ظاهرة عالمية باتت ملفتة للأنظار حيث أخذت حيزاً واسعاً في الساحة الإسلامية فجاءت تلك الاهرة التي تضم النخبة من العلماء والمثقفين المعاصرين ومن كافة الدول العربية والاسلامية والأجنبية لتنفض غبار الجهل والتضليل عن وجه الفكر الاسلامي.
فالمتحولون هم تلك النخبة التي اختارات خط التشيع من بين الخطوط الاسلامية لأنه يمثل الخط الاسلامي الصحيح الذي أمر به الله ورسوله وهو يمثل خط أهل بيت رسوله الكرام (صلى الله عليهم أجمعين).
سماحة الشيخ معتصم سيد أحمد
مؤلف كتاب: الحقيقة الضائعة - رحلتي نحو مذهب آل البيت( ع)
مقتطفات من حياتي
أيام صباي :
كانت تنتابني الرغبة منذ صغري.. وتشدني الفطرة نحو الالتزام بالدين،وكانت الصورة التي تراود ذهني وأستشف منها مستقبلي،لاتخرج عن اطار التدين فكنت ارى نفسي عبر أحلام اليقظة بكلا وفارسا إسلاميا مجاهدا، أردللدين حرمته وللاسلام عزته لم أكن قد تجاوزت المراحل الأولى في المدارس الأكاديمية، ولذلك كانت أفكاري قاصرة ، والمامي بتاريخ المسلمين وحضارتهم محدودا، ولم أكن أعرف الا بعض القصص عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحروبه مع الكفار، وبطولات الامام علي عليه السلام وشجاعته.. وبعد دراستنا لتاريخ الدولة المهدية في السودان، أعجبت بشخصية (عثمان دقنة) وهو أحد قواد جيش المهدي الثائر في شرق السودان وكان يشدني جهاده عندما كان أستاذنافي التاريخ يصور لنا استبساله وعظمة شخصيته،وهو مجاهد بين الجبال والوديان.. وهكذا تعلق قلبي به،وبنيت أمالي على أن اكون مثله، وبدأت أفكر بعقلي الصغير للوصول لهذا الهدف فكان طريقي الوحيد الذي كنت أتصوره أن أكون خريجا في المستقبل من الكلية الحربية العسكرية،حتى أتدرب على فنون القتال واستعمال السلاح، وعشت على هذا الهوس سنين من عمري.. حتى انتقلت الى المرحلة الثانوية، وفيها تفتحت مداركي وازدات معرفتي،فتعرفت على قادات التحرر في العالم الاسلامي،أمثال عبد الرحمن الكواكبي والسنوسي، وعمر المختار.. وجمال الدين الأفغاني، ذلك الثائر والعبقري المفكر االذي أنطلق من أفغانستان وتنقل في عواصم الدول الإسلامية والغير اسلامية ناشرا الفكر الحيوي الذي يتناول أبعاد التخلف في العالم الإسلامي وكيفية علاجها.
وما شد انتباهي ! هو اسلوبه الذي كان يمارسه في عمله الجهادي من الحكمة والحنكة ونشر الثقافة واعطاء الرشد الفكري للامة الاسلامية من غير ان يحمل سلاح ..!
فقد كنت اعتقد ان كل من يريد ان يجاهد ويدافع عن المسلمين لابد ان يرفع السيف ويخوض الحروب والمعارك فكان اسلوبه مغايرا تماما لما كنت اتصوره فأسلوب الكلمة والثقافة الواعية شئ جديد في تفكيري الديني ولكني لم استطع التخلي بسهولة عما بنيت عليه أفكاري وطموحاتي رغم اكتشافي أن أزمة الأمة أزمة ثقافية رسالية ناضجة لأن الثقافة هي التي يمكن أن تحمل كل فرد مسؤوليته فهذا هو جمال الدين طاف العالم وهو يبث نوره وبركته وينشر الفكر والثقافة التي تلقاها المسلمون بترحيب وتفاعل لأنها كانت تحل لهم مشاكلهم وتتعامل مع واقعهم فأرهب بذلك القوى الاستعمارية الحاقدة فكانت العروة الوثقى وحدها تحد شامخ لهم جعلهم يعملون على محاصرتهم ومنع إصدارها .
فكان التساؤل الذي يراودني :
كيف تمكن هذا الفرد الوحيد أن يغير تلك الموازنات وكيف أرهب كل هذه القوى المستكبرة ؟
1- وهي جريدة اصدرها جمال الدين وتلميذه محمد عبده في لندن .
وللإجابة على هذا السؤال انفتحت أمامي بوابة من الأسئلة بعضها بسيط وبعضها لا إجابة له في الواقع السوداني مما جعلني أحاول أن أتحرر من هذا الواقع وأفك كل قيود والأغلال التي كانت تدعوني للاستسلام والخضوع لهذا الواقع الديني لكي أسير في هذه الحياة كما كان يسير آبائي وأجدادي ولكن شعوري بالمسؤولية وحبي لجمال الدين كان ناقوسا يدق على أوتار فطرتي فكنت اتساءل:
كيف يمكن لي أن أصير مثل جمال الدين ؟!
وهل الدين الذي ورثته يمكن أن يحملني لذلك المستوى ؟!
ثم اقول ولم لا ؟! هل كان لجمال الدين دين غير ديننا ؟! واسلام غير اسلامنا.
وللإجابة تحيرت سنين عديدة وكل ما توصلت اليه هو تغير مفهومي للدين بصورة إجمالية فأصبحت أرى في جمال الدين القدوة والمثال بعدما كان عثمان دقنة وتغيرت تبعا لذلك الوسيلة فبعدما كانت الكلية الحربية أصبح المنهج السليم الذي يعرفني على الفكر والثقافة الإسلامية الأصيلة التي من خلالها تكون النهضة الإسلامية .
كيف كانت البداية :
كان البحث عن المنهج والفكر الناضج والثقافة المسؤولة صعبا وكانت المرحلة مريرة رغم أن بحثي كان بصورة عفوية وفطرية ففي أثناء حياتي الطبيعية كنت أسأل وأناقش وغير ذلك ولم يكن هناك تفرغ للبحث والمثابرة .
وبعد الغزو الوهابي العنيف على السودان واشتداد المناظرات والمناقشات وأزدياد الاسئلة الواقعية تلك الأسئلة العفوية التي كانت تراود ذهني .
فكثر اهتمامي بالوهابية متابعاً لمناظراتهم وندواتهم التي كانت تشدني وأهم ما تعلمته منهم في تلك المرحلة هي الجرأة وتحدي الواقع ومخالفته فلقد كنت أعتقد أن الواقع مقدس لا يمكن التهجم عليه أو التعرض له رغم ملاحظاتي الكثيرة عليه التي غالباً ما كنت أستشفها من وجداني وفطرتي فكنت أتحفظ على كثير من أفعال وممارسات المجتمع الديني .
فواصلت معهم المسير ودار بيني وبينهم كثير من المناقشات التي كانت في الواقع عبارة عن تلك الأسئلة التي كانت حائرة في ذهني فوجدت لبعضها أجوبة أرضتني في تلك المرحلة وأسئلة لم أجد لها أجوبة عندهم فكان هذا كفيلاً بالنسبة لي أن أتعاطف معهم وأشد أزرهم مع بقاء بعض الملاحظات التي كانت حائلاً بيني وبين أن ألتزم تماماً بالمنهج الوهابي أولها وأهمها أنني لم أجد عندهم ما يكفيني ويلبي طموحاتي الرسالية وكلن الوسواس يأخذني أحياناً بقوله : إن الذي تفكر فيه وتبحث عنه شيء مثالي لا واقع له وأن الوهابية أقرب نموذج للإسلام ولا بديل غيرها .
فكنت أنساق لهذا الوسواس وأصدقه لعدم معرفتي بالأفكار والمدارس الأخرى ولكن سرعان ما أنتبه إلى أن الذي صنع جمال الدين لا يمكن أن يكون هذا الفكر الوهابي فكنت أصرخ إن الوهابية هي أقرب الطرق إلى الإسلام لما يقيمونه من أدلة ونصوص على صدق مذهبهم لم أشهدها في الطوائف الأخرى في السودان – ولكن مشكلتهم أن هذا المذهب الذي يتبنوه أشبه بقوانين الرياضيات فهو عبارة عن قواعد وقوانين جامدة تطبق من غير أن تكون لها انعكاسات حضارية واضحة في حياة الإنسان وفي فن تعامله مع هذه الدنيا في شتى الأصعدة الفردية منها أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية وحتى في كيفية العلاقة مع الله تعالى بل العكس تماماً فكثيراً ما تجعل الإنسان متوحشاً في عزلة عن المجتمع بما يحمله من صكوك التفكير لكل قطاعاته فلا يستطيع الواحد منهم أن يتعايش مع المجتمع فيتميز عنهم بلباسه وتصرفاته وفي كل جزئية من حياته لا يتآلف إلا مع أقرانه فكنت أحس منهم الغرور والكبر والأنفة لأنهم ينظرون إلى الناس من شاهق عال لا يتفاعلون معهم ولا يشاركونهم في حياتهم وكيف يشاركونهم ؟! وكل ما يفعله المجتمع بدعة وضلال وأنا أذكر جيداً عندما دخل المد الوهابي إلى قريتنا في مدة قليلة ومن غير دراسة ووعي انضمت مجموعة كبيرة من الشباب إلى الخط الوهابي ثم لم يستمر الزمن كثيراً حتى تخلوا عنه جميعاً وكان هذا توقعي لأن المذهب الجديد منعهم من مخالطة المجتمع وحرم عليهم كثيراً من العادات التي تربوا عليها وهي في الواقع لا تخالف الدين .
ومن الطريف أن أذكر أن الأشياء التي كان يعاني منها الشباب المنضمون إلى الوهابية أنه كان من العادة في قريتنا أن الشباب ليالي القمر يجلسون على الرمال الصافية ويتسامرون ويقضون أوقاتهم وهي ساعة اللقاء الوحيد لشباب القرية الذين يعملون طوال النهار في مزارعهم وأشغالهم المتعددة فكان شيخهم يمنعهم من ذلك ويحرمه عليهم بحجة أن رسول الله (ص) حرم الجلوس في الطرقات رغم أن هذه الأماكن لا تعتبر طرقات وثانياً وهي مشكلة كل الوهابية أن الواحد منهم بزمن قليل من تدينه وبقليل من العلم يصبح مجتهداً يحق له أن يفتي في أي مسألة وأذكر يوماً أن أحدهم كان جالساً معي أناقشه في كثير من الأمور وفي أثناء النقاش انتفض قائماً بعدما سمع صوت أذان المغرب في مسجدهم قلت له مهلاً نكمل حديثنا قال : لا حديث قد حان وقت الصلاة هيا لنصلي في المسجد قلت له أنا أصلي في بيتي – رغم التزامي بالصلاة معهم قال صارخاً باطلة صلاتك ذهلت من هذا القول وقبل أن أستفسر أدار ظهره ليذهب قلت له مكانك ما هو سبب بطلان صلاتي في البيت ؟ .
قال ( بكل افتخار وعجب) قال رسول الله (ص) لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد قلت له لا خلاف في أفضلية صلاة الجماعة في المسجد ولكن هذا لا يعني سلب صحة الصلاة في غير هذا الموضع والحديث ناظر لتأكيد هذه الأفضلية لا لتبيين حكم الصلاة في البيت والدليل على ذلك أننا لم نر في الفقه أن من مبطلات الصلاة الصلاة في البيت ولم يفت أحد من الفقهاء في هذه المسألة ثم ثانياً بأي حق تصدر هذه الأحكام ؟! هل أنت فقيه ؟! ومن الصعب جداً أن يفتي الإنسان ويبين حكماً لموضوع معين فالفقيه يقوم بدراسة كل النصوص في مثل هذا المورد ويتعرف على دلالة الأمر والنهي في النص هل يدل الأمر على الوجوب أم على الاستحباب والنهي هل يدل على الحرمة أم الكراهة فهذا الدين عميق فأوغل فيه برفق .
بدا الانكسار في وجهه وعبس وبسر ثم قال : أنت تؤول الحديث والتأويل حرام .. وذهب ..
فاحتسبت أمري لله من هذا الأحمق الذي لا يفهم شيئاً .
هذه العقلية المتحجرة كانت هي السبب الثاني الذي حال بيني وبين أن أكون وهابياً رغم أنني تأثرت بكثير من أفكارهم فكنت أتبناها وأدافع عنها .
وبقيت على هذه الحال مدة من الزمن تائهاً لا قرار لي ولا اتجاه أقترب من الوهابية حيناً وأبتعد عنها حيناً آخر ورأيت أن الحل الوحيد أمامي بدلاً من الكلية العسكرية أن أدرس في كلية أو جامعة إسلامية حتى أواصل بحثي بطريقة أكثر دقة وإمعاناً وبعد امتحاني للجامعة وكانت هناك ستة رغبات من الجامعات والمعاهد التي يرغب الطالب في دراستها فلم أختر غير الجامعات والكليات الإسلامية وبالفعل تم قبولي في أحد الكليات الإسلامية ( وهي كلية الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة وادي النيل في السودان ) فطرت بها فرحاً وأعددت العدة لهذه المرحلة الجديدة في حياتي وبعد أداء التدريب العسكري ( الدفاع الشعبي ) الذي لا يمكن دخول الجامعة إلا بعد الفراغ منه بدأت الوفود من مختلف أنحاء السودان بالمجيء إلى الجامعة وكنت أنا من أولهم واثناء المقابلة سألني مدير الكلية عن شخصية أعجبت بها في حياتي ؟ قلت له جمال الدين الأفغاني وأوضحت له سر إعجابي في الكلية وبعدها انطلقت إلى المكتبة التي حوت كثيراً من الكتب والموسوعات الضخمة فأصبحت ملازماً لها ولكن المشكلة التي واجهتني هي من أين أبدأ وأي شيء أقرأ ؟ .
وبقيت على هذه الحال انتقل من كتاب إلى آخر وقبل أن أضع لنفسي برنامجاً فتح لي أحد أقاربنا
باباً واسعاً ومهماً في البحث والتنقيب وهو دراسة التاريخ وتتبع المذاهب الإسلامية لمعرفة الحق من بينها وكان الفتح توفيقاً إلهياً لم يكن في حسباني عندما التقيت بقريبي عبد المنعم وهو خريج كلية القانون – في منزل ابن عمي في مدينة عطبرة وقبل غروب الشمس رأيته في ساحة المنزل يتحاور مع أحد ( من الأخوان المسلمين) الذي كان ضيفاً في البيت فأرهفت السمع لأرى فيم يتحادثان وأسرعت إليهم عندما علمت بطبيعة النقاش وهو في الأمور الدينية فجلست بالقرب منهم أراقب تطورات المحاورة التي امتاز فيها عبد المنعم بالهدوء التام رغم استفزازات الطرف الآخر وتهجمه ولم أعرف طبيعة النقاش بتمامه إلى أن قال الأخ المسلم : الشيعة كفار زنادقة ...!!
يتبع واليكم باقي القصة :
فالمتحولون هم تلك النخبة التي اختارات خط التشيع من بين الخطوط الاسلامية لأنه يمثل الخط الاسلامي الصحيح الذي أمر به الله ورسوله وهو يمثل خط أهل بيت رسوله الكرام (صلى الله عليهم أجمعين).
سماحة الشيخ معتصم سيد أحمد
مؤلف كتاب: الحقيقة الضائعة - رحلتي نحو مذهب آل البيت( ع)
مقتطفات من حياتي
أيام صباي :
كانت تنتابني الرغبة منذ صغري.. وتشدني الفطرة نحو الالتزام بالدين،وكانت الصورة التي تراود ذهني وأستشف منها مستقبلي،لاتخرج عن اطار التدين فكنت ارى نفسي عبر أحلام اليقظة بكلا وفارسا إسلاميا مجاهدا، أردللدين حرمته وللاسلام عزته لم أكن قد تجاوزت المراحل الأولى في المدارس الأكاديمية، ولذلك كانت أفكاري قاصرة ، والمامي بتاريخ المسلمين وحضارتهم محدودا، ولم أكن أعرف الا بعض القصص عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحروبه مع الكفار، وبطولات الامام علي عليه السلام وشجاعته.. وبعد دراستنا لتاريخ الدولة المهدية في السودان، أعجبت بشخصية (عثمان دقنة) وهو أحد قواد جيش المهدي الثائر في شرق السودان وكان يشدني جهاده عندما كان أستاذنافي التاريخ يصور لنا استبساله وعظمة شخصيته،وهو مجاهد بين الجبال والوديان.. وهكذا تعلق قلبي به،وبنيت أمالي على أن اكون مثله، وبدأت أفكر بعقلي الصغير للوصول لهذا الهدف فكان طريقي الوحيد الذي كنت أتصوره أن أكون خريجا في المستقبل من الكلية الحربية العسكرية،حتى أتدرب على فنون القتال واستعمال السلاح، وعشت على هذا الهوس سنين من عمري.. حتى انتقلت الى المرحلة الثانوية، وفيها تفتحت مداركي وازدات معرفتي،فتعرفت على قادات التحرر في العالم الاسلامي،أمثال عبد الرحمن الكواكبي والسنوسي، وعمر المختار.. وجمال الدين الأفغاني، ذلك الثائر والعبقري المفكر االذي أنطلق من أفغانستان وتنقل في عواصم الدول الإسلامية والغير اسلامية ناشرا الفكر الحيوي الذي يتناول أبعاد التخلف في العالم الإسلامي وكيفية علاجها.
وما شد انتباهي ! هو اسلوبه الذي كان يمارسه في عمله الجهادي من الحكمة والحنكة ونشر الثقافة واعطاء الرشد الفكري للامة الاسلامية من غير ان يحمل سلاح ..!
فقد كنت اعتقد ان كل من يريد ان يجاهد ويدافع عن المسلمين لابد ان يرفع السيف ويخوض الحروب والمعارك فكان اسلوبه مغايرا تماما لما كنت اتصوره فأسلوب الكلمة والثقافة الواعية شئ جديد في تفكيري الديني ولكني لم استطع التخلي بسهولة عما بنيت عليه أفكاري وطموحاتي رغم اكتشافي أن أزمة الأمة أزمة ثقافية رسالية ناضجة لأن الثقافة هي التي يمكن أن تحمل كل فرد مسؤوليته فهذا هو جمال الدين طاف العالم وهو يبث نوره وبركته وينشر الفكر والثقافة التي تلقاها المسلمون بترحيب وتفاعل لأنها كانت تحل لهم مشاكلهم وتتعامل مع واقعهم فأرهب بذلك القوى الاستعمارية الحاقدة فكانت العروة الوثقى وحدها تحد شامخ لهم جعلهم يعملون على محاصرتهم ومنع إصدارها .
فكان التساؤل الذي يراودني :
كيف تمكن هذا الفرد الوحيد أن يغير تلك الموازنات وكيف أرهب كل هذه القوى المستكبرة ؟
1- وهي جريدة اصدرها جمال الدين وتلميذه محمد عبده في لندن .
وللإجابة على هذا السؤال انفتحت أمامي بوابة من الأسئلة بعضها بسيط وبعضها لا إجابة له في الواقع السوداني مما جعلني أحاول أن أتحرر من هذا الواقع وأفك كل قيود والأغلال التي كانت تدعوني للاستسلام والخضوع لهذا الواقع الديني لكي أسير في هذه الحياة كما كان يسير آبائي وأجدادي ولكن شعوري بالمسؤولية وحبي لجمال الدين كان ناقوسا يدق على أوتار فطرتي فكنت اتساءل:
كيف يمكن لي أن أصير مثل جمال الدين ؟!
وهل الدين الذي ورثته يمكن أن يحملني لذلك المستوى ؟!
ثم اقول ولم لا ؟! هل كان لجمال الدين دين غير ديننا ؟! واسلام غير اسلامنا.
وللإجابة تحيرت سنين عديدة وكل ما توصلت اليه هو تغير مفهومي للدين بصورة إجمالية فأصبحت أرى في جمال الدين القدوة والمثال بعدما كان عثمان دقنة وتغيرت تبعا لذلك الوسيلة فبعدما كانت الكلية الحربية أصبح المنهج السليم الذي يعرفني على الفكر والثقافة الإسلامية الأصيلة التي من خلالها تكون النهضة الإسلامية .
كيف كانت البداية :
كان البحث عن المنهج والفكر الناضج والثقافة المسؤولة صعبا وكانت المرحلة مريرة رغم أن بحثي كان بصورة عفوية وفطرية ففي أثناء حياتي الطبيعية كنت أسأل وأناقش وغير ذلك ولم يكن هناك تفرغ للبحث والمثابرة .
وبعد الغزو الوهابي العنيف على السودان واشتداد المناظرات والمناقشات وأزدياد الاسئلة الواقعية تلك الأسئلة العفوية التي كانت تراود ذهني .
فكثر اهتمامي بالوهابية متابعاً لمناظراتهم وندواتهم التي كانت تشدني وأهم ما تعلمته منهم في تلك المرحلة هي الجرأة وتحدي الواقع ومخالفته فلقد كنت أعتقد أن الواقع مقدس لا يمكن التهجم عليه أو التعرض له رغم ملاحظاتي الكثيرة عليه التي غالباً ما كنت أستشفها من وجداني وفطرتي فكنت أتحفظ على كثير من أفعال وممارسات المجتمع الديني .
فواصلت معهم المسير ودار بيني وبينهم كثير من المناقشات التي كانت في الواقع عبارة عن تلك الأسئلة التي كانت حائرة في ذهني فوجدت لبعضها أجوبة أرضتني في تلك المرحلة وأسئلة لم أجد لها أجوبة عندهم فكان هذا كفيلاً بالنسبة لي أن أتعاطف معهم وأشد أزرهم مع بقاء بعض الملاحظات التي كانت حائلاً بيني وبين أن ألتزم تماماً بالمنهج الوهابي أولها وأهمها أنني لم أجد عندهم ما يكفيني ويلبي طموحاتي الرسالية وكلن الوسواس يأخذني أحياناً بقوله : إن الذي تفكر فيه وتبحث عنه شيء مثالي لا واقع له وأن الوهابية أقرب نموذج للإسلام ولا بديل غيرها .
فكنت أنساق لهذا الوسواس وأصدقه لعدم معرفتي بالأفكار والمدارس الأخرى ولكن سرعان ما أنتبه إلى أن الذي صنع جمال الدين لا يمكن أن يكون هذا الفكر الوهابي فكنت أصرخ إن الوهابية هي أقرب الطرق إلى الإسلام لما يقيمونه من أدلة ونصوص على صدق مذهبهم لم أشهدها في الطوائف الأخرى في السودان – ولكن مشكلتهم أن هذا المذهب الذي يتبنوه أشبه بقوانين الرياضيات فهو عبارة عن قواعد وقوانين جامدة تطبق من غير أن تكون لها انعكاسات حضارية واضحة في حياة الإنسان وفي فن تعامله مع هذه الدنيا في شتى الأصعدة الفردية منها أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية وحتى في كيفية العلاقة مع الله تعالى بل العكس تماماً فكثيراً ما تجعل الإنسان متوحشاً في عزلة عن المجتمع بما يحمله من صكوك التفكير لكل قطاعاته فلا يستطيع الواحد منهم أن يتعايش مع المجتمع فيتميز عنهم بلباسه وتصرفاته وفي كل جزئية من حياته لا يتآلف إلا مع أقرانه فكنت أحس منهم الغرور والكبر والأنفة لأنهم ينظرون إلى الناس من شاهق عال لا يتفاعلون معهم ولا يشاركونهم في حياتهم وكيف يشاركونهم ؟! وكل ما يفعله المجتمع بدعة وضلال وأنا أذكر جيداً عندما دخل المد الوهابي إلى قريتنا في مدة قليلة ومن غير دراسة ووعي انضمت مجموعة كبيرة من الشباب إلى الخط الوهابي ثم لم يستمر الزمن كثيراً حتى تخلوا عنه جميعاً وكان هذا توقعي لأن المذهب الجديد منعهم من مخالطة المجتمع وحرم عليهم كثيراً من العادات التي تربوا عليها وهي في الواقع لا تخالف الدين .
ومن الطريف أن أذكر أن الأشياء التي كان يعاني منها الشباب المنضمون إلى الوهابية أنه كان من العادة في قريتنا أن الشباب ليالي القمر يجلسون على الرمال الصافية ويتسامرون ويقضون أوقاتهم وهي ساعة اللقاء الوحيد لشباب القرية الذين يعملون طوال النهار في مزارعهم وأشغالهم المتعددة فكان شيخهم يمنعهم من ذلك ويحرمه عليهم بحجة أن رسول الله (ص) حرم الجلوس في الطرقات رغم أن هذه الأماكن لا تعتبر طرقات وثانياً وهي مشكلة كل الوهابية أن الواحد منهم بزمن قليل من تدينه وبقليل من العلم يصبح مجتهداً يحق له أن يفتي في أي مسألة وأذكر يوماً أن أحدهم كان جالساً معي أناقشه في كثير من الأمور وفي أثناء النقاش انتفض قائماً بعدما سمع صوت أذان المغرب في مسجدهم قلت له مهلاً نكمل حديثنا قال : لا حديث قد حان وقت الصلاة هيا لنصلي في المسجد قلت له أنا أصلي في بيتي – رغم التزامي بالصلاة معهم قال صارخاً باطلة صلاتك ذهلت من هذا القول وقبل أن أستفسر أدار ظهره ليذهب قلت له مكانك ما هو سبب بطلان صلاتي في البيت ؟ .
قال ( بكل افتخار وعجب) قال رسول الله (ص) لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد قلت له لا خلاف في أفضلية صلاة الجماعة في المسجد ولكن هذا لا يعني سلب صحة الصلاة في غير هذا الموضع والحديث ناظر لتأكيد هذه الأفضلية لا لتبيين حكم الصلاة في البيت والدليل على ذلك أننا لم نر في الفقه أن من مبطلات الصلاة الصلاة في البيت ولم يفت أحد من الفقهاء في هذه المسألة ثم ثانياً بأي حق تصدر هذه الأحكام ؟! هل أنت فقيه ؟! ومن الصعب جداً أن يفتي الإنسان ويبين حكماً لموضوع معين فالفقيه يقوم بدراسة كل النصوص في مثل هذا المورد ويتعرف على دلالة الأمر والنهي في النص هل يدل الأمر على الوجوب أم على الاستحباب والنهي هل يدل على الحرمة أم الكراهة فهذا الدين عميق فأوغل فيه برفق .
بدا الانكسار في وجهه وعبس وبسر ثم قال : أنت تؤول الحديث والتأويل حرام .. وذهب ..
فاحتسبت أمري لله من هذا الأحمق الذي لا يفهم شيئاً .
هذه العقلية المتحجرة كانت هي السبب الثاني الذي حال بيني وبين أن أكون وهابياً رغم أنني تأثرت بكثير من أفكارهم فكنت أتبناها وأدافع عنها .
وبقيت على هذه الحال مدة من الزمن تائهاً لا قرار لي ولا اتجاه أقترب من الوهابية حيناً وأبتعد عنها حيناً آخر ورأيت أن الحل الوحيد أمامي بدلاً من الكلية العسكرية أن أدرس في كلية أو جامعة إسلامية حتى أواصل بحثي بطريقة أكثر دقة وإمعاناً وبعد امتحاني للجامعة وكانت هناك ستة رغبات من الجامعات والمعاهد التي يرغب الطالب في دراستها فلم أختر غير الجامعات والكليات الإسلامية وبالفعل تم قبولي في أحد الكليات الإسلامية ( وهي كلية الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة وادي النيل في السودان ) فطرت بها فرحاً وأعددت العدة لهذه المرحلة الجديدة في حياتي وبعد أداء التدريب العسكري ( الدفاع الشعبي ) الذي لا يمكن دخول الجامعة إلا بعد الفراغ منه بدأت الوفود من مختلف أنحاء السودان بالمجيء إلى الجامعة وكنت أنا من أولهم واثناء المقابلة سألني مدير الكلية عن شخصية أعجبت بها في حياتي ؟ قلت له جمال الدين الأفغاني وأوضحت له سر إعجابي في الكلية وبعدها انطلقت إلى المكتبة التي حوت كثيراً من الكتب والموسوعات الضخمة فأصبحت ملازماً لها ولكن المشكلة التي واجهتني هي من أين أبدأ وأي شيء أقرأ ؟ .
وبقيت على هذه الحال انتقل من كتاب إلى آخر وقبل أن أضع لنفسي برنامجاً فتح لي أحد أقاربنا
باباً واسعاً ومهماً في البحث والتنقيب وهو دراسة التاريخ وتتبع المذاهب الإسلامية لمعرفة الحق من بينها وكان الفتح توفيقاً إلهياً لم يكن في حسباني عندما التقيت بقريبي عبد المنعم وهو خريج كلية القانون – في منزل ابن عمي في مدينة عطبرة وقبل غروب الشمس رأيته في ساحة المنزل يتحاور مع أحد ( من الأخوان المسلمين) الذي كان ضيفاً في البيت فأرهفت السمع لأرى فيم يتحادثان وأسرعت إليهم عندما علمت بطبيعة النقاش وهو في الأمور الدينية فجلست بالقرب منهم أراقب تطورات المحاورة التي امتاز فيها عبد المنعم بالهدوء التام رغم استفزازات الطرف الآخر وتهجمه ولم أعرف طبيعة النقاش بتمامه إلى أن قال الأخ المسلم : الشيعة كفار زنادقة ...!!
يتبع واليكم باقي القصة :
تعليق