بسم الله الرحمن الرحيم
أخرج البخاري في صحيحه كتاب استتابة المرتدّين باب قتل من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردّة ومسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس. عن أبي هريرة قال: لما توفّي النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب قال عمر: يا أبا بكر، كيف تقاتل النّاس وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أمرت أن أقاتل النّاس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم منّي ماله ونفسه إلاّ بحقّه وحسابه على الله؟، قال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزّكاة فإنّ الزّكاة حقّ المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لقاتلتهم على منعها. قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنّه الحقّ.
وليس هذا بغريب على أبي بكر وعمر اللّذَيْن هدّدا بحرق بيت الزّهراء سيّدة النّساء بمن فيه من الصّحابة المتخلّفين عن البيعة [الإمامة والسياسة لابن قتيبة ، العقد الفريد ج2 حديث السقيفة – الطبري في تاريخه والمسعودي في مروج الذهب – وأبو الفداء والشهرستاني وغيرهم] وإذا كان حرق علي وفاطمة والحسن والحسين ونخبة من خيرة الصّحابة الذين امتنعوا عن البيعة، أمراً هيّناً عليهما فليس قتال مانعي الزّكاة إلاّ أمراً ميسوراً، وما قيمة هؤلاء الأعراب الأباعد مقابل العترة الطّاهرة والصّحابة الأبرار؟ أضف إلى ذلك أن هؤلاء المتخلّفين عن البيعة يرون أنّ الخلافة هي حقّ لهم بنصّ لرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وحتّى على فرض عدم وجود النّص عليهم فمن حقّهم الاعتراض والنقد والإدلاء بآرائهم إن كان هناك شورى كما يزعمون، ومع ذلك فإنّ تهديدهم بالحرق أمرٌ ثابتٌ بالتواتر ولولا استسلام علي وأمره للصّحابة بالخروج للبيعة حفاظاً على حقن دماء المسلمين ووحدة الإسلام لما تأخّر القائمون بالأمر، عن إحراقهم.
أمّا وقد استتب الأمر لهم وقويت شوكتهم ولم يعدْ هناك معارضة تذكرة بعد موت الزّهراء ومصالحة علي لهم. فكيف يسكتون عن بعض القبائل التي امتنعت عن دفع الزّكاة لهم بحجّة التريّث حتى يتبيّنوا أمر الخلافة وما وقع فيها بعد نبيهم صلّى الله عليه وآله وسلّم تلك الخلافة التي اعترف عمر نفسه بأنّها فلتة . صحيح البخاري كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة باب رجم الحبلى من الزنا .
إذن ليس بالغريب أن يقوم أبو بكر وحكومته بقتل المسلمين الأبرياء وانتهاك حرماتهم وسبي نسائهم وذريتهم وقد ذكر المؤرّخون بأنّ أبا بكر بعث بخالد بن الوليد فأحرق قبيلة بني سليم [الرياض النضرة لمحب الدين الطبري ج1 ص100] وبعثه إلى اليمامة، وغلى بني تميم وقتلهم غدراً بعدما كتّفهم وضرب أعناقهم صبراً وقتل مالك بن نويرة الصّحابي الجليل الذي ولاّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على صدقات قومه ثقة به، ودخل بزوجته في ليلة قتل زوجها. فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.
وما ذنب مالك وقومه إلا أنهم لمّا سمعوا بما حدث من أحداث بعد موت النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما وقع من إبعاد علي وظلم الزّهراء حتى ماتت غاضبة عليهم وكذلك مخالفة سيّد الأنصار سعد بن عبادة وخروجه عن بيعتهم وما تناقله العرب من أخبار تشكّك في صحّة البيعة لأبي بكر. لكل ذلك تريّث مالك وقومه لإعطاء الزّكاة، فكان الحكم الصّادر من الخليفة وأنصاره بقتلهم وسبي نسائهم وذريتهم وانتهاك حرماتهم وإخماد أنفاسهم حتّى لا يتفشّى في العرب رأي للمعارضة أو المناقشة في أمر الخلافة.
والمؤسف حقّاً أنك تجد من يدافع عن أبي بكر وحكومته بل ويصحّح أخطاءه التي اعترف هو بها [عندما اعتذر لأخي مالك متمم وأعطاه ديّة مالك من بيت مال المسلمين وقال إن خالد تأوّل فأخطأ] ويقول كقول عمر: والله ما هو إلاّ أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
وهل لنا أن نسأل عمر عن سرّ اقتناعه بقتال المسلمين الذين شهد هو نفسه بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حرّم قتالهم بمجرّد قولهم لا إله إلا الله. وعارض هو نفسه أبا بكر بهذا الحديث فكيف انقلب فجأة واقتنع بقتالهم وعرف أنه الحق بمجرد أن رأى أن قد شرح الله صدر أبي بكر فكيف تمت عمليّة شرح الصّدر هذه وكيف رآها عمر دون سائر الناس؟ وإن كانت علمية الشرح هذه معنوية وليست حقيقيّة فكيف يشرح الله صدور قوم بمخالفتهم لأحكامه التي رسمها على لسان رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكيف يقول الله لعباده على لسان نبيّه من قال لا إله إلا الله حرامٌ عليكم قتله، وحسابه عليٌّ. ثم يشرح صدر أبي بكر وعمر قتالهم؟ فهل نزل وحيّ عليهما بعد محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ أم هو الاجتهاد الذي اقتضته المصالح السيّاسية والتي ضربت بأحكام الله عرض الجدار؟
أمّا دعوى المدافعين، بأن هؤلاء ارتدّوا عن الإسلام فوجب قتلهم، فهذا غير صحيح ومن له أي اطّلاع على كتب التّاريخ يعلم علم اليقين أنّ مانعي الزكاة لم يرتدوا عن الإسلام، كيف وقد صلّوا مع خالد وجماعته عندما حلّوا بفنائهم. ثمّ إنّ أبا بكر نفسه أبطل هذه الدعوى الكاذبة بدفعه ديّة مالك من بيت مال المسلمين واعتذر عن قتله. والمرتد لا يعتذر عن قتله ولا تدفع ديّته من بيت المال. ولم يقل أحدٌ من السّلف الصالح أنّ مانعي الزكاة ارتدّوا عن الإسلام إلاّ في زمن متأخّر عندما أصبحت هناك مذاهب وفرق فأهل السنّة حاولوا جهدهم وبدون جدوى أن يبرّروا أفعال أبي بكر فلم يجدوا بدّاً من نسبة الارتداد إليهم لأنهم عرفوا أن سباب المسلم فسوقٌ وقتاله كفر. كما جاء في صحاح أهل السنّة [صحيح البخاري كتاب الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر وصحيح مسلم كتاب الإيمان باب قول النبي سباب المسلم فسوق وقتاله كفر] وحتّى أن البخاري عندما أخرج حديث أبي بكر وقوله: والله لأقتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة جعل له باباً بعنوان: من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردّة وهو دليل على أن البخاري نفسه لا يعتقد بردّتهم (كما لا يخفى).
وحاول البعض الآخر تأويل الحديث كما تأوّله أبو بكر بانّ الزكاة هي حقّ المال، وهو تأويل في غير محلّه. أوّلاً لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حرّم قتل من قال لا إله إلا الله فقط، وفي ذلك أحاديث كثيرة أثبتها الصّحاح سنوافيك بها.
ثانياً: لو كانت الزكاة حق المال فغن الحديث يبيح في هذه الحالة أن يأخذ الحاكم الشرعي الزكاة بالقوة من مانعها بدون قتله وسفك دمه. ثالثاً: لو كان هذا التأويل صحيحاً لقاتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثعلبة الذي امتنع عن أداء الزكاة له (القصّة معروفة لا داعي لذكرها) رابعاً: إليك ما أثبته الصّحاح في حرمة من قال لا إله إلا الله وسأقتصر على البخاري ومسلم وعلى بعض الأحاديث روماً للاختصار.
(أ) أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله.
والبخاري في صحيحه في كتاب المغازي باب حدّثني خليفة عن المقداد بن الأسود أنّه قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفّار فاقتتلنا، فضرب إحدى يديَّ بالسّيف فقطعها؟ ثم لاذ منّي بشجرة، فقال: أسلمت لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تقتله» فقال: يا رسول الله إنه قطع إحدى يديَّ ثم قال ذلك بعدما قطعها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تقتله، فإن قتلته فإنّه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنّك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال».
هذا الحديث يفيد بأنّ الكافر الذي لا إله إلا الله ولو بعد اعتدائه على مسلم بقطع يده فإنه يحرم قتله. وليس هناك اعتراف بمحمّد رسول الله ولا إقامة الصّلاة ولا إيتاء الزكاة ولا صوم رمضان ولا حج البيت، فأين تذهبون وماذا تتأوّلون؟
(ب) أخرج البخاري في صحيحه من كتاب المغازي باب بعث النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة وصحيح مسلم في كتاب الإيمان في باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجلٌ من الأنصار رجلاً منهم، فلمّا غشيناه، قال: لا إله إلا الله، فكفّ الأنصاري عنه، وطعنته برمحي حتّى قتلته، فلمّا قدمنا، بلغ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: «يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟» قلت: كان متعوذاً: فما زال يكرّرها حتّى تمنّيت أني لم أكنْ أسلمت قبل ذلك اليوم.
وهذا الحديث يفيد قطعاً بأنّ من قال لا إله إلا الله يحرم قتله ولذلك ترى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يشدّد النّكير على أسامة حتى يتمنّى أسامة أنه لم يكن أسلم قبل ذلك اليوم ليشمله حديث «الإسلام يجبَّ ما قبله» ويطمع في مغفرة الله له ذلك الذنب الكبير.
(ت) أخرج البخاري في صحيحه من كتاب اللّباس، باب الثياب البيض. وكذلك مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة.
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليه ثوبٌ أبيضٌ وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: «ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلاّ دخل الجنّة» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق»، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق»، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذرٍّ».
وكان أبو ذرّ إذا حدّث بهذا الحديث قال: وإن رغم أنف أبي ذرّ. وهذا الحديث هو الآخر يثبت دخول الجنّة لمن قال لا إله إلا الله، ومات على ذلك فلا يجوز قتلهم. وذلك رغم أنف أبي بكر وعمر وكلّ أنصارهم الذين يتأوّلون الحقائق ويقبلونها حفاظاً على كرامة أسلافهم وكبرائهم الذين غيّروا أحكام الله.
وبالتأكيد أنّ أبا بكر وعمر يعرفان كل هذه الأحكام فهما أقرب منّا لمعرفتها وألصق بصاحب الرسالة من غيرهما ولكنّهما ومن أجل الخلافة تأوّلا جلّ أحكام الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم على علم وبيّنة.
ولعلّ أبا بكر لمّا عزم على قتال مانعي الزّكاة وعارضه عمر بحديث الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي يحرم ذلك، أقنع صاحبه بأنّه هو الذي حمل الحطب ليحرق بيت فاطمة بنفسه وأنّ فاطمة أقل ما يقال بحقها أنّها كانت تشهد أن لا إله إلا الله، ثم أقنعه بأن فاطمة وعلي لم يعد لهما كبير شأن في عاصمة الخلافة بينما هؤلاء القبائل الذين منعوا الزكاة لو تركوهم واستشرى أمرهم في داخل البلاد الإسلامية فسيكون لهم تأثير كبير على مركز الخلافة. عند ذلك رأى عمر أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فاعترف بأنه الحقّ.
وليس هذا بغريب على أبي بكر وعمر اللّذَيْن هدّدا بحرق بيت الزّهراء سيّدة النّساء بمن فيه من الصّحابة المتخلّفين عن البيعة [الإمامة والسياسة لابن قتيبة ، العقد الفريد ج2 حديث السقيفة – الطبري في تاريخه والمسعودي في مروج الذهب – وأبو الفداء والشهرستاني وغيرهم] وإذا كان حرق علي وفاطمة والحسن والحسين ونخبة من خيرة الصّحابة الذين امتنعوا عن البيعة، أمراً هيّناً عليهما فليس قتال مانعي الزّكاة إلاّ أمراً ميسوراً، وما قيمة هؤلاء الأعراب الأباعد مقابل العترة الطّاهرة والصّحابة الأبرار؟ أضف إلى ذلك أن هؤلاء المتخلّفين عن البيعة يرون أنّ الخلافة هي حقّ لهم بنصّ لرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وحتّى على فرض عدم وجود النّص عليهم فمن حقّهم الاعتراض والنقد والإدلاء بآرائهم إن كان هناك شورى كما يزعمون، ومع ذلك فإنّ تهديدهم بالحرق أمرٌ ثابتٌ بالتواتر ولولا استسلام علي وأمره للصّحابة بالخروج للبيعة حفاظاً على حقن دماء المسلمين ووحدة الإسلام لما تأخّر القائمون بالأمر، عن إحراقهم.
أمّا وقد استتب الأمر لهم وقويت شوكتهم ولم يعدْ هناك معارضة تذكرة بعد موت الزّهراء ومصالحة علي لهم. فكيف يسكتون عن بعض القبائل التي امتنعت عن دفع الزّكاة لهم بحجّة التريّث حتى يتبيّنوا أمر الخلافة وما وقع فيها بعد نبيهم صلّى الله عليه وآله وسلّم تلك الخلافة التي اعترف عمر نفسه بأنّها فلتة . صحيح البخاري كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة باب رجم الحبلى من الزنا .
إذن ليس بالغريب أن يقوم أبو بكر وحكومته بقتل المسلمين الأبرياء وانتهاك حرماتهم وسبي نسائهم وذريتهم وقد ذكر المؤرّخون بأنّ أبا بكر بعث بخالد بن الوليد فأحرق قبيلة بني سليم [الرياض النضرة لمحب الدين الطبري ج1 ص100] وبعثه إلى اليمامة، وغلى بني تميم وقتلهم غدراً بعدما كتّفهم وضرب أعناقهم صبراً وقتل مالك بن نويرة الصّحابي الجليل الذي ولاّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على صدقات قومه ثقة به، ودخل بزوجته في ليلة قتل زوجها. فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.
وما ذنب مالك وقومه إلا أنهم لمّا سمعوا بما حدث من أحداث بعد موت النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما وقع من إبعاد علي وظلم الزّهراء حتى ماتت غاضبة عليهم وكذلك مخالفة سيّد الأنصار سعد بن عبادة وخروجه عن بيعتهم وما تناقله العرب من أخبار تشكّك في صحّة البيعة لأبي بكر. لكل ذلك تريّث مالك وقومه لإعطاء الزّكاة، فكان الحكم الصّادر من الخليفة وأنصاره بقتلهم وسبي نسائهم وذريتهم وانتهاك حرماتهم وإخماد أنفاسهم حتّى لا يتفشّى في العرب رأي للمعارضة أو المناقشة في أمر الخلافة.
والمؤسف حقّاً أنك تجد من يدافع عن أبي بكر وحكومته بل ويصحّح أخطاءه التي اعترف هو بها [عندما اعتذر لأخي مالك متمم وأعطاه ديّة مالك من بيت مال المسلمين وقال إن خالد تأوّل فأخطأ] ويقول كقول عمر: والله ما هو إلاّ أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
وهل لنا أن نسأل عمر عن سرّ اقتناعه بقتال المسلمين الذين شهد هو نفسه بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حرّم قتالهم بمجرّد قولهم لا إله إلا الله. وعارض هو نفسه أبا بكر بهذا الحديث فكيف انقلب فجأة واقتنع بقتالهم وعرف أنه الحق بمجرد أن رأى أن قد شرح الله صدر أبي بكر فكيف تمت عمليّة شرح الصّدر هذه وكيف رآها عمر دون سائر الناس؟ وإن كانت علمية الشرح هذه معنوية وليست حقيقيّة فكيف يشرح الله صدور قوم بمخالفتهم لأحكامه التي رسمها على لسان رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكيف يقول الله لعباده على لسان نبيّه من قال لا إله إلا الله حرامٌ عليكم قتله، وحسابه عليٌّ. ثم يشرح صدر أبي بكر وعمر قتالهم؟ فهل نزل وحيّ عليهما بعد محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ أم هو الاجتهاد الذي اقتضته المصالح السيّاسية والتي ضربت بأحكام الله عرض الجدار؟
أمّا دعوى المدافعين، بأن هؤلاء ارتدّوا عن الإسلام فوجب قتلهم، فهذا غير صحيح ومن له أي اطّلاع على كتب التّاريخ يعلم علم اليقين أنّ مانعي الزكاة لم يرتدوا عن الإسلام، كيف وقد صلّوا مع خالد وجماعته عندما حلّوا بفنائهم. ثمّ إنّ أبا بكر نفسه أبطل هذه الدعوى الكاذبة بدفعه ديّة مالك من بيت مال المسلمين واعتذر عن قتله. والمرتد لا يعتذر عن قتله ولا تدفع ديّته من بيت المال. ولم يقل أحدٌ من السّلف الصالح أنّ مانعي الزكاة ارتدّوا عن الإسلام إلاّ في زمن متأخّر عندما أصبحت هناك مذاهب وفرق فأهل السنّة حاولوا جهدهم وبدون جدوى أن يبرّروا أفعال أبي بكر فلم يجدوا بدّاً من نسبة الارتداد إليهم لأنهم عرفوا أن سباب المسلم فسوقٌ وقتاله كفر. كما جاء في صحاح أهل السنّة [صحيح البخاري كتاب الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر وصحيح مسلم كتاب الإيمان باب قول النبي سباب المسلم فسوق وقتاله كفر] وحتّى أن البخاري عندما أخرج حديث أبي بكر وقوله: والله لأقتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة جعل له باباً بعنوان: من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردّة وهو دليل على أن البخاري نفسه لا يعتقد بردّتهم (كما لا يخفى).
وحاول البعض الآخر تأويل الحديث كما تأوّله أبو بكر بانّ الزكاة هي حقّ المال، وهو تأويل في غير محلّه. أوّلاً لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حرّم قتل من قال لا إله إلا الله فقط، وفي ذلك أحاديث كثيرة أثبتها الصّحاح سنوافيك بها.
ثانياً: لو كانت الزكاة حق المال فغن الحديث يبيح في هذه الحالة أن يأخذ الحاكم الشرعي الزكاة بالقوة من مانعها بدون قتله وسفك دمه. ثالثاً: لو كان هذا التأويل صحيحاً لقاتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثعلبة الذي امتنع عن أداء الزكاة له (القصّة معروفة لا داعي لذكرها) رابعاً: إليك ما أثبته الصّحاح في حرمة من قال لا إله إلا الله وسأقتصر على البخاري ومسلم وعلى بعض الأحاديث روماً للاختصار.
(أ) أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله.
والبخاري في صحيحه في كتاب المغازي باب حدّثني خليفة عن المقداد بن الأسود أنّه قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفّار فاقتتلنا، فضرب إحدى يديَّ بالسّيف فقطعها؟ ثم لاذ منّي بشجرة، فقال: أسلمت لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تقتله» فقال: يا رسول الله إنه قطع إحدى يديَّ ثم قال ذلك بعدما قطعها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تقتله، فإن قتلته فإنّه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنّك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال».
هذا الحديث يفيد بأنّ الكافر الذي لا إله إلا الله ولو بعد اعتدائه على مسلم بقطع يده فإنه يحرم قتله. وليس هناك اعتراف بمحمّد رسول الله ولا إقامة الصّلاة ولا إيتاء الزكاة ولا صوم رمضان ولا حج البيت، فأين تذهبون وماذا تتأوّلون؟
(ب) أخرج البخاري في صحيحه من كتاب المغازي باب بعث النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة وصحيح مسلم في كتاب الإيمان في باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجلٌ من الأنصار رجلاً منهم، فلمّا غشيناه، قال: لا إله إلا الله، فكفّ الأنصاري عنه، وطعنته برمحي حتّى قتلته، فلمّا قدمنا، بلغ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: «يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟» قلت: كان متعوذاً: فما زال يكرّرها حتّى تمنّيت أني لم أكنْ أسلمت قبل ذلك اليوم.
وهذا الحديث يفيد قطعاً بأنّ من قال لا إله إلا الله يحرم قتله ولذلك ترى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يشدّد النّكير على أسامة حتى يتمنّى أسامة أنه لم يكن أسلم قبل ذلك اليوم ليشمله حديث «الإسلام يجبَّ ما قبله» ويطمع في مغفرة الله له ذلك الذنب الكبير.
(ت) أخرج البخاري في صحيحه من كتاب اللّباس، باب الثياب البيض. وكذلك مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة.
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليه ثوبٌ أبيضٌ وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: «ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلاّ دخل الجنّة» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق»، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق»، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذرٍّ».
وكان أبو ذرّ إذا حدّث بهذا الحديث قال: وإن رغم أنف أبي ذرّ. وهذا الحديث هو الآخر يثبت دخول الجنّة لمن قال لا إله إلا الله، ومات على ذلك فلا يجوز قتلهم. وذلك رغم أنف أبي بكر وعمر وكلّ أنصارهم الذين يتأوّلون الحقائق ويقبلونها حفاظاً على كرامة أسلافهم وكبرائهم الذين غيّروا أحكام الله.
وبالتأكيد أنّ أبا بكر وعمر يعرفان كل هذه الأحكام فهما أقرب منّا لمعرفتها وألصق بصاحب الرسالة من غيرهما ولكنّهما ومن أجل الخلافة تأوّلا جلّ أحكام الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم على علم وبيّنة.
ولعلّ أبا بكر لمّا عزم على قتال مانعي الزّكاة وعارضه عمر بحديث الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي يحرم ذلك، أقنع صاحبه بأنّه هو الذي حمل الحطب ليحرق بيت فاطمة بنفسه وأنّ فاطمة أقل ما يقال بحقها أنّها كانت تشهد أن لا إله إلا الله، ثم أقنعه بأن فاطمة وعلي لم يعد لهما كبير شأن في عاصمة الخلافة بينما هؤلاء القبائل الذين منعوا الزكاة لو تركوهم واستشرى أمرهم في داخل البلاد الإسلامية فسيكون لهم تأثير كبير على مركز الخلافة. عند ذلك رأى عمر أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فاعترف بأنه الحقّ.
تعليق