كتاب طويل لعُمَر بن الخطّاب إلى معاوية بن أبي سُفيان فيما وقع على فاطمة الزهراء Jمن الظّلم
37 – قال العَلاّمة المجلسي S في البحار : أجاز لي بعض الأفاضل في مكّة ] زادَ اللهُ شرفها [ رواية هذا الخبر وأخبرني أنّه أخرجه من الجزء الثاني من كتاب ] دلائل الإمامة [ وهذه صورته : حدثنا أبو الحسن محمد بن هارون بن موسى التلعكبريّ قال : حدثنا أبي L قال : حدثنا أبو علي محمد بن همّام قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مالك الفزّازي الكوفي قال : حدثني عبد الرحمن بن سنان الصيرفيّ ، عن جعفر بن علي الجواد ، عن الحسن بن مسكان ، عن المفضل بن عمر الجعفيّ ، عن جابر الجعفيّ ، عن سعيد بن المسيّب قال :
لما قُتِل الحُسَين بن عليّ ] صلواتُ الله عليهما [ وورد نعيه إلى المدينة وورد الأخبار بجزِّ رأسه وحمله إلى يزيد بن معاوية ، وقتل ثمانية عشر من أهل بيته ، وثلاث وخمسين رجلاً من شيعته ، وقتل عليّ ابنهُ بين يديه وهو طفل بنشّابة ، وسبي ذراريه ، أُقيمت المآتم عند أزواج النبيّ في منزل أُم سلمةO وفي دور المُهاجرين والأنصار .
قال : فخرج عبد الله بن عُمَر بن الخطّاب صارخاً من داره ، لاطماً وجهه ، شاقّاً جيبه يقول : يا معشرَ بني هاشم وقُرَيش والمُهاجرين والأنصار يُستحلُّ هذا من رسول الله في أهله وذريّته وأنتُم أحياءٌ تُرزَقون ؟ لا قرار دون يزيد . وخرج من المدينة تحت ليلة ، لا يرد مدينة إلاّ صرخ فيها واستنفر أهلها على يزيد (وأخباره يُكتَب بها إلى يزيد) فلم يمرَّ بملأ من النّاس إلاّ لعنهُ ، وسمع كلامه ، وقالوا : هذا عبد الله بن عُمَر خليفة رسول الله وهو ينكر فعل يزيد بأهل بيت رسول الله ويستنفر النّاس على يزيد ، وإنَّ من لم يجبه لا دينَ لهُ ولا إسلام .
واضطرب الشام بمن فيه ، ورد دمشق وأتى باب اللّعين يزيد في خلق من النّاس يتلونه ، فدخل أُذُن يزيد له فأخبرهُ بوروده ، ويدهُ على أُمِّ رأسه والنّاس يهرعون إليه قدّامه ووراءه ، فقال يزيد : فورةٌ من فورات أبي محمّد ، وعن قليل يفيق منها . فأذن لهُ وحده ، فدخل صارخاً يقول : لا أدخل يا أمير المؤمنين وقد فعلت بأهل بيت محمّد ما لو تمكنت الترك والروم ما استحلّوا ما استحللت ، ولا فعلوا ما فعلت ؛ قُم عن هذا البساط حتى يختار المُسلمون من هو أحقُّ به منك .
فرحّب به يزيد وتطاول له وضمَّه إليه وقال له : يا أبا محمّد اسكُن من فورتك، واعقَل ، وانظُر بعينك واسمَع بأُذنك ، ما تقول في أبيك عُمَر ابن الخطّاب ؟ أكان هادياً مهديّاً خليفة رسول الله وناصره ومصاهره بأُختك حفصة ، والذي قال : لا يعبد الله سرّاً ؟ ، فقال عبد الله : هو كما وصفت فأي شيء تقول فيه ؟ ، قال: أبوك قلَّد أبي أمر الشام أم أبي قلَّد أباك خلافة رسول الله {8} ؟ ، فقال : أبي قلَّد أباك الشام . قال : يا أبا محمّد أفترضى به وبعهده إلى أبي أو ما ترضاه ؟ ، قال : بل أرضى . قال : أفترضى بأبيك ؟ ، قال : نعم ، فضربَ يزيد بيده على يد عبد الله بن عُمَر وقال لهُ : قُم يا أبا محمّد حتى تقرأه . فقام معهُ حتى ورد خزانة من خزائنه ، فدخلها ، ودعا بصندوق ، ففتحهُ واستخرج منهُ تابوتاً مقفّلاً مختوماً ، فاستخرج منه طوماراً لطيفاً في خرقة حرير سوداء ، فأخذ الطومار بيده ونشره ، ثُمَّ قال : يا أبا محمّد ، هذا خطُّ أبيك ؟ ، قال : إي والله ، فأخذهُ بيده فقبّله ، فقال له: اقرأ ، فقرأه ابن عمر فإذا فيه :
> بسم الله الرحمن الرحيم ، إنَّ الذي أكرهنا بالسيف على الإقرار به ، فأقررنا والصدور وغرة(1) ، والأنفس واجفة ، والنيّات والبصائر شايكة(2) مما كانت عليه من جحدنا ما دعانا إليه ، وأطعناه فيه رفعاً لسيوفه عنّا ، وتكاثره بالحيّ علينا من اليمن ، وتعاضد من سمع به ممَّن ترك دينه وما كان عليه آباؤه من قُرَيش ، فهُبَل أُقسم والأصنام والأوثان واللاّت والعُزّى ما جحدها عُمَر مُذ عَبَدَها ، ولا عَبَدَ للكَعبة ربّاً ، ولا صدَّق لمُحَمَّدٍ قَولاً ، ولا ألقى السلام إلاّ للحيلة عليه وإيقاع البطش به ، فإنّهُ قد أتانا بسحرٍ عَظيم ، وزاد في سحره على سحر بني إسرائيل مع موسى وهارون وداود وسُلَيمان وابن أُمه عيسى ، ولقد أتانا بكُلِّ ما أتوا به من السحر وزاد عليهم ما لو أنَّهم شهدوه لأقرّوا له بأنَّهُ سيِّد السحرة(3) .
فخُذ يا ابن أبي سُفيان سُنَّة قومك ، واتّباع ملَّتك ، والوفاء بما كان عليه سلفك من جحد هذه البنية التي يقولون إنَّ لها رَبَّاً أمرهم بإتيانها والسعي حولها ، وجعلها لهُم قبلةً ، فأقرُّوا بالصلاة والحجّ الذي جعلوه رُكناً، وزعموا أنَّهُ لله اختلفوا ، فكان ممَّن أعان محمَّداً منهم هذا الفارسي الطمطمانيُّ روزبه(1) ، وقالوا : إنَّهُ أوحيَ إليهِ: }إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ {(2) ، وقولهم: } قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولّينك قبلةً ترضيها ، فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيثُ ما كُنتُم فولّوا وجوهكم شطره {(1) ، وجعلوا صلاتهم للحجارة ، فما الذي أنكرهُ علينا – لولا سحره – من عبادتنا للأصنام والأوثان واللاّت والعُزّى وهي من الحجارة والخَشَب والنحاس والفضّة والذهب ؟ لا واللاّت والعُزّى ما وجدنا سبباً للخروج عمّا عندنا وإن سحروا وموَّهوا .
فانظُر بعينٍ مُبصرة واسمع بأُذنٍ واعية ، وتأمَّل بقلبك وعقلك ما هُم فيه ، واشكُر اللاّت والعُزّى ، واستخلاف السيِّد الرشيد عتيق بن عبد العزّى على أُمَّة U وتحكُّمه في أموالهم ودمائهم وشريعتهم وأنفُسهم وحلالهم وحرامهم وجبايات الحقوق التي زعموا أنَّهُم يجيبونها ( يجبونها– ظ ) لربِّهم ليقيموا بها أنصارهم وأعوانهم ، فعاش شديداً رشيداً ، يخضَع جهراً ، ويشتدُّ سرَّاً ، ولا يجد حيلةً غير مُعاشرة القوم .
ولقد وثبتُ وثبةً على شهاب بني هاشم الثاقب ، وقرنها الزاهر ، وعَلَمها الناصر ، وعدَّتها وعددها المُسمّى بحيدَرة ، المصاهر لمحمَّد على المرأة التي جعلوها سيِّدة نساء العالمين ، يسمّونها فاطمة ، حتّى أتيتُ دار عليٍّ وفاطمة وابنيهما الحَسَن والحُسَين وابنتيهما زينَب وأُم كلثوم ، والأَمَة المدعوة بفضّة ، ومعي خالد بن وليد ، وقنفذ مولى أبي بكر ، ومن صحب من خواصّنا ، فقرعت الباب عليهم قرعاً شديداً ، فأجابتني الأَمَة ، فقُلت لها : قولي لعليّ : دَع الأباطيل ، ولا تلج نفسك إلى طمع الخِلافة ، فليس الأمرُ لك ، الأمر لمن اختارهُ المُسلمون واجتمعوا عَليه .
وربّ اللاّت والعُزّى ، لو كان الأمر والرأي لأبي بكر لفشل عن الوصول إلى ما وصل إليه من خلافة ابن أبي كبشة ، لكنّي أبديت لها صفحتي ، وأظهرت لها بصري ، وقُلت للحيَّين نزار وقحطان ، بعد أن قُلت لهم : ليس الخلافة إلاّ في قُرَيش ، فأطيعوهم ما أطاعوا الله . وإنَّما قُلت ذلك لما سبق من ابن أبي طالب من وثوبه واستيثاره بالدماء التي سفكها في غزواتU ، وقضاء ديونه ، وهي ثمانون ألف درهم ، وإنجاز عداته ، وجمع القُرآن ، فقضاها على تليده وطارفه ، وقول المُهاجرين والأنصار لمّا قُلت : إنّ الإمامة في قُرَيش ، قالوا : ((هو الأصلَع البطين أمير المؤمنين عليُّ ابن أبي طالب ، الذي أخذ رسول الله البيعة له على أهل ملَّته ، وسلّمنا له بإمرة المؤمنين في أربعة مواطن ، فإن كنتُم نسيتموها يا معشر قُرَيش فما نسيناها، وليست البَيعة ولا الإمامة والخلافة والوصيّة إلاّ حقّاً مفروضاً وأمراً صحيحاً ، لا تبرّعاً ولا ادّعاءً)).
فكذّبناهم(1) ، وأقمت أربعين رجُلاً شهدوا علىU أنَّ الإمامة بالاختيار ، فعند ذلك قال الأنصار : ((نحنُ أحقّ من قُرَيش ، لأنّا آوَينا ونصرنا ، وهاجر النّاس إلينا ، فإذا كان دفع من كان الأمر له فليس هذا الأمرُ لكُم دوننا)) ، وقال قومٌ: ((منّا أمير ومنكم أمير)) ، قُلنا لهُم : قد شهد أربعون رجُلاً أنَّ الأئمة من قُرَيش ، فقبل قوم وأنكر آخرون ، وتنازعوا ، فقُلتُ – والجمع يسمعون – : ألا أكبرنا سنَّاً، وأكثرنا ليناً ، قالوا : فمن تقول ؟ ، قُلت : أبو بَكر الذي قدَّمه رسول الله في الصّلاة، وجلس معه في العريش يوم بدر يشاوره ويأخُذ برأيه ، وكان صاحبه بالغار ، وزوّج ابنتهُ عايشة التي سمّاها أُم المؤمنين .
فأقبل بنوا هاشم يتميَّزون غيظاً ، وعاضدهم الزبير وسيفه مشهور وقال : لا يبايع إلاّ علي ، أو لا أملك رقبة قائمة سيفي هذا ، فقُلت : يا زبير صرختك سكن من بني هاشم ، أُمك صفيّة بنت عبد المطَّلب ، فقال : ذلك والله الشرف الباذخ ، والفخر الفاخر ، يا ابن ختمة ويا ابن صهّاك ، اسكُت لا أُمَّ لك ، فقال قولاً ، فوثب أربعون رجُلاً ممّن حضر سقيفة بني ساعدة على الزبير ، فوالله ما قدرنا على أخذ سيفه من يده حتّى وسدناه الأرض ، ولم نرَ له علينا ناصراً .
فوثبت إلى أبي بكر ، فصافحته وعاقدته البيعة ، وتلاني عُثمان بن عفّان وساير من حضر غير الزبير ، وقُلنا لهُ : بايع أو نقتُلَك ، ثمَّ كففت عنه الناس فقلت له : أمهلوه فما غضب إلاّ نخوة لبني هاشم ، وأخذت أبا بكر بيدي فأقمته وهو يرعد ، قد اختلَط عقله ، فأزعجتهُ إلى منبرU إزعاجاً ، فقال لي : يا أبا حفص أخاف وثبة عليٍّ ، فقلت له : إنَّ عليّاً عنك مشغول . وأعانني على ذلك أبو عُبَيدة بن الجراح ، كان يمد بيده إلى المنبر ، وأنا أُزعجه من ورائه كالتيس إلى شفار الجارز متهوّناً .
فقام عليه مدهوشاً ، فقُلت له : اخطُب ، فأُغلق عليه وتثبّت ، فدهش وتلجلج وغمض ، فغضضت على كفّي غيظاً وقلتُ له : قُل ما سنح لك ، فلم يأت خيراً ولا معروفاً ، فأردت أن أحطّه عن المنبر وأقوم مقامه ، فكرهت تكذيب النّاس لي بما قُلت فيه ، وقد سألني الجمهور منهم : كيف قلت من فضله ما قُلت ، ما الذي سمعته من رسول الله في أبي بكر ؟ ، فقُلت لهُم : قد قلت من فضله على لسان رسول الله ما لو وددت أنّي شعرة في صدره ولي حكاية فقُلت : قل وإلاّ فانزل .. .. والله في وجهي وعلم أنّه لو نزل لرقيت وقُلت ما لا يهتدي إلى قوله ، فقال بصوت ضعيف عَليل : (( وليتكم ولستُ بخيركم وعليٌّ فيكُم ، واعلموا أنَّ ليَ شيطاناً يعتريني ، وما أراد به سواي ، فإذا زللت فقوِّموني ، لا أقع في شعوركم وأبشاركم ، وأستغفر الله لي ولكُم )) ونزل . فأخذت بيده – وأعيُنُ النّاس ترمقه – وغمزت يده غمزاً ، ثُمَّ أجلسته ، وقدَّمت النّاس إلى بيعته ؛ وصحبته لأُرهبه وكل من ينكر بيعته ويقول : ما فعل عليُّ بن أبي طالب ؟ ، فأقول : خلعها من عنقه وجعلها طاعة المُسلمين قلّة خلاف عليهم في اختيارهم ، فصار جليس بيته . فبايعوا وهُم كارهون .
فلمّا فشت بيعته علمنا أنّ عليّاً يحمل فاطمة والحَسَن والحُسَين إلى دور المُهاجرين والأنصار يذكّرهم بيعته علينا في أربع مواطن ، ويستنفرهم ، فيعدونه النصرة ليلاً ، ويقعدون عنهُ نهاراً ، فأتيت داره مُستشيراً لإخراجه منها ، فقالت الأَمَة فضَّة وقد قلت لها : قولي لعليّ يخرج إلى بيعة أبي بكر فقد اجتمع عليه المُسلمون ، فقالت : إنَّ أمير المؤمنين عليّاً مشغول ، فقُلت : خلّي عنك هذا وقولي له يخرج وإلاّ دخلنا عليه وأخرجناه كرهاً .
فخرجَت فاطمة فوقفَت من وراء الباب ، فقالت : أيُّها الضّالون ، المُكذِّبون ماذا تقولون ؟ وأي شيء تُريدون ؟ ، فقُلت : يا فاطمة ، فقالت فاطمة : ما تشاء يا عُمَر؟ ، فقُلت : ما بال ابن عمّك قد أوردكِ للجواب ، وجلس من وراء الحجاب ؟، فقالت لي : طغيانُك يا شقيُّ أخرجَني ، وألزمك الحجّة وكلَّ ضالّ غويّ ، فقُلت : دعي عنك الأباطيل وأساطير النّساء ، وقولي لعليّ يخرج لا حبَّ ولا كرامة . فقالت : أبحزب الشيطان تخوِّفني يا عُمَر ؟ وكان حزب الشيطان ضعيفاً ، فقُلت : إن لم يخرُج جئت بالحطب الجزل وأضرمتها ناراً على أهل هذا البَيت ، وأُحرق من فيه ، أو يُقاد عليٌّ إلى البَيعة ؛ وأخذت سوط قنفذ فضربتها ، وقُلت لخالد بن الوليد : أنت ورجالنا ، هلّموا في جمع الحَطَب ، فقُلت : إنّي مضرمها ، فقالت : يا عدو الله وعدوَّ رسوله وعدوَّ أمير المؤمنين .
فضربت فاطمة يدها من الباب تمنعني من فتحه ، فرمته ، فتصعّب عليَّ ، فضربتُ كفَّيها بالسوط ، فآلمها ، فسمعتُ لها زفيراً وبُكاءً ، فكدتُ أن أَلين وأنقلب عن الباب ، فذكرت أحقاد عليّ وولوعه في دماء صناديد العرب ، وكيدU وسحره ، فركلت الباب ، وقد ألصقت أحشاءها بالباب تترسه ، وسمعتها وقد صرخَت صرخةً حسبتها قد جعلَت أعلى المدينة أسفلها ، وقالت : يا أبتاه يا رسول الله هكذا كان يُفعل بحبيبتك وابنتك ، آه يا فضَّة إليك فخُذيني ، فقد والله قُتِلَ ما في أحشائي من حمل ؛ وسمعتها تمخض وهي مُستندة إلى الجدار ، فدفعت الباب ودخلت ، فأقبلت إليَّ بوجه أغشى بصري ، فصفقت صفقة على خدَّيها من ظاهر الخمار ، فانقطع قرطها وتناثرت إلى الأرض(1) .
وخرج عليٌّ فلمّا أحسست به أسرعت إلى خارج الدّار ، وقلت لخالد وقنفذ ومن معهما : نجوتُ من أمرٍ عظيم – وفي رواية أُخرى : قد جنيت جنايةً عظيمة لا آمن على نفسي ، وهذا عليٌّ قد برز من البيت وما لي ولكُم به طاقة – . فخرجَ عليٌّ وقد ضربت يديها إلى ناصيتها لتكشف عنها وتستغيث بالله العَظيم ما نزل بها، فأسبل عليٌّ عليها ملاءَتها وقال لها : يا بنت رسول الله إنَّ الله بعثَ أباك رحمةً للعالمين ، وأيم الله لئن كشفت عن ناصيتك سائلةً إلى ربِّك ليهلك هذا الخلق لأجابك، حتّى لا يُبقي على الأرض منهم بشراً ، لأنكِ وأباك أعظم عند الله من نوح الذي غرق من أجله بالطوفان جميع من على وجه الأرض وتحت السماء إلاّ من كان في السفينة ، وأهلك قوم هود بتكذيبهم له ، وأهلك عاداً بريح صرصر ، وأنت وأبوك أعظمُ قدراً من هود وعذَّب ثمود وهي إثنا عشر ألفاً بعقر الناقة والفصيل ، فكوني يا سيدة النساء رحمةً على هذا الخلق المنكوس ، ولا تكوني عذاباً .
واشتدَّ بها المخاض ، ودخلت البيت فأسقطت سقطاً سمّاه عليٌّ محسناً . وجمعت جمعاً كثيراً لا مكاثرة لعليّ ، ولكن ليشدَّ بهم قلبي ، وجئتُ وهو مُحاصر ، فاستخرجتهُ من داره مُكرهاً مغصوباً ، وسقتهُ إلى البيعة سوقاً ، وإنّي لأعلمُ علماً يقيناً لا شكَّ فيه لو اجتهدت أنا وجميع من على الأرض جميعاً على قهره ما قهرناه، ولكن لهنات كانت في نفسه أعلمها ولا أقولها . فلمّا انتهيت إلى سقيفة بني ساعدة قام أبو بكر ومن بحضرته يستهزؤن بعليّ ، فقال عليٌّ : يا عُمَر أتحبُّ أن أعجِّل لك ما اخترتهُ سوءاً عنك ( من سوأتك عنه خ ل ) ؟ ، فقلت : لا يا أمير المؤمنين .
فسمعني والله خالد بن الوليد ، فأسرع إلى أبي بكر ، فقال له أبو بكر : ما لي ولعُمَر – ثلاثاً – والنّاس يسمعون . ولما دخل السقيفة صبا إليه أبو بكر ، فقلتُ له : قد بايعت يا أبا الحَسَن فانصرف فاشهد ما بايعه ، ولا مدَّ يده إليه وكرهت أن أُطالبه بالبيعة فيُعجِّل لي ما أخّره عنّي . وودّ أبو بكر أنه لم يرَ عليّاً في ذلك المكان جزعاً وخوفاً منه . ورجع عليٌّ من السقيفة ، وسألنا عنه فقالوا : مضى إلى قبرU ، فجلس إليه .
فقمتُ أنا وأبو بكر إليه ، وجئنا نسعى ، وأبو بكر يقول : ويلُكَ يا عُمَر ما الذي صنعت بفاطمة ؟ هذا والله الخسران المُبين . فقُلت : أن أعظم ما عليك أنَّه ما بايعنا ، ولا أثق أن تتثاقل المُسلمون عنهُ ، فقال : فما تصنع ؟ ، فقلتُ : نظهر إنَّه قد بايعك عند قبرU . فأتيناه وقد جعل القبر قبلة مسنداً كفّهِ على تربته ، وحوله سلمان وأبو ذَر والمُقداد وعمّار وحُذَيفة بن اليَمان ، فجلسنا بإزائه ، وأوعزتُ إلى أبي بكر أن يضع يده على مثل ما وضع عليَّ يدهُ ويقربها من يده ، ففعل ذلك ، وأخذتُ بيد أبي بكر لأمسحها على يده وأقول : قَد بايعَ ، فقبض عليّاً يدهُ . فقمتُ أنا وأبو بكر مولّياً وأنا أقول : جزى الله عليّاً خيراً ، فإنّه لم يمنعك البيعة لما حضرت قبر رسول الله . فوثب من دون الجماعة أبو ذر جندب بن جنادة الغفاريّ وهو يصيح ويقول : والله يا عدوَّ الله ما بايع عليٌّ تقيّاً . ولم يزل كُلَّما لقينا قوماً وأقبلنا على قوم نُخبرهم ببيعته ، وأبو ذر يكذبنا . والله ما بايعنا في خلافة أبي بكر ولا في خلافتي ، ولا يُبايع لمن بعدي ، ولا بايعَ من أصحابه إثنا عشر رجُلاً ، لا لأبي بكر ولا لي .
فمن فعل يا معاوية فعلي ، واستثار أحقاده السالفة غيري ؟ أمّا أنتَ وأبوك أبو سُفيان وأخوك عتبة ، فاعرف ما كان منكم في تكذيبU وكيده ، وإدارة الدواير بمكة ، وطلبتهُ في جبل حرى لقتله ، وتألّف الأحزاب وجمعهم عليه ، وركوب أبيك الجمَل وقد قاد الأحزاب وقولU : ] لعنَ الله الراكب والقائد والسايق [ ، وكان أبوك الراكب ، وأخوك عتبة القايد ، وأنت السايق .
ولم أنسَ أُمك هنداً وقد بذلت لوحشي ما بذلت ، حتّى تمكن نفسه لحمزة الذي دعوه أسد الرحمن في أرضه ، وطعنه بالحربة ، ففلق فؤاده ، وشقّ عنه ، وأخذ كبده فحمله إلى أُمك ؛ فزعمU بسحره أنَّه لمّا أدخلته فاها لتأكله صار جلموداً ، فلفظتهُ من فيها ، وسمّاهاU أو أصحابه : آكلةَ الأكباد ؛ وقولها في شعرها لاعتداءU ومقاتليه :
نحنُ بنـــات طــارق نمشـي علــى النمــارق
كالدّر فــي المخانــق والمسـك في المــفــارق
إن يقبلـوا نــعانـــق أو يـدبــروا نــفــارق
فراق غـيــر وامــق
ونسوتها في الثياب الصفر المرسبة ، مُبديات وجوههنَّ ومعاصمهنَّ ورؤوسهنَّ يحرضنَّ على قتالU ، إنَّكُم لم تسلموا طوعاً ، وإنَّما أسلمتُم كرهاً يوم فتح مكّة، فجعلكُم طلقاء ، وجعل أخي زيداً وعَقيلاً أخا علي ابن أبي طالب والعبّاس عمّهم مثلهم . وكان من أبيك في نفسه ، فقال : والله يا ابن أبي كبشة لأملأنّها عليكَ خَيلاً ورجلاً ، وأحولَ بينك وبَين هذه الأعداء ، فقالU– ويؤذن للناس أنّه علم ما في نفسه – : أوَ يَكفي الله شرَّك يا أبا سُفيان ؛ وهو يري للناس أن لا يعلوها أحدٌ غيري وعليٌّ ومن يليه من أهل بيته .
فبطلُ سحره ، وخاب سعيُه ، وعلاها أبو بكر ، وعلوتُها بعده ، وأرجو أن تكونوا معاشر بني أُميَّة عيدان أطنابها ، فمن ذلك قد ولّيتك وقلَّدتك إباحة ملكها ، وعرّفتك فيها ، وخالفتُ قوله فيكُم ، وما أُبالي من تأليف شعره ونثره أنَّهُ قال يوحى إليَّ منزلٌ من ربّي في قوله : } والشجرة المَلعونة في القُرآن {(1) ، فزعمَ أنَّها أنتُم يا بني أُميَّة ، فبيّن عداوتهُ حيثُ مَلَك ، كما لم يزَل هاشم وبنوه أعداء بني عبد شمس .
وأنا مع تذكيري إيّاك يا معاوية ، وشرحي لكَ ما قد شرحتهُ ناصحٌ لك ومُشفقٌ عليك من ضيق عَطَنك(1) ، وحرج صدرك ، وقلَّة حلمك أن تعجل فيما وصّيتك ومكّنتُك منه من شريعةU وأُمَّته أن تُبدي لهم مطالبته بطعن ، أو شماتة بموت، أو ردّاً عليه فيما أتى به أو استصغاراً لما أتى به فتكون من الهالكين ، فتخفض ما رفعت ، وتهدم ما بنيت .
واحذَر كلّ الحذر حيث دخلت علىU مسجده ومنبره ، وصدِّق محمَّداً في كلّ ما أتي به وأورده ظاهراً ، واظهر التحرُّز والواقعة في رعيّتك ، وأوسعهم حلماً وأعمَّهم بروايح العطايا ، وعليك بإقامة الحدود فيهم ، وتضعيف الجناية منهم لسبا ( كذا )U من مالك ورزقك ، ولا ترهم أنَّك تدع لله حقّاً ، ولا تنقص فرضاً ، ولا تغيِّر لمحمَّد سُنَّته ، فتُفسِد علينا الأُمَّة ، بل خُذهُم من مأمنهم ، واقتلهم بأيديهم ، وأبّدهم بسيوفهم وتطاولهم ولا تُناجزهم ، ولِن لهُم ، ولا تبخَس عليهم ، وافسَح لهم في مجلسك ، وشرِّفهم في مقعدك وتوَّصل إلى قتلهم برئيسهم ، واظهر البشر والبَشاشة ، بل اكظم غيظَك ، واعفُ عنهم ، يحبُّوك ويُطيعوك .
فما أُمن علينا وعليك ثورة عليٍّ وشبليه الحَسَن والحُسَين ، فإن أمكنك في عدَّة من الأُمَّة فبادر ، ولا تقنع بصغار الأُمور ، واقصد بعظيمها ، واحفظ وصيّتي إليك وعهدي ، وأخفه ولا تُبده ، وامتثل أمري ونهيي ، وانهض بطاعتي ، وإيّاك والخلاف عليَّ ، واسلُك طريقة أسلافك واطلُب بثارك ، واقتصَّ آثارهم ، فقد أخرجت إليكَ بسرّي وجهري ، وشفعت هذا بقولي :
معاوي إنَّ القوم جلَّت أُمورهم بدعوة من عمّ البريّة بالوتـرى
صبوت إلى دين لهم فأرابنـي فأبعد بدين قد قصمت به ظهري
إلى آخر الأبيات(1)< .
قال : فلمّا قرأ عبد الله بن عُمَر هذا العهد قام إلى يَزيد ، فقبَّل رأسه وقال : الحمدُ لله يا أمير المؤمنين على قتلك الشاري ابن الشاري(2) ، والله ما أخرج أبي إليَّ بما أخرج إلى أبيك ، والله لا رآني أحدٌ من رهطU بحيث يُحب ويرضى ، فأحسن جايزته وبرّه وردَّه مكرّماً ، فخرج عبد الله بن عُمَر من عنده ضاحكاً ، فقال لهُ النّاس : ما قالَ لَك ؟ ، قال : قولاً صادقاً لوددت أنّي كُنتُ مُشاركه فيه . وسار راجعاً إلى المَدينة ، وكان جوابه لمن يَلقاه هذا الجواب .
الراجي عفو ربه حسين محمد رؤوف
ويروى أنَّه أخرج يزيد ( لعنهُ الله ) إلى عبد الله بن عُمَر كتاباً فيه عهد عُثمان بن عفّان فيه أغلظ من هذا وأدهى وأعظم من العهد الّذي كَتَبَهُ عُمَر لمعاوية ، فلمّا قرأ عبد الله بن عُمَر العهد الآخر قام فقبَّل رأس يزيد ( لعنهُما الله ) وقال : الحمدُ لله على قتلك الشاري ابن الشاري ..(3) .
إنتهى(4)
(1)(( المجالس السَنَية في مناقب ومصائب العترة النبوية )) تأليف : السيّد محسن الأَمين، المجلّد الثاني ؛ ص : 123-126 .
(1)وغر صدره على فُلان : توقَّد عليه من الغيظ . والواجفة : المُضطربة .
(2)من الشوك ، أي كانت البصائر والنيّات غير خالصة ممّا يختلج بالبال من الشكوك والشبهات . (منه S).
(3)لا غرابة في صدور هذه التعبيرات عنه ، لأنّه قد أثر من الرجل ما هو أشدّ وأغلظ من ذلك في حياة النبي 7 ؛ ولنذكُر ما استطرفناه من كتاب الوصيّة من كتاب ( تذكرة الفُقَهاء ) ج 2 ، ص 469-470 في ذلك :
قال العَلاّمة الحليّ S : مسألة : (( لو أوصى لأعقل الناس في البلد .. ولو قال لأجهل الناس ؛ قال بعض الشافعيّة يصرف إلى من يسبُّ الصحابة .. )) ثم قال بعد تفنيد قولهم : ((وكان عُمَر بن الخطّاب عندهم ثاني الخُلفاء .. قد سبَّ رسول الله 7 في مرضه الذي توفي فيه ، حيث قال رسول الله 7 : إيتوني بدوات وكتف لأكتب فيه كتاباً لن تضلّوا بعدهُ أبداً . فقال عُمَر: إنَّ الرجُل ليهجر ، حسبُنا كتاب الله . فأعرضَ النبي 7 مُغضباً ..
وقال يوماً : إنَّ رسول الله شجرة نبتَت في كبا " أي في مزبلة " ، وعنى بذلك رذالة أهله ؛ فسمعهُ رسول الله 7 ذلك ، فاشتد غيظه ، ثُمَّ نادى : الصلاة جامعة فحضر المُسلمون بأسرهم، فصعد رسول الله 7 المنبر ، ثُمَّ حمد الله وأثنى عليه وقال : يا أيُّها الناس ليقُم كل منكم ينتسب إلى أبيه حتّى أعرف نسبه ، فقام إليه شخص من الجماعة وقال : يا رسول الله أنا فُلان بن فُلان بن فُلان .. فقال : صَدَقت ، ثم قام آخر فقال : يا رسول الله أنا فُلان بن فُلان ، فقال : لست لفُلان وإنَّما أنت لفُلان وانتحلك فُلان بن فُلان ، فقعد خجلاً ، ثم لم يقم أحد ، فأمرهم بالقيام والانتساب مرَّةً واثنتين فلم يقم أحد ، فقال : أين السابُّ لأَهل بيتي ؟ ليقُم إليَّ وينتسب إلى أبيه ؟ فقام عُمَر وقال : يا رسول الله اعف عنّا عفا الله عنك ، اغفر لنا غفر الله لك ، احلم عنّا حلم الله عنك ..
أقول : خبر الدواة مشهور مستفيض من الطريقين ، أُورد مصادره هُنا لزيادة البصيرة فراجع: صحيح البُخاري، ط محمّد علي صبيح وأولاده ، ج1 ، ص39 ، باب كتابة العلم ، وج4، ص85 ، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ؛ وص121 ، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب ، وج6 ، ص11 ، باب كتاب النّبي 7 إلى كسرى وقيصر ، وج7 ، ص156 ، باب قول المريض : قوموا عنّي ، وج9 ، ص137 ، باب كراهية الخلاف . وصحيح مُسلم ، ج5، ص75، ط دار الفكر بيروت ، باب ترك الوصيَّة لمن ليس له شيء . ومَسنَد أحمد ، ج3 ، ص346 ، ط دار إرصاد بيروت .
وقد جاءت الرواية بعباراتٍ شتّى : (( فقالوا : هَجَر رسول الله .. )) ؛ (( وماله أهجر .. ))؛ (( وما شأنه أهجر .. )) ، فيعلم من ذلك كلّه إنَّ نسبة الهجر إلى النبي 7 ثابتة إلاّ أنهم بدلوا ، أو أضافوا كلمة (( الوَجَع )) تهذيباً للعبارة ووقايةً لشأن الخليفة ، ولكن هَيهات ! وما يصلح العطّار ما أفسَدَ الدَّهر .
(1)الطمطمانيّ ، بالضم : في لسانه عجمة . ( منه S ) .
(2)آل عمران ؛ آية : 96 .
(1) البقرة ؛ آية : 144 .
(1)حديث غصب الخلافة والاستبداد بها دون أهلها ممّا لا يشك فيه اللّبيب ، وقد روى البلاذري قال: لمّا قُتِلَ الحُسَين ، كَتَبَ عبد الله بن عُمَر إلى يزيد بن معاوية : أمّا بعد فقد عظمت الرزيّة وجلَّت المُصيبة وحدث في الإسلام حدثٌ عظيم ، ولا يوم كيوم قتل الحُسَين . فكتب إليه يزيد : أمّا بعد، يا أحمَق فإنّا جئنا إلى بيوتٍ مجدَّدة وفرش ممهَّدة ووسائد منضَّدة ، فقاتلنا عنها ، فإن يكُن الحَق لنا ، فعن حقِّنا قاتلنا ، وإن كان الحقُّ لغيرنا فأبوكَ أوَّل من سنَّ هذا ، واستأثرَ بالحقِّ على أهله . ( نهج الحق وكشف الصدق للعَلاّمة S ص356 ، ط بيروت ) .
(1)قال العَلاّمة الأميني S عند نقل خبر صرب عمر النساء عند بُكائهنَّ على الميِّت من آل رسول الله 7 : .. غير أنّي لا أعلم أن الصدِّيقة الفاطمة التي كانت من الباكيات في ذلك اليوم هل كانت بين تلكم النسوة المضروبات أم لا ؟ وعلى أيّ فقد جلست إلى أبيها وهي باكية . (الغدير، ج6 ، ص160) .
(1)الإسراء ؛ آية : 6 .
(1)قال الجوهريُّ : فُلان واسع العطن والبلد ، إذا كان رحب الذراع . (منه S) .
(1)والأبيات ذكره في المصدر ؛ فراجع .
(2)يعني الخارجيّ .
(3)(( البحار )) ج8 ، ص229-233 ، ط الكمباني .
(4)أُخذَ هذا العهد من كتاب (( فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) بَهجَة قلب المُصطفى 7 للحاج الشيخ أحمد الرحماني الهمداني ص553 فليُراجَع إتماماً للفائدة .. والحمدُ لله )) .
37 – قال العَلاّمة المجلسي S في البحار : أجاز لي بعض الأفاضل في مكّة ] زادَ اللهُ شرفها [ رواية هذا الخبر وأخبرني أنّه أخرجه من الجزء الثاني من كتاب ] دلائل الإمامة [ وهذه صورته : حدثنا أبو الحسن محمد بن هارون بن موسى التلعكبريّ قال : حدثنا أبي L قال : حدثنا أبو علي محمد بن همّام قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مالك الفزّازي الكوفي قال : حدثني عبد الرحمن بن سنان الصيرفيّ ، عن جعفر بن علي الجواد ، عن الحسن بن مسكان ، عن المفضل بن عمر الجعفيّ ، عن جابر الجعفيّ ، عن سعيد بن المسيّب قال :
لما قُتِل الحُسَين بن عليّ ] صلواتُ الله عليهما [ وورد نعيه إلى المدينة وورد الأخبار بجزِّ رأسه وحمله إلى يزيد بن معاوية ، وقتل ثمانية عشر من أهل بيته ، وثلاث وخمسين رجلاً من شيعته ، وقتل عليّ ابنهُ بين يديه وهو طفل بنشّابة ، وسبي ذراريه ، أُقيمت المآتم عند أزواج النبيّ في منزل أُم سلمةO وفي دور المُهاجرين والأنصار .
قال : فخرج عبد الله بن عُمَر بن الخطّاب صارخاً من داره ، لاطماً وجهه ، شاقّاً جيبه يقول : يا معشرَ بني هاشم وقُرَيش والمُهاجرين والأنصار يُستحلُّ هذا من رسول الله في أهله وذريّته وأنتُم أحياءٌ تُرزَقون ؟ لا قرار دون يزيد . وخرج من المدينة تحت ليلة ، لا يرد مدينة إلاّ صرخ فيها واستنفر أهلها على يزيد (وأخباره يُكتَب بها إلى يزيد) فلم يمرَّ بملأ من النّاس إلاّ لعنهُ ، وسمع كلامه ، وقالوا : هذا عبد الله بن عُمَر خليفة رسول الله وهو ينكر فعل يزيد بأهل بيت رسول الله ويستنفر النّاس على يزيد ، وإنَّ من لم يجبه لا دينَ لهُ ولا إسلام .
واضطرب الشام بمن فيه ، ورد دمشق وأتى باب اللّعين يزيد في خلق من النّاس يتلونه ، فدخل أُذُن يزيد له فأخبرهُ بوروده ، ويدهُ على أُمِّ رأسه والنّاس يهرعون إليه قدّامه ووراءه ، فقال يزيد : فورةٌ من فورات أبي محمّد ، وعن قليل يفيق منها . فأذن لهُ وحده ، فدخل صارخاً يقول : لا أدخل يا أمير المؤمنين وقد فعلت بأهل بيت محمّد ما لو تمكنت الترك والروم ما استحلّوا ما استحللت ، ولا فعلوا ما فعلت ؛ قُم عن هذا البساط حتى يختار المُسلمون من هو أحقُّ به منك .
فرحّب به يزيد وتطاول له وضمَّه إليه وقال له : يا أبا محمّد اسكُن من فورتك، واعقَل ، وانظُر بعينك واسمَع بأُذنك ، ما تقول في أبيك عُمَر ابن الخطّاب ؟ أكان هادياً مهديّاً خليفة رسول الله وناصره ومصاهره بأُختك حفصة ، والذي قال : لا يعبد الله سرّاً ؟ ، فقال عبد الله : هو كما وصفت فأي شيء تقول فيه ؟ ، قال: أبوك قلَّد أبي أمر الشام أم أبي قلَّد أباك خلافة رسول الله {8} ؟ ، فقال : أبي قلَّد أباك الشام . قال : يا أبا محمّد أفترضى به وبعهده إلى أبي أو ما ترضاه ؟ ، قال : بل أرضى . قال : أفترضى بأبيك ؟ ، قال : نعم ، فضربَ يزيد بيده على يد عبد الله بن عُمَر وقال لهُ : قُم يا أبا محمّد حتى تقرأه . فقام معهُ حتى ورد خزانة من خزائنه ، فدخلها ، ودعا بصندوق ، ففتحهُ واستخرج منهُ تابوتاً مقفّلاً مختوماً ، فاستخرج منه طوماراً لطيفاً في خرقة حرير سوداء ، فأخذ الطومار بيده ونشره ، ثُمَّ قال : يا أبا محمّد ، هذا خطُّ أبيك ؟ ، قال : إي والله ، فأخذهُ بيده فقبّله ، فقال له: اقرأ ، فقرأه ابن عمر فإذا فيه :
> بسم الله الرحمن الرحيم ، إنَّ الذي أكرهنا بالسيف على الإقرار به ، فأقررنا والصدور وغرة(1) ، والأنفس واجفة ، والنيّات والبصائر شايكة(2) مما كانت عليه من جحدنا ما دعانا إليه ، وأطعناه فيه رفعاً لسيوفه عنّا ، وتكاثره بالحيّ علينا من اليمن ، وتعاضد من سمع به ممَّن ترك دينه وما كان عليه آباؤه من قُرَيش ، فهُبَل أُقسم والأصنام والأوثان واللاّت والعُزّى ما جحدها عُمَر مُذ عَبَدَها ، ولا عَبَدَ للكَعبة ربّاً ، ولا صدَّق لمُحَمَّدٍ قَولاً ، ولا ألقى السلام إلاّ للحيلة عليه وإيقاع البطش به ، فإنّهُ قد أتانا بسحرٍ عَظيم ، وزاد في سحره على سحر بني إسرائيل مع موسى وهارون وداود وسُلَيمان وابن أُمه عيسى ، ولقد أتانا بكُلِّ ما أتوا به من السحر وزاد عليهم ما لو أنَّهم شهدوه لأقرّوا له بأنَّهُ سيِّد السحرة(3) .
فخُذ يا ابن أبي سُفيان سُنَّة قومك ، واتّباع ملَّتك ، والوفاء بما كان عليه سلفك من جحد هذه البنية التي يقولون إنَّ لها رَبَّاً أمرهم بإتيانها والسعي حولها ، وجعلها لهُم قبلةً ، فأقرُّوا بالصلاة والحجّ الذي جعلوه رُكناً، وزعموا أنَّهُ لله اختلفوا ، فكان ممَّن أعان محمَّداً منهم هذا الفارسي الطمطمانيُّ روزبه(1) ، وقالوا : إنَّهُ أوحيَ إليهِ: }إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ {(2) ، وقولهم: } قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولّينك قبلةً ترضيها ، فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيثُ ما كُنتُم فولّوا وجوهكم شطره {(1) ، وجعلوا صلاتهم للحجارة ، فما الذي أنكرهُ علينا – لولا سحره – من عبادتنا للأصنام والأوثان واللاّت والعُزّى وهي من الحجارة والخَشَب والنحاس والفضّة والذهب ؟ لا واللاّت والعُزّى ما وجدنا سبباً للخروج عمّا عندنا وإن سحروا وموَّهوا .
فانظُر بعينٍ مُبصرة واسمع بأُذنٍ واعية ، وتأمَّل بقلبك وعقلك ما هُم فيه ، واشكُر اللاّت والعُزّى ، واستخلاف السيِّد الرشيد عتيق بن عبد العزّى على أُمَّة U وتحكُّمه في أموالهم ودمائهم وشريعتهم وأنفُسهم وحلالهم وحرامهم وجبايات الحقوق التي زعموا أنَّهُم يجيبونها ( يجبونها– ظ ) لربِّهم ليقيموا بها أنصارهم وأعوانهم ، فعاش شديداً رشيداً ، يخضَع جهراً ، ويشتدُّ سرَّاً ، ولا يجد حيلةً غير مُعاشرة القوم .
ولقد وثبتُ وثبةً على شهاب بني هاشم الثاقب ، وقرنها الزاهر ، وعَلَمها الناصر ، وعدَّتها وعددها المُسمّى بحيدَرة ، المصاهر لمحمَّد على المرأة التي جعلوها سيِّدة نساء العالمين ، يسمّونها فاطمة ، حتّى أتيتُ دار عليٍّ وفاطمة وابنيهما الحَسَن والحُسَين وابنتيهما زينَب وأُم كلثوم ، والأَمَة المدعوة بفضّة ، ومعي خالد بن وليد ، وقنفذ مولى أبي بكر ، ومن صحب من خواصّنا ، فقرعت الباب عليهم قرعاً شديداً ، فأجابتني الأَمَة ، فقُلت لها : قولي لعليّ : دَع الأباطيل ، ولا تلج نفسك إلى طمع الخِلافة ، فليس الأمرُ لك ، الأمر لمن اختارهُ المُسلمون واجتمعوا عَليه .
وربّ اللاّت والعُزّى ، لو كان الأمر والرأي لأبي بكر لفشل عن الوصول إلى ما وصل إليه من خلافة ابن أبي كبشة ، لكنّي أبديت لها صفحتي ، وأظهرت لها بصري ، وقُلت للحيَّين نزار وقحطان ، بعد أن قُلت لهم : ليس الخلافة إلاّ في قُرَيش ، فأطيعوهم ما أطاعوا الله . وإنَّما قُلت ذلك لما سبق من ابن أبي طالب من وثوبه واستيثاره بالدماء التي سفكها في غزواتU ، وقضاء ديونه ، وهي ثمانون ألف درهم ، وإنجاز عداته ، وجمع القُرآن ، فقضاها على تليده وطارفه ، وقول المُهاجرين والأنصار لمّا قُلت : إنّ الإمامة في قُرَيش ، قالوا : ((هو الأصلَع البطين أمير المؤمنين عليُّ ابن أبي طالب ، الذي أخذ رسول الله البيعة له على أهل ملَّته ، وسلّمنا له بإمرة المؤمنين في أربعة مواطن ، فإن كنتُم نسيتموها يا معشر قُرَيش فما نسيناها، وليست البَيعة ولا الإمامة والخلافة والوصيّة إلاّ حقّاً مفروضاً وأمراً صحيحاً ، لا تبرّعاً ولا ادّعاءً)).
فكذّبناهم(1) ، وأقمت أربعين رجُلاً شهدوا علىU أنَّ الإمامة بالاختيار ، فعند ذلك قال الأنصار : ((نحنُ أحقّ من قُرَيش ، لأنّا آوَينا ونصرنا ، وهاجر النّاس إلينا ، فإذا كان دفع من كان الأمر له فليس هذا الأمرُ لكُم دوننا)) ، وقال قومٌ: ((منّا أمير ومنكم أمير)) ، قُلنا لهُم : قد شهد أربعون رجُلاً أنَّ الأئمة من قُرَيش ، فقبل قوم وأنكر آخرون ، وتنازعوا ، فقُلتُ – والجمع يسمعون – : ألا أكبرنا سنَّاً، وأكثرنا ليناً ، قالوا : فمن تقول ؟ ، قُلت : أبو بَكر الذي قدَّمه رسول الله في الصّلاة، وجلس معه في العريش يوم بدر يشاوره ويأخُذ برأيه ، وكان صاحبه بالغار ، وزوّج ابنتهُ عايشة التي سمّاها أُم المؤمنين .
فأقبل بنوا هاشم يتميَّزون غيظاً ، وعاضدهم الزبير وسيفه مشهور وقال : لا يبايع إلاّ علي ، أو لا أملك رقبة قائمة سيفي هذا ، فقُلت : يا زبير صرختك سكن من بني هاشم ، أُمك صفيّة بنت عبد المطَّلب ، فقال : ذلك والله الشرف الباذخ ، والفخر الفاخر ، يا ابن ختمة ويا ابن صهّاك ، اسكُت لا أُمَّ لك ، فقال قولاً ، فوثب أربعون رجُلاً ممّن حضر سقيفة بني ساعدة على الزبير ، فوالله ما قدرنا على أخذ سيفه من يده حتّى وسدناه الأرض ، ولم نرَ له علينا ناصراً .
فوثبت إلى أبي بكر ، فصافحته وعاقدته البيعة ، وتلاني عُثمان بن عفّان وساير من حضر غير الزبير ، وقُلنا لهُ : بايع أو نقتُلَك ، ثمَّ كففت عنه الناس فقلت له : أمهلوه فما غضب إلاّ نخوة لبني هاشم ، وأخذت أبا بكر بيدي فأقمته وهو يرعد ، قد اختلَط عقله ، فأزعجتهُ إلى منبرU إزعاجاً ، فقال لي : يا أبا حفص أخاف وثبة عليٍّ ، فقلت له : إنَّ عليّاً عنك مشغول . وأعانني على ذلك أبو عُبَيدة بن الجراح ، كان يمد بيده إلى المنبر ، وأنا أُزعجه من ورائه كالتيس إلى شفار الجارز متهوّناً .
فقام عليه مدهوشاً ، فقُلت له : اخطُب ، فأُغلق عليه وتثبّت ، فدهش وتلجلج وغمض ، فغضضت على كفّي غيظاً وقلتُ له : قُل ما سنح لك ، فلم يأت خيراً ولا معروفاً ، فأردت أن أحطّه عن المنبر وأقوم مقامه ، فكرهت تكذيب النّاس لي بما قُلت فيه ، وقد سألني الجمهور منهم : كيف قلت من فضله ما قُلت ، ما الذي سمعته من رسول الله في أبي بكر ؟ ، فقُلت لهُم : قد قلت من فضله على لسان رسول الله ما لو وددت أنّي شعرة في صدره ولي حكاية فقُلت : قل وإلاّ فانزل .. .. والله في وجهي وعلم أنّه لو نزل لرقيت وقُلت ما لا يهتدي إلى قوله ، فقال بصوت ضعيف عَليل : (( وليتكم ولستُ بخيركم وعليٌّ فيكُم ، واعلموا أنَّ ليَ شيطاناً يعتريني ، وما أراد به سواي ، فإذا زللت فقوِّموني ، لا أقع في شعوركم وأبشاركم ، وأستغفر الله لي ولكُم )) ونزل . فأخذت بيده – وأعيُنُ النّاس ترمقه – وغمزت يده غمزاً ، ثُمَّ أجلسته ، وقدَّمت النّاس إلى بيعته ؛ وصحبته لأُرهبه وكل من ينكر بيعته ويقول : ما فعل عليُّ بن أبي طالب ؟ ، فأقول : خلعها من عنقه وجعلها طاعة المُسلمين قلّة خلاف عليهم في اختيارهم ، فصار جليس بيته . فبايعوا وهُم كارهون .
فلمّا فشت بيعته علمنا أنّ عليّاً يحمل فاطمة والحَسَن والحُسَين إلى دور المُهاجرين والأنصار يذكّرهم بيعته علينا في أربع مواطن ، ويستنفرهم ، فيعدونه النصرة ليلاً ، ويقعدون عنهُ نهاراً ، فأتيت داره مُستشيراً لإخراجه منها ، فقالت الأَمَة فضَّة وقد قلت لها : قولي لعليّ يخرج إلى بيعة أبي بكر فقد اجتمع عليه المُسلمون ، فقالت : إنَّ أمير المؤمنين عليّاً مشغول ، فقُلت : خلّي عنك هذا وقولي له يخرج وإلاّ دخلنا عليه وأخرجناه كرهاً .
فخرجَت فاطمة فوقفَت من وراء الباب ، فقالت : أيُّها الضّالون ، المُكذِّبون ماذا تقولون ؟ وأي شيء تُريدون ؟ ، فقُلت : يا فاطمة ، فقالت فاطمة : ما تشاء يا عُمَر؟ ، فقُلت : ما بال ابن عمّك قد أوردكِ للجواب ، وجلس من وراء الحجاب ؟، فقالت لي : طغيانُك يا شقيُّ أخرجَني ، وألزمك الحجّة وكلَّ ضالّ غويّ ، فقُلت : دعي عنك الأباطيل وأساطير النّساء ، وقولي لعليّ يخرج لا حبَّ ولا كرامة . فقالت : أبحزب الشيطان تخوِّفني يا عُمَر ؟ وكان حزب الشيطان ضعيفاً ، فقُلت : إن لم يخرُج جئت بالحطب الجزل وأضرمتها ناراً على أهل هذا البَيت ، وأُحرق من فيه ، أو يُقاد عليٌّ إلى البَيعة ؛ وأخذت سوط قنفذ فضربتها ، وقُلت لخالد بن الوليد : أنت ورجالنا ، هلّموا في جمع الحَطَب ، فقُلت : إنّي مضرمها ، فقالت : يا عدو الله وعدوَّ رسوله وعدوَّ أمير المؤمنين .
فضربت فاطمة يدها من الباب تمنعني من فتحه ، فرمته ، فتصعّب عليَّ ، فضربتُ كفَّيها بالسوط ، فآلمها ، فسمعتُ لها زفيراً وبُكاءً ، فكدتُ أن أَلين وأنقلب عن الباب ، فذكرت أحقاد عليّ وولوعه في دماء صناديد العرب ، وكيدU وسحره ، فركلت الباب ، وقد ألصقت أحشاءها بالباب تترسه ، وسمعتها وقد صرخَت صرخةً حسبتها قد جعلَت أعلى المدينة أسفلها ، وقالت : يا أبتاه يا رسول الله هكذا كان يُفعل بحبيبتك وابنتك ، آه يا فضَّة إليك فخُذيني ، فقد والله قُتِلَ ما في أحشائي من حمل ؛ وسمعتها تمخض وهي مُستندة إلى الجدار ، فدفعت الباب ودخلت ، فأقبلت إليَّ بوجه أغشى بصري ، فصفقت صفقة على خدَّيها من ظاهر الخمار ، فانقطع قرطها وتناثرت إلى الأرض(1) .
وخرج عليٌّ فلمّا أحسست به أسرعت إلى خارج الدّار ، وقلت لخالد وقنفذ ومن معهما : نجوتُ من أمرٍ عظيم – وفي رواية أُخرى : قد جنيت جنايةً عظيمة لا آمن على نفسي ، وهذا عليٌّ قد برز من البيت وما لي ولكُم به طاقة – . فخرجَ عليٌّ وقد ضربت يديها إلى ناصيتها لتكشف عنها وتستغيث بالله العَظيم ما نزل بها، فأسبل عليٌّ عليها ملاءَتها وقال لها : يا بنت رسول الله إنَّ الله بعثَ أباك رحمةً للعالمين ، وأيم الله لئن كشفت عن ناصيتك سائلةً إلى ربِّك ليهلك هذا الخلق لأجابك، حتّى لا يُبقي على الأرض منهم بشراً ، لأنكِ وأباك أعظم عند الله من نوح الذي غرق من أجله بالطوفان جميع من على وجه الأرض وتحت السماء إلاّ من كان في السفينة ، وأهلك قوم هود بتكذيبهم له ، وأهلك عاداً بريح صرصر ، وأنت وأبوك أعظمُ قدراً من هود وعذَّب ثمود وهي إثنا عشر ألفاً بعقر الناقة والفصيل ، فكوني يا سيدة النساء رحمةً على هذا الخلق المنكوس ، ولا تكوني عذاباً .
واشتدَّ بها المخاض ، ودخلت البيت فأسقطت سقطاً سمّاه عليٌّ محسناً . وجمعت جمعاً كثيراً لا مكاثرة لعليّ ، ولكن ليشدَّ بهم قلبي ، وجئتُ وهو مُحاصر ، فاستخرجتهُ من داره مُكرهاً مغصوباً ، وسقتهُ إلى البيعة سوقاً ، وإنّي لأعلمُ علماً يقيناً لا شكَّ فيه لو اجتهدت أنا وجميع من على الأرض جميعاً على قهره ما قهرناه، ولكن لهنات كانت في نفسه أعلمها ولا أقولها . فلمّا انتهيت إلى سقيفة بني ساعدة قام أبو بكر ومن بحضرته يستهزؤن بعليّ ، فقال عليٌّ : يا عُمَر أتحبُّ أن أعجِّل لك ما اخترتهُ سوءاً عنك ( من سوأتك عنه خ ل ) ؟ ، فقلت : لا يا أمير المؤمنين .
فسمعني والله خالد بن الوليد ، فأسرع إلى أبي بكر ، فقال له أبو بكر : ما لي ولعُمَر – ثلاثاً – والنّاس يسمعون . ولما دخل السقيفة صبا إليه أبو بكر ، فقلتُ له : قد بايعت يا أبا الحَسَن فانصرف فاشهد ما بايعه ، ولا مدَّ يده إليه وكرهت أن أُطالبه بالبيعة فيُعجِّل لي ما أخّره عنّي . وودّ أبو بكر أنه لم يرَ عليّاً في ذلك المكان جزعاً وخوفاً منه . ورجع عليٌّ من السقيفة ، وسألنا عنه فقالوا : مضى إلى قبرU ، فجلس إليه .
فقمتُ أنا وأبو بكر إليه ، وجئنا نسعى ، وأبو بكر يقول : ويلُكَ يا عُمَر ما الذي صنعت بفاطمة ؟ هذا والله الخسران المُبين . فقُلت : أن أعظم ما عليك أنَّه ما بايعنا ، ولا أثق أن تتثاقل المُسلمون عنهُ ، فقال : فما تصنع ؟ ، فقلتُ : نظهر إنَّه قد بايعك عند قبرU . فأتيناه وقد جعل القبر قبلة مسنداً كفّهِ على تربته ، وحوله سلمان وأبو ذَر والمُقداد وعمّار وحُذَيفة بن اليَمان ، فجلسنا بإزائه ، وأوعزتُ إلى أبي بكر أن يضع يده على مثل ما وضع عليَّ يدهُ ويقربها من يده ، ففعل ذلك ، وأخذتُ بيد أبي بكر لأمسحها على يده وأقول : قَد بايعَ ، فقبض عليّاً يدهُ . فقمتُ أنا وأبو بكر مولّياً وأنا أقول : جزى الله عليّاً خيراً ، فإنّه لم يمنعك البيعة لما حضرت قبر رسول الله . فوثب من دون الجماعة أبو ذر جندب بن جنادة الغفاريّ وهو يصيح ويقول : والله يا عدوَّ الله ما بايع عليٌّ تقيّاً . ولم يزل كُلَّما لقينا قوماً وأقبلنا على قوم نُخبرهم ببيعته ، وأبو ذر يكذبنا . والله ما بايعنا في خلافة أبي بكر ولا في خلافتي ، ولا يُبايع لمن بعدي ، ولا بايعَ من أصحابه إثنا عشر رجُلاً ، لا لأبي بكر ولا لي .
فمن فعل يا معاوية فعلي ، واستثار أحقاده السالفة غيري ؟ أمّا أنتَ وأبوك أبو سُفيان وأخوك عتبة ، فاعرف ما كان منكم في تكذيبU وكيده ، وإدارة الدواير بمكة ، وطلبتهُ في جبل حرى لقتله ، وتألّف الأحزاب وجمعهم عليه ، وركوب أبيك الجمَل وقد قاد الأحزاب وقولU : ] لعنَ الله الراكب والقائد والسايق [ ، وكان أبوك الراكب ، وأخوك عتبة القايد ، وأنت السايق .
ولم أنسَ أُمك هنداً وقد بذلت لوحشي ما بذلت ، حتّى تمكن نفسه لحمزة الذي دعوه أسد الرحمن في أرضه ، وطعنه بالحربة ، ففلق فؤاده ، وشقّ عنه ، وأخذ كبده فحمله إلى أُمك ؛ فزعمU بسحره أنَّه لمّا أدخلته فاها لتأكله صار جلموداً ، فلفظتهُ من فيها ، وسمّاهاU أو أصحابه : آكلةَ الأكباد ؛ وقولها في شعرها لاعتداءU ومقاتليه :
نحنُ بنـــات طــارق نمشـي علــى النمــارق
كالدّر فــي المخانــق والمسـك في المــفــارق
إن يقبلـوا نــعانـــق أو يـدبــروا نــفــارق
فراق غـيــر وامــق
ونسوتها في الثياب الصفر المرسبة ، مُبديات وجوههنَّ ومعاصمهنَّ ورؤوسهنَّ يحرضنَّ على قتالU ، إنَّكُم لم تسلموا طوعاً ، وإنَّما أسلمتُم كرهاً يوم فتح مكّة، فجعلكُم طلقاء ، وجعل أخي زيداً وعَقيلاً أخا علي ابن أبي طالب والعبّاس عمّهم مثلهم . وكان من أبيك في نفسه ، فقال : والله يا ابن أبي كبشة لأملأنّها عليكَ خَيلاً ورجلاً ، وأحولَ بينك وبَين هذه الأعداء ، فقالU– ويؤذن للناس أنّه علم ما في نفسه – : أوَ يَكفي الله شرَّك يا أبا سُفيان ؛ وهو يري للناس أن لا يعلوها أحدٌ غيري وعليٌّ ومن يليه من أهل بيته .
فبطلُ سحره ، وخاب سعيُه ، وعلاها أبو بكر ، وعلوتُها بعده ، وأرجو أن تكونوا معاشر بني أُميَّة عيدان أطنابها ، فمن ذلك قد ولّيتك وقلَّدتك إباحة ملكها ، وعرّفتك فيها ، وخالفتُ قوله فيكُم ، وما أُبالي من تأليف شعره ونثره أنَّهُ قال يوحى إليَّ منزلٌ من ربّي في قوله : } والشجرة المَلعونة في القُرآن {(1) ، فزعمَ أنَّها أنتُم يا بني أُميَّة ، فبيّن عداوتهُ حيثُ مَلَك ، كما لم يزَل هاشم وبنوه أعداء بني عبد شمس .
وأنا مع تذكيري إيّاك يا معاوية ، وشرحي لكَ ما قد شرحتهُ ناصحٌ لك ومُشفقٌ عليك من ضيق عَطَنك(1) ، وحرج صدرك ، وقلَّة حلمك أن تعجل فيما وصّيتك ومكّنتُك منه من شريعةU وأُمَّته أن تُبدي لهم مطالبته بطعن ، أو شماتة بموت، أو ردّاً عليه فيما أتى به أو استصغاراً لما أتى به فتكون من الهالكين ، فتخفض ما رفعت ، وتهدم ما بنيت .
واحذَر كلّ الحذر حيث دخلت علىU مسجده ومنبره ، وصدِّق محمَّداً في كلّ ما أتي به وأورده ظاهراً ، واظهر التحرُّز والواقعة في رعيّتك ، وأوسعهم حلماً وأعمَّهم بروايح العطايا ، وعليك بإقامة الحدود فيهم ، وتضعيف الجناية منهم لسبا ( كذا )U من مالك ورزقك ، ولا ترهم أنَّك تدع لله حقّاً ، ولا تنقص فرضاً ، ولا تغيِّر لمحمَّد سُنَّته ، فتُفسِد علينا الأُمَّة ، بل خُذهُم من مأمنهم ، واقتلهم بأيديهم ، وأبّدهم بسيوفهم وتطاولهم ولا تُناجزهم ، ولِن لهُم ، ولا تبخَس عليهم ، وافسَح لهم في مجلسك ، وشرِّفهم في مقعدك وتوَّصل إلى قتلهم برئيسهم ، واظهر البشر والبَشاشة ، بل اكظم غيظَك ، واعفُ عنهم ، يحبُّوك ويُطيعوك .
فما أُمن علينا وعليك ثورة عليٍّ وشبليه الحَسَن والحُسَين ، فإن أمكنك في عدَّة من الأُمَّة فبادر ، ولا تقنع بصغار الأُمور ، واقصد بعظيمها ، واحفظ وصيّتي إليك وعهدي ، وأخفه ولا تُبده ، وامتثل أمري ونهيي ، وانهض بطاعتي ، وإيّاك والخلاف عليَّ ، واسلُك طريقة أسلافك واطلُب بثارك ، واقتصَّ آثارهم ، فقد أخرجت إليكَ بسرّي وجهري ، وشفعت هذا بقولي :
معاوي إنَّ القوم جلَّت أُمورهم بدعوة من عمّ البريّة بالوتـرى
صبوت إلى دين لهم فأرابنـي فأبعد بدين قد قصمت به ظهري
إلى آخر الأبيات(1)< .
قال : فلمّا قرأ عبد الله بن عُمَر هذا العهد قام إلى يَزيد ، فقبَّل رأسه وقال : الحمدُ لله يا أمير المؤمنين على قتلك الشاري ابن الشاري(2) ، والله ما أخرج أبي إليَّ بما أخرج إلى أبيك ، والله لا رآني أحدٌ من رهطU بحيث يُحب ويرضى ، فأحسن جايزته وبرّه وردَّه مكرّماً ، فخرج عبد الله بن عُمَر من عنده ضاحكاً ، فقال لهُ النّاس : ما قالَ لَك ؟ ، قال : قولاً صادقاً لوددت أنّي كُنتُ مُشاركه فيه . وسار راجعاً إلى المَدينة ، وكان جوابه لمن يَلقاه هذا الجواب .
تنضيد
يوم الغدير المُبارك
19 / ذي الحجّة / 1424هـ
ويروى أنَّه أخرج يزيد ( لعنهُ الله ) إلى عبد الله بن عُمَر كتاباً فيه عهد عُثمان بن عفّان فيه أغلظ من هذا وأدهى وأعظم من العهد الّذي كَتَبَهُ عُمَر لمعاوية ، فلمّا قرأ عبد الله بن عُمَر العهد الآخر قام فقبَّل رأس يزيد ( لعنهُما الله ) وقال : الحمدُ لله على قتلك الشاري ابن الشاري ..(3) .
إنتهى(4)
(1)(( المجالس السَنَية في مناقب ومصائب العترة النبوية )) تأليف : السيّد محسن الأَمين، المجلّد الثاني ؛ ص : 123-126 .
(1)وغر صدره على فُلان : توقَّد عليه من الغيظ . والواجفة : المُضطربة .
(2)من الشوك ، أي كانت البصائر والنيّات غير خالصة ممّا يختلج بالبال من الشكوك والشبهات . (منه S).
(3)لا غرابة في صدور هذه التعبيرات عنه ، لأنّه قد أثر من الرجل ما هو أشدّ وأغلظ من ذلك في حياة النبي 7 ؛ ولنذكُر ما استطرفناه من كتاب الوصيّة من كتاب ( تذكرة الفُقَهاء ) ج 2 ، ص 469-470 في ذلك :
قال العَلاّمة الحليّ S : مسألة : (( لو أوصى لأعقل الناس في البلد .. ولو قال لأجهل الناس ؛ قال بعض الشافعيّة يصرف إلى من يسبُّ الصحابة .. )) ثم قال بعد تفنيد قولهم : ((وكان عُمَر بن الخطّاب عندهم ثاني الخُلفاء .. قد سبَّ رسول الله 7 في مرضه الذي توفي فيه ، حيث قال رسول الله 7 : إيتوني بدوات وكتف لأكتب فيه كتاباً لن تضلّوا بعدهُ أبداً . فقال عُمَر: إنَّ الرجُل ليهجر ، حسبُنا كتاب الله . فأعرضَ النبي 7 مُغضباً ..
وقال يوماً : إنَّ رسول الله شجرة نبتَت في كبا " أي في مزبلة " ، وعنى بذلك رذالة أهله ؛ فسمعهُ رسول الله 7 ذلك ، فاشتد غيظه ، ثُمَّ نادى : الصلاة جامعة فحضر المُسلمون بأسرهم، فصعد رسول الله 7 المنبر ، ثُمَّ حمد الله وأثنى عليه وقال : يا أيُّها الناس ليقُم كل منكم ينتسب إلى أبيه حتّى أعرف نسبه ، فقام إليه شخص من الجماعة وقال : يا رسول الله أنا فُلان بن فُلان بن فُلان .. فقال : صَدَقت ، ثم قام آخر فقال : يا رسول الله أنا فُلان بن فُلان ، فقال : لست لفُلان وإنَّما أنت لفُلان وانتحلك فُلان بن فُلان ، فقعد خجلاً ، ثم لم يقم أحد ، فأمرهم بالقيام والانتساب مرَّةً واثنتين فلم يقم أحد ، فقال : أين السابُّ لأَهل بيتي ؟ ليقُم إليَّ وينتسب إلى أبيه ؟ فقام عُمَر وقال : يا رسول الله اعف عنّا عفا الله عنك ، اغفر لنا غفر الله لك ، احلم عنّا حلم الله عنك ..
أقول : خبر الدواة مشهور مستفيض من الطريقين ، أُورد مصادره هُنا لزيادة البصيرة فراجع: صحيح البُخاري، ط محمّد علي صبيح وأولاده ، ج1 ، ص39 ، باب كتابة العلم ، وج4، ص85 ، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ؛ وص121 ، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب ، وج6 ، ص11 ، باب كتاب النّبي 7 إلى كسرى وقيصر ، وج7 ، ص156 ، باب قول المريض : قوموا عنّي ، وج9 ، ص137 ، باب كراهية الخلاف . وصحيح مُسلم ، ج5، ص75، ط دار الفكر بيروت ، باب ترك الوصيَّة لمن ليس له شيء . ومَسنَد أحمد ، ج3 ، ص346 ، ط دار إرصاد بيروت .
وقد جاءت الرواية بعباراتٍ شتّى : (( فقالوا : هَجَر رسول الله .. )) ؛ (( وماله أهجر .. ))؛ (( وما شأنه أهجر .. )) ، فيعلم من ذلك كلّه إنَّ نسبة الهجر إلى النبي 7 ثابتة إلاّ أنهم بدلوا ، أو أضافوا كلمة (( الوَجَع )) تهذيباً للعبارة ووقايةً لشأن الخليفة ، ولكن هَيهات ! وما يصلح العطّار ما أفسَدَ الدَّهر .
(1)الطمطمانيّ ، بالضم : في لسانه عجمة . ( منه S ) .
(2)آل عمران ؛ آية : 96 .
(1) البقرة ؛ آية : 144 .
(1)حديث غصب الخلافة والاستبداد بها دون أهلها ممّا لا يشك فيه اللّبيب ، وقد روى البلاذري قال: لمّا قُتِلَ الحُسَين ، كَتَبَ عبد الله بن عُمَر إلى يزيد بن معاوية : أمّا بعد فقد عظمت الرزيّة وجلَّت المُصيبة وحدث في الإسلام حدثٌ عظيم ، ولا يوم كيوم قتل الحُسَين . فكتب إليه يزيد : أمّا بعد، يا أحمَق فإنّا جئنا إلى بيوتٍ مجدَّدة وفرش ممهَّدة ووسائد منضَّدة ، فقاتلنا عنها ، فإن يكُن الحَق لنا ، فعن حقِّنا قاتلنا ، وإن كان الحقُّ لغيرنا فأبوكَ أوَّل من سنَّ هذا ، واستأثرَ بالحقِّ على أهله . ( نهج الحق وكشف الصدق للعَلاّمة S ص356 ، ط بيروت ) .
(1)قال العَلاّمة الأميني S عند نقل خبر صرب عمر النساء عند بُكائهنَّ على الميِّت من آل رسول الله 7 : .. غير أنّي لا أعلم أن الصدِّيقة الفاطمة التي كانت من الباكيات في ذلك اليوم هل كانت بين تلكم النسوة المضروبات أم لا ؟ وعلى أيّ فقد جلست إلى أبيها وهي باكية . (الغدير، ج6 ، ص160) .
(1)الإسراء ؛ آية : 6 .
(1)قال الجوهريُّ : فُلان واسع العطن والبلد ، إذا كان رحب الذراع . (منه S) .
(1)والأبيات ذكره في المصدر ؛ فراجع .
(2)يعني الخارجيّ .
(3)(( البحار )) ج8 ، ص229-233 ، ط الكمباني .
(4)أُخذَ هذا العهد من كتاب (( فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) بَهجَة قلب المُصطفى 7 للحاج الشيخ أحمد الرحماني الهمداني ص553 فليُراجَع إتماماً للفائدة .. والحمدُ لله )) .
تعليق