174
كما يدلّ عليه أخبار كثيرة .
قال الصادق(عليه السلام) : (إنّما أصحابي مَن اشتدَّ ورعه ، وعمل لخالقه ورجا ثوابه فهؤلاء أصحابي)(1) .
وقال(عليه السلام) : (ليس منّا ولا كرامة مَن كان في مِصر فيه مئة ألف أو يزيدون ، وكان في ذلك المصر أحد أورع منه)(2) .
وقال الباقر(عليه السلام) : (أيكفي مَن انتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت فوالله ما شيعتنا إلاّ مَن اتّقى الله وأطاعه إلى أن قال : فاتّقوا الله واعملوا لما عند الله ، ليس بين الله وبين أحد قرابة ، أحبُّ العباد إلى الله وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته ، يا جابر والله ما يتقرّب إلى الله إلاّ بالطاعة أمعنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجّة ، مَن كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ ، ومَن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ ، وما تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع ، فلا تستمع إلى قوم سوّل الشيطان لهم أعمالهم فزعموا أنّ الدِّين هو مجرّد دعوى حبّ آل محمّد(صلى الله عليه وآله) فارتكبوا الكبائر ونبذوا أحكام الله وراء ظهورهم وهم لا يشعرون)(3) .
ويُحتمل أن يكون بشرائع بدلاً من قوله : (بكم وبإيابكم) ففيه إشارة إلى أنّهم(عليهم السلام) شرائع الدِّين ، لكونهم الأئمّة الراشدين المظهرين لأمر الله ونهيه
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ أصول الكافي : ج2 ، ص62 ، باب الورع ، ح6 .
2 ـ روى الشيخ الكليني(قدس سره) في الكافي ج2 ، ص64 ، باب الورع ، ح15 ، عن أبي الحسن الأوّل(عليه السلام) قال : (كثيراً ما كنتُ أسمع أبي يقول : ليس من شيعتنا مَن لا تتحدّث المخدّرات بورعه في خدورهنّ ، وليس من أوليائنا مَن هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم من خلق الله أورع منه) .
3 ـ أخرجه الكليني في الكافي ج2 ، ص60 ، ح3 ، باب (الطاعة والتقوى) .
--------------------------------------------------------------------------------
175
فتأمّل .
والخواتيم : جمع الخاتمة ، وخاتمة العمل آخره وعاقبته ممّا يختم به من خير أو شرٍّ أو ما يترتّب عليه من ثواب وعقاب ، فإنّ ذلك نتائج الأعمال .
قال(عليه السلام) : (مَن خُتِم له بقيام ليلة ثمّ ماتَ فله الجنّة)(1) .
ويُحتمل أن يُراد بالعمل هنا خصوص الزيارة ، أو خصوص الولاية فخاتمته يكون خيراً وثواباً كما أنّه يُراد بالعمل هنا خصوص الولاية فخاتمته يكون خيراً وثواباً كما أنّه يُراد به في قوله : (اللّهم إنّي أستودعك خاتمة عملي)(2) .
خصوص الإيمان والتوحيد المشار إليه بقوله : (مَن كان آخر كلامه لا إله إلاّ الله وجبت له الجنّة)(3) فإنّه لا معنى لاستيداع الله الشرّ من الأعمال .
وكيف كان لو علّقنا الجار والمجرور بموقن فلا إشكال إذ المعنى أنّي على يقين بشرائع ديني وبنتائج عملي ، لأنّ الله ، ورسوله ، والأئمّة أخبروني بذلك ، ولم أشك في صدقهم ، وأمّا على غير ذلك فلابدّ من تقدير إذ المعنى متلبّساً بشرائع ديني وبالإذعان بخواتيم عملي .
قوله : (وقلبي لقلبكم سلمٌ) أي صلح لا حرب . قال الطريحي : والسلم كهمل : المسالم يقال : أنا سلمٌ لمَن سالمني وحربٌ لمن حاربني)(4) .
وفي حديث وصف الأئمّة : (يُطهّر الله قلب عبد حتّى يُسلّم لنا ويكون سلماً لنا أي يرضى بحكمنا ولا يكون حرباً علينا)(5) .
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ الفقيه ج1 ص47; ووسائل الشيعة ج8 ص154.
2 ـ الكافي ج4 ص283; والفقيه ج2 ص271.
3 ـ راجع الكافي ج2 ، ص375 ، باب (مَن قال لا إله إلاّ الله) .
4 ـ مجمع البحرين، ج2، ص 38.
5 ـ الكافي ج1 ص694 باب أن الأئمة نور الله عز وجل.
--------------------------------------------------------------------------------
176
(وقلبي لكم مسلّم ورأيي لكم متّبعٌ)(1) والمعنيان متقاربان إذ المراد أنّه لا اعتراض لقلبي على أفعالكم ولا عداوة فيه لكم(2) ، لأنّي أعلم أنّكم أولياء الله وعباده المكرمون الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وفيه إشارة إلى ما أشرنا إليه من وجوب التسليم لهم (عليهم السلام) كما قال تعالى : (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(3)وإلى أنّ التسليم لا يكون إلاّ بالقلب فلا يجدي مجرّد الدعوى باللسان .
كيف وقد روي عن الصادق(عليه السلام) أنّه قال : (بينا أمير المؤمنين(عليه السلام) في مسجد الكوفة إذ أتاه رجلٌ فقال : يا أمير المؤمنين ; إنّي أحبّك ، قال : ما تفعل . قال : والله إنّي لأحبّك ، قال : ما تفعل . قال : بلى والذي لا إله إلاّ هو قال : والله الذي لا إله إلاّ هو ما تحبّني . فقال : يا أمير المؤمنين إنّي أحلف بالله إنّي أحبّك وأنت تحلف بالله ما أحبّك والله كأنّك تخبرني إنّك أعلم بما في نفسي فغضب أمير المؤمنين فرفع يده إلى السماء وقال : كيف يكون ذلك وهو ربنا خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ثمّ عرض علينا المحبّ من المبغض فوالله ما رأيتك فيمن أحبّنا فأين كنتَ(4) .
وقريب منه أخبار أُخر مروية في بصائر الدرجات في باب أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام)عرف ما رأى في الميثاق(5) .
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ هذا مقطع من الزيارة الجامعة .
2 ـ روى الكليني في الكافي ج1 ، ح1 ، باب التسليم عن الإمام الباقر(عليه السلام) : (إنّما كُلّف الناس ثلاثة : معرفة الأئمّة ، والتسليم لهم فيما ورد عليهم ، والردّ إليهم فيما اختلفوا فيه) .
3 ـ النساء : 56 .
4 ـ أخرجه الصفّار في بصائر الدرجات ج2 ، ص87 ، ح4 ، باب (15) .
5 ـ بصائر الدرجات 2/ 86 باب 15 إذ ذكر عدّة روايات في هذا الخصوص فراجع.
وأيضاً راجع مختصر بصائر الدرجات للحلي ص166 .
--------------------------------------------------------------------------------
177
والمراد بالقلب هو اللمعة النورانية الملكوتية التي بها يدرك حقائق الأشياء ، ويعرف لطائف الأسرار لا نفس الجسم الصنوبري المودع فيه هذه القوّة الملكوتية كالبصر المودع فيه القوّة الباصرة ، وإن شئت قلت : إنّه العقل الذي يُعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان ولذا قال : (لقلبكم) ، فإنّ قلوبهم(عليهم السلام) أوعية العلوم الإلهية وخزائن المعارف الربّانية فقلب الشيعة يسلّم كلّ ما يصدر من قلوبهم(عليهم السلام)لإذعانه بأنّه من الله واعتقاده بأنّه من منبع الحقّ فلا ينكره ولا يعترض عليه بلِمَ ولا كيف ، وقلوب الشيعة مخلوقة من قلوبهم كما أنّ أجسادهم مخلوقة من فاضل طينتهم .
وفي بعض الأخبار : (إنّا خلقنا من نور الله وخلق شيعتنا من دون ذلك النور فإذا كان يوم القيامة ألحقت السفلى بالعليا ، وفيه يا مفضّل أتدري لِمَ سمّيت الشيعة شيعة ؟ يا مفضّل شيعتنا منّا ، ونحن من شيعتنا ، أما ترى هذه الشمس أين تبدو ؟ قلت : من مشرق ، قال : وإلى أين تعود ؟ قلت : إلى مغرب ، قال(عليه السلام) : هكذا شيعتنا ، منّا بدؤوا وإلينا يعودون)(1) ، وإنّما أفرد القلب مع إضافته إليهم(عليهم السلام)للإشارة إلى اتّحادهم في الحقيقة النورية القدسية .
قوله : (وأمري لأمركم) يُريد أنّه تابع لهم في جميع أحواله وأموره ، فإنّ المفرد المضاف مفيد للعموم على ما صرّح به جماعة ، فالمراد أنّه شيعة لهم يفتخر بمتابعته لهم في الأوامر والنواهي ، ويحذو حذوهم ويُطابق فعله فعلهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة كما هو شرط صدق هذا الاسم على ما يقتضيه كثير من الأخبار .
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ بحار الأنوار ج25 ص21.
--------------------------------------------------------------------------------
178
*صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَعَلى أَرْوَاحِكُمْ وَعَلى أَجْسَادِكُمْ وَعَلى
]أَجْسَامِكُمْ[** وَ عَلى شَاهِدِكُمْ وَعَلى غَائِبِكُمْ وَعَلى ظَاهِرِكُمْ
وَعَلى بَاطِنِكُمْ .
أشار إلى أنّهم(عليهم السلام) في جميع أحوالهم وأطوارهم ومراتبهم ومقاماتهم وشؤونهم وكيفيّاتهم وظهوراتهم وتجلّياتهم وتنقّلاتهم مستحقّون للصلوات والتحيّات مِن خالقهم وبارئهم فإنّهم في جميع هذه الحالات لا يزالون عارجين معارج القرب ، سالكين مسالك الجذب ، متقرِّبين إلى بساط الديموميّة ، بوسائل العبودية الكاملة كما قال(عليه السلام) في دعائه يوم عرفة : «وأنا أشهدُ يا إلهي بحقيقيّة إيماني وعقد عزمات يقيني ، وخالص صريح توحيدي ، وباطن مكنون ضميري وعلائق مجاري نور بصري . . .»(1) .
فأشار بقوله : (عليكم) إلى مقام حقيقتهم المقدّسة ومرتبة نورانيّتهم العالية التي لم تلد ولم تولد ، ولم يعرفها غير الله أحد ، لكونها أوّل ما خلق الله في عالم الإبداع كما قال : (نحن صنائع الله)(2) ، وهذا هو المقام المشار إليه بقوله : (لولاك
--------------------------------------------------------------------------------
* ـ في المصباح (فصلوات الله...) .
** ـ في المصباح بين المعقوفتين غير موجودة.
1 ـ راجع مفاتيح الجنان للقمّي ص245 (دعاء الإمام الحسين(عليه السلام) يوم عرفة) .
2 ـ أخرجه البرسي في مشارق أنوار اليقين ص77 فصل (42) قم ، الشريف الرضي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال : «أوّل ما خلق الله تعالى نوري ، ثمّ فتق منه نور عليّ ، فلم نزل نتردّد في النور حتى وصلنا إلى حجاب العظمة في ثمانين ألف سنة ، ثمّ خلق الخلائق من نورنا فنحن صنايع الله والخلق من بعد صنايعٌ لنا» .
--------------------------------------------------------------------------------
179
لما خلقتُ الأفلاك)(1) ، وقد كان النبيّ(صلى الله عليه وآله) يعنيه في صلاته بقوله : (أشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله) وبقوله : (السلامُ عليك أيّها النبيّ) وإلى هذا المقام أشار أمير المؤمنين(عليه السلام)بقوله : (أنا ذات الذوات)(2) وبقوله : (أنا المعنى الذي لا يقع عليه اسمٌ ولا شبه)(3) .
قوله : (وعلى أرواحكم) يُمكن أن يُراد بها نفوسهم القدسية ، وأن يُراد بها عقولهم الشريفة وهم وإن اتّحدوا في هذا المقام أيضاً ولكن الجمع باعتبار تعدّد الهياكل البشرية واختلاف المظاهر الجسمانية ، وذلك لا يوجب التعدّد في أصل الروح كالصورة المرئية في مرايا متعدِّدة .
وما الوجه إلاّ واحدٌ غير أنّه إذا أنتَ عدّدتَ المرايا تعدّدا
ويُحتمل أن يُراد بالأرواح الأرواح الخمسة المشار إليها في جملة من الأخبار(4) ، مثل ما رواه جابر عن الباقر(عليه السلام) قال : «إنّ الله خلق الأنبياء والأئمّة على خمسة أرواح : روح القوّة ، وروح الإيمان ، وروح الحياة ، وروح الشهوة ، وروح القدس ، فروح القدس(5) لا يلهو ولا يتغيّر ولا يلعب ، وبروح القدس علموا يا جابر ما دون العرش إلى ما تحت الثرى»(6) .
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ تقدّم هذا الحديث فراجع .
2 ـ راجع مشارق أنوار اليقين للبرسي ص64 فصل (28) .
3 ـ أخرجه البرسي في المشارق ص318 ، فصل (150) وهي خطبة طويلة يُعرّف الإمام(عليه السلام)نفسه .
4 ـ راجع بصائر الدرجات للصفّار ج9 ، ص445 حيث ذكر روايات كثيرة تدلّ على هذا المطلب وبعضها قد تقدّم .
5 ـ في المصدر (وروح القدس من الله وسائر هذه الأرواح يصيبها الحدثان . . .) .
6 ـ بصائر الدرجات ج9 ، ص454 ، ح12 .
--------------------------------------------------------------------------------
180
وسُئل الصادق(عليه السلام) عن قول الله : (كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا)(1)فقال : (ذلك فينا منذ أهبطه الله إلى الأرض وما يخرج إلى السماء)(2) .
وفي جملة من الأخبار أنّ الروح خلقٌ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع محمّد(صلى الله عليه وآله) يوفّقه ويسدّده وهو مع الأئمّة من بعده وهو من الملكوت(3) .
وفي بعضها : أنّه لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد وهو مع الأئمّة(4) .
وفي بعضها : إنّه خلقٌ من خلقه له بصر وقوّة وتأييد يجعله الله في قلوب الرسل والمؤمنين(5) .
وفي بعضها : (مثل المؤمن وبدنه كجوهرة في صندوق إذا خرجت الجوهرة منه طرح الصندوق ولم تتعب به ، قال : إنّ الأرواح لا تُمازج البدن ولا تداخله
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ الشورى: 52.
2 ـ أخرجها الصفّار في بصائر الدرجات ج9 ، ص458 ، ح14 ، الباب السادس عشر .
3 ـ روى الصفّار في بصائر الدرجات ص456 ج9 ، ح4 عن سماعة بن مهران قال : سمعتُ أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : (إنّ الروح خلقٌ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) يسدّده ويرشده وهو مع الأئمّة والأوصياء من بعده) .
وهناك روايات أُخر فراجع .
4 ـ روى الصفّار في بصائر الدرجات ص460 ، ج9 ، ح1 ، الباب الثامن عشر عن هشام بن سالم قال : (سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) قال : خلقٌ أعظم من جبرائيل وميكائيل لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد(صلى الله عليه وآله) وهو مع الأئمّة يوفّقهم ويسدّدهم وليس كلّما طلب وجد) .
5 ـ روى الصفّار في البصائر ج9 ، ص462 ، ح12 عن أبي عبدالله(عليه السلام) في قوله عزّوجلّ : (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) قال : إنّ الله تبارك وتعالى أحدٌ صمد ، والصمد الشيء الذي ليس له جوف وإنّما الروح خلقٌ من خلقه له بصر وقوّة وتأييد يجعله الله في قلوب الرُّسل والمؤمنين) .
--------------------------------------------------------------------------------
181
إنّما هو كالكلل للبدن محيط به)(1) .
وفي بعضها : عن أبي بصير عن الباقر(عليه السلام) قال : سألته عن قول الله : (يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)(2) فقال: جبرئيل الذي نزل على الأنبياء، والروح تكون معهم ومع الأوصياء لا تفارقهم تفقّههم(3) وتسدّدهم من عندالله وأنّه لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وبهما عُبدَ الله واستعبد الخلق)(4).
وجسم الإنسان وجسده وجثمانه هو مجموع أعضائه المؤلّفة من العناصر ، وربما يُفرّق بين الجسم والجسد باختصاص الأوّل بما فيه روح أو تعميمه لذي الروح وغيره ، واختصاص الثاني بما خلا عن الروح ، ويُحتمل أن يُراد بأجسامهم أشباحهم النورانيّة ، لأنّ من مراتبهم ومنازلهم مقام الأشباح ، كما يدلُّ عليه جملة من الأخبار ، ففي بعضها :
(إنّ آدم رأى على العرش أشباحاً يلمع نورها)(5) وفي بعضها : (ثمّ بعثهم في الظلال ، قال : قلت : أي شيء الظلال ؟ قال : تلم تر إلى ظلّكَ في الشمس شيء وليس بشيء)(6) .
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ أخرجه الصفّار في البصائر ج9 ، ص463 ، ح13 ، عن المفضل بن عمر عن أبي عبدالله(عليه السلام) .
2 ـ النحل : 2 .
3 ـ في بعض النسخ (توفّقهم) بدل (تفقّههم) .
4 ـ أخرجه الصفّار في البصائر ج9 ، ص463 ، ح1 ، الباب التاسع عشر ، وإليك تكملة الرواية: (... وعلى هذا الجنّ والإنس والملائكة ولم يعبد الله ملكٌ ولا نبيّ ولا إنسان ولا جانّ إلاّ بشهادة ألاّ إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وما خلق اللهُ خلقاً إلاّ للعبادة) .
5 ـ البحار ج26 ، ص327 .
6 ـ روى الصفّار في بصائر الدرجات ج2 ، ص80 ، ح1 ، الباب الثاني عشر ، عن أبي جعفر(عليه السلام)قال : (إنّ الله خلق الخلق فخلق مَن أحبّ ممّا أحبّ وكان أحبّ أن يخلقه من طينة الجنّة وخلق مَن أبغض ممّا أبغض أن يخلقه من طينة النار ثمّ بعثهم في الظلال قال : قلتُ : أي شيء الظلال ؟ قال : ألم تر إذا ظلّل في الشمس شيء وليس بشيء ثمّ بعث فيهم النبيّين يدعونهم إلى الإقرار بالله وهو قوله : ولئن سألتهم مَن خلقهم ليقولنّ الله ، ثمّ دعاهم إلى الإقرار بالنبيِّين فأقرّ بعضهم وأنكر بعضهم ثمّ دعاهم إلى ولايتنا فأقرَّ والله بها مَن أحبب وأنكرها مَن أبغض وهو قوله : (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) ثمّ قال أبو جعفر(عليه السلام) : كان التكذيب ثمّة) .
--------------------------------------------------------------------------------
182
قال الطريحي : (ثمّ بعثهم في الظلال أي في عالم الذرّ والتعبير بعالم الذر والمجرّدات واحد ، وإنّما عبّر عنه بذلك ، لأنّه شيء لا كالأشياء)(1) .
وفي بعضها : (كيف كنتم حيثُ كنتم في الأظلّة ، قال : يا مفضل كنّا عند ربنا في ظلّة خضراء)(2) .
ويُحتمل أنْ يُراد بالأجسام الأجساد الأصلية اللطيفة التي لا تتغيّر بمضيّ الدهور ، وورود الآفات ، وبالأجساد الأجساد العنصرية الزمانية التي تنقص وتزيد ، ويُحتمل أن يُراد بأحدهما الأجساد المثالية البرزخية وبالآخر هذا الهيكل المحسوس في هذا العالم ، وربما يفرّق بين الجسد والبدن ، بأنّ الأوّل لا يُقال إلاّ على الحيوان العاقل بخلاف الثاني ، وقد يُقال البدن هو الجسد ما سوى الرأس .
قوله : (وعلى شاهدكم . . .) فيه أيضاً إقرار بشاهدهم وغائبهم كما في الزيارة الجامعة : (مؤمن بسرّكم وعلانيّتكم وشاهدكم وغائبكم ، أوّلكم وآخركم)(3)
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ مجمع البحرين ج5، ص417.
2 ـ الكافي، ج1 ص441; بحار الأنوار، ج15 ص24.
3 ـ قال السيّد عبد الله شبّر(قدس سره) في شرحه على هذه الفقرة في الأنوار اللامعة: ص164: «(وشاهدكم) من الأئمّة الأحد عشر، (وغائبكم) المهدي، (وأوّلكم) عليّ بن أبي طالب) (وآخركم) القائم لا كما تقول العامّة بإمامة أوّلكم دون الأخير أو الواقفة الذين وقفوا دون آخركم».
--------------------------------------------------------------------------------
183
والمراد بشاهدهم يُحتمل أن يكون الأئمّة الأحد عشر الذين ظهروا على الناس في أزمنتهم وعرفوهم ولو في الجملة ، فالمراد بالغائب هو الإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه) وقد اختلف الناس في وجوده وعدمه على أقوال متشتّتة ومذهب الإمامية إنّه حيٌّ موجود غاب عن أنظارنا لمصالح كثيرة .
ويُحتمل أن يكون المراد بالشاهد هو الإمام الحيّ في كلّ زمان فينعكس الفرض في هذا الزمان فإنّ القائم مشاهد ، وهم الغيب ، لأنّهم مضوا وقضوا نحبهم فالقائم(عليه السلام) قطب هذا الزمان ، ونقطة دائرة الإمكان ، وهو المدبّر في أمر الخلق المتصرّف في العالم بإذن الله تعالى ، وقد يقال : إنّ المراد حال حضورهم مع الخلق حال غيبتهم عمّا سوى الله ، ويُسمّى بحال الفناء والمراقبة ، فإنّ لهم مع الله حالات كما في الحديث المعروف .
قوله : (وعلى ظاهركم . . .) أي وعلى سرّكم وعلانيّتكم ، فالمراد بظاهرهم أعمالهم الظاهرة وبباطنهم عقائدهم ونيّاتهم الباطنية على ما يظهر من بعضهم في تفسير قوله : (مؤمن بسرّكم وعلانيّتكم)(1) ، والظاهر أنّ المراد بالظاهر مقام بشريتهم المشار إليه بقوله : (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(2) ، وبالباطن هو مقام قربهم إلى الحقّ واختصاصهم بمزايا الإمامة التي لا يدركها إلاّ الخصيصون والعارفون ،
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ قال السيّد عبدالله شبّر في أنواره اللامعة ص164 : «أي بما استتر عن أكثر الخلق من غرائب أحوالكم وبما عُلن منها أو مؤمن باعتقاداتكم السرانية وبأعمالكم وأقوالكم العلانية» .
2 ـ فصّلت : 6 .
كما يدلّ عليه أخبار كثيرة .
قال الصادق(عليه السلام) : (إنّما أصحابي مَن اشتدَّ ورعه ، وعمل لخالقه ورجا ثوابه فهؤلاء أصحابي)(1) .
وقال(عليه السلام) : (ليس منّا ولا كرامة مَن كان في مِصر فيه مئة ألف أو يزيدون ، وكان في ذلك المصر أحد أورع منه)(2) .
وقال الباقر(عليه السلام) : (أيكفي مَن انتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت فوالله ما شيعتنا إلاّ مَن اتّقى الله وأطاعه إلى أن قال : فاتّقوا الله واعملوا لما عند الله ، ليس بين الله وبين أحد قرابة ، أحبُّ العباد إلى الله وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته ، يا جابر والله ما يتقرّب إلى الله إلاّ بالطاعة أمعنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجّة ، مَن كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ ، ومَن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ ، وما تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع ، فلا تستمع إلى قوم سوّل الشيطان لهم أعمالهم فزعموا أنّ الدِّين هو مجرّد دعوى حبّ آل محمّد(صلى الله عليه وآله) فارتكبوا الكبائر ونبذوا أحكام الله وراء ظهورهم وهم لا يشعرون)(3) .
ويُحتمل أن يكون بشرائع بدلاً من قوله : (بكم وبإيابكم) ففيه إشارة إلى أنّهم(عليهم السلام) شرائع الدِّين ، لكونهم الأئمّة الراشدين المظهرين لأمر الله ونهيه
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ أصول الكافي : ج2 ، ص62 ، باب الورع ، ح6 .
2 ـ روى الشيخ الكليني(قدس سره) في الكافي ج2 ، ص64 ، باب الورع ، ح15 ، عن أبي الحسن الأوّل(عليه السلام) قال : (كثيراً ما كنتُ أسمع أبي يقول : ليس من شيعتنا مَن لا تتحدّث المخدّرات بورعه في خدورهنّ ، وليس من أوليائنا مَن هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم من خلق الله أورع منه) .
3 ـ أخرجه الكليني في الكافي ج2 ، ص60 ، ح3 ، باب (الطاعة والتقوى) .
--------------------------------------------------------------------------------
175
فتأمّل .
والخواتيم : جمع الخاتمة ، وخاتمة العمل آخره وعاقبته ممّا يختم به من خير أو شرٍّ أو ما يترتّب عليه من ثواب وعقاب ، فإنّ ذلك نتائج الأعمال .
قال(عليه السلام) : (مَن خُتِم له بقيام ليلة ثمّ ماتَ فله الجنّة)(1) .
ويُحتمل أن يُراد بالعمل هنا خصوص الزيارة ، أو خصوص الولاية فخاتمته يكون خيراً وثواباً كما أنّه يُراد بالعمل هنا خصوص الولاية فخاتمته يكون خيراً وثواباً كما أنّه يُراد به في قوله : (اللّهم إنّي أستودعك خاتمة عملي)(2) .
خصوص الإيمان والتوحيد المشار إليه بقوله : (مَن كان آخر كلامه لا إله إلاّ الله وجبت له الجنّة)(3) فإنّه لا معنى لاستيداع الله الشرّ من الأعمال .
وكيف كان لو علّقنا الجار والمجرور بموقن فلا إشكال إذ المعنى أنّي على يقين بشرائع ديني وبنتائج عملي ، لأنّ الله ، ورسوله ، والأئمّة أخبروني بذلك ، ولم أشك في صدقهم ، وأمّا على غير ذلك فلابدّ من تقدير إذ المعنى متلبّساً بشرائع ديني وبالإذعان بخواتيم عملي .
قوله : (وقلبي لقلبكم سلمٌ) أي صلح لا حرب . قال الطريحي : والسلم كهمل : المسالم يقال : أنا سلمٌ لمَن سالمني وحربٌ لمن حاربني)(4) .
وفي حديث وصف الأئمّة : (يُطهّر الله قلب عبد حتّى يُسلّم لنا ويكون سلماً لنا أي يرضى بحكمنا ولا يكون حرباً علينا)(5) .
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ الفقيه ج1 ص47; ووسائل الشيعة ج8 ص154.
2 ـ الكافي ج4 ص283; والفقيه ج2 ص271.
3 ـ راجع الكافي ج2 ، ص375 ، باب (مَن قال لا إله إلاّ الله) .
4 ـ مجمع البحرين، ج2، ص 38.
5 ـ الكافي ج1 ص694 باب أن الأئمة نور الله عز وجل.
--------------------------------------------------------------------------------
176
(وقلبي لكم مسلّم ورأيي لكم متّبعٌ)(1) والمعنيان متقاربان إذ المراد أنّه لا اعتراض لقلبي على أفعالكم ولا عداوة فيه لكم(2) ، لأنّي أعلم أنّكم أولياء الله وعباده المكرمون الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وفيه إشارة إلى ما أشرنا إليه من وجوب التسليم لهم (عليهم السلام) كما قال تعالى : (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(3)وإلى أنّ التسليم لا يكون إلاّ بالقلب فلا يجدي مجرّد الدعوى باللسان .
كيف وقد روي عن الصادق(عليه السلام) أنّه قال : (بينا أمير المؤمنين(عليه السلام) في مسجد الكوفة إذ أتاه رجلٌ فقال : يا أمير المؤمنين ; إنّي أحبّك ، قال : ما تفعل . قال : والله إنّي لأحبّك ، قال : ما تفعل . قال : بلى والذي لا إله إلاّ هو قال : والله الذي لا إله إلاّ هو ما تحبّني . فقال : يا أمير المؤمنين إنّي أحلف بالله إنّي أحبّك وأنت تحلف بالله ما أحبّك والله كأنّك تخبرني إنّك أعلم بما في نفسي فغضب أمير المؤمنين فرفع يده إلى السماء وقال : كيف يكون ذلك وهو ربنا خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ثمّ عرض علينا المحبّ من المبغض فوالله ما رأيتك فيمن أحبّنا فأين كنتَ(4) .
وقريب منه أخبار أُخر مروية في بصائر الدرجات في باب أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام)عرف ما رأى في الميثاق(5) .
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ هذا مقطع من الزيارة الجامعة .
2 ـ روى الكليني في الكافي ج1 ، ح1 ، باب التسليم عن الإمام الباقر(عليه السلام) : (إنّما كُلّف الناس ثلاثة : معرفة الأئمّة ، والتسليم لهم فيما ورد عليهم ، والردّ إليهم فيما اختلفوا فيه) .
3 ـ النساء : 56 .
4 ـ أخرجه الصفّار في بصائر الدرجات ج2 ، ص87 ، ح4 ، باب (15) .
5 ـ بصائر الدرجات 2/ 86 باب 15 إذ ذكر عدّة روايات في هذا الخصوص فراجع.
وأيضاً راجع مختصر بصائر الدرجات للحلي ص166 .
--------------------------------------------------------------------------------
177
والمراد بالقلب هو اللمعة النورانية الملكوتية التي بها يدرك حقائق الأشياء ، ويعرف لطائف الأسرار لا نفس الجسم الصنوبري المودع فيه هذه القوّة الملكوتية كالبصر المودع فيه القوّة الباصرة ، وإن شئت قلت : إنّه العقل الذي يُعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان ولذا قال : (لقلبكم) ، فإنّ قلوبهم(عليهم السلام) أوعية العلوم الإلهية وخزائن المعارف الربّانية فقلب الشيعة يسلّم كلّ ما يصدر من قلوبهم(عليهم السلام)لإذعانه بأنّه من الله واعتقاده بأنّه من منبع الحقّ فلا ينكره ولا يعترض عليه بلِمَ ولا كيف ، وقلوب الشيعة مخلوقة من قلوبهم كما أنّ أجسادهم مخلوقة من فاضل طينتهم .
وفي بعض الأخبار : (إنّا خلقنا من نور الله وخلق شيعتنا من دون ذلك النور فإذا كان يوم القيامة ألحقت السفلى بالعليا ، وفيه يا مفضّل أتدري لِمَ سمّيت الشيعة شيعة ؟ يا مفضّل شيعتنا منّا ، ونحن من شيعتنا ، أما ترى هذه الشمس أين تبدو ؟ قلت : من مشرق ، قال : وإلى أين تعود ؟ قلت : إلى مغرب ، قال(عليه السلام) : هكذا شيعتنا ، منّا بدؤوا وإلينا يعودون)(1) ، وإنّما أفرد القلب مع إضافته إليهم(عليهم السلام)للإشارة إلى اتّحادهم في الحقيقة النورية القدسية .
قوله : (وأمري لأمركم) يُريد أنّه تابع لهم في جميع أحواله وأموره ، فإنّ المفرد المضاف مفيد للعموم على ما صرّح به جماعة ، فالمراد أنّه شيعة لهم يفتخر بمتابعته لهم في الأوامر والنواهي ، ويحذو حذوهم ويُطابق فعله فعلهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة كما هو شرط صدق هذا الاسم على ما يقتضيه كثير من الأخبار .
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ بحار الأنوار ج25 ص21.
--------------------------------------------------------------------------------
178
*صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَعَلى أَرْوَاحِكُمْ وَعَلى أَجْسَادِكُمْ وَعَلى
]أَجْسَامِكُمْ[** وَ عَلى شَاهِدِكُمْ وَعَلى غَائِبِكُمْ وَعَلى ظَاهِرِكُمْ
وَعَلى بَاطِنِكُمْ .
أشار إلى أنّهم(عليهم السلام) في جميع أحوالهم وأطوارهم ومراتبهم ومقاماتهم وشؤونهم وكيفيّاتهم وظهوراتهم وتجلّياتهم وتنقّلاتهم مستحقّون للصلوات والتحيّات مِن خالقهم وبارئهم فإنّهم في جميع هذه الحالات لا يزالون عارجين معارج القرب ، سالكين مسالك الجذب ، متقرِّبين إلى بساط الديموميّة ، بوسائل العبودية الكاملة كما قال(عليه السلام) في دعائه يوم عرفة : «وأنا أشهدُ يا إلهي بحقيقيّة إيماني وعقد عزمات يقيني ، وخالص صريح توحيدي ، وباطن مكنون ضميري وعلائق مجاري نور بصري . . .»(1) .
فأشار بقوله : (عليكم) إلى مقام حقيقتهم المقدّسة ومرتبة نورانيّتهم العالية التي لم تلد ولم تولد ، ولم يعرفها غير الله أحد ، لكونها أوّل ما خلق الله في عالم الإبداع كما قال : (نحن صنائع الله)(2) ، وهذا هو المقام المشار إليه بقوله : (لولاك
--------------------------------------------------------------------------------
* ـ في المصباح (فصلوات الله...) .
** ـ في المصباح بين المعقوفتين غير موجودة.
1 ـ راجع مفاتيح الجنان للقمّي ص245 (دعاء الإمام الحسين(عليه السلام) يوم عرفة) .
2 ـ أخرجه البرسي في مشارق أنوار اليقين ص77 فصل (42) قم ، الشريف الرضي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال : «أوّل ما خلق الله تعالى نوري ، ثمّ فتق منه نور عليّ ، فلم نزل نتردّد في النور حتى وصلنا إلى حجاب العظمة في ثمانين ألف سنة ، ثمّ خلق الخلائق من نورنا فنحن صنايع الله والخلق من بعد صنايعٌ لنا» .
--------------------------------------------------------------------------------
179
لما خلقتُ الأفلاك)(1) ، وقد كان النبيّ(صلى الله عليه وآله) يعنيه في صلاته بقوله : (أشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله) وبقوله : (السلامُ عليك أيّها النبيّ) وإلى هذا المقام أشار أمير المؤمنين(عليه السلام)بقوله : (أنا ذات الذوات)(2) وبقوله : (أنا المعنى الذي لا يقع عليه اسمٌ ولا شبه)(3) .
قوله : (وعلى أرواحكم) يُمكن أن يُراد بها نفوسهم القدسية ، وأن يُراد بها عقولهم الشريفة وهم وإن اتّحدوا في هذا المقام أيضاً ولكن الجمع باعتبار تعدّد الهياكل البشرية واختلاف المظاهر الجسمانية ، وذلك لا يوجب التعدّد في أصل الروح كالصورة المرئية في مرايا متعدِّدة .
وما الوجه إلاّ واحدٌ غير أنّه إذا أنتَ عدّدتَ المرايا تعدّدا
ويُحتمل أن يُراد بالأرواح الأرواح الخمسة المشار إليها في جملة من الأخبار(4) ، مثل ما رواه جابر عن الباقر(عليه السلام) قال : «إنّ الله خلق الأنبياء والأئمّة على خمسة أرواح : روح القوّة ، وروح الإيمان ، وروح الحياة ، وروح الشهوة ، وروح القدس ، فروح القدس(5) لا يلهو ولا يتغيّر ولا يلعب ، وبروح القدس علموا يا جابر ما دون العرش إلى ما تحت الثرى»(6) .
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ تقدّم هذا الحديث فراجع .
2 ـ راجع مشارق أنوار اليقين للبرسي ص64 فصل (28) .
3 ـ أخرجه البرسي في المشارق ص318 ، فصل (150) وهي خطبة طويلة يُعرّف الإمام(عليه السلام)نفسه .
4 ـ راجع بصائر الدرجات للصفّار ج9 ، ص445 حيث ذكر روايات كثيرة تدلّ على هذا المطلب وبعضها قد تقدّم .
5 ـ في المصدر (وروح القدس من الله وسائر هذه الأرواح يصيبها الحدثان . . .) .
6 ـ بصائر الدرجات ج9 ، ص454 ، ح12 .
--------------------------------------------------------------------------------
180
وسُئل الصادق(عليه السلام) عن قول الله : (كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا)(1)فقال : (ذلك فينا منذ أهبطه الله إلى الأرض وما يخرج إلى السماء)(2) .
وفي جملة من الأخبار أنّ الروح خلقٌ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع محمّد(صلى الله عليه وآله) يوفّقه ويسدّده وهو مع الأئمّة من بعده وهو من الملكوت(3) .
وفي بعضها : أنّه لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد وهو مع الأئمّة(4) .
وفي بعضها : إنّه خلقٌ من خلقه له بصر وقوّة وتأييد يجعله الله في قلوب الرسل والمؤمنين(5) .
وفي بعضها : (مثل المؤمن وبدنه كجوهرة في صندوق إذا خرجت الجوهرة منه طرح الصندوق ولم تتعب به ، قال : إنّ الأرواح لا تُمازج البدن ولا تداخله
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ الشورى: 52.
2 ـ أخرجها الصفّار في بصائر الدرجات ج9 ، ص458 ، ح14 ، الباب السادس عشر .
3 ـ روى الصفّار في بصائر الدرجات ص456 ج9 ، ح4 عن سماعة بن مهران قال : سمعتُ أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : (إنّ الروح خلقٌ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) يسدّده ويرشده وهو مع الأئمّة والأوصياء من بعده) .
وهناك روايات أُخر فراجع .
4 ـ روى الصفّار في بصائر الدرجات ص460 ، ج9 ، ح1 ، الباب الثامن عشر عن هشام بن سالم قال : (سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) قال : خلقٌ أعظم من جبرائيل وميكائيل لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد(صلى الله عليه وآله) وهو مع الأئمّة يوفّقهم ويسدّدهم وليس كلّما طلب وجد) .
5 ـ روى الصفّار في البصائر ج9 ، ص462 ، ح12 عن أبي عبدالله(عليه السلام) في قوله عزّوجلّ : (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) قال : إنّ الله تبارك وتعالى أحدٌ صمد ، والصمد الشيء الذي ليس له جوف وإنّما الروح خلقٌ من خلقه له بصر وقوّة وتأييد يجعله الله في قلوب الرُّسل والمؤمنين) .
--------------------------------------------------------------------------------
181
إنّما هو كالكلل للبدن محيط به)(1) .
وفي بعضها : عن أبي بصير عن الباقر(عليه السلام) قال : سألته عن قول الله : (يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)(2) فقال: جبرئيل الذي نزل على الأنبياء، والروح تكون معهم ومع الأوصياء لا تفارقهم تفقّههم(3) وتسدّدهم من عندالله وأنّه لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وبهما عُبدَ الله واستعبد الخلق)(4).
وجسم الإنسان وجسده وجثمانه هو مجموع أعضائه المؤلّفة من العناصر ، وربما يُفرّق بين الجسم والجسد باختصاص الأوّل بما فيه روح أو تعميمه لذي الروح وغيره ، واختصاص الثاني بما خلا عن الروح ، ويُحتمل أن يُراد بأجسامهم أشباحهم النورانيّة ، لأنّ من مراتبهم ومنازلهم مقام الأشباح ، كما يدلُّ عليه جملة من الأخبار ، ففي بعضها :
(إنّ آدم رأى على العرش أشباحاً يلمع نورها)(5) وفي بعضها : (ثمّ بعثهم في الظلال ، قال : قلت : أي شيء الظلال ؟ قال : تلم تر إلى ظلّكَ في الشمس شيء وليس بشيء)(6) .
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ أخرجه الصفّار في البصائر ج9 ، ص463 ، ح13 ، عن المفضل بن عمر عن أبي عبدالله(عليه السلام) .
2 ـ النحل : 2 .
3 ـ في بعض النسخ (توفّقهم) بدل (تفقّههم) .
4 ـ أخرجه الصفّار في البصائر ج9 ، ص463 ، ح1 ، الباب التاسع عشر ، وإليك تكملة الرواية: (... وعلى هذا الجنّ والإنس والملائكة ولم يعبد الله ملكٌ ولا نبيّ ولا إنسان ولا جانّ إلاّ بشهادة ألاّ إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وما خلق اللهُ خلقاً إلاّ للعبادة) .
5 ـ البحار ج26 ، ص327 .
6 ـ روى الصفّار في بصائر الدرجات ج2 ، ص80 ، ح1 ، الباب الثاني عشر ، عن أبي جعفر(عليه السلام)قال : (إنّ الله خلق الخلق فخلق مَن أحبّ ممّا أحبّ وكان أحبّ أن يخلقه من طينة الجنّة وخلق مَن أبغض ممّا أبغض أن يخلقه من طينة النار ثمّ بعثهم في الظلال قال : قلتُ : أي شيء الظلال ؟ قال : ألم تر إذا ظلّل في الشمس شيء وليس بشيء ثمّ بعث فيهم النبيّين يدعونهم إلى الإقرار بالله وهو قوله : ولئن سألتهم مَن خلقهم ليقولنّ الله ، ثمّ دعاهم إلى الإقرار بالنبيِّين فأقرّ بعضهم وأنكر بعضهم ثمّ دعاهم إلى ولايتنا فأقرَّ والله بها مَن أحبب وأنكرها مَن أبغض وهو قوله : (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) ثمّ قال أبو جعفر(عليه السلام) : كان التكذيب ثمّة) .
--------------------------------------------------------------------------------
182
قال الطريحي : (ثمّ بعثهم في الظلال أي في عالم الذرّ والتعبير بعالم الذر والمجرّدات واحد ، وإنّما عبّر عنه بذلك ، لأنّه شيء لا كالأشياء)(1) .
وفي بعضها : (كيف كنتم حيثُ كنتم في الأظلّة ، قال : يا مفضل كنّا عند ربنا في ظلّة خضراء)(2) .
ويُحتمل أنْ يُراد بالأجسام الأجساد الأصلية اللطيفة التي لا تتغيّر بمضيّ الدهور ، وورود الآفات ، وبالأجساد الأجساد العنصرية الزمانية التي تنقص وتزيد ، ويُحتمل أن يُراد بأحدهما الأجساد المثالية البرزخية وبالآخر هذا الهيكل المحسوس في هذا العالم ، وربما يفرّق بين الجسد والبدن ، بأنّ الأوّل لا يُقال إلاّ على الحيوان العاقل بخلاف الثاني ، وقد يُقال البدن هو الجسد ما سوى الرأس .
قوله : (وعلى شاهدكم . . .) فيه أيضاً إقرار بشاهدهم وغائبهم كما في الزيارة الجامعة : (مؤمن بسرّكم وعلانيّتكم وشاهدكم وغائبكم ، أوّلكم وآخركم)(3)
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ مجمع البحرين ج5، ص417.
2 ـ الكافي، ج1 ص441; بحار الأنوار، ج15 ص24.
3 ـ قال السيّد عبد الله شبّر(قدس سره) في شرحه على هذه الفقرة في الأنوار اللامعة: ص164: «(وشاهدكم) من الأئمّة الأحد عشر، (وغائبكم) المهدي، (وأوّلكم) عليّ بن أبي طالب) (وآخركم) القائم لا كما تقول العامّة بإمامة أوّلكم دون الأخير أو الواقفة الذين وقفوا دون آخركم».
--------------------------------------------------------------------------------
183
والمراد بشاهدهم يُحتمل أن يكون الأئمّة الأحد عشر الذين ظهروا على الناس في أزمنتهم وعرفوهم ولو في الجملة ، فالمراد بالغائب هو الإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه) وقد اختلف الناس في وجوده وعدمه على أقوال متشتّتة ومذهب الإمامية إنّه حيٌّ موجود غاب عن أنظارنا لمصالح كثيرة .
ويُحتمل أن يكون المراد بالشاهد هو الإمام الحيّ في كلّ زمان فينعكس الفرض في هذا الزمان فإنّ القائم مشاهد ، وهم الغيب ، لأنّهم مضوا وقضوا نحبهم فالقائم(عليه السلام) قطب هذا الزمان ، ونقطة دائرة الإمكان ، وهو المدبّر في أمر الخلق المتصرّف في العالم بإذن الله تعالى ، وقد يقال : إنّ المراد حال حضورهم مع الخلق حال غيبتهم عمّا سوى الله ، ويُسمّى بحال الفناء والمراقبة ، فإنّ لهم مع الله حالات كما في الحديث المعروف .
قوله : (وعلى ظاهركم . . .) أي وعلى سرّكم وعلانيّتكم ، فالمراد بظاهرهم أعمالهم الظاهرة وبباطنهم عقائدهم ونيّاتهم الباطنية على ما يظهر من بعضهم في تفسير قوله : (مؤمن بسرّكم وعلانيّتكم)(1) ، والظاهر أنّ المراد بالظاهر مقام بشريتهم المشار إليه بقوله : (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(2) ، وبالباطن هو مقام قربهم إلى الحقّ واختصاصهم بمزايا الإمامة التي لا يدركها إلاّ الخصيصون والعارفون ،
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ قال السيّد عبدالله شبّر في أنواره اللامعة ص164 : «أي بما استتر عن أكثر الخلق من غرائب أحوالكم وبما عُلن منها أو مؤمن باعتقاداتكم السرانية وبأعمالكم وأقوالكم العلانية» .
2 ـ فصّلت : 6 .
تعليق