مأساة جسد تردى بفعل الزمن...
يجلس على درجات متربة قرب مقر إحدى الإدارات العمومية...
صورة تعكس الألم النابض القابع في عمق عينيه تتصدر لائحة الصور التي تتواتر على خيالي المجهد كلما أتيت،وكلما هممت بالاقتراب من مكان جلسته، فأستعد لرؤيته، أو بالأحرى لتأمله...و بشره و بعفوية لا متناهية قد لا تشبع كل احتياجات نفسي للغوص في أغوار ذاته وروحه.
جلبابه الصوفي البني يستر بالكاد كيانه البشري المتآكل بفعل الزمن: غلاف متهالك دأب على جره منذ مدة ليست باليسيرة...منذ أن عدا عليه المرض فأقعده ، فانطرد تباعا من العمل ومن حضن الأسرة الدافئ ، ليجد نفسه في فضاء الشارع الواسع بنفسه، الضيق بوحشته و قفره.
أمر أمامه فتمتد يده المعروقة منسلة للتو من جيب ذلك الجلباب المتسخ،المنخرم تواصله في مساحات ليست بالهينة على عكس شرائط الخياطة التقليدية الصامدة رغم تكالب الأيام والسنين .
و كأنما تنتشر روح الحياة في ذراعه الممتدة، تنتشل ما أقدم بسرعة وبخفة، مما قد تكون له علاقة بمعاودة انتشاء جذوة الأمل في ذلك الغلاف الجسدي بسبب نظرة حانية توحي بالاهتمام والرأفة.
ابتسامة صفراء باهتة تتزامن دوما مع ارتعاشة اليد الممتدة ، تنفذ في أنحائي لتفعل فعلها الآمر باشتغال الفكر المتأمل في مآلات الإنسان.
كل مقومات المجتمع المادية تواطأت من أجل تشييئه وحصره في دائرة متاع، و تعاقبت دورات الزمن فأردته، و طمست المعالم المبرهنة على حياته.
غشاوة بيضاء و موجات متواترة من الدمع ـ تسيطر بردائها الشبه شفاف على صفحة عينيه الحمراوين ـ لم تستطيعا أن تمنعا انبعاث بريق يتحدى كل الحواجز من أجل الإشعار بإنسانية الإنسان.
وللأسف فإن فك رموز الرسالة يظل حكرا على القلة، فقد تكالبت من قبل صور العجزة المتردين القابعين في الشوارع على مخيلات الناس، و أصرت... فاستصدرت مرسوما نسخت منه نسخ لا متناهية ثبتت في كل العقول، مرسوم يتعلق ببديهية وجود العاجزين عن الإنتاج في فضاء لا يحتاج إلى الكثير من الجهد المالي لتأثيثه: فضاء الشارع المقفر.
فم فارغ لاك بضع كلمات لم أستبن معناها،وطأطأة رأس توحي بالانكسار، وتشعر بانقهار الشخص تحت وطأة عجز جسده عن تلبية مطالب عيشه،ورفض أجساد الآخرين تعويضه في القيام بشؤونه.
علمت أن ثمة ابن له...نبت له جسد يتميز بالبسطة من حقل هذا الجسد الضامر، ومن حقل جسد آخر ووري التراب بعد أن ذاقت صاحبته كأس الهوان مثل ما يذوق زوجها الآن.
لكن ذاك الجسد الأرعن شاء أن يقتلع جذوره الممتدة إلى الأصل،وتاه بعيدا ليستثمر رأسمال جسده المادي المورث في قضاء مآربه هو نفسه، دون مشاركة أحد سوى أفراد أسرته الصغيرة.
ساعات طويلة قد تمضي، والجسد المفعم بالألم والحزن مركون في صمت يتأجج باطنه بصراخ مكتوم، و يلتحف منه الظاهر بوشاح سكون كاذب ينذر بانهيار قد يكون المدخل لفضاء جنائزي ممكن الحلول في كل اللحظات.
الشفتان ترتعدان...و تضطربان... تتناسل منهما الحركات... مما يوحي أنه قد يكون استمرأ السياحة في ملكوت الله الواسع ، لينعتق بالتدريج من غل الجسد المتهالك استعدادا لفراق أبدي...
عسى الأمر يكون كذلك...
و عساه يكون قد أثث داخله بيقين يجعله يعدم نبت الإصرار على الذنب، ويتيح الفرصة للنفس لتؤوب إلى باريها...
و عسى الذكر يكون قد أصبح قوتا ،و يحقن نورا في جنبات القفص المكدود المنغلق حول الروح المتطلعة لخلاص سرمدي...
وعل الله يقبل منه فيمنحه العتق من النار...
الضيق يزحف سيلا يغمرني ،والأمل حصان جامح يتحدى الطوفان...الرؤى تتوالى تترى، والأسئلة تتزاحم في صمت...
كيف كان الحال حين أوج القوة... و حين اشتغال الجسد الممنوح المسخر من قبل الله؟
أكان التسخير على غير هدى؟
أم أن الحق اختير والتزم بنور الله يضيء الدرب؟
ونبت الابن...أتعهده الحقل بإتقان فاعوج بعد صلاح؟
أم أن الأصل أفرز تيها انغرز في جذر الفرع فتاه؟ فأضاع ذاك الأصل الفرع... و أفقد نفسه منجم خير...:أمان في الدنيا...و زخات دعاء صالح يرفعه حين رجوع الروح إلى باريها...
ابتعدت...و تناقصت أبعاد الصورة في المرآة، ثم وهي تتلاشى أخذت تتعمق في مخيلتي... تتجذر...لكن تتصاغر حتى يمكن أن تظفر بمكان في سجل اللوحات...لوحات صادقة وشمت على عمق الذاكرة... تقبع في صمت... حتى تستدعى من أجل تأملها حين يحتاج إلى حصة غوص تسبر غور النفس...تحاسبها... تبحث عن خير قد يغلب شرا فيكون العتق من النار.
ابتعدت... و المرارة تتمادى في حقن مصلها المؤلم في نفسي... تجاهلت الألم...أو حاولت أن أفعل... أهرب من وخز سؤال شائك... سؤال حول مصير يتربص بي وبكل من هم على شاكلتي حين تصدع الجسد قبل رحيل الروح إلى نعيم ...أو جحيم...
د. صالحة رحوتي