بسم الله الرحمن الرحيم
وصل الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
ان آية التطهير المباركة تمثل منطلقاً صلباً لإثبات العصمة المطلقة , يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ( 1 )
تعد هذه الآية من الآيات الأساسية التي استدلوا بها على عصمة النبي وعصمة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين .. فعندما نتحدث عن العصمة فنعني بها العصمة المطلقة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن تثبت الآية عصمتهم في حالات التبليغ وغيرها على مستوى العمد والسهو والنسيان والغفلة .. في مرحلة البلوغ وما قبل البلوغ كما تمت الإشارة لذلك في موضوع ادرجناه تحت عنوان ( العصمة في حديث الثقلين )
http://www.yahosein.com/vb/showthread.php?t=71551
وقد يسأل سائل :
كيف تدل الآية على العصمة بهذه السعة وبمثل هذه الدرجة ؟
نبدأ من آخر الآية : ( ويطهركم تطهيرا ) لنسأل عن المراد بالطهارة ؟ إذا ما تمت العودة للقرآن نفسه سنجد أن ما يقابل الطهارة هو النجاسة أو الرجس كما في آية التطهير ذاتها التي أوقعت مقابلة بين الطهارة والرجس وبذلك إذا ما تمت معرفة المراد بالرجس قرآنياً فسيتضح المراد بالطهارة .
الرجس من القذارة فكل قذر هو رجس وكل رجس فهو قذر كما تفيد كتب اللغة والتفسير التي ترادف بين الاثنين .. والسؤال عندئذ ما هي القذارة وما هو الشيء القذر ؟
عند العودة مثلا إلى السيد الطباطبائي رحمة الله في (( الميزان )) نجده يكتب : ( والرجس ـ بالكسر فالسكون ـ صفة من الرجاسة وهي القذارة , والقذارة : هيئة في الشيء توجب التجنب والتنفر منها ) ( 2 )
يستخدم القرآن الرجس في الدلالة على القذارة المادية كما يستعملها في الأمور المعنوية أيضاً .. ومثاله في الأمور الظاهرة وصفه للحم الخنزير وما أشبهه : ( أو لحم خنزير فإنه رجس ) ( 3 ) أما في الأمور المعنوية فإن القرآن يردع عن ظاهر الإثم وباطنه : ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ( 4 ) ولحم الخنزير هو من مصاديق ظاهر الإثم والرجاسة المادية والكفر من المصاديق المعنوية أي من مصاديق الرجس والقذارة الباطنية حيث يقول سبحانه : ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) ( 5 ) أو قوله تعالى : ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) ( 6 ) فالكفر ومرض القلب وهما من الأمور الباطنية وصفهما القرآن بالرجس وجعلهما من مصاديق القذارة .. على هذا الأساس يتضح أن القرآن يستعمل الرجس في الأمور المادية والمعنوية على حدّ سواء وبه تتبلور المقدمة الأولى في أن المراد من الطهارة في القرآن هي الطهارة المادية والمعنوية أيضاً نظراً للتقابل القائم بينهما .
يكتب السيد الطباطبائي في تتمة النص السابق : ( وتكون [ القذارة ] بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير قال تعالى : ( أو لحم خنزير فإنه رجس ) ( 7 ) وبحسب باطنه وهو الرجاسة والقذارة المعنوية كالشرك والكفر وأثر العمل السيء قال تعالى : ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) ( 8 ) وقال : (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) ( 9 ) ( 10 )
قد يسأل سائل :
ولكن هل نستطيع أن نستفيد من الآية الكريمة حصراً بأن المقصود بأهل البيت هم عترة النبي صلى ا لله عليه وآله وسلم خاصة أم نحتاج إلى قرينة خارجية تدل على المطلوب ؟
الآية تذكر أهل البيت لكن هذا اللفظ في القرآن تعبير عن اصطلاح عام فهل نحتاج لكي نخصصه بطائفة أو جماعة أو أفراد معينين إلى قرينة من الخارج كالرواية والوقائع التاريخية وأجواء النزول ومناخاته أم أن الآية لا قابلية لها على شمول غير طائفة ونفر معين ؟
هكذا يمكن للبعض أن يذهب إلى أن القرآن ما دام لم يحدد من هم أهل البيت فإن الآية عامة .. لكن بالعودة إلى المقدمة التي ثبتت فيما مضى نستفيد حصر الآية في العترة خاصة دون من سواهم .. فقوله تعالى ( ويطهركم تطهيرا ) دال على العصمة وقوله تعالى ( إنما يريد الله ) هو إخبار وليس إنشاء .. إذن هذه الآية لا يمكن ان تشمل أقرباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا نساءه ولا أعمامه ولا أي مصداق آخر غير العترة خاصة .. لأن جميع فرق المسلمين تتفق على عدم عصمة اولئك .. ولو كانت الآية نتطوي على الإطلاق بحيث تشمل أعمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقرابته ونساءه لكان منهم من ادعى هذا الفخر وهو وسام عظيم لا يمكن لأي إنسان أن يزهد فيه .. لكن عند العودة إلى التاريخ لا تجد أحداً ادعى ذلك .
قد يسأل سائل :
هناك من يقول ان الآية تشمل زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقرابته وقد يستشهد بالسياق او مرويات تثبت ذلك
عندما نرجع إلى هذه المرويات نجدها عموماً ترتد إلى شخصين الأول عكرمة والثاني هو مقاتل .. ومن الوجهة التاريخية كان عكرمة مولىً لابن عباس .. اما من الوجهة الرجالية فإن الرجلين كانا من أشد المعادين للإمام أمير المؤمنين عليه السلام .. بعبارة أخرى كان هذان من الخوارج ومذهب الخوارج معروف إذ لا يمكنهم الإقرار في أن آية التطهير نزلت في نفر منهم الإمام علي عليه السلام لأنها تثبت لهم العصمة وإذا ثبتت العصمة للإمام أمير المؤمنين فإن مذهب الخارجين عليه سيكون باطلاً جزماً ولن يتمتع بأي شرعية يمكن أن تضمن ولاء أهله له او قبوله من بقية المسلمين وتفاعلهم معه .. لذلك كله سعى هؤلاء لإثارة الأجواء من حول الآية لكي يصرفوها عن الإمام علي عليه السلام حتى لا يبقى ثمّ دليل على عصمته قرآنياً .
من المؤشرات التاريخية التي تشير إلى أن هؤلاء كانوا بصدد إشاعة جو معين يسوغ لهم شرعية عملهم أن عكرمة مثلاً كان يقف في السوق وينادي بأعلى صوته : ( من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) ( 11 )
ما معنى ذلك ؟ وكيف يمكن قراءة دلالاته ؟ من الواضح أن في هذا النوع من الإثارة ما يكشف عن أن الرأي السائد عند المسلمين أن الآية نزلت في غير نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ لو كان الشائع بينهم أنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا معنى للمباهلة والدعوة والصراخ في الأسواق وطلب الحجاج بهذه الصيغة المثيرة .. لهذا يعقب السيد محمد تقي الحكيم على الواقعة بقوله : ( والذي يبدو أن الرأي السائد على عهده كان على خلاف رأيه كما يشعر فحوى رده على غيره : ليس الأمر بالذي تذهبون إليه إنما هو نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ( 12 ) ) .
فمثل هذا الخطاب موجه إلى المسلمين الذين فهموا أن الآية نزلت في آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته خاصة دون زوجاته وبقية ذوي قرباه .. وما يعزز وجود هذه القناعة وشيوعها بين المسلمين وقتئذ ما تظافر على نقله وقائع التاريخ والروايات المختلفة من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكث مدة يأتي باب علي بن أبي طالب عليه السلام عند وقت الصلاة ويخاطب من فيه , وفيه علي وفاطمه والحسنان : (( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) )) ( 13 )
والروايات وإن اختلفت في المدة التي مكث فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك إلا أن القاسم المشترك بينها أنها كانت كافية لتعزيز هذه الثقافة وإشاعتها بين المسلمين .. من ذلك مثلاً قال : ( لما دخل علي رضي الله عنه بفاطمة رضي الله عنها جاء النبي صلى الله عليه وسلم أربعين صباحاً إلى بابها يقول : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم ) .
في ( الدر المنثور ) أيضاً أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : ( شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أشهر يأتي كل يوم علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) .
وروى أيضاً عن الطبراني عن أبي الحمراء ولفظه : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي باب فاطمة ستة أشهر فيقول : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) .
وعن ابن جرير وابن مردويه عن أبي الحمراء : ( حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية أشهر بالمدينة , ليس من مرّة يخرج إلى صلاة الغداة إلا أتى باب علي فوضع يده على جنبتي الباب ثم قال : الصلاة الصلاة : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) ( 14 )
يعلق السيد الطباطبائي على هذه النصوص بقوله : ( والروايات في هذه المعاني من طرق أهل السنة كثيرة وكذا من طريق الشيعة ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع غاية المرام للبحراني والعبقات ) ( 15 )
وإذا نترك التاريخ ناحية ونلجأ إلى كتب الرجال نجدها تثبت كذب عكرمة ومن هو في حسابه حتى ليشتهر خبر عبد الله بن أبي الحرث في قوله : ( دخلت على ابن عبد الله ابن عباس وعكرمة موثق على باب كنيف فقلت : أتفعلون هذا بمولاكم ! فقال : إن هذا يكذب على أبي ) ( 16 )
فقد كان عكرمة مولى لابن عباس فصار يضع الحديث على لسانه ولذلك أوثقه أولاد ابن عباس ردعاً له عن فعله لكن دون فائدة لا سيما وأن هناك شواهد كثيرة تثبت حقيقة كذب عكرمة ومن هم على أضرابه من أصحاب هذه المرويات .. على هذا الأساس يمكن القول بوضوح إن هذه الشبهة نشأت بسبب تلك العوامل السياسية التي كانت سائدة في ذلك العصر وسعي التيارات المناوئة لأهل البيت لصرف الآية ودفعها عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .. ثم لو كان في ذلك شيء من الواقع لاحتجت به زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيهن من كانت بحاجة ماسة إلى ذلك وهنا يكمن مغزى ما ذهب إليه بعض العلماء من القول : ( ومع الغض عن هذه الناحية فدعوى نزولها في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرف لم تدعيه لنفسها واحدة من النساء بل صرحت غير واحدة منهن بنزولها في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ) ( 17 )
إذن لو كان فيه احتمال ولو بسيط بنزولها في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذكرن ذلك خاصة ونحن نعرف ان بعضهن كن في حاجة شديدة إلى مثل هذه الآية لتشهدها أنها نزلت فيها وتثبت عصمتها وتدافع عما بدر منها .
من جهة أخرى ينبغي لأولئك الذين يريدون الاستدلال بوحدة السياق أن يثبتوا بأن هذا المقطع الشريف من الآية المباركة قد نزل مع بقية الآيات بيد ان أحداً لم يدع هذا الشيء حتى من القائلين باختصاصها بأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن أن يستطيع إثباته .. ثم من المعروف أن القرآن نزل تدريجياً ومن الواضح أن هذا المقطع لم ينزل متزامناً مع بقية آيات المشهد والدال على ذلك أننا لو رفعناه لما اختل السياق العام المنبسط بين هذه المجموعة من الآيات .. فالقرآن يقول : ( وإن كنتن تردن الله ... من يأت منكن بفاحشة ... ومن يقنت منكن لله ورسوله ... لستن كأحد من النساء ... وقرن في بيوتكن ... واذكرن ما يتلى في بيوتكن ) فالسياق يبقى محفوظاً بين آيات هذا المشهد حتى لو غيبنا المقطع الذي يدور حياله النقاش .. وإذا ما عدنا للآية ( 33 ) نفسها ورفعنا مقطع ( إنما يريد الله ) لما اختل سياق الآية أيضاً إذ ستكسب الصيغة التالية : ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى أقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله ) فأياً ما كانت الإطلالة على مسألة وحدة السياق وسواء اخترنا أن يكون المدخل لها وحدة المشهد أو وحدة الآية نفسها فإن السياق لا يختل برفع المقطع الذي يدور حوله النقاش بل يبقى محافظاً على انسجامه مما يدل على أن هذا المقطع نزل وحده مختصاً بموضوعه وبهذا لا يمكن المصير إلى وحدة السياق في تبرير سوق مثل هذه الاحتمالات .
الهامش :
( 1 ) الأحزاب : 33
( 2 ) الميزان في تفسير القرآن ج 16 ص 312 .
( 3 ) الأنعام : 145 .
( 4 ) الأنعام : 120 .
( 5 ) التوبة : 125 .
( 6 ) الأنعام : 125 .
( 7 ) الأنعام : 145 .
( 8 ) التوبة : 125 .
( 9 ) الأنعام : 125 .
( 10 ) الميزان في تفسير القرآن ج16 ص 312 .
( 11 ) أسبا النزول . الواحدي . المطبعة الهندية في غيط النوبي بمصر , نقلاً عن : الأصول العامة للفقه المقارن ص 152 .
( 12 ) الأصول العامة للفقه المقارن ص 152 .
( 13 ) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج5 ص 199 .
( 14 ) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج5 ص 199 . وفي الطبعة الحديثة ( طبعة دار الفكر , بيروت 1983 م ) ج6 ص 605 ـ 606 .
( 15 ) الميزان في تفسير القرآن ج16 ص 319 .
( 16 ) وفيات الأعيان لابن خلكان ج1 ص 320 , عن الأصول العامة للفقه المقارن ص 153 .
( 17 ) الأصول العامة للفقه المقارن ص 155 .
والحمد لله رب العالمين
وصل الله على محمد آله الطيبين الطاهرين
عن امير المؤمنين عليه السلام : ( قرنت الحكمة بالعصمة وقرنت الهيبة بالخيبة )
وصل الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
ان آية التطهير المباركة تمثل منطلقاً صلباً لإثبات العصمة المطلقة , يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ( 1 )
تعد هذه الآية من الآيات الأساسية التي استدلوا بها على عصمة النبي وعصمة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين .. فعندما نتحدث عن العصمة فنعني بها العصمة المطلقة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن تثبت الآية عصمتهم في حالات التبليغ وغيرها على مستوى العمد والسهو والنسيان والغفلة .. في مرحلة البلوغ وما قبل البلوغ كما تمت الإشارة لذلك في موضوع ادرجناه تحت عنوان ( العصمة في حديث الثقلين )
http://www.yahosein.com/vb/showthread.php?t=71551
وقد يسأل سائل :
كيف تدل الآية على العصمة بهذه السعة وبمثل هذه الدرجة ؟
نبدأ من آخر الآية : ( ويطهركم تطهيرا ) لنسأل عن المراد بالطهارة ؟ إذا ما تمت العودة للقرآن نفسه سنجد أن ما يقابل الطهارة هو النجاسة أو الرجس كما في آية التطهير ذاتها التي أوقعت مقابلة بين الطهارة والرجس وبذلك إذا ما تمت معرفة المراد بالرجس قرآنياً فسيتضح المراد بالطهارة .
الرجس من القذارة فكل قذر هو رجس وكل رجس فهو قذر كما تفيد كتب اللغة والتفسير التي ترادف بين الاثنين .. والسؤال عندئذ ما هي القذارة وما هو الشيء القذر ؟
عند العودة مثلا إلى السيد الطباطبائي رحمة الله في (( الميزان )) نجده يكتب : ( والرجس ـ بالكسر فالسكون ـ صفة من الرجاسة وهي القذارة , والقذارة : هيئة في الشيء توجب التجنب والتنفر منها ) ( 2 )
يستخدم القرآن الرجس في الدلالة على القذارة المادية كما يستعملها في الأمور المعنوية أيضاً .. ومثاله في الأمور الظاهرة وصفه للحم الخنزير وما أشبهه : ( أو لحم خنزير فإنه رجس ) ( 3 ) أما في الأمور المعنوية فإن القرآن يردع عن ظاهر الإثم وباطنه : ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ( 4 ) ولحم الخنزير هو من مصاديق ظاهر الإثم والرجاسة المادية والكفر من المصاديق المعنوية أي من مصاديق الرجس والقذارة الباطنية حيث يقول سبحانه : ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) ( 5 ) أو قوله تعالى : ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) ( 6 ) فالكفر ومرض القلب وهما من الأمور الباطنية وصفهما القرآن بالرجس وجعلهما من مصاديق القذارة .. على هذا الأساس يتضح أن القرآن يستعمل الرجس في الأمور المادية والمعنوية على حدّ سواء وبه تتبلور المقدمة الأولى في أن المراد من الطهارة في القرآن هي الطهارة المادية والمعنوية أيضاً نظراً للتقابل القائم بينهما .
يكتب السيد الطباطبائي في تتمة النص السابق : ( وتكون [ القذارة ] بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير قال تعالى : ( أو لحم خنزير فإنه رجس ) ( 7 ) وبحسب باطنه وهو الرجاسة والقذارة المعنوية كالشرك والكفر وأثر العمل السيء قال تعالى : ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) ( 8 ) وقال : (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) ( 9 ) ( 10 )
قد يسأل سائل :
ولكن هل نستطيع أن نستفيد من الآية الكريمة حصراً بأن المقصود بأهل البيت هم عترة النبي صلى ا لله عليه وآله وسلم خاصة أم نحتاج إلى قرينة خارجية تدل على المطلوب ؟
الآية تذكر أهل البيت لكن هذا اللفظ في القرآن تعبير عن اصطلاح عام فهل نحتاج لكي نخصصه بطائفة أو جماعة أو أفراد معينين إلى قرينة من الخارج كالرواية والوقائع التاريخية وأجواء النزول ومناخاته أم أن الآية لا قابلية لها على شمول غير طائفة ونفر معين ؟
هكذا يمكن للبعض أن يذهب إلى أن القرآن ما دام لم يحدد من هم أهل البيت فإن الآية عامة .. لكن بالعودة إلى المقدمة التي ثبتت فيما مضى نستفيد حصر الآية في العترة خاصة دون من سواهم .. فقوله تعالى ( ويطهركم تطهيرا ) دال على العصمة وقوله تعالى ( إنما يريد الله ) هو إخبار وليس إنشاء .. إذن هذه الآية لا يمكن ان تشمل أقرباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا نساءه ولا أعمامه ولا أي مصداق آخر غير العترة خاصة .. لأن جميع فرق المسلمين تتفق على عدم عصمة اولئك .. ولو كانت الآية نتطوي على الإطلاق بحيث تشمل أعمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقرابته ونساءه لكان منهم من ادعى هذا الفخر وهو وسام عظيم لا يمكن لأي إنسان أن يزهد فيه .. لكن عند العودة إلى التاريخ لا تجد أحداً ادعى ذلك .
قد يسأل سائل :
هناك من يقول ان الآية تشمل زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقرابته وقد يستشهد بالسياق او مرويات تثبت ذلك
عندما نرجع إلى هذه المرويات نجدها عموماً ترتد إلى شخصين الأول عكرمة والثاني هو مقاتل .. ومن الوجهة التاريخية كان عكرمة مولىً لابن عباس .. اما من الوجهة الرجالية فإن الرجلين كانا من أشد المعادين للإمام أمير المؤمنين عليه السلام .. بعبارة أخرى كان هذان من الخوارج ومذهب الخوارج معروف إذ لا يمكنهم الإقرار في أن آية التطهير نزلت في نفر منهم الإمام علي عليه السلام لأنها تثبت لهم العصمة وإذا ثبتت العصمة للإمام أمير المؤمنين فإن مذهب الخارجين عليه سيكون باطلاً جزماً ولن يتمتع بأي شرعية يمكن أن تضمن ولاء أهله له او قبوله من بقية المسلمين وتفاعلهم معه .. لذلك كله سعى هؤلاء لإثارة الأجواء من حول الآية لكي يصرفوها عن الإمام علي عليه السلام حتى لا يبقى ثمّ دليل على عصمته قرآنياً .
من المؤشرات التاريخية التي تشير إلى أن هؤلاء كانوا بصدد إشاعة جو معين يسوغ لهم شرعية عملهم أن عكرمة مثلاً كان يقف في السوق وينادي بأعلى صوته : ( من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) ( 11 )
ما معنى ذلك ؟ وكيف يمكن قراءة دلالاته ؟ من الواضح أن في هذا النوع من الإثارة ما يكشف عن أن الرأي السائد عند المسلمين أن الآية نزلت في غير نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ لو كان الشائع بينهم أنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا معنى للمباهلة والدعوة والصراخ في الأسواق وطلب الحجاج بهذه الصيغة المثيرة .. لهذا يعقب السيد محمد تقي الحكيم على الواقعة بقوله : ( والذي يبدو أن الرأي السائد على عهده كان على خلاف رأيه كما يشعر فحوى رده على غيره : ليس الأمر بالذي تذهبون إليه إنما هو نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ( 12 ) ) .
فمثل هذا الخطاب موجه إلى المسلمين الذين فهموا أن الآية نزلت في آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته خاصة دون زوجاته وبقية ذوي قرباه .. وما يعزز وجود هذه القناعة وشيوعها بين المسلمين وقتئذ ما تظافر على نقله وقائع التاريخ والروايات المختلفة من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكث مدة يأتي باب علي بن أبي طالب عليه السلام عند وقت الصلاة ويخاطب من فيه , وفيه علي وفاطمه والحسنان : (( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) )) ( 13 )
والروايات وإن اختلفت في المدة التي مكث فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك إلا أن القاسم المشترك بينها أنها كانت كافية لتعزيز هذه الثقافة وإشاعتها بين المسلمين .. من ذلك مثلاً قال : ( لما دخل علي رضي الله عنه بفاطمة رضي الله عنها جاء النبي صلى الله عليه وسلم أربعين صباحاً إلى بابها يقول : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم ) .
في ( الدر المنثور ) أيضاً أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : ( شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أشهر يأتي كل يوم علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) .
وروى أيضاً عن الطبراني عن أبي الحمراء ولفظه : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي باب فاطمة ستة أشهر فيقول : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) .
وعن ابن جرير وابن مردويه عن أبي الحمراء : ( حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية أشهر بالمدينة , ليس من مرّة يخرج إلى صلاة الغداة إلا أتى باب علي فوضع يده على جنبتي الباب ثم قال : الصلاة الصلاة : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) ( 14 )
يعلق السيد الطباطبائي على هذه النصوص بقوله : ( والروايات في هذه المعاني من طرق أهل السنة كثيرة وكذا من طريق الشيعة ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع غاية المرام للبحراني والعبقات ) ( 15 )
وإذا نترك التاريخ ناحية ونلجأ إلى كتب الرجال نجدها تثبت كذب عكرمة ومن هو في حسابه حتى ليشتهر خبر عبد الله بن أبي الحرث في قوله : ( دخلت على ابن عبد الله ابن عباس وعكرمة موثق على باب كنيف فقلت : أتفعلون هذا بمولاكم ! فقال : إن هذا يكذب على أبي ) ( 16 )
فقد كان عكرمة مولى لابن عباس فصار يضع الحديث على لسانه ولذلك أوثقه أولاد ابن عباس ردعاً له عن فعله لكن دون فائدة لا سيما وأن هناك شواهد كثيرة تثبت حقيقة كذب عكرمة ومن هم على أضرابه من أصحاب هذه المرويات .. على هذا الأساس يمكن القول بوضوح إن هذه الشبهة نشأت بسبب تلك العوامل السياسية التي كانت سائدة في ذلك العصر وسعي التيارات المناوئة لأهل البيت لصرف الآية ودفعها عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .. ثم لو كان في ذلك شيء من الواقع لاحتجت به زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيهن من كانت بحاجة ماسة إلى ذلك وهنا يكمن مغزى ما ذهب إليه بعض العلماء من القول : ( ومع الغض عن هذه الناحية فدعوى نزولها في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرف لم تدعيه لنفسها واحدة من النساء بل صرحت غير واحدة منهن بنزولها في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ) ( 17 )
إذن لو كان فيه احتمال ولو بسيط بنزولها في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذكرن ذلك خاصة ونحن نعرف ان بعضهن كن في حاجة شديدة إلى مثل هذه الآية لتشهدها أنها نزلت فيها وتثبت عصمتها وتدافع عما بدر منها .
من جهة أخرى ينبغي لأولئك الذين يريدون الاستدلال بوحدة السياق أن يثبتوا بأن هذا المقطع الشريف من الآية المباركة قد نزل مع بقية الآيات بيد ان أحداً لم يدع هذا الشيء حتى من القائلين باختصاصها بأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن أن يستطيع إثباته .. ثم من المعروف أن القرآن نزل تدريجياً ومن الواضح أن هذا المقطع لم ينزل متزامناً مع بقية آيات المشهد والدال على ذلك أننا لو رفعناه لما اختل السياق العام المنبسط بين هذه المجموعة من الآيات .. فالقرآن يقول : ( وإن كنتن تردن الله ... من يأت منكن بفاحشة ... ومن يقنت منكن لله ورسوله ... لستن كأحد من النساء ... وقرن في بيوتكن ... واذكرن ما يتلى في بيوتكن ) فالسياق يبقى محفوظاً بين آيات هذا المشهد حتى لو غيبنا المقطع الذي يدور حياله النقاش .. وإذا ما عدنا للآية ( 33 ) نفسها ورفعنا مقطع ( إنما يريد الله ) لما اختل سياق الآية أيضاً إذ ستكسب الصيغة التالية : ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى أقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله ) فأياً ما كانت الإطلالة على مسألة وحدة السياق وسواء اخترنا أن يكون المدخل لها وحدة المشهد أو وحدة الآية نفسها فإن السياق لا يختل برفع المقطع الذي يدور حوله النقاش بل يبقى محافظاً على انسجامه مما يدل على أن هذا المقطع نزل وحده مختصاً بموضوعه وبهذا لا يمكن المصير إلى وحدة السياق في تبرير سوق مثل هذه الاحتمالات .
الهامش :
( 1 ) الأحزاب : 33
( 2 ) الميزان في تفسير القرآن ج 16 ص 312 .
( 3 ) الأنعام : 145 .
( 4 ) الأنعام : 120 .
( 5 ) التوبة : 125 .
( 6 ) الأنعام : 125 .
( 7 ) الأنعام : 145 .
( 8 ) التوبة : 125 .
( 9 ) الأنعام : 125 .
( 10 ) الميزان في تفسير القرآن ج16 ص 312 .
( 11 ) أسبا النزول . الواحدي . المطبعة الهندية في غيط النوبي بمصر , نقلاً عن : الأصول العامة للفقه المقارن ص 152 .
( 12 ) الأصول العامة للفقه المقارن ص 152 .
( 13 ) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج5 ص 199 .
( 14 ) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج5 ص 199 . وفي الطبعة الحديثة ( طبعة دار الفكر , بيروت 1983 م ) ج6 ص 605 ـ 606 .
( 15 ) الميزان في تفسير القرآن ج16 ص 319 .
( 16 ) وفيات الأعيان لابن خلكان ج1 ص 320 , عن الأصول العامة للفقه المقارن ص 153 .
( 17 ) الأصول العامة للفقه المقارن ص 155 .
والحمد لله رب العالمين
وصل الله على محمد آله الطيبين الطاهرين
عن امير المؤمنين عليه السلام : ( قرنت الحكمة بالعصمة وقرنت الهيبة بالخيبة )
تعليق