نعم،
الكراهية.
إجابة غير متوقعة، أوردها أحد الكتاب ضمن تساؤل طرح في جلسة خاصة، وعلى الرغم مما رافقها من سخرية مريرة، الإ انها إجابةجديرة بالتأمل ، نظراً لما تحمله من دلالات يزخر بها واقعنا المعاصر،
فهل نحن امة لم تعد تمتلك سوى كراهيتها ؟ أم هي مرحلة نعبرها كماعبرتها أمم أخرى ؟ وما الضمانة ألا تستولي كراهيتنا على مستقبل أجيالنا ، كما استولت على حاضرنا ؟. الى سنوات خلت، ، لم تكن المنطقة العربية قد إستقرت علىصورتها النمطية الراهنة ، بإعتبارها خزا ناً هائلاً لتصدير الكراهية أو استجلابها، وبالتالي لم يكن العرب عندئذ قد حشروا في " مكانتهم " البارزة لإنتاج هذا النوعمن" الأسلحة " الفتاكة، إذ لم تكن تلك المفردة - الكراهية - حكراً على العرب دونغيرهم من سائر الشعوب ، فهي قد وجدت طريقها الى السلوك البشري منذ وجوده الأول،بكونها شعوراً فردياً يتوالد في النفس حينما يكتشف الإنسان مقدار عجزه عن قهر الآخرالمنافس له على طريدة أو فريسة.
ومع تحول الجماعات الى مجتمعات، ومن ثم نشوءالدول والكيانات السياسية، تطور مفهوم الكراهية تبعاً لذلك ، ليصبح جزء اً أساسياًمن مركبّ جمعي تعاد صياغته أو إحياؤه ليأخذ أشكالاً متعددة، حسبما تقتضيه طبيعةالمرحلة التي تمرّ بها هذه الأمة او تلك، كالإدعاء بتفوق روحي أو عرقي مثلا، أوامتياز ديني أو حضاري ينتج عنه حقّ حصري بالسيادة والملك وهكذا، أي أنها - الكراهية - تحولت من حالة شعورية فردية إلى سلاح جمعي يشهر دوما بوجه الآخر المختلف .
وقد شهد التاريخ حقبا حضارية بأكملها، تحولت فيها الكراهية إلى أيديولوجيالدول وشعوب كانت تعتبرها مصدراً من أهم مصادر قوتها، بل ومن مرتكزات وجودهاوحركيتها في الزمن والمكان ، وعلى الرغم من ان علم السياسة جاء لينظم تلك الكراهياتباتجاه أولويات المصالح ، التي غالباً ما تكون مشتركة إذا قامت بين قوى متكافئة علىدرجة ما، وبعكسها إذا فقد هذا التكافؤ، لتتحول عندها المصالح الى تبعية لطرف وهيمنةللآخر، الإ ان الكراهية ظلت حاضرة على الدوام، يرتفع منسوبها بتناسب عكسي مع ضعفالأمة أو قوتها، فالأمم الأكثر إستحضاراَ للكراهية، هي الأقل قدرة على التفاعل أوالتناظر مع غيرها، من هنا يظهر ذلك التشابك المثير بين مجموعة من العوامل المتناقضةالتي تتكون منها الكراهية، لتنشط في المحصلة كمعادل موضوعي يدخل في منظومة التشكل النفسي أو الغرائزي الذي يجنح بإتجاه مصادرة العقل بشكل تام، لأن العقل بحساباتها لتقنية الدقيقة، لا يقبل الإ بما هو متحقق فعلاً، أوما يمكن توفيره لضمان التحقق،فإذا فقدت هذه الشروط، تحول العقل الى رقيب يذكر دائماً بالفشل، لذا يفقد وظيفته في صوغ المعرفة وإنتاجها، محدثاً بذلك فجوة لا يمكن ردمها، الإ على أنقاض ما بنته الكراهية من سلوكيات.
ويمر العرب اليوم بحالة تكاد تكون نموذجية في إنتاج كراهية تبدو طاغية الى درجة تلغي معها كل ما عداها، وقد انتقلت الكراهية من حا لتها السويةكخط دفاع، لأمة تشعر انها مهددة ومستهدفة، الى ما يشبه سلاحاً للتدمير الشامل للذات، ما دمنا عاجزين عن تدمير الآخر، وكان يمكن أن نترك لندمر انفسنا بكراهيتنا،من دون ان ينشغل العالم بالتدخل بشؤوننا، كما حدث في الكثير من البلدان الأفريقيةوغيرها، لكننا - لسوء او لحسن طالعنا - نشغل منطقة حساسة موقعياً، وحيويةإستراتيجيا، فلدينا نصف المخزون العالمي من الطاقة البترولية (نجلس عليه ولا نملكه،كماعبرّ جيمس بيكر)، ونشكل في الجغرافياً، اما عائقاً فاصلاً، أو جسراً بين عالمين لابد أن يتواصلا - الشرق والغرب - لذا نبدو في نقطة حرجة لا يملك الاخرون حيالهاالإ أحد خيارين، اما إدخالنا في التاريخ، أو إخراجنا من الجغرافيا.
في فيلم "الحديقة الجو راسية" الذي قيل ان من اسباب نجاحه الساحق، هو ما حمله من إيحاءات تستهدف العرب ، فالديناصورات التي توفرت لها أمكنة نموذجية للعيش ، وإهتمامات إستثنائية من قبل خبراء لامعين ، إنقلبت فجأة الى وحوش مفترسة ، لم تكتف بمهاجمةالمشرفين عليها ، بل إنتقلت لإفتراس بعضها البعض ، مهددة بالزحف نحوالمدينة ، ولمالم يستطع العلماء إيجاد تفسير منطقي لسلوكياتها الغريبة ، يمكن من خلاله إيجادالعلاج الملائم لها ، قرروا تدميرها .
لا شك ان إيحاءات من هذا النوع ، ما كانت لتجد صدى يقبل لدى الآخرين على علاّته ، لو لم تتوافر لها نماذج وشواهد واقعية ،أظهرت بمجملها أن بعض تلك الإيحاءات لم تكن تجنيا و ًحسب ، فما الذي يدفع مهندساًيشغل وظيفة مرموقة في بلد غني كقطرمثلاُ، عاش فيها سنوات طويلة بأمن وسلام ، ثميفجر نفسه في رواد للمسرح ، بل ما الذي دفع " رائد البنا " الى قطع آلاف الأميال تاركاً دراسته وعمله في أمريكا ، ليرتكب مجزرة مدينة " الحلة " بحق عراقيين أبرياء، ثم تذهب الكراهية الى ابعد من ذلك ، حين يحتفل بما قام به ، هل يمكن لأيما نظريةان تفسر سلوكيات من هذا النوع ؟ وهل يمكن لأيما " آخر " أن يكرهنا بأكثر من ذلك ؟لقد تجاوزت الكراهية كونها أيديولوجيا أوأحدى مكونات الهوية ، لتدخل من ثم في مناطق مجهولة قد يتولد عنها " دين " جديد ، ليصبح البحث عن إيجاد توصيف لهذه الكراهية ، - في نظريات العلم كما في إجتهادات الفقه أو مقولات الموروث - ضرباً من المستحيل ،فالأيديولوجيا في المحصلة ، بناء فكري يبحث عن تحقيق هدف ما، أماالهوية فتثبيت في المعنى ، أوتشخيص لخصوصية حضارية - أيّاً يكن شكلها وأحقيتها - أما ما نمّر به اليوم ، فينبغي إستخراجه من مرويات الف ليلة وليلة ، بعد تجريدها من كل أبعادهاالأدبية والجمالية .
لقد بذلت أوربا جهوداً جبارة لتنفض عن كاهلها " كراهية " محاكم التفتيش والحروب الصليبية وكوارث النازية والفاشية ، لتضع مكانها القدرات الكامنة في مقولة ديكارت عن ربط الوجود الإنساني بإنتصارالعقل " أنا افكر، إذاً أناموجود" كذلك حولت اليابان كراهيتها للأمريكي،الى طاقة منتجة بتفوق ، بعد أن أعادتصهرها بمصاهرالعقل .
لكن ،لا تقدم الأمثلة المذكورة شيئاً لواقعنا كعرب، إذسنجد على الدوام أعدادا لاتحصى من كتابنا ومرجعياتنا الفقهية أوالسياسية ، تأمرنابأن نلتزم بمقولة مبتكرة " أنا أكره ، إذا انا موجود" قد تكون المرةّ الأولى التيتجتمع فيها " أمة " خلف كراهيتها ، لتطرح جانباُ حتى أسئلة " فضولية " عن ماهيةالآخر ، واي جانب فيه ، هو الأجدر بكراهيتنا اولاً : سياسته ، ام إقتصاده ، تفوقها لمادي ، أم قوته العسكرية ؟ وكيف نتعامل مع منجزاته الحضارية التي دخلت في أدقمفردات حياتنا؟ ثم ماهو الإستثمار المتوقع لهذه الكراهية؟ هل بالإمكان تحويلها الىفعل خلاق؟ أم ستبقى "سلاحاً" للتدمير الذاتي كما تبدوعليه اليوم؟ خاصة بعد أن إختلقنا " الآخر " حتى من داخلنا.
ليس من المفترض ان تقا س عطاءات الشعوب بمخزونعواطفها، بل بمنتوج عقولها، والأمة التي تعجز عن تقديم مساهماتها على هذا الصعيد،لابد ان تصل الى مرحلة تجد نفسها وقد تحولت أوحولت، الى مجرد"حديقة ديناصورات" تهددالمدنية.
بقلم : علي السعدي / جريدة الصباح
تحياتي
تحياتي
تعليق