انّ الإمام المعصوم هو المنظّم لعالم الإنسانيّة و المجتمع ، لذا يتحتّم أن يكون ذا قوىً متينة و أفكار صائبة و ءاراء قادرة ، ليكون مشرفاً على أعمال الأمة وأفعالها ، و ليسوسها بالتنظيم و العدل .
ولكن هنا سؤال :
أيستطيع الإمام ـ ترى ـ أن يُصلح المجتمع اذا كان نفسه يُخطىء و يُبتلى بالمعصية والإثم شأنه شأن أفراد المجتمع الأخرين ، أو إذا كان مثلهم مُصاباً بالهوس و الشهوة ؟
أوَ يمكنه ءانذاك أن يرفع الإختلاف فيما بينهم ، فيُعطي كلّ ذي حقّ حقّه ، و يقف في وجه الإعتداءات ، و يمنح العيش لجميع أفراد المجتمع ، و يعلّمهم المعارف و الحقائق حسب استعدادهم و حاجتهم ، و يُبيّن لهم موارد الخطأ و الزلل في سلوكهم الى الله و وصولهم الى مقصد الكمال ؟
الجواب
كلاّ و حاشا !
و على هذا فانّ قائد المجتمع و زعيم الناس و إمامهم يجب أن يكون معصوماً عن الإثم و عارياً عن أي خطأ و زلل ، كما ينبغي أن يكون ناظراً الى الأحوال و الأفعال و الخواطر القلبيّة لكلّ واحد من أفراد الأمّة بفكرٍ عميق متّسع ، و صدرٍ منشرح بنور الله ، و قلبٍ مُنّور بالتأييدات الغيبيّة .
على انّ بعض اهل السنة يقول بعصمة الأنبياء ، و بعضهم يقول بمرتبة ضعيفة من عصمتهم ، . الّا انّ الشيعة عموماً يشترطون العصمة للأنبياء بجميع معانيها ، كما يقولون بالعصمة للأئمّة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . وهذا نابع من ان كلا من النبي او الامام مبلغ عن الله فيلزمه العصمة
وعندنا ان الله سبحانه و تعالى يحفظ الأنبياء حتماً من الخطأ و الالتباس في كيفيّة تلقّي الوحي و إبلاغه ، و يطهرّ قلوبهم و يُصفّيها بحيث ينعدم فيها اثر إنزال الوحي أيّ موج أو ارتعاش أو تزلزل يكون باعثاً على قلب و تغيير كيفيّة و واقعيّة الوحي ، و بحيث لا يبقى فيها أيّ أثر للإضطراب أو الإبهام الباعث على تأويل و تفسير الإدراكات الواقعيّة على غير حقيقتها و واقعيّتها . و هذا هو معنى حقيقة العصمة في مرحلتي تلقّي الوحي و إبلاغه . و امّا في مرحلةعدم التبليغ و هي صونهم وعصمتهم عن المعاصي .
نلاحظ انّه لو عصى نبيّ او ارتكب إثماً فانّه سيكون بفعله هذا قد أجاز هذا العمل و أباحه لأمّته ، لأنّ العاقل لا يفعل شيئاً الّا اذا كان حسناً ؛ فاذا ارتكب المعصية في حالٍ يأمرُ فيها قولاً بخلافها ، فانّ ذلك سيبعث على التهافت و التناقض ، و سيكون قد دعا بفعله و قوله الى أمرين متناقضين ، فهو يمنع الناس بقوله و كلامه من ذلك العمل ، ثم يُثبت بفعله له إباحة ذلك العمل و يرخّص لأمّته فيه .
و من المعلوم انّ الدعوة الى المتناقضين ليست دعوةً للحقّ ، لأن ذينك المتناقضين سيبطل أحدهما الأخر ؛ و الله سبحانه الذي يبعث الأنبياء للدعوة الى الحقّ لا يجعلهم دعاةً الى الأمور المتناقضة ، بل يصونهم عن فعل غير الحقّ و عن اي معصية ، لأنّ عصمة الأنبياء في إبلاغ الرسالات وأداء وحيهم كما ينبغي سوف لن تكون تامّة بدون العصمة عن مقام المعصية ؛
كما ان الإمام ـ و هو الحافظ للشريعة و المبيّن للأحكام و الحارس للقانون بالنسبة للأمّة ـ حائز على مقام قلب النبيّ و إدراكه ، و لا فرق بينه وبين النبيّ من وجهة النظر هذه ، الّا انّ النبيّ هو الذي يأتي بالشريعة والكتاب ، و الإمام هو الذي يقوم بإبلاغها و المحافظة عليها .
و الأدلّة التي تفيد في اثبات عصمة الأنبياء واردة بعينها في اثبات عصمة الإمام .
روى الحجّة الكليني في كتاب (الكافي) ، عن عليّ بن ابراهيم ، عن والده ، عن حسن بن ابراهيم ، عن يونس بن يعقوب قال : كان عند أبي عبدالله (الصادق) عليه السلام جماعةٌ من أصحابه منهم حُمران بن أعين ومحمّد بن النّعمان و هِشام بن سالم و الطّيار و جماعةٌ فيهم هِشام بن الحَكَم و هو شابّ ، فقال أبوعبدالله عليه السّلام : يا هشام ! ألا تخبرني كيفَ صنعتَ بعمرو بن عبيدٍ ؟
فقال هِشام : يا ابن رسول الله إنّي أُجِلّك و أستحييك و لا يعمل لساني بين يديك . فقال أبو عبدالله : إذا أمرتُكم بشيءٍ فافعلوا .
قال هشام : بَلَغني ما كان فيه عمرو بن عبيدٍ و جلوسُه في مسجد البصرة ، فَعَظُمَ ذلك عليّ ، فخرجتُ اليه و دخلتُ البصرةَ يومَ الجمعة فأتيتُ مسجدَ البصرة ، فاذا أنا بحَلْقَة كبيرة فيها عمرو بن عبيد و عليه شَمْلَةٌ سوداء مُتّزراً بها من صوف ، و شملةٌ مُرتدياً بها ، و الناسُ يسألونه ، فاستفرجتُ الناسَ فأفرجوا لي ، ثمّ قعدتُ في ءاخر القوم على ركبتيّ ثمّ قلتُ : أيهّا العالِمُ ! إنّي رجلٌ غريبٌ تأذنُ لي في مسألة ! فقال لي : نعم !
فقلتُ : أَلَكَ عَيْنٌ ؟
فقال : يا بُنَيّ أيّ شيء هذا من السؤال ، و شيء تراه كيف تسألُ عنه ؟
فقلتُ : هكذا مسألتي .
فقال : يا بُنيّ سَل و إن كانتْ مسألتُك حمقاء .
قلتُ : أَجِبني فيها .
قال لي : سَل !
قلتُ : أَلَكَ عَيْنٌ ؟
قال : نعم .
قلتُ فما تصنعُ بها ؟
قال : أرى بها الألوان و الأشخاص .
قلتُ : فَلَكَ أَنْفٌ ؟
قال : نعم .
قُلتُ : فما تصنعُ به ؟
قال : أشمّ به الرّائحة .
قلتُ : أَلَكَ فمٌ ؟
قال : نعم .
قلتُ : فما تصنعُ به ؟
قال : أذوقُ به الطّعْمَ .
قُلْتُ : فَلَكَ أُذُنٌ ؟
قال : نعم .
قلتُ : فما تصنعُ بها ؟
قال : أسمعُ بها الصّوتَ .
قلتُ : أَلَكَ قَلْبٌ ؟
قال : نعم .
قلتُ : فما تصنعُ به ؟
قال : أُميّزُ به كُلّما وَرَدَ على هذه الجوارح و الحواسّ .
قلتُ : أَوَلَيْسَ في هذه الجوارح غنىً عن القلب ؟
فقال : لا .
قلتُ : و كيف ذلك و هي صحيحةٌ سليمةٌ ؟
قال : يا بُنيّ ! إنّ الجوارح إذا شكّت في شيءٍ شَمّتْهُ أو رأته أو ذاقته أو سمعته رَدّتْهُ الى القلب فَيَسْتَيْقِنُ اليقينَ و يُبْطِلُ الشَكّ .
قال هشام : فقلتُ له : فإنّما أقامَ اللهُ القلبَ لشكّ الجوارح ؟
قال : نعم .
قلتُ : لابُدّ من القلب و إلّا لم تستيقن الجوارحُ ؟
قال : نعم .
فقلتُ له : يا أبا مروان ، فاللهُ تبارك و تعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يُصحّح لها الصحيحَ و يتيقّنُ به ما شُكّ فيه و يَتْرُكُ هذا الخلقَ كلّهم في حَيْرتهم و شكّهم و إختلافهم ، لا يُقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم و حيرتهم و يُقيم لك إماماً لجوارحك تردّ اليه حيرتَك و شكّك ؟! بسم الله الرحمن الرحيم
تعليق