باسمه تعالى،
اللهم صل على محمد وآل محمد الأطهار.
أحببت أن أشارك بهذا الموضوع على هامش بحث قصة الغرانيق ونعاين من من علماء السنة صحح قصة الغرانيق,
1 - مع الطبري في تفسيره المسمى " جامع البيان في تفسير القرآن "
" وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " سورة الحج الآية 52.
نجده يفسرها بتوسط روايات كثيرة كلها تؤيد صدق واقعة الغرانيق:
" قـيـل: إن السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الشيطان كان ألقـى علـى لسانه فـي بعض ما يتلوه مـما أنزل الله علـيه من القرآن ما لـم ينزله الله علـيه، فـاشتدّ ذلك علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم واغتـمّ به، فسلاّه الله مـما به من ذلك بهذه الآيات. ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا حجاج، عن أبـي معشر، عن محمد بن كعب القُرَظيّ ومـحمد بن قـيس قالا: «جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي ناد من أندية قريش كثـير أهله، فتـمنى يومئذ أن لا يأتـيه من الله شيء فـينفروا عنه، فأنزل الله علـيه:
{ والنَّـجْمِ إذَا هَوَى ما ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَما غَوَى }
فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتـى إذا بلغ:
{ أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى وَمَناةَ الثالِثَةَ الأُخْرَى }
ألقـى علـيه الشيطان كلـمتـين: «تلك الغرانقة العُلَـى، وإن شفـاعتهنّ لتُرْجَى»، فتكلـم بها. ثم مضى فقرأ السورة كلها. فسجد فـي آخر السورة، وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الولـيد بن الـمغيرة ترابـاً إلـى جبهته فسجد علـيه، وكان شيخا كبـيرا لا يقدر علـى السجود. فرضُوا بـما تكلـم به وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيـي ويـميت وهو الذي يخـلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، إذ جعلت لها نصيبـا، فنـحن معك قالا: فلـما أمسى أتاه جبرائيـل علـيهما السلام فعرض علـيه السورة فلـما بلغ الكلـمتـين اللتـين ألقـى الشيطان علـيه قال: ما جئتك بهاتـين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " افْتَرَيْتُ عَلـى اللَّهِ وقُلْتُ عَلـى اللَّهِ ما لَمْ يَقُلْ " فأوحى الله إلـيه:
{ وَإنْ كادُوا لَـيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أوْحَيْنا إلَـيْكَ، لِتَفْتَرِيَ عَلَـيْنا غَيْرَهُ... }
إلـى قوله:
{ ثُمَّ لا تَـجِدُ لَكَ عَلَـيْنا نَصِيراً }
فما زال مغموماً مهموماً حتـى نزلت علـيه: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِـيَ إلاَّ إذَا تَـمَنَّى ألْقَـى الشَّيْطانُ فِـي أُمْنِـيَّتهِ فَـيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقِـي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلـيـمٌ حَكِيـمٌ }. قال: فسمع من كان من الـمهاجرين بأرض الـحبشة أن أهل مكة قد أسلـموا كلهم، فرجعوا إلـى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلـينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقـى الشيطان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد الـمدنـيّ، عن مـحمد بن كعب القُرظيّ قال: لـما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولِّـيَ قومه عنه، وشقّ علـيه ما يرى من مبـاعدتهم ما جاءهم به من عند الله، تـمنى فـي نفسه أن يأتـيه من الله ما يقارب به بـينه وبـين قومه. وكان يسرّه، مع حبه وحرصه علـيهم، أن يـلـين له بعض ما غلُظَ علـيه من أمرهم، حين حدّث بذلك نفسه وتـمنى وأحبه، فأنزل الله: { والنَّـجْمِ إذَا هَوَى ما ضَلَّ صَاحبُكُمْ وَما غَوَى }
فلـما انتهى إلـى قول الله:
{ أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى }
ألقـى الشيطان علـى لسانه، لـما كان يحدّث به نفسه ويتـمنى أن يأتـي به قومه: «تلك الغرانـيق العلَـى، وإن شفـاعتهن تُرْتَضى». فلـما سمعت ذلك قريش فرحوا وسرّهم، وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاخوا له، والـمؤمنون مصدّقون نبـيهم فـيـما جاءهم به عن ربهم، ولا يتهمونه علـى خط ولا وَهَم ولا زلل. فلـما انتهى إلـى السجدة منها وختـم السورة، سجد فـيها، فسجد الـمسلـمون بسجود نبـيهم، تصديقاً لـما جاء به واتبـاعاً لأمره، وسجد من فـي الـمسجد من الـمشركين من قريش وغيرهم لـما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلـم يبق فـي الـمسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الولـيد بن الـمغيرة، فإنه كان شيخاً كبـيراً فلـم يستطع، فأخذ بـيده حفنة من البطحاء فسجد علـيها. ثم تفرّق الناس من الـمسجد، وخرجت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم، يقولون: قد ذكر مـحمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقد زعم فـيـما يتلو أنها الغرانـيق العُلَـي وأن شفـاعتهنّ ترتضى وبلغت السجدة من بأرض الـحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقـيـل: أسلـمت قريش. فنهضت منهم رجال، وتـخـلَّف آخرون. وأتـى جبرائيـل النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا مـحمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت علـى الناس ما لـم آتك به عن الله، وقلت ما لـم يُقَلْ لك فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، وخاف من الله خوفـاً كبـيراً، فأنزل الله تبـارك وتعالـى علـيه { وكانَ بِهِ رَحِيـماً } يعزّيه ويخفِّض علـيه الأمر ويخبره أنه لـم يكن قبله رسول ولا نبـيّ تـمنى كما تـمنى ولا أحبّ كما أحبّ إلا والشيطان قد ألقـى فـي أمنـيته كما ألقـى علـى لسانه صلى الله عليه وسلم، فنسخ الله ما ألقـى الشيطان وأحكم آياته، أي فأنت كبعض الأنبـياء والرسل فأنزل الله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ إلاَّ إذَا تَـمَنَّى ألْقَـى الشَّيْطانُ فِـي أُمِنـيَّتِهِ }... الآية. فأذهب الله عن نبـيه الـحزن، وأمنه من الذي كان يخاف، ونسخ ما ألقـى الشيطان علـى لسانه من ذكر آلهتهم أَنهّا الغرانـيق العُلَـى وأن شفـاعتهنّ ترتضى. يقول الله حين ذكر اللات والعُزّى ومناة الثالثة الأخرى، إلـى قوله:
{ وكَمْ منْ مَلَكٍ فِـي السَّمَوَاتِ لا تُغْنى شَفـاعَتُهُمْ شَيْئاً إلاَّ مِنْ بَعْدِ أنْ يَأْذَنَ اللَّهِ لـمَنْ يَشاءُ وَيَرْضَى }
، أي فكيف تنفع شفـاعة آلهتكم عنده. فلـما جاءه من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقـى علـى لسان نبـيه، قالت قريش: ندم مـحمد علـى ما كان من منزلة آلهتكم عند الله، فغير ذلك وجاء بغيره وكان ذلك الـحرفـان اللذان ألقـى الشيطان علـى لسان رسوله قد وقعا فـي فم كل مشرك، فـازدادوا شرّا إلـى ما كانوا علـيه.
حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا الـمعتـمر، قال: سمعت داود، عن أبـي العالـية، قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنـما جلساؤك عبد بنـي فلان ومولـى بنـي فلان، فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك، فإنه يأتـيك أشراف العرب فإذا رأوا جلساءك أشراف قومك كان أرغب لهم فـيك قال: فألقـى الشيطان فـي أمنـيته، فنزلت هذه الآية:
{ أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى }
قال: فأجرى الشيطان علـى لسانه: «تلك الغرانـيق العُلَـى، وشفـاعتهن ترجى، مثلهن لا يُنسى». قال: فسجد النبـيّ صلى الله عليه وسلم حين قرأها، وسجد معه الـمسلـمون والـمشركون. فلـما علـم الذي أُجْرِي علـى لسانه، كبر ذلك علـيه، فأنزل الله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ إلاَّ إذَا تَـمَنَّى ألْقَـى الشَّيْطانُ فِـي أُمْنِـيَّتِهِ }... إلـى قوله: { وَاللَّهُ عَلِـيـمٌ حَكِيـمٌ }.
حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا أبو الولـيد، قال: ثنا حماد بن سلـمة، عن داود بن أبـي هند، عن أبـي العالـية قال: قالت قريش: يا مـحمد إنـما يجالسك الفقراء والـمساكين وضعفـاء الناس، فلو ذكرت آلهتنا بخير لـجالسناك فإن الناس يأتونك من الآفـاق فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النـجم فلـما انتهى علـى هذه الآية:
{ أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى }
فألقـى الشيطان علـى لسانه: «وهي الغرانقة العلـى، وشفـاعتهن ترتـجى». فلـما فرغ منها سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمسلـمون والـمشركون، إلا أبـا أُحَيحة سعيد بن العاص، أخذ كفًّـا من تراب وسجد علـيه وقال: قد آن لابن أبـي كبشة أن يذكر آلهتنا بخير حتـى بلغ الذين بـالـحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الـمسلـمين أن قريشا قد أسلـمت، فـاشتدّ علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ألقـى الشيطان علـى لسانه، فأنزل الله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ }... إلـى آخر الآية.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جُبـير، قال: لـما نزلت هذه الآية:
{ أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى }
قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «تلك الغرانـيق العلـى، وإن شفـاعتهنّ لترتـجى». فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الـمشركون: إنه لـم يذكر آلهتكم قبل الـيوم بخير فسجد الـمشركون معه، فأنزل الله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ إلاَّ إذَا تَـمَنَّى ألْقَـى الشَّيْطانُ فِـي أُمْنِـيَّتِهِ }... إلـى قوله: { عَذَابَ يَوْمٍ عَقِـيـم }.
حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنـي عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جُبـير قال: لـما نزلت:
{ أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى }
، ثم ذكر نـحوه.
حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ إلاَّ إذَا تَـمَنَّى ألْقَـى الشَّيْطانُ فِـي أُمْنِـيَّتِهِ } إلـى قوله: { وَاللَّهُ عَلِـيـمٌ حَكِيـمٌ } وذلك أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بـينـما هو يصلـي، إذ نزلت علـيه قصة آلهة العرب، فجعل يتلوها فسمعه الـمشركون فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنَوا منه، فبـينـما هو يتلوها وهو يقول: أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى }
ألقـى الشيطان: «إن تلك الغرانـيق العلـى، منها الشفـاعة ترتـجى». فجعل يتلوها، فنزل جبرائيـل علـيه السلام فنسخها، ثم قال له: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ إلاَّ إذَا تَـمَنَّى ألْقَـى الشَّيْطانُ فِـي أُمْنِـيَّتِهِ }... إلـى قوله: { وَاللَّهُ عَلِـيـمٌ حَكِيـمٌ }.
حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيَ }... الآية أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو بـمكة، أنزل الله علـيه فـي آلهة العرب، فجعل يتلو اللات والعزّى ويكثر ترديدها. فسمع أهل مكة نبـيّ الله يذكر آلهتهم، ففرحوا بذلك، ودنوا يستـمعون، فألقـى الشيطان فـي تلاوة النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «تلك الغرانـيق العلـى، منها الشفـاعة ترتـجى». فقرأها النبـيّ صلى الله عليه وسلم كذلك، فأنزل الله علـيه: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ }... إلـى: { وَاللَّهُ عَلِـيـمٌ حَكِيـمٌ }.
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس، عن ابن شهاب، أنه سئل عن قوله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِـيّ }... الآية، قال ابن شهاب: ثنـي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الـحارث. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بـمكة قرأ علـيهم: { والنَّـجْمِ إذَا هَوَى } ، فلـما بلغ: { أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى } قال: «إن شفـاعتهن ترتـجَى». وسها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلقـيه الـمشركون الذين فـي قلوبهم مرض، فسلـموا علـيه، وفرحوا بذلك، فقال لهم: «إنَّـمَا ذلكَ مِنَ الشَّيْطانِ». فأنزل الله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ }... حتـى بلغ: { فَـيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقِـي الشَّيْطانُ }.
فتأويـل الكلام: ولـم يرسل يا مـحمد مَنْ قَبْلك من رسول إلـى أمة من الأمـم ولا نبـيّ مـحدّث لـيس بـمرسل، إلا إذا تـمنى.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله «تـمنى» فـي هذا الـموضع، وقد ذكرت قول جماعة مـمن قال: ذلك التـمنـي من النبـيّ صلى الله عليه وسلم ما حدثته نفسه من مـحبته مقاربة قومه فـي ذكر آلهتهم ببعض ما يحبون، ومن قال ذلك مـحبة منه فـي بعض الأحوال أن لا تذكر بسوء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا قرأ وتلا أو حدّث. ذكر من قال ذلك:
حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: { إذَا تَـمنَّى ألْقَـى الشَّيْطانُ فِـي أُمْنِـيَّتِهِ } يقول: إذا حدّث ألقـى الشيطان فـي حديثه.
حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { إذَا تَـمَنَّى } قال: إذا قال.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، مثله.
حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { إلاَّ إذَا تَـمَنَّى } يعنـي بـالتـمنـي: التلاوة والقراءة.
وهذا القول أشبه بتأويـل الكلام، بدلالة قوله: { فَـيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقـي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ } علـى ذلك لأن الآيات التـي أخبر الله جلّ ثناؤه أنه يحكمها، لا شك أنها آيات تنزيـله، فمعلوم أن الذي ألقـي فـيه الشيطان هو ما أخبر الله تعالـى ذكره أنه نسخ ذلك منه وأبطله ثم أحكمه بنسخه ذلك منه.
فتأويـل الكلام إذن: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبـيّ إلا إذا تلا كتاب الله، وقرأ، أو حدّث وتكلـم، وألقـى الشيطان فـي كتاب الله الذي تلاه وقرأه أو فـي حديثه الذي حدث وتكلـم. { فَـيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقِـي الشَّيْطانُ } يقول: تعالـى فـيذهب الله ما يـلقـي الشيطان من ذلك علـى لسان نبـيه ويبطله. كما:
حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس: { فَـيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقِـي الشَّيْطانُ } فـيبطل الله ما ألقـى الشيطان.
حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { فَـيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقِـي الشَّيْطانُ } نسخ جبريـل بأمر الله ما ألقـى الشيطان علـى لسان النبـيّ صلى الله عليه وسلم، وأحكم الله آياته.
وقوله: { ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ } يقول: ثم يخـلص الله آيات كتابه من البـاطل الذي ألقـى الشيطان علـى لسان نبـيه. { وَاللَّهُ عَلِـيـمٌ } بـما يحدث فـي خـلقه من حدث، لا يخفـى علـيه منه شيء. { حَكِيـمٌ } فـي تدبـيره إياهم وصرفه لهم فـيـما شاء وأحَبّ.".
فالواضح أن الطبري اعتمد مجمل الروايات وتبناها بالمطلق ولم يردها.
2 - ابن كثير في تفسيره المسمى " تفسير القرآن الكريم "
نجده بعد أن عمد إلى تضعيف الروايات المتعلقة بقصة الغرانيق أشار إلى أن القاضي عياض صحح القصة.
" وقد تعرض القاضي عياض رحمه الله في كتاب الشفاء لهذا، وأجاب بما حاصله أنها كذلك؛ لثبوتها. وقوله: { إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَـٰنُ فِىۤ أُمْنِيَّتِهِ } هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، أي: لا يهيدنك ذلك، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء. قال البخاري: قال ابن عباس: { فِىۤ أُمْنِيَّتِهِ }: إذا حدث، ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان، { ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ ءَايَـٰتِهِ }. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَـٰنُ فِىۤ أُمْنِيَّتِهِ } يقول: إذا حدث، ألقى الشيطان في حديثه. وقال مجاهد: { إِذَا تَمَنَّىٰ } يعني: إذا قال، ويقال: أمنيته: قراءته ".
3 - البغوي في تفسيره المسمى معالم التنزيل.
" قوله عزّ وجل: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَـٰنُ فِىۤ أُمْنِيَّتِهِ } الآية. قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم توليَ قومه عنه وشقّ عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تمنّى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم، فكان يوماً في مجلس لقريش فأنزل الله تعالى سورة " النجم " فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) ألقى الشيطان على لسانه بما كان يحدِّث به نفسه ويتمناه: " تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهم لتُرتَجى " ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته، فقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده، وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلاَّ سجد إلاَّ الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص، فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها، لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود. وتفرقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعل لها نصيباً فنحن معه، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عزّ وجلّ! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً كثيراً فأنزل الله هذه الآية يعزيه، وكان به رحيماً، وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش. وقيل: أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم، وقالوا: هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً فلم يدخل أحد إلا بجوار أو مستخفياً، فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغيَّر ذلك. وكان الحرفان اللذان ألقىٰ الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شراً إلى ما كانوا عليه، وشدةً على من أسلم.
قال الله تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ } وهو الذي يأتيه جبريل بالوحي عياناً، { وَلا َنَبِىٍّ } ، وهو الذي تكون نبوته إلهاماً أو مناماً، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً.
إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ } ، قال بعضهم: أي: أحب شيئاً واشتهاه وحدّث به نفسه مما لم يؤمر به. " ألقى الشيطان في أمنيته " أي مراده.
وعن ابن عباس قال: إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلاً، وما من نبي إلا تمنى أن يؤمن به قومه ولم يتمنَّ ذلك نبي إلا ألقىٰ الشيطان عليه ما يرضى به قومه، فينسخ الله ما يلقي الشيطان.
وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: (تمنى) أي: تلا وقرأ كتاب الله تعالى. " ألقى الشيطان في أمنيته " أي: في تلاوته، قال الشاعر في عثمان حين قتل:
تَمَنَّىٰ كتابَ اللهِ أوّلَ ليلةٍوآخِرَهَا لاقَىٰ حِمَامَ المَقادِرِواختلفوا في أنه هل كان يقرأ في الصلاة أو في غير الصلاة؟ فقال قوم: كان يقرأ في الصلاة. وقال قوم: كان يقرأ في غير الصلاة. فإن قيل كيف يجوز الغلط في التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان معصوماً من الغلط في أصل الدين، وقال جلّ ذكره في القرآن:
{ لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }
[فصلت: 42] يعني إبليس؟
قيل: قد اختلف الناس في الجواب عنه فقال بعضهم: إن رسول صلى الله عليه وسلم لم يقرأ، ولكن الشيطان ذكر ذلك بين قراءته، فظن المشركون أن الرسول قرأه.
وقال قتادة: أغفىٰ النبي صلى الله عليه وسلم إغفاءةً فجرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان ولم يكن له خبر.
والأكثرون قالوا: جرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو والنسيان ولم يلبث أن نبهه الله عليه.
وقيل: إن شيطاناً يقال له الأبيض عمل هذا العمل، وكان ذلك فتنة ومحنة من الله تعالى والله تعالى يمتحن عباده بما يشاء.
{ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِى ٱلشَّيْطَـٰنُ } ، أي: يُبطله ويذهبه، { ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ ءَايَـٰتِهِ } ، فيثبتها، { وَٱلله عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى ٱلشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي: محنة وبلية، شك ونفاق، { وَٱلْقَاسِيَةِ } ، يعني الجافية، { قُلُوبُهُمْ } ، عن قبول الحق وهم المشركون، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك، ثم نُسخ ورفع فازدادوا عُتواً، وظنوا أن محمداً يقوله من تلقاء نفسه ثم يندم فيبطل، { وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ } ، المشركين { لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي: في خلاف شديد."
هو أيضا قائل بالقصة مع إثبات أن التلاوة كانت من فيه الرسول عليه الصلاة وعلى آله.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
للموضوع تتمة.
والسلام.
اللهم صل على محمد وآل محمد الأطهار.
أحببت أن أشارك بهذا الموضوع على هامش بحث قصة الغرانيق ونعاين من من علماء السنة صحح قصة الغرانيق,
1 - مع الطبري في تفسيره المسمى " جامع البيان في تفسير القرآن "
" وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " سورة الحج الآية 52.
نجده يفسرها بتوسط روايات كثيرة كلها تؤيد صدق واقعة الغرانيق:
" قـيـل: إن السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الشيطان كان ألقـى علـى لسانه فـي بعض ما يتلوه مـما أنزل الله علـيه من القرآن ما لـم ينزله الله علـيه، فـاشتدّ ذلك علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم واغتـمّ به، فسلاّه الله مـما به من ذلك بهذه الآيات. ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا حجاج، عن أبـي معشر، عن محمد بن كعب القُرَظيّ ومـحمد بن قـيس قالا: «جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي ناد من أندية قريش كثـير أهله، فتـمنى يومئذ أن لا يأتـيه من الله شيء فـينفروا عنه، فأنزل الله علـيه:
{ والنَّـجْمِ إذَا هَوَى ما ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَما غَوَى }
فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتـى إذا بلغ:
{ أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى وَمَناةَ الثالِثَةَ الأُخْرَى }
ألقـى علـيه الشيطان كلـمتـين: «تلك الغرانقة العُلَـى، وإن شفـاعتهنّ لتُرْجَى»، فتكلـم بها. ثم مضى فقرأ السورة كلها. فسجد فـي آخر السورة، وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الولـيد بن الـمغيرة ترابـاً إلـى جبهته فسجد علـيه، وكان شيخا كبـيرا لا يقدر علـى السجود. فرضُوا بـما تكلـم به وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيـي ويـميت وهو الذي يخـلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، إذ جعلت لها نصيبـا، فنـحن معك قالا: فلـما أمسى أتاه جبرائيـل علـيهما السلام فعرض علـيه السورة فلـما بلغ الكلـمتـين اللتـين ألقـى الشيطان علـيه قال: ما جئتك بهاتـين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " افْتَرَيْتُ عَلـى اللَّهِ وقُلْتُ عَلـى اللَّهِ ما لَمْ يَقُلْ " فأوحى الله إلـيه:
{ وَإنْ كادُوا لَـيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أوْحَيْنا إلَـيْكَ، لِتَفْتَرِيَ عَلَـيْنا غَيْرَهُ... }
إلـى قوله:
{ ثُمَّ لا تَـجِدُ لَكَ عَلَـيْنا نَصِيراً }
فما زال مغموماً مهموماً حتـى نزلت علـيه: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِـيَ إلاَّ إذَا تَـمَنَّى ألْقَـى الشَّيْطانُ فِـي أُمْنِـيَّتهِ فَـيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقِـي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلـيـمٌ حَكِيـمٌ }. قال: فسمع من كان من الـمهاجرين بأرض الـحبشة أن أهل مكة قد أسلـموا كلهم، فرجعوا إلـى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلـينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقـى الشيطان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد الـمدنـيّ، عن مـحمد بن كعب القُرظيّ قال: لـما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولِّـيَ قومه عنه، وشقّ علـيه ما يرى من مبـاعدتهم ما جاءهم به من عند الله، تـمنى فـي نفسه أن يأتـيه من الله ما يقارب به بـينه وبـين قومه. وكان يسرّه، مع حبه وحرصه علـيهم، أن يـلـين له بعض ما غلُظَ علـيه من أمرهم، حين حدّث بذلك نفسه وتـمنى وأحبه، فأنزل الله: { والنَّـجْمِ إذَا هَوَى ما ضَلَّ صَاحبُكُمْ وَما غَوَى }
فلـما انتهى إلـى قول الله:
{ أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى }
ألقـى الشيطان علـى لسانه، لـما كان يحدّث به نفسه ويتـمنى أن يأتـي به قومه: «تلك الغرانـيق العلَـى، وإن شفـاعتهن تُرْتَضى». فلـما سمعت ذلك قريش فرحوا وسرّهم، وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاخوا له، والـمؤمنون مصدّقون نبـيهم فـيـما جاءهم به عن ربهم، ولا يتهمونه علـى خط ولا وَهَم ولا زلل. فلـما انتهى إلـى السجدة منها وختـم السورة، سجد فـيها، فسجد الـمسلـمون بسجود نبـيهم، تصديقاً لـما جاء به واتبـاعاً لأمره، وسجد من فـي الـمسجد من الـمشركين من قريش وغيرهم لـما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلـم يبق فـي الـمسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الولـيد بن الـمغيرة، فإنه كان شيخاً كبـيراً فلـم يستطع، فأخذ بـيده حفنة من البطحاء فسجد علـيها. ثم تفرّق الناس من الـمسجد، وخرجت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم، يقولون: قد ذكر مـحمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقد زعم فـيـما يتلو أنها الغرانـيق العُلَـي وأن شفـاعتهنّ ترتضى وبلغت السجدة من بأرض الـحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقـيـل: أسلـمت قريش. فنهضت منهم رجال، وتـخـلَّف آخرون. وأتـى جبرائيـل النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا مـحمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت علـى الناس ما لـم آتك به عن الله، وقلت ما لـم يُقَلْ لك فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، وخاف من الله خوفـاً كبـيراً، فأنزل الله تبـارك وتعالـى علـيه { وكانَ بِهِ رَحِيـماً } يعزّيه ويخفِّض علـيه الأمر ويخبره أنه لـم يكن قبله رسول ولا نبـيّ تـمنى كما تـمنى ولا أحبّ كما أحبّ إلا والشيطان قد ألقـى فـي أمنـيته كما ألقـى علـى لسانه صلى الله عليه وسلم، فنسخ الله ما ألقـى الشيطان وأحكم آياته، أي فأنت كبعض الأنبـياء والرسل فأنزل الله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ إلاَّ إذَا تَـمَنَّى ألْقَـى الشَّيْطانُ فِـي أُمِنـيَّتِهِ }... الآية. فأذهب الله عن نبـيه الـحزن، وأمنه من الذي كان يخاف، ونسخ ما ألقـى الشيطان علـى لسانه من ذكر آلهتهم أَنهّا الغرانـيق العُلَـى وأن شفـاعتهنّ ترتضى. يقول الله حين ذكر اللات والعُزّى ومناة الثالثة الأخرى، إلـى قوله:
{ وكَمْ منْ مَلَكٍ فِـي السَّمَوَاتِ لا تُغْنى شَفـاعَتُهُمْ شَيْئاً إلاَّ مِنْ بَعْدِ أنْ يَأْذَنَ اللَّهِ لـمَنْ يَشاءُ وَيَرْضَى }
، أي فكيف تنفع شفـاعة آلهتكم عنده. فلـما جاءه من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقـى علـى لسان نبـيه، قالت قريش: ندم مـحمد علـى ما كان من منزلة آلهتكم عند الله، فغير ذلك وجاء بغيره وكان ذلك الـحرفـان اللذان ألقـى الشيطان علـى لسان رسوله قد وقعا فـي فم كل مشرك، فـازدادوا شرّا إلـى ما كانوا علـيه.
حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا الـمعتـمر، قال: سمعت داود، عن أبـي العالـية، قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنـما جلساؤك عبد بنـي فلان ومولـى بنـي فلان، فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك، فإنه يأتـيك أشراف العرب فإذا رأوا جلساءك أشراف قومك كان أرغب لهم فـيك قال: فألقـى الشيطان فـي أمنـيته، فنزلت هذه الآية:
{ أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى }
قال: فأجرى الشيطان علـى لسانه: «تلك الغرانـيق العُلَـى، وشفـاعتهن ترجى، مثلهن لا يُنسى». قال: فسجد النبـيّ صلى الله عليه وسلم حين قرأها، وسجد معه الـمسلـمون والـمشركون. فلـما علـم الذي أُجْرِي علـى لسانه، كبر ذلك علـيه، فأنزل الله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ إلاَّ إذَا تَـمَنَّى ألْقَـى الشَّيْطانُ فِـي أُمْنِـيَّتِهِ }... إلـى قوله: { وَاللَّهُ عَلِـيـمٌ حَكِيـمٌ }.
حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا أبو الولـيد، قال: ثنا حماد بن سلـمة، عن داود بن أبـي هند، عن أبـي العالـية قال: قالت قريش: يا مـحمد إنـما يجالسك الفقراء والـمساكين وضعفـاء الناس، فلو ذكرت آلهتنا بخير لـجالسناك فإن الناس يأتونك من الآفـاق فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النـجم فلـما انتهى علـى هذه الآية:
{ أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى }
فألقـى الشيطان علـى لسانه: «وهي الغرانقة العلـى، وشفـاعتهن ترتـجى». فلـما فرغ منها سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمسلـمون والـمشركون، إلا أبـا أُحَيحة سعيد بن العاص، أخذ كفًّـا من تراب وسجد علـيه وقال: قد آن لابن أبـي كبشة أن يذكر آلهتنا بخير حتـى بلغ الذين بـالـحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الـمسلـمين أن قريشا قد أسلـمت، فـاشتدّ علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ألقـى الشيطان علـى لسانه، فأنزل الله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ }... إلـى آخر الآية.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جُبـير، قال: لـما نزلت هذه الآية:
{ أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى }
قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «تلك الغرانـيق العلـى، وإن شفـاعتهنّ لترتـجى». فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الـمشركون: إنه لـم يذكر آلهتكم قبل الـيوم بخير فسجد الـمشركون معه، فأنزل الله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ إلاَّ إذَا تَـمَنَّى ألْقَـى الشَّيْطانُ فِـي أُمْنِـيَّتِهِ }... إلـى قوله: { عَذَابَ يَوْمٍ عَقِـيـم }.
حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنـي عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جُبـير قال: لـما نزلت:
{ أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى }
، ثم ذكر نـحوه.
حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ إلاَّ إذَا تَـمَنَّى ألْقَـى الشَّيْطانُ فِـي أُمْنِـيَّتِهِ } إلـى قوله: { وَاللَّهُ عَلِـيـمٌ حَكِيـمٌ } وذلك أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بـينـما هو يصلـي، إذ نزلت علـيه قصة آلهة العرب، فجعل يتلوها فسمعه الـمشركون فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنَوا منه، فبـينـما هو يتلوها وهو يقول: أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى }
ألقـى الشيطان: «إن تلك الغرانـيق العلـى، منها الشفـاعة ترتـجى». فجعل يتلوها، فنزل جبرائيـل علـيه السلام فنسخها، ثم قال له: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ إلاَّ إذَا تَـمَنَّى ألْقَـى الشَّيْطانُ فِـي أُمْنِـيَّتِهِ }... إلـى قوله: { وَاللَّهُ عَلِـيـمٌ حَكِيـمٌ }.
حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيَ }... الآية أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو بـمكة، أنزل الله علـيه فـي آلهة العرب، فجعل يتلو اللات والعزّى ويكثر ترديدها. فسمع أهل مكة نبـيّ الله يذكر آلهتهم، ففرحوا بذلك، ودنوا يستـمعون، فألقـى الشيطان فـي تلاوة النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «تلك الغرانـيق العلـى، منها الشفـاعة ترتـجى». فقرأها النبـيّ صلى الله عليه وسلم كذلك، فأنزل الله علـيه: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ }... إلـى: { وَاللَّهُ عَلِـيـمٌ حَكِيـمٌ }.
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس، عن ابن شهاب، أنه سئل عن قوله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِـيّ }... الآية، قال ابن شهاب: ثنـي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الـحارث. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بـمكة قرأ علـيهم: { والنَّـجْمِ إذَا هَوَى } ، فلـما بلغ: { أفَرأيْتُـمُ اللاَّتَ والعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى } قال: «إن شفـاعتهن ترتـجَى». وسها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلقـيه الـمشركون الذين فـي قلوبهم مرض، فسلـموا علـيه، وفرحوا بذلك، فقال لهم: «إنَّـمَا ذلكَ مِنَ الشَّيْطانِ». فأنزل الله: { وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ }... حتـى بلغ: { فَـيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقِـي الشَّيْطانُ }.
فتأويـل الكلام: ولـم يرسل يا مـحمد مَنْ قَبْلك من رسول إلـى أمة من الأمـم ولا نبـيّ مـحدّث لـيس بـمرسل، إلا إذا تـمنى.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله «تـمنى» فـي هذا الـموضع، وقد ذكرت قول جماعة مـمن قال: ذلك التـمنـي من النبـيّ صلى الله عليه وسلم ما حدثته نفسه من مـحبته مقاربة قومه فـي ذكر آلهتهم ببعض ما يحبون، ومن قال ذلك مـحبة منه فـي بعض الأحوال أن لا تذكر بسوء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا قرأ وتلا أو حدّث. ذكر من قال ذلك:
حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: { إذَا تَـمنَّى ألْقَـى الشَّيْطانُ فِـي أُمْنِـيَّتِهِ } يقول: إذا حدّث ألقـى الشيطان فـي حديثه.
حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { إذَا تَـمَنَّى } قال: إذا قال.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، مثله.
حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { إلاَّ إذَا تَـمَنَّى } يعنـي بـالتـمنـي: التلاوة والقراءة.
وهذا القول أشبه بتأويـل الكلام، بدلالة قوله: { فَـيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقـي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ } علـى ذلك لأن الآيات التـي أخبر الله جلّ ثناؤه أنه يحكمها، لا شك أنها آيات تنزيـله، فمعلوم أن الذي ألقـي فـيه الشيطان هو ما أخبر الله تعالـى ذكره أنه نسخ ذلك منه وأبطله ثم أحكمه بنسخه ذلك منه.
فتأويـل الكلام إذن: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبـيّ إلا إذا تلا كتاب الله، وقرأ، أو حدّث وتكلـم، وألقـى الشيطان فـي كتاب الله الذي تلاه وقرأه أو فـي حديثه الذي حدث وتكلـم. { فَـيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقِـي الشَّيْطانُ } يقول: تعالـى فـيذهب الله ما يـلقـي الشيطان من ذلك علـى لسان نبـيه ويبطله. كما:
حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس: { فَـيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقِـي الشَّيْطانُ } فـيبطل الله ما ألقـى الشيطان.
حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { فَـيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقِـي الشَّيْطانُ } نسخ جبريـل بأمر الله ما ألقـى الشيطان علـى لسان النبـيّ صلى الله عليه وسلم، وأحكم الله آياته.
وقوله: { ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ } يقول: ثم يخـلص الله آيات كتابه من البـاطل الذي ألقـى الشيطان علـى لسان نبـيه. { وَاللَّهُ عَلِـيـمٌ } بـما يحدث فـي خـلقه من حدث، لا يخفـى علـيه منه شيء. { حَكِيـمٌ } فـي تدبـيره إياهم وصرفه لهم فـيـما شاء وأحَبّ.".
فالواضح أن الطبري اعتمد مجمل الروايات وتبناها بالمطلق ولم يردها.
2 - ابن كثير في تفسيره المسمى " تفسير القرآن الكريم "
نجده بعد أن عمد إلى تضعيف الروايات المتعلقة بقصة الغرانيق أشار إلى أن القاضي عياض صحح القصة.
" وقد تعرض القاضي عياض رحمه الله في كتاب الشفاء لهذا، وأجاب بما حاصله أنها كذلك؛ لثبوتها. وقوله: { إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَـٰنُ فِىۤ أُمْنِيَّتِهِ } هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، أي: لا يهيدنك ذلك، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء. قال البخاري: قال ابن عباس: { فِىۤ أُمْنِيَّتِهِ }: إذا حدث، ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان، { ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ ءَايَـٰتِهِ }. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَـٰنُ فِىۤ أُمْنِيَّتِهِ } يقول: إذا حدث، ألقى الشيطان في حديثه. وقال مجاهد: { إِذَا تَمَنَّىٰ } يعني: إذا قال، ويقال: أمنيته: قراءته ".
3 - البغوي في تفسيره المسمى معالم التنزيل.
" قوله عزّ وجل: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَـٰنُ فِىۤ أُمْنِيَّتِهِ } الآية. قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم توليَ قومه عنه وشقّ عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تمنّى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم، فكان يوماً في مجلس لقريش فأنزل الله تعالى سورة " النجم " فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) ألقى الشيطان على لسانه بما كان يحدِّث به نفسه ويتمناه: " تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهم لتُرتَجى " ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته، فقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده، وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلاَّ سجد إلاَّ الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص، فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها، لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود. وتفرقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعل لها نصيباً فنحن معه، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عزّ وجلّ! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً كثيراً فأنزل الله هذه الآية يعزيه، وكان به رحيماً، وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش. وقيل: أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم، وقالوا: هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً فلم يدخل أحد إلا بجوار أو مستخفياً، فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغيَّر ذلك. وكان الحرفان اللذان ألقىٰ الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شراً إلى ما كانوا عليه، وشدةً على من أسلم.
قال الله تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ } وهو الذي يأتيه جبريل بالوحي عياناً، { وَلا َنَبِىٍّ } ، وهو الذي تكون نبوته إلهاماً أو مناماً، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً.
إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ } ، قال بعضهم: أي: أحب شيئاً واشتهاه وحدّث به نفسه مما لم يؤمر به. " ألقى الشيطان في أمنيته " أي مراده.
وعن ابن عباس قال: إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلاً، وما من نبي إلا تمنى أن يؤمن به قومه ولم يتمنَّ ذلك نبي إلا ألقىٰ الشيطان عليه ما يرضى به قومه، فينسخ الله ما يلقي الشيطان.
وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: (تمنى) أي: تلا وقرأ كتاب الله تعالى. " ألقى الشيطان في أمنيته " أي: في تلاوته، قال الشاعر في عثمان حين قتل:
تَمَنَّىٰ كتابَ اللهِ أوّلَ ليلةٍوآخِرَهَا لاقَىٰ حِمَامَ المَقادِرِواختلفوا في أنه هل كان يقرأ في الصلاة أو في غير الصلاة؟ فقال قوم: كان يقرأ في الصلاة. وقال قوم: كان يقرأ في غير الصلاة. فإن قيل كيف يجوز الغلط في التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان معصوماً من الغلط في أصل الدين، وقال جلّ ذكره في القرآن:
{ لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }
[فصلت: 42] يعني إبليس؟
قيل: قد اختلف الناس في الجواب عنه فقال بعضهم: إن رسول صلى الله عليه وسلم لم يقرأ، ولكن الشيطان ذكر ذلك بين قراءته، فظن المشركون أن الرسول قرأه.
وقال قتادة: أغفىٰ النبي صلى الله عليه وسلم إغفاءةً فجرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان ولم يكن له خبر.
والأكثرون قالوا: جرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو والنسيان ولم يلبث أن نبهه الله عليه.
وقيل: إن شيطاناً يقال له الأبيض عمل هذا العمل، وكان ذلك فتنة ومحنة من الله تعالى والله تعالى يمتحن عباده بما يشاء.
{ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِى ٱلشَّيْطَـٰنُ } ، أي: يُبطله ويذهبه، { ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ ءَايَـٰتِهِ } ، فيثبتها، { وَٱلله عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى ٱلشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي: محنة وبلية، شك ونفاق، { وَٱلْقَاسِيَةِ } ، يعني الجافية، { قُلُوبُهُمْ } ، عن قبول الحق وهم المشركون، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك، ثم نُسخ ورفع فازدادوا عُتواً، وظنوا أن محمداً يقوله من تلقاء نفسه ثم يندم فيبطل، { وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ } ، المشركين { لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي: في خلاف شديد."
هو أيضا قائل بالقصة مع إثبات أن التلاوة كانت من فيه الرسول عليه الصلاة وعلى آله.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
للموضوع تتمة.
والسلام.
تعليق