصداقاً لما أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله) فيما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها(81).
وفي رواية أخرى، قال: ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها(82).
وبالجملة فإن قلنا: إنه يشترط في الخليفة أن يكون قرشياً فلا يجوز للأنصار أن يبايعوا رجلاً منهم، وإن قلنا: إن اختيار الخليفة لا بد أن يكون بالشورى، فحينئذ لا يحق لِمَن حضر في السقيفة أن يختاروا خليفة منهم دون مشورة باقي المسلمين، ولا سيما أنه لم يحضر من المهاجرين إلا ثلاثة نفر: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة.
ثم إن احتجاج أبي بكر وعمر بأن النبي (صلى الله عليه وآله) منهم وهم عشيرته، ولا يصلح لخلافته رجل من غيرهم(83)، يستلزم أن يكون الخليفة من بني هاشم، ومن آل النبي (صلى الله عليه وآله) بالخصوص.
ولذلك احتج أمير المؤمنين عليهم بما احتجوا به على غيرهم، فقال فيما نُسب إليه:
فإن كنتَ بالشورى ملكتَ أمورَهم * فكيـف بهـذا والمشـيرون غُيَّــبُ
وإن كنتَ بالقربى حجَجْتَ خصيمَهم * فغـيـرُك أولى بالنبـي وأقــربُ(84)
وأما إذا قلنا بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد نصَّ على الخليفة من بعده كما هو الصحيح، فالمخالفة حينئذ تكون أوضح.
ومن ذلك كله يتضح أن أهل السقيفة ـ المهاجرين منهم والأنصار ـ خالفوا النصوص الصحيحة الواردة من النبي (صلى الله عليه وآله) في مسألة الخلافة.
وهذا يستلزم ألا يكون شيء مما قرَّروه في السقيفة مُلزِماً لغيرهم، أو حجَّة عليهم، بل لا يمكن أن يُصَحَّح بحال.
وأما اجتهاد باقي الصحابة ورغبتهم في ترك الخلاف ببيعة أبي بكر من أجل رأب الصدع وعدم إحداث الفرقة، فهذا اجتهاد منهم لا يُلزِم غيرهم أيضاً، ولا يصحِّح بيعة أبي بكر مع ثبوت النصوص الصحيحة الدالة على خلافة علي (عليه السلام) التي سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
رد أدلتهم على خلافة أبي بكر
ذكر علماء أهل السنة بعضاً من الأحاديث والحوادث التي استدلوا بها على خلافة أبي بكر، ونحن سنذكر أهمها، وسنبيِّن ما فيها.
منها: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما عن جبير بن مطعم، قال: أتت امرأة النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول: الموت. قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر(85).
استَدل به على خلافة أبي بكر: ابن حجر في صواعقه، وشارح العقيدة الطحاوية، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة(86) وغيرهم.
وهذا الحديث على فرض صحة سنده لا نصَّ فيه على الخلافة، بل ولا ظهور فيه أيضاً، إذ لعل تلك المرأة جاءت لأمر يتعلق بها يمكن لأي واحد من المسلمين أن يقضيه لها، فأمرها بأن ترجع لأبي بكر فيه، إما لأنه سينجزه لها عاجلاً، أو لأنها من جيرانه وهو يعرفها، فإن أهله بالسُّنْخ(87) وهي كذلك، أو لغير ذلك.
هذا مضافاً إلى أن الأمر الذي جاءت له تلك المرأة لم يتّضح من الحديث، ومن الواضح أنه ليس أمراً لا يقوم به إلا النبي (صلى الله عليه وآله) أو خليفته من بعده كأمر الحرب أو ما شابهه، بل هو أمر بسيط متعلّق بامرأة عادية.
ومنها: ما أخرجه الترمذي وحسّنه وابن ماجة والحاكم وصحَّحه وأحمد وغيرهم عن حذيفة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): اقتدوا باللذَين من بعدي: أبي بكر وعمر(88).
استدل به على خلافة أبي بكر: الإيجي في المواقف(89)، وابن حجر في صواعقه(90)، وشارح العقيدة الطحاوية(91)، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة(92) وغيرهم.
وهو على فرض صحة سنده لا يدل على خلافة أبي بكر وعمر أيضاً، لأن الاقتداء بينه وبين الخلافة عموم وخصوص من وجه، فقد يكون خليفة عند أهل السنة ولا يجوز الاقتداء به، وقد يكون مقتدىً به وليس بخليفة، وقد يكون خليفة ومقتدى به. وعليه فالأمر بالاقتداء بأبي بكر وعمر لا يدل على خلافتهما بعد النبي (صلى الله عليه وآله).
ويؤيد ذلك ما ورد في بعض ألفاظ الحديث بعد ذلك: واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود(93).
فإنهم لم يقولوا بدلالة هذا الحديث بهذا اللفظ على خلافة عمار من بعدهما ولا ابن مسعود، مع أن الأمر بالاهتداء بهدي عمار، أقوى دلالة على الخلافة من الاقتداء، لأن الله جل شأنه وصف الأئمة في كتابه بأنهم هداة إلى الحق، فقال عز من قائل (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)[سورة السجدة: الآية 24]. وقال (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين)[سورة الأنبياء: الآية 73].
وأما الأمر بالاقتداء فورد في آية واحدة من كتاب الله، وهي قوله تعالى (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده), وهي مع ذلك اشتملت على ذِكر الهدى، فكل من كان على الهدى جاز الاقتداء به، ولا عكس، إذ يجوز أن يقتدى بشخص عند أهل السنة في الصلاة مع كونه فاسقاً فاجراً، أو في أي طريقة في أمور الدنيا نافعة مع كونه كافراً، كالاقتداء بحاتم في كرمه، وبالسموأل في وفائه، أو ما شاكل ذلك.
هذا مع أن بعض مفسّري أهل السنة قالوا بأن قوله تعالى (أولئك) شاملة للأنبياء وغيرهم من المؤمنين.
قال ابن كثير: (أولئك) يعني الأنبياء المذكورين مع من أُضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان وهم الأشباه(94).
ومنه يتضح أن الآباء والذرية والإخوان إنما يُقتدى بهم لإيمانهم، لا لكونهم خلفاء ولا أئمة، وعليه فلا دلالة للاقتداء في الحديث على الخلافة أو الإمامة.
هذا مع أن هذا الحديث لم يسلم سنده من كلام، فإن الترمذي أخرجه في سننه بطريقين، أحدهما سكت عنه فلم يصحّحه، والآخر وإن حسّنه، إلا أنه قال: وكان سفيان بن عيينة يدلِّس في هذا الحديث(95)، فربما ذكره عن زائدة عن عبد الملك بن عمير، وربما لم يذكر فيه زائدة.
وذكر له طريقاً آخر من جملة رواته سفيان الثوري، وهو أيضاً مدلّس(96).
وأما الحاكم فإنه صحَّح رواية حذيفة بشاهد صحيح لها عنده، وهو رواية ابن مسعود، إلا أن الذهبي في التلخيص ضعَّف هذا الشاهد، فقال: سنده واه.
وعلى كل حال، فأكثر أسانيد هذا الحديث مروية عن السفيانيَّين، وهما مدلّسان كما مرَّ آنفاً، فكيف يقبل خبَرهما في مسألة الخلافة التي هي أهم المسائل.
ومنها: ما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم، عن أبي سعيد الخدري في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودَّته(97).
استَدل به على خلافة أبي بكر: ابن حجر في صواعقه(98)، وشارح العقيدة الطحاوية(99)، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة(100) وغيرهم.
ولو سلّمنا بصحة هذا الحديث فأكثر ما يدل عليه هو أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يتّخذ أبا بكر خليلاً، ولو أراد أن يتّخذ خليلاً لاتّخذ أبا بكر، والخُلة: هي الصداقة، والخليل هو الصديق(101).
وعليه، يكون معنى الحديث: لو أردتُ أن أتّخذ صديقاً لاتّخذت أبا بكر.
وهذا لا دليل فيه على أفضليته على غيره فضلاً عن خلافته، لأنه يحتمل أن يكون اتخاذه خليلاً للِين طبعه، أو حُسن أخلاقه كما وصفوه به، أو لقِدَم صُحبته، أو لكونه مِن أتراب النبي (صلى الله عليه وآله) المقاربين له في السن، أو لمصاهرته، أو لغير ذلك من الأمور التي تُراعى في اتخاذ الصديق، وإن كان غيره خيراً منه، وربما يتخذ الرجل الحكيم خليلاً، إلا أنه لا يعتمد عليه في القيام بأموره المهمة، بل يسندها إلى غيره، وهو واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
ومنها: ما أخرجه مسلم ومسلم وأحمد وغيرهم عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) في مرضه الذي مات فيه: ادعي له أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ، ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر(102).
استَدل به على خلافة أبي بكر: ابن حجر في صواعقه(103)، وشارح العقيدة الطحاوية(104)، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة(105).
وهذا الحديث لا يصدر من النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنه مروي عن عائشة، وأمر الخلافة لا يصح إيكاله للنساء، لارتباطها بالرجال، فإخبارهم بذلك هو المتعين، دون عائشة أو غيرها من النساء.
ومع الإغماض عن ذلك فهذا من شهادة الأبناء للآباء، أو ما يسمَّى بشهادة الفرع للأصل، وهي غير مقبولة عندهم(106)، ولذا صحَّحوا ردّ أبي بكر شهادة الحسن والحسين (عليهما السلام) لفاطمة (عليها السلام) في أمر فدك.
وعليه فلا مناص من رد شهادة عائشة لأبيها في هذه المسألة بالأولوية، لأن مسألة الخلافة أعظم وأهم من فدك.
ثم إن عائشة كان بينها وبين أمير المؤمنين (عليه السلام) جفوة، وربما صدر منها ما يصدر من النساء في عداواتهن مع غيرهن، ولذا أعرضتْ عن ذِكر اسم علي (عليه السلام) لَمَّا خرج النبي (صلى الله عليه وآله) في مرضه معتمداً عليه وعلى العباس فيما أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة وغيرهم(107).
فإذا أخفت اتَكاء النبي (صلى الله عليه وآله) على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فما يتعلّق بالخلافة أولى بالإخفاء. فكيف يصح قبول قولها في مسألة كهذه؟!
ثم أين هذا الكتاب الذي أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) عائشة أن تدعو أباها وأخاها ليكتبه لهم؟ وما فائدة كتابة كتاب في أمر خطير كالخلافة لا يعلم به أحد من الناس إلا عائشة وأبوها وأخوها؟
ثم إن الحديث لا نصَّ فيه على الخلافة، بل أقصى ما يدل عليه الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله) أراد أن يكتب كتاباً لأبي بكر، حتى لا يتمنى متمنٍّ شيئاً. أما ماذا أراد أن يكتب لأبي بكر؟ فهو غير ظاهر من الحديث، فلعله كان يريد أن يهبه متاعاً أو أرضاً أو أمراً آخر، أو لعله لما علم (صلى الله عليه وآله) بدنو أجله أراد أن يكتب كتاباً يجعله به أميراً على سرِيَّة أسامة إذا ألمَّ بأسامة مُلِم أو أصابه مكروه، ويخشى أن يتمنَّى متمنّ في القوم ذلك.
وأما قوله: (ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) فمعناه: أنني إذا كتبتُ له كتاباً بالمتاع أو الأرض أو الإمرة على سرية أسامة من بعده، فإن الله لا يرضى إلا بما كتبته، وكذا المؤمنون. والله العالم.
ومنها: ما أخرجه البخاري عن عمر بن العاص: أن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ فقال: عائشة. فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها. قلت: ثم مَن؟ قال: عمر بن الخطاب. فَعَدَّ رجالاً(108).
استدل به على خلافة أبي بكر: شارح العقيدة الطحاوية(109)، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة(110) وغيرهما.
يتبع-------------------
وزبدة المخض أن أكثر الصحابة ـ المهاجرين منهم والأنصار ـ أعرضوا عن النصوص المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) في مسألة الخلافة، وصدرت منهم اجتهادات خالفوا بها النصوص الثابتة، ثم التمسوا لهم الأعذار فيها، والتمس مَن جاء بعدهم لهم ما يصحِّح اجتهاداتهم تلك.
ويدلّ على ذلك أن الأنصار اجتمعوا في السقيفة وهم كثرة، ليختاروا منهم خليفة للمسلمين، مع أنهم يعلمون ـ كما في حديث السقيفة ـ أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (الأئمة من قريش)، فتجاوزوا هذا النص الصريح الواضح في هذه المسألة حرصاً منهم على الإمارة، كما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) فيما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، أنه قال: إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فَنِعْمَ المرضعة، وبئس الفاطمة(80).
وكان ذلك مصداقاً لما أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله) فيما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها(81).
وفي رواية أخرى، قال: ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها(82).
وبالجملة فإن قلنا: إنه يشترط في الخليفة أن يكون قرشياً فلا يجوز للأنصار أن يبايعوا رجلاً منهم، وإن قلنا: إن اختيار الخليفة لا بد أن يكون بالشورى، فحينئذ لا يحق لِمَن حضر في السقيفة أن يختاروا خليفة منهم دون مشورة باقي المسلمين، ولا سيما أنه لم يحضر من المهاجرين إلا ثلاثة نفر: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة.
ثم إن احتجاج أبي بكر وعمر بأن النبي (صلى الله عليه وآله) منهم وهم عشيرته، ولا يصلح لخلافته رجل من غيرهم(83)، يستلزم أن يكون الخليفة من بني هاشم، ومن آل النبي (صلى الله عليه وآله) بالخصوص.
ولذلك احتج أمير المؤمنين عليهم بما احتجوا به على غيرهم، فقال فيما نُسب إليه:
فإن كنتَ بالشورى ملكتَ أمورَهم * فكيـف بهـذا والمشـيرون غُيَّــبُ
وإن كنتَ بالقربى حجَجْتَ خصيمَهم * فغـيـرُك أولى بالنبـي وأقــربُ(84)
وأما إذا قلنا بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد نصَّ على الخليفة من بعده كما هو الصحيح، فالمخالفة حينئذ تكون أوضح.
ومن ذلك كله يتضح أن أهل السقيفة ـ المهاجرين منهم والأنصار ـ خالفوا النصوص الصحيحة الواردة من النبي (صلى الله عليه وآله) في مسألة الخلافة.
وهذا يستلزم ألا يكون شيء مما قرَّروه في السقيفة مُلزِماً لغيرهم، أو حجَّة عليهم، بل لا يمكن أن يُصَحَّح بحال.
وأما اجتهاد باقي الصحابة ورغبتهم في ترك الخلاف ببيعة أبي بكر من أجل رأب الصدع وعدم إحداث الفرقة، فهذا اجتهاد منهم لا يُلزِم غيرهم أيضاً، ولا يصحِّح بيعة أبي بكر مع ثبوت النصوص الصحيحة الدالة على خلافة علي (عليه السلام) التي سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
رد أدلتهم على خلافة أبي بكر
ذكر علماء أهل السنة بعضاً من الأحاديث والحوادث التي استدلوا بها على خلافة أبي بكر، ونحن سنذكر أهمها، وسنبيِّن ما فيها.
منها: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما عن جبير بن مطعم، قال: أتت امرأة النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول: الموت. قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر(85).
استَدل به على خلافة أبي بكر: ابن حجر في صواعقه، وشارح العقيدة الطحاوية، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة(86) وغيرهم.
وهذا الحديث على فرض صحة سنده لا نصَّ فيه على الخلافة، بل ولا ظهور فيه أيضاً، إذ لعل تلك المرأة جاءت لأمر يتعلق بها يمكن لأي واحد من المسلمين أن يقضيه لها، فأمرها بأن ترجع لأبي بكر فيه، إما لأنه سينجزه لها عاجلاً، أو لأنها من جيرانه وهو يعرفها، فإن أهله بالسُّنْخ(87) وهي كذلك، أو لغير ذلك.
هذا مضافاً إلى أن الأمر الذي جاءت له تلك المرأة لم يتّضح من الحديث، ومن الواضح أنه ليس أمراً لا يقوم به إلا النبي (صلى الله عليه وآله) أو خليفته من بعده كأمر الحرب أو ما شابهه، بل هو أمر بسيط متعلّق بامرأة عادية.
ومنها: ما أخرجه الترمذي وحسّنه وابن ماجة والحاكم وصحَّحه وأحمد وغيرهم عن حذيفة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): اقتدوا باللذَين من بعدي: أبي بكر وعمر(88).
استدل به على خلافة أبي بكر: الإيجي في المواقف(89)، وابن حجر في صواعقه(90)، وشارح العقيدة الطحاوية(91)، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة(92) وغيرهم.
وهو على فرض صحة سنده لا يدل على خلافة أبي بكر وعمر أيضاً، لأن الاقتداء بينه وبين الخلافة عموم وخصوص من وجه، فقد يكون خليفة عند أهل السنة ولا يجوز الاقتداء به، وقد يكون مقتدىً به وليس بخليفة، وقد يكون خليفة ومقتدى به. وعليه فالأمر بالاقتداء بأبي بكر وعمر لا يدل على خلافتهما بعد النبي (صلى الله عليه وآله).
ويؤيد ذلك ما ورد في بعض ألفاظ الحديث بعد ذلك: واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود(93).
فإنهم لم يقولوا بدلالة هذا الحديث بهذا اللفظ على خلافة عمار من بعدهما ولا ابن مسعود، مع أن الأمر بالاهتداء بهدي عمار، أقوى دلالة على الخلافة من الاقتداء، لأن الله جل شأنه وصف الأئمة في كتابه بأنهم هداة إلى الحق، فقال عز من قائل (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)[سورة السجدة: الآية 24]. وقال (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين)[سورة الأنبياء: الآية 73].
وأما الأمر بالاقتداء فورد في آية واحدة من كتاب الله، وهي قوله تعالى (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده), وهي مع ذلك اشتملت على ذِكر الهدى، فكل من كان على الهدى جاز الاقتداء به، ولا عكس، إذ يجوز أن يقتدى بشخص عند أهل السنة في الصلاة مع كونه فاسقاً فاجراً، أو في أي طريقة في أمور الدنيا نافعة مع كونه كافراً، كالاقتداء بحاتم في كرمه، وبالسموأل في وفائه، أو ما شاكل ذلك.
هذا مع أن بعض مفسّري أهل السنة قالوا بأن قوله تعالى (أولئك) شاملة للأنبياء وغيرهم من المؤمنين.
قال ابن كثير: (أولئك) يعني الأنبياء المذكورين مع من أُضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان وهم الأشباه(94).
ومنه يتضح أن الآباء والذرية والإخوان إنما يُقتدى بهم لإيمانهم، لا لكونهم خلفاء ولا أئمة، وعليه فلا دلالة للاقتداء في الحديث على الخلافة أو الإمامة.
هذا مع أن هذا الحديث لم يسلم سنده من كلام، فإن الترمذي أخرجه في سننه بطريقين، أحدهما سكت عنه فلم يصحّحه، والآخر وإن حسّنه، إلا أنه قال: وكان سفيان بن عيينة يدلِّس في هذا الحديث(95)، فربما ذكره عن زائدة عن عبد الملك بن عمير، وربما لم يذكر فيه زائدة.
وذكر له طريقاً آخر من جملة رواته سفيان الثوري، وهو أيضاً مدلّس(96).
وأما الحاكم فإنه صحَّح رواية حذيفة بشاهد صحيح لها عنده، وهو رواية ابن مسعود، إلا أن الذهبي في التلخيص ضعَّف هذا الشاهد، فقال: سنده واه.
وعلى كل حال، فأكثر أسانيد هذا الحديث مروية عن السفيانيَّين، وهما مدلّسان كما مرَّ آنفاً، فكيف يقبل خبَرهما في مسألة الخلافة التي هي أهم المسائل.
ومنها: ما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم، عن أبي سعيد الخدري في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودَّته(97).
استَدل به على خلافة أبي بكر: ابن حجر في صواعقه(98)، وشارح العقيدة الطحاوية(99)، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة(100) وغيرهم.
ولو سلّمنا بصحة هذا الحديث فأكثر ما يدل عليه هو أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يتّخذ أبا بكر خليلاً، ولو أراد أن يتّخذ خليلاً لاتّخذ أبا بكر، والخُلة: هي الصداقة، والخليل هو الصديق(101).
وعليه، يكون معنى الحديث: لو أردتُ أن أتّخذ صديقاً لاتّخذت أبا بكر.
وهذا لا دليل فيه على أفضليته على غيره فضلاً عن خلافته، لأنه يحتمل أن يكون اتخاذه خليلاً للِين طبعه، أو حُسن أخلاقه كما وصفوه به، أو لقِدَم صُحبته، أو لكونه مِن أتراب النبي (صلى الله عليه وآله) المقاربين له في السن، أو لمصاهرته، أو لغير ذلك من الأمور التي تُراعى في اتخاذ الصديق، وإن كان غيره خيراً منه، وربما يتخذ الرجل الحكيم خليلاً، إلا أنه لا يعتمد عليه في القيام بأموره المهمة، بل يسندها إلى غيره، وهو واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
ومنها: ما أخرجه مسلم ومسلم وأحمد وغيرهم عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) في مرضه الذي مات فيه: ادعي له أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ، ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر(102).
استَدل به على خلافة أبي بكر: ابن حجر في صواعقه(103)، وشارح العقيدة الطحاوية(104)، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة(105).
وهذا الحديث لا يصدر من النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنه مروي عن عائشة، وأمر الخلافة لا يصح إيكاله للنساء، لارتباطها بالرجال، فإخبارهم بذلك هو المتعين، دون عائشة أو غيرها من النساء.
ومع الإغماض عن ذلك فهذا من شهادة الأبناء للآباء، أو ما يسمَّى بشهادة الفرع للأصل، وهي غير مقبولة عندهم(106)، ولذا صحَّحوا ردّ أبي بكر شهادة الحسن والحسين (عليهما السلام) لفاطمة (عليها السلام) في أمر فدك.
وعليه فلا مناص من رد شهادة عائشة لأبيها في هذه المسألة بالأولوية، لأن مسألة الخلافة أعظم وأهم من فدك.
ثم إن عائشة كان بينها وبين أمير المؤمنين (عليه السلام) جفوة، وربما صدر منها ما يصدر من النساء في عداواتهن مع غيرهن، ولذا أعرضتْ عن ذِكر اسم علي (عليه السلام) لَمَّا خرج النبي (صلى الله عليه وآله) في مرضه معتمداً عليه وعلى العباس فيما أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة وغيرهم(107).
فإذا أخفت اتَكاء النبي (صلى الله عليه وآله) على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فما يتعلّق بالخلافة أولى بالإخفاء. فكيف يصح قبول قولها في مسألة كهذه؟!
ثم أين هذا الكتاب الذي أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) عائشة أن تدعو أباها وأخاها ليكتبه لهم؟ وما فائدة كتابة كتاب في أمر خطير كالخلافة لا يعلم به أحد من الناس إلا عائشة وأبوها وأخوها؟
ثم إن الحديث لا نصَّ فيه على الخلافة، بل أقصى ما يدل عليه الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله) أراد أن يكتب كتاباً لأبي بكر، حتى لا يتمنى متمنٍّ شيئاً. أما ماذا أراد أن يكتب لأبي بكر؟ فهو غير ظاهر من الحديث، فلعله كان يريد أن يهبه متاعاً أو أرضاً أو أمراً آخر، أو لعله لما علم (صلى الله عليه وآله) بدنو أجله أراد أن يكتب كتاباً يجعله به أميراً على سرِيَّة أسامة إذا ألمَّ بأسامة مُلِم أو أصابه مكروه، ويخشى أن يتمنَّى متمنّ في القوم ذلك.
وأما قوله: (ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) فمعناه: أنني إذا كتبتُ له كتاباً بالمتاع أو الأرض أو الإمرة على سرية أسامة من بعده، فإن الله لا يرضى إلا بما كتبته، وكذا المؤمنون. والله العالم.
ومنها: ما أخرجه البخاري عن عمر بن العاص: أن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ فقال: عائشة. فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها. قلت: ثم مَن؟ قال: عمر بن الخطاب. فَعَدَّ رجالاً(108).
استدل به على خلافة أبي بكر: شارح العقيدة الطحاوية(109)، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة(110) وغيرهما.
يتبع-------------------
تعليق