جذور الفتنة تكمن في سياسة المحاصصات الطائفية والعرقية وإنسحاب الفضيلة يفكك التكتلات
نديم الجابري
المستشار السياسي لحزب الفضيلة الإسلامي
يلاحظ المراقب السياسي أن الخطاب الذي ألقاه سماحة المرجع الشاهد الشيخ محمد اليعقوبي ((دام ظله)) علي عشرات الآلاف من المواطنين الذين تجمعوا لأحياء ذكري استشهاد فاطمة الزهراء عليها السلام في النجف الاشرف يوم الثلاثاء 19 حزيران 2007 ، قد تضمن تأصيلات تاريخية وسياسية وفكرية ، يمكن الاستفادة منها في وقتنا الراهن لمعالجة الاختلالات السياسية والاجتماعية التي طرأت علي العراق في أعقاب التاسع من نيسان 2003 .ونحاول في هذه الدراسة ان نسلط الضوء علي هذه التأصيلات في محورين أساسيين هما :
اولاً : التأصيلات التاريخية. ثانياً : التأصيلات السياسية - الفكرية
المبـحث الأول: التأصيلات التــاريخـية
أن الاستعانة بالماضي لخدمة المشروع الإسلامي المعاصر يكاد أن يكون منهجاً تميز به سماحة الشيخ اليعقوبي ( دام ظله ) منذ أن بدأ بدراسة دور ألائمة المعصومين في حياة الأمة الإسلامية. اذ تكاد لا تخلو خطب ومؤلفات سماحته من أشارات لسنن اختص بها أئمة ال البيت عليهم السلام ويمكن التأسي بها لمعالجة مشكلاتنا المعاصرة مع مراعاة عنصري الزمان والمكان.
ويلاحظ ان سماحته كان قد استخدم هذا المنهج بدرجة من الوعي حالت دون تصنيفه ضمن خانة ((السلفيين)) من جهة ، واستخدمه بعصرنه وضعته في مقدمة ((الأصوليين)) من جهة أخري.
ولعل دراسته الأكاديمية في كلية الهندسة ساعدته في عصرنة خطابه السياسي والديني ، مثلما ساعدته دراسته الحوزية علي تمكنه من المنهج الأصولي في البحث والخطاب. لذلك يمكن تصنيفه ضمن خانة (( الأصوليين العصريين)). والراجح ان هذا التصنيف يحسب لسماحته ، لان الأصولية بذاتها نزعة فكرية ومنهجية نابعة من الدين ذاته ، بينما السلفية ردة فعل علي التيارات التغريبية والعلمانية. واذا ما تذكرنا ان الاستنباط العقلي الذي يعتمده الأصولي يعني استنباط الأحكام الشرعية من الأصول الدينية وتطبيقها علي الحياة المعاصرة لتبين ان الأصولية دفع الي الأمام. بينما السلفية التي لا تعتمد الاستنباط العقلي رجوع الي الوراء.
لذلك ، فان السلفية غير قادرة علي مواكبة العصر ، بينما تصنف الأصولية التي ينتمي أليها الشيخ اليعقوبي ضمن الحركات الاحيائية التي تهدف الي تجديد الهوية الدينية ، وتطبيقها في الحياة المعاصرة.
وتأتي دعوة سماحة الشيخ اليعقوبي التي انطلقت عام 2006 لأحياء ذكري استشهاد فاطمة الزهراء (عليها السلام) ضمن هذا السياق الأصولي العصري المتحضر ، الذي يحاول الاستفادة ، إلي أقصي حد ممكن من الماضي المشرق للأمة الإسلامية ، وخصوصاً من الصفحات التأريخية غير الشائعة لدي المسلمين ، ومنها سيرة الزهراء (عليها السلام) وما قدمته في حياتها من اطروحات ربانية يمكن الاستعانة بها في حياتنا المعاصرة. وفي قراءة الشيخ اليعقوبي لسيرة الزهراء (عليها السلام) نلحظ بوضوح هذه المنهجية التي تسير بنا من الماضي الي الحاضر بشكل متسق وجميل ، وتسير بنا من الشرع التجريدي الي الواقع المادي الملموس ، وذلك عبر تأصيلات ذهنية تحليلية جاءت علي شكل خطوات في التراكم التاريخي ، وذلك وفق ما ياتي:-
1. في الخطوة الأولي سلم سماحته بالنص القراني الذي وصف يوم بدر ((بالفرقان)) لقوله تعالي ((وما انزلنا علي عبدنا يوم الفرقان يوم التقي الجمعان)) (سورة الأنفال الاية 41) بأحتساب ان هذه المعركة كانت معركة فاصلة وفرقاناً علي جميع الصُعد ما بين الأيمان والشرك. لذلك أطلق سماحة الشيخ علي هذه المعركة ((معركة التنـزيل))
2. وفي الخطوة الثانية قرأ سماحة الشيخ اليعقوبي تأريخ ما بعد التنـزيل ، ليستنبط من الأدلة الشرعية والعقلية حاجة الأمة الي معركة فرقان أخري علي مستوي السلوك والتطبيق أطلق عليها ((معركة التأويل)) التي قادها الأمام علي بن ابي طالب (عليه السلام). لذلك قال سماحته ((فكان علي عليه السلام تلك النقطة التي تحركت علي حروف كلمات التنـزيل فأوضحت معانيها ، وثبتت حدودها، وصفاتها من عبث وتحريف أهل الأهواء والمصالح)).
3. وبعد ان استنبط سماحة الشيخ حاجة الأمة الي معركة التأويل التي مثلت فرقان ثانٍ في حياة الأمة الإسلامية ، التي التبس عليها الأمر ، عندما وجدت أصحاب رسول الله صلي الله عليه واله ينازع بعضهم بعضاً.
عليه خلص سماحة الشيخ إلي الإقرار بالحاجة الماسة إلي فرقان جديد، يفرق بين الحق والباطل ، وينير للأمة طريقها، فكان هذا اليوم يوم الزهراء عليها السلام، عندما وقفت في مسجد أبيها صلي الله عليه واله وهي تثبت الحق، وتعيده إلي نصابه ، بحجج بالغة تدفع التأويل والالتفاف علي النصوص المقدسة.
وكان من نتائج هذه الوقفة الفرقانية الشجاعة، حسب طروحات الشيخ اليعقوبي ما يأتي:
أ. أوضحت معالم وصفات الإمام الحق ، وميزته عن المتقمص لها.
ب. ميزت المنقلبين علي الرسالة من الثابتين عليها.
- لذلك أشار سماحة الشيخ إلي انه ((ومن ذلك اليوم تميز في تاريخ الإسلام خطان الأول مستقيم... يمثل نقاوة الإسلام واصالته، وخط انحرف عن جادة الصواب ، وكلما طال الزمن ازداد الانحراف والابتعاد عن الخط الأصيل)).
4. وفي الخطوة الرابعة ، بدأ سماحة الشيخ اليعقوبي بالربط الواعي ما بين الماضي والحاضر ليستخلص اجمالاً حاجة المجتمع والإنسان بشكل دائم الي فرقان متجدد في كل زمان ومكان. وخلص تحديداً الي حاجة أهل العراق المعاصرين الي فرقان جديد ، حيث التبس عليهم الامر بعد التاسع من نيسان 2003 ، اذ اختلطت عليهم الأوراق ، وتداخلت عليهم الخنادق وذلك لأسباب عديدة ، منها :-
أ. كثرة مدعي تمثيل الإسلام الحقيقي في العراق، والخلافات الناشبة بينهم ، لدرجة بدأ احدهم يكفر الأخر او يفسقه، مع أنهم مؤمنون باله واحد ، وقران واحد، وقبلة واحدة. الأمر الذي أثار تساؤلات مشروعة لدي العامة حول من يمثل الإسلام الحقيقي ؟ دون ان تجد إجابة شافية حول تساؤلاتها.
ب. اخفاق القيادات الإسلامية التقليدية في ادارة الحكم في العراق ، أثار تساؤل مفاده: هل ان الإسلام قد اخفق ام ان الإسلاميين قد اخفقوا؟ وأثار شك لدي العامة حول قدرة الإسلام علي مواكبة العصر، دون ان تجد العامة من يجيب علي تساؤلها ، او من يزيل عن اذهانها مثل هذا الوهم الآتي من ارهاصات التجربة القائمة في العراق وليس من الإسلام القادر علي مواكبة العصر وقيادة الحياة.
ج. تسلم الإسلاميين للحكم في ظل الاحتلال أثار مشكلة المصداقية والشرعية، الأمر الذي أدي الي اهتزاز صورة الإسلاميين لدي العامة ، دون ان يقدم الإسلاميون الأدلة الشرعية المقنعة لحل مثل هذه الإشكالية.
د. تبني القيادات الإسلامية التقليدية في العراق للمنهج الطائفي الضيق بدلاً من المنهج الإسلامي الواسع ، اثار تساؤلات مشروعة مفادها: هل ان الإسلامي بالضرورة لا بد ان يكون طائفياً؟ ام ان تبني المنهج الطائفي بعد انحرافاً عن الخط الإسلامي الأصيل؟
ازاء ذلك ، لم تتمكن القيادات الإسلامية التقليدية من تقديم تأصيلات ذهنية لمثل هذه التساؤلات التي يمكن صياغتها بشكل أخر، هل تتقدم الطائفة علي الوطن ام يتقدم الوطن علي الطائفة ؟ وايهما وعاء للأخر؟ وهل تتقدم الطائفة علي الإسلام ، ام ان الإسلام يتقدم علي الطائفية؟ وايهما وعاء للأخر؟
عليه، لابد للقيادات الإسلامية الواعية ان تبصر الامة، وترتب لها الأولويات ما بين ثلاثة مفاهيم أساسية هي : الإسلام ، الطائفة، الوطن.
هـ . وقوف المرجعيات الدينية وراء مكونات اجتماعية او سياسية معينة دون غيرها، أثار تساؤلات حول دور المرجعيات في الدولة والسياسة والمجتمع مفادها: هل ان المرجعيات الدينية تعد مرجعيات خاصة بطائفة معينة ، ام انها مرجعيات لكل المسلمين؟ وهل ان المرجعيات الدينية خاصة بحزب معين ام انها خيمة للقوي السياسية كلها؟ وهل ان انخراط المرجعيات الدينية في النشاط السياسي يعد تمهيداً لولاية الفقيه ام تخلياً عنها؟
كل هذه التساؤلات وغيرها لا يجد اهل العراق إجابات واضحة عنها. لذلك اصبحوا في حيرة من أمرهم، الأمر الذي أدخلهم في متاهات الفوضي المظلمة، التي أدت الي اندلاع الحرب الأهلية في العراق بعد تفجير المراقد المقدسة في سامراء.
إزاء ذلك كله ، أقرت المرجعية الشاهدة ممثلة بسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) حاجة اهل العراق الي يوم فرقان جديد، وهذا ما أشار اليه في يوم الزهراء عليها السلام بقوله: ((وما احوجنا اليوم الي هذا الفرقان ليميز لنا الحق من الباطل، والهدي من الضلال في كل عقيدة او دعوة او فكرة، وما أحوجنا الي هذا الفرقان ليميز لنا بين الصحيح والخطأ في ارائنا وتصوراتنا. ما أحوجنا الي هذا الفرقان ليميز لنا السلوك والتصور الذي يرضي الله تبارك وتعالي من الذي يسخطه ، حيث اختلطت الأوراق، وكثر المدعون، واشتبهت الأمور)).
والتساؤل الذي يطرح هنا: من الذي يعلن مضمون الفرقان الجديد؟ وهل شهد العراق هذا اليوم دون ان تشخصة العامة والخاصة؟
والراجح، ان الذي يتحمل عبء تحديد مضمون يوم الفرقان الجديد وتوقيته هو المرجعية الشاهدة، بأحتساب انها قادرة علي هداية الأمة، ومنعها من الانحراف وهذا ما ذهب اليه الإمام الشهيد محمد باقر الصدر عندما تحدث عن خطي الخلافة الشهادة. اذ ان المرجعية الشاهدة هي التي تتولي قيادة خط الشهادة ، التي تعاقب عليها حسب تصورات الإمام الصدر ((الأنبياء، ثم ألائمة المعصومين، ثم المرجعية)).
وبما ان النبي محمد صلي الله عليه واله يعد خاتم الأنبياء، وبما اننا نعيش مرحلة الغيبة الكبري، فيوكل امر قيادة خط الشهادة الي المرجعية الدينية غير المعصومة، وهي المكلفة بإعلان مضمون يوم الفرقان وتوقيته.
اذ اشار الامام الصدر في كتابة الإسلام يقود الحياة الي ذلك بقوله: ((فخط الشهادة يتحمل مسؤوليته المرجع علي أساس ان المرجعية امتداد للنبوة والإمامة علي هذا الخط)).
كما اكد سماحة الشيخ اليعقوبي علي ذلك، بقوله: ((ان من خصائص المرجعية الرشيدة الوارثة والنائبة عن الائمة المعصومين عليهم السلام انها شاهدة علي الأمة)).
وفي كتابنا الموسوم بـ((نظام الحكم المناسب في العراق)). شخصنا سماحة الشيخ محمد اليعقوبي بوصفه المرجعية الشاهدة علي هذه الامة، وذلك للأسباب الآتية:-
أ.انه يمتلك الكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء في أبواب الفقه كلها.
ب.يمتلك العدالة والتقوي اللازمتين لمثل هذا الدور.
ج.يمتلك الرؤية السياسية الواعية ، والكفاءة الاجتماعية والإدارية، والتدبير والشجاعة وكلها مؤهلات تقتضي تبؤه مقام المرجعية الشاهدة.
ويبدو ان تلك المؤهلات قد ولدت لديه أبان ملازمته للإمام الشهيد محمد صادق الصدر، الذي اوكل اليه مهمة التصدي للأمور الاجتماعية في حياته وبعد استشهاده. ثم نمت تلك المؤهلات بشكل أعمق في السنوات الأخيرة بسبب مراقبته وتقويمه للعملية السياسية التي انطلقت بعد التاسع من نيسان 2003، فضلاً علي اشرافه المرجعي المباشر علي حزب الفضيلة الإسلامي، باحتسابه الذراع السياسي للمرجعية الشاهدة. وازاء ذلك كله، بدأت المخاضات السياسية والفكرية والعقائدية تنمو في ذهنية المرجعية الشاهدة للتمهيد ليوم فرقان جديد في العراق.
وبعد ان ايقنت المرجعية الشاهدة ان جذور الفتنة تكمن في سياسة المحاصصات الطائفية والعرقية، بادرت بالدعوة الي تفكيك تلك التكتلات الطائفية والعرقية الحاكمة علي العملية السياسية كتمهيد ليوم الفرقان الجديد.
وقد انطلق يوم الفرقان الجديد في العراق عندما أوعزت المرجعية الشاهدة إلي حزب الفضيلة الإسلامي بالانسحاب من الائتلاف العراقي الموحد، وذلك في يوم الأربعاء 7 اذار 2007 . حيث تشرفت بتلاوة هذا القرار علي الملأ، فضلاً علي الإسهام في صياغته وصناعته. ان هذا القرار الوطني الشجاع يعد يوم فرقان جديد في العراق لانه فرق بين منهجين متناقضين ، فالائتلاف تبني منهجاً طائفياً، أراد بموجبه ان يضع الوطن في حضن الطائفة ، لذلك اتسمت سياساته بقدر واسع من الاستئثار الذي ولد جزعاً لدي الأخر. بينما تبنت الفضيلة منهجاً وطنياً، ارادت بموجبه ان تضع الطائفة في حضن الوطن، لذلك اتسمت سياسة حزب الفضيلة بقدر واسع من الإيثار والتضحية، الأمر الذي ولد قبولاً وارتياحاً لدي الأخر.
وكل ذلك أعطي للأمة قدرة التمييز بين الحق والباطل، وفتح الباب الواسع لانطلاق المشروع الوطني الإسلامي كبديل عن المشروع الطائفي الضيق. بل ان هذا القرار دفع دعاة التحالفات الطائفية والعرقية لمراجعة أنفسهم، بحيث بدأوا البحث عن تحالفات سياسية جديدة.
ان هذا القرار المسؤول صحح المعادلة المغلوطة، وصحح المسار ، حيث وضع الطائفة في أحضان الوطن، الأمر الذي عزز الوطنية العراقية المهددة، لذلك لاقي استحساناً وقبولاً واسعاً في الأوساط الوطنية ، التي بدأت تتفاعل فيما بينها تحت خيمة الوطن التي تسع الجميع.
ورغم ان هذا القرار لم يكن يستهدف الائتلاف العراقي الموحد كأشخاص وقيادات، انما استهدف المنهج السياسي الذي يتبعة الائتلاف وما شابهه من تكتلات اخري بغية التفريق ما بين منهج الائتلاف ومنهج الفضيلة الوطني الذي ترعاه المرجعية الشاهدة، الا ان ردود أفعال قيادات الائتلاف اتسمت بالانفعالية والمس الشخصي برموز الفضيلة ومرجعياتها. لذلك اتخذت المرجعية الشاهدة موقفاً أكثر وضوحاً في تحديد معالم الفرقان ما بين منهج الفضيلة ومنهج الائتلاف، حيث رفضت أعطاء الشرعية للائتلاف وممارساته السياسية، بقولها ((ان من خصائص المرجعية الرشيدة الوارثة والنائبة عن ألائمة المعصومين عليهم السلام انها شاهدة علي الامة... ولا يمكن ان تكون شاهد زور ، لذا فأنها لا تستطيع ان تبارك أي انحراف او تسكت عنه او تعطي الشرعية له، ولا بد ان تعلن للأمة عدم إمضائها لمثله، خصوصاً في الأيام الأخيرة، حيث ساهمت في اتخاذ قرارات معادية لمصلحة العراق وشعبه ومستقبله)). بينما نلاحظ أن المرجعية الشاهدة ثبتت الشرعية لحزب الفضيلة ورموزه بقولها ((ان هذه التصرفات تثبت صدق دعاوي حزب الفضيلة الإسلامي)).
نديم الجابري
المستشار السياسي لحزب الفضيلة الإسلامي
يلاحظ المراقب السياسي أن الخطاب الذي ألقاه سماحة المرجع الشاهد الشيخ محمد اليعقوبي ((دام ظله)) علي عشرات الآلاف من المواطنين الذين تجمعوا لأحياء ذكري استشهاد فاطمة الزهراء عليها السلام في النجف الاشرف يوم الثلاثاء 19 حزيران 2007 ، قد تضمن تأصيلات تاريخية وسياسية وفكرية ، يمكن الاستفادة منها في وقتنا الراهن لمعالجة الاختلالات السياسية والاجتماعية التي طرأت علي العراق في أعقاب التاسع من نيسان 2003 .ونحاول في هذه الدراسة ان نسلط الضوء علي هذه التأصيلات في محورين أساسيين هما :
اولاً : التأصيلات التاريخية. ثانياً : التأصيلات السياسية - الفكرية
المبـحث الأول: التأصيلات التــاريخـية
أن الاستعانة بالماضي لخدمة المشروع الإسلامي المعاصر يكاد أن يكون منهجاً تميز به سماحة الشيخ اليعقوبي ( دام ظله ) منذ أن بدأ بدراسة دور ألائمة المعصومين في حياة الأمة الإسلامية. اذ تكاد لا تخلو خطب ومؤلفات سماحته من أشارات لسنن اختص بها أئمة ال البيت عليهم السلام ويمكن التأسي بها لمعالجة مشكلاتنا المعاصرة مع مراعاة عنصري الزمان والمكان.
ويلاحظ ان سماحته كان قد استخدم هذا المنهج بدرجة من الوعي حالت دون تصنيفه ضمن خانة ((السلفيين)) من جهة ، واستخدمه بعصرنه وضعته في مقدمة ((الأصوليين)) من جهة أخري.
ولعل دراسته الأكاديمية في كلية الهندسة ساعدته في عصرنة خطابه السياسي والديني ، مثلما ساعدته دراسته الحوزية علي تمكنه من المنهج الأصولي في البحث والخطاب. لذلك يمكن تصنيفه ضمن خانة (( الأصوليين العصريين)). والراجح ان هذا التصنيف يحسب لسماحته ، لان الأصولية بذاتها نزعة فكرية ومنهجية نابعة من الدين ذاته ، بينما السلفية ردة فعل علي التيارات التغريبية والعلمانية. واذا ما تذكرنا ان الاستنباط العقلي الذي يعتمده الأصولي يعني استنباط الأحكام الشرعية من الأصول الدينية وتطبيقها علي الحياة المعاصرة لتبين ان الأصولية دفع الي الأمام. بينما السلفية التي لا تعتمد الاستنباط العقلي رجوع الي الوراء.
لذلك ، فان السلفية غير قادرة علي مواكبة العصر ، بينما تصنف الأصولية التي ينتمي أليها الشيخ اليعقوبي ضمن الحركات الاحيائية التي تهدف الي تجديد الهوية الدينية ، وتطبيقها في الحياة المعاصرة.
وتأتي دعوة سماحة الشيخ اليعقوبي التي انطلقت عام 2006 لأحياء ذكري استشهاد فاطمة الزهراء (عليها السلام) ضمن هذا السياق الأصولي العصري المتحضر ، الذي يحاول الاستفادة ، إلي أقصي حد ممكن من الماضي المشرق للأمة الإسلامية ، وخصوصاً من الصفحات التأريخية غير الشائعة لدي المسلمين ، ومنها سيرة الزهراء (عليها السلام) وما قدمته في حياتها من اطروحات ربانية يمكن الاستعانة بها في حياتنا المعاصرة. وفي قراءة الشيخ اليعقوبي لسيرة الزهراء (عليها السلام) نلحظ بوضوح هذه المنهجية التي تسير بنا من الماضي الي الحاضر بشكل متسق وجميل ، وتسير بنا من الشرع التجريدي الي الواقع المادي الملموس ، وذلك عبر تأصيلات ذهنية تحليلية جاءت علي شكل خطوات في التراكم التاريخي ، وذلك وفق ما ياتي:-
1. في الخطوة الأولي سلم سماحته بالنص القراني الذي وصف يوم بدر ((بالفرقان)) لقوله تعالي ((وما انزلنا علي عبدنا يوم الفرقان يوم التقي الجمعان)) (سورة الأنفال الاية 41) بأحتساب ان هذه المعركة كانت معركة فاصلة وفرقاناً علي جميع الصُعد ما بين الأيمان والشرك. لذلك أطلق سماحة الشيخ علي هذه المعركة ((معركة التنـزيل))
2. وفي الخطوة الثانية قرأ سماحة الشيخ اليعقوبي تأريخ ما بعد التنـزيل ، ليستنبط من الأدلة الشرعية والعقلية حاجة الأمة الي معركة فرقان أخري علي مستوي السلوك والتطبيق أطلق عليها ((معركة التأويل)) التي قادها الأمام علي بن ابي طالب (عليه السلام). لذلك قال سماحته ((فكان علي عليه السلام تلك النقطة التي تحركت علي حروف كلمات التنـزيل فأوضحت معانيها ، وثبتت حدودها، وصفاتها من عبث وتحريف أهل الأهواء والمصالح)).
3. وبعد ان استنبط سماحة الشيخ حاجة الأمة الي معركة التأويل التي مثلت فرقان ثانٍ في حياة الأمة الإسلامية ، التي التبس عليها الأمر ، عندما وجدت أصحاب رسول الله صلي الله عليه واله ينازع بعضهم بعضاً.
عليه خلص سماحة الشيخ إلي الإقرار بالحاجة الماسة إلي فرقان جديد، يفرق بين الحق والباطل ، وينير للأمة طريقها، فكان هذا اليوم يوم الزهراء عليها السلام، عندما وقفت في مسجد أبيها صلي الله عليه واله وهي تثبت الحق، وتعيده إلي نصابه ، بحجج بالغة تدفع التأويل والالتفاف علي النصوص المقدسة.
وكان من نتائج هذه الوقفة الفرقانية الشجاعة، حسب طروحات الشيخ اليعقوبي ما يأتي:
أ. أوضحت معالم وصفات الإمام الحق ، وميزته عن المتقمص لها.
ب. ميزت المنقلبين علي الرسالة من الثابتين عليها.
- لذلك أشار سماحة الشيخ إلي انه ((ومن ذلك اليوم تميز في تاريخ الإسلام خطان الأول مستقيم... يمثل نقاوة الإسلام واصالته، وخط انحرف عن جادة الصواب ، وكلما طال الزمن ازداد الانحراف والابتعاد عن الخط الأصيل)).
4. وفي الخطوة الرابعة ، بدأ سماحة الشيخ اليعقوبي بالربط الواعي ما بين الماضي والحاضر ليستخلص اجمالاً حاجة المجتمع والإنسان بشكل دائم الي فرقان متجدد في كل زمان ومكان. وخلص تحديداً الي حاجة أهل العراق المعاصرين الي فرقان جديد ، حيث التبس عليهم الامر بعد التاسع من نيسان 2003 ، اذ اختلطت عليهم الأوراق ، وتداخلت عليهم الخنادق وذلك لأسباب عديدة ، منها :-
أ. كثرة مدعي تمثيل الإسلام الحقيقي في العراق، والخلافات الناشبة بينهم ، لدرجة بدأ احدهم يكفر الأخر او يفسقه، مع أنهم مؤمنون باله واحد ، وقران واحد، وقبلة واحدة. الأمر الذي أثار تساؤلات مشروعة لدي العامة حول من يمثل الإسلام الحقيقي ؟ دون ان تجد إجابة شافية حول تساؤلاتها.
ب. اخفاق القيادات الإسلامية التقليدية في ادارة الحكم في العراق ، أثار تساؤل مفاده: هل ان الإسلام قد اخفق ام ان الإسلاميين قد اخفقوا؟ وأثار شك لدي العامة حول قدرة الإسلام علي مواكبة العصر، دون ان تجد العامة من يجيب علي تساؤلها ، او من يزيل عن اذهانها مثل هذا الوهم الآتي من ارهاصات التجربة القائمة في العراق وليس من الإسلام القادر علي مواكبة العصر وقيادة الحياة.
ج. تسلم الإسلاميين للحكم في ظل الاحتلال أثار مشكلة المصداقية والشرعية، الأمر الذي أدي الي اهتزاز صورة الإسلاميين لدي العامة ، دون ان يقدم الإسلاميون الأدلة الشرعية المقنعة لحل مثل هذه الإشكالية.
د. تبني القيادات الإسلامية التقليدية في العراق للمنهج الطائفي الضيق بدلاً من المنهج الإسلامي الواسع ، اثار تساؤلات مشروعة مفادها: هل ان الإسلامي بالضرورة لا بد ان يكون طائفياً؟ ام ان تبني المنهج الطائفي بعد انحرافاً عن الخط الإسلامي الأصيل؟
ازاء ذلك ، لم تتمكن القيادات الإسلامية التقليدية من تقديم تأصيلات ذهنية لمثل هذه التساؤلات التي يمكن صياغتها بشكل أخر، هل تتقدم الطائفة علي الوطن ام يتقدم الوطن علي الطائفة ؟ وايهما وعاء للأخر؟ وهل تتقدم الطائفة علي الإسلام ، ام ان الإسلام يتقدم علي الطائفية؟ وايهما وعاء للأخر؟
عليه، لابد للقيادات الإسلامية الواعية ان تبصر الامة، وترتب لها الأولويات ما بين ثلاثة مفاهيم أساسية هي : الإسلام ، الطائفة، الوطن.
هـ . وقوف المرجعيات الدينية وراء مكونات اجتماعية او سياسية معينة دون غيرها، أثار تساؤلات حول دور المرجعيات في الدولة والسياسة والمجتمع مفادها: هل ان المرجعيات الدينية تعد مرجعيات خاصة بطائفة معينة ، ام انها مرجعيات لكل المسلمين؟ وهل ان المرجعيات الدينية خاصة بحزب معين ام انها خيمة للقوي السياسية كلها؟ وهل ان انخراط المرجعيات الدينية في النشاط السياسي يعد تمهيداً لولاية الفقيه ام تخلياً عنها؟
كل هذه التساؤلات وغيرها لا يجد اهل العراق إجابات واضحة عنها. لذلك اصبحوا في حيرة من أمرهم، الأمر الذي أدخلهم في متاهات الفوضي المظلمة، التي أدت الي اندلاع الحرب الأهلية في العراق بعد تفجير المراقد المقدسة في سامراء.
إزاء ذلك كله ، أقرت المرجعية الشاهدة ممثلة بسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) حاجة اهل العراق الي يوم فرقان جديد، وهذا ما أشار اليه في يوم الزهراء عليها السلام بقوله: ((وما احوجنا اليوم الي هذا الفرقان ليميز لنا الحق من الباطل، والهدي من الضلال في كل عقيدة او دعوة او فكرة، وما أحوجنا الي هذا الفرقان ليميز لنا بين الصحيح والخطأ في ارائنا وتصوراتنا. ما أحوجنا الي هذا الفرقان ليميز لنا السلوك والتصور الذي يرضي الله تبارك وتعالي من الذي يسخطه ، حيث اختلطت الأوراق، وكثر المدعون، واشتبهت الأمور)).
والتساؤل الذي يطرح هنا: من الذي يعلن مضمون الفرقان الجديد؟ وهل شهد العراق هذا اليوم دون ان تشخصة العامة والخاصة؟
والراجح، ان الذي يتحمل عبء تحديد مضمون يوم الفرقان الجديد وتوقيته هو المرجعية الشاهدة، بأحتساب انها قادرة علي هداية الأمة، ومنعها من الانحراف وهذا ما ذهب اليه الإمام الشهيد محمد باقر الصدر عندما تحدث عن خطي الخلافة الشهادة. اذ ان المرجعية الشاهدة هي التي تتولي قيادة خط الشهادة ، التي تعاقب عليها حسب تصورات الإمام الصدر ((الأنبياء، ثم ألائمة المعصومين، ثم المرجعية)).
وبما ان النبي محمد صلي الله عليه واله يعد خاتم الأنبياء، وبما اننا نعيش مرحلة الغيبة الكبري، فيوكل امر قيادة خط الشهادة الي المرجعية الدينية غير المعصومة، وهي المكلفة بإعلان مضمون يوم الفرقان وتوقيته.
اذ اشار الامام الصدر في كتابة الإسلام يقود الحياة الي ذلك بقوله: ((فخط الشهادة يتحمل مسؤوليته المرجع علي أساس ان المرجعية امتداد للنبوة والإمامة علي هذا الخط)).
كما اكد سماحة الشيخ اليعقوبي علي ذلك، بقوله: ((ان من خصائص المرجعية الرشيدة الوارثة والنائبة عن الائمة المعصومين عليهم السلام انها شاهدة علي الأمة)).
وفي كتابنا الموسوم بـ((نظام الحكم المناسب في العراق)). شخصنا سماحة الشيخ محمد اليعقوبي بوصفه المرجعية الشاهدة علي هذه الامة، وذلك للأسباب الآتية:-
أ.انه يمتلك الكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء في أبواب الفقه كلها.
ب.يمتلك العدالة والتقوي اللازمتين لمثل هذا الدور.
ج.يمتلك الرؤية السياسية الواعية ، والكفاءة الاجتماعية والإدارية، والتدبير والشجاعة وكلها مؤهلات تقتضي تبؤه مقام المرجعية الشاهدة.
ويبدو ان تلك المؤهلات قد ولدت لديه أبان ملازمته للإمام الشهيد محمد صادق الصدر، الذي اوكل اليه مهمة التصدي للأمور الاجتماعية في حياته وبعد استشهاده. ثم نمت تلك المؤهلات بشكل أعمق في السنوات الأخيرة بسبب مراقبته وتقويمه للعملية السياسية التي انطلقت بعد التاسع من نيسان 2003، فضلاً علي اشرافه المرجعي المباشر علي حزب الفضيلة الإسلامي، باحتسابه الذراع السياسي للمرجعية الشاهدة. وازاء ذلك كله، بدأت المخاضات السياسية والفكرية والعقائدية تنمو في ذهنية المرجعية الشاهدة للتمهيد ليوم فرقان جديد في العراق.
وبعد ان ايقنت المرجعية الشاهدة ان جذور الفتنة تكمن في سياسة المحاصصات الطائفية والعرقية، بادرت بالدعوة الي تفكيك تلك التكتلات الطائفية والعرقية الحاكمة علي العملية السياسية كتمهيد ليوم الفرقان الجديد.
وقد انطلق يوم الفرقان الجديد في العراق عندما أوعزت المرجعية الشاهدة إلي حزب الفضيلة الإسلامي بالانسحاب من الائتلاف العراقي الموحد، وذلك في يوم الأربعاء 7 اذار 2007 . حيث تشرفت بتلاوة هذا القرار علي الملأ، فضلاً علي الإسهام في صياغته وصناعته. ان هذا القرار الوطني الشجاع يعد يوم فرقان جديد في العراق لانه فرق بين منهجين متناقضين ، فالائتلاف تبني منهجاً طائفياً، أراد بموجبه ان يضع الوطن في حضن الطائفة ، لذلك اتسمت سياساته بقدر واسع من الاستئثار الذي ولد جزعاً لدي الأخر. بينما تبنت الفضيلة منهجاً وطنياً، ارادت بموجبه ان تضع الطائفة في حضن الوطن، لذلك اتسمت سياسة حزب الفضيلة بقدر واسع من الإيثار والتضحية، الأمر الذي ولد قبولاً وارتياحاً لدي الأخر.
وكل ذلك أعطي للأمة قدرة التمييز بين الحق والباطل، وفتح الباب الواسع لانطلاق المشروع الوطني الإسلامي كبديل عن المشروع الطائفي الضيق. بل ان هذا القرار دفع دعاة التحالفات الطائفية والعرقية لمراجعة أنفسهم، بحيث بدأوا البحث عن تحالفات سياسية جديدة.
ان هذا القرار المسؤول صحح المعادلة المغلوطة، وصحح المسار ، حيث وضع الطائفة في أحضان الوطن، الأمر الذي عزز الوطنية العراقية المهددة، لذلك لاقي استحساناً وقبولاً واسعاً في الأوساط الوطنية ، التي بدأت تتفاعل فيما بينها تحت خيمة الوطن التي تسع الجميع.
ورغم ان هذا القرار لم يكن يستهدف الائتلاف العراقي الموحد كأشخاص وقيادات، انما استهدف المنهج السياسي الذي يتبعة الائتلاف وما شابهه من تكتلات اخري بغية التفريق ما بين منهج الائتلاف ومنهج الفضيلة الوطني الذي ترعاه المرجعية الشاهدة، الا ان ردود أفعال قيادات الائتلاف اتسمت بالانفعالية والمس الشخصي برموز الفضيلة ومرجعياتها. لذلك اتخذت المرجعية الشاهدة موقفاً أكثر وضوحاً في تحديد معالم الفرقان ما بين منهج الفضيلة ومنهج الائتلاف، حيث رفضت أعطاء الشرعية للائتلاف وممارساته السياسية، بقولها ((ان من خصائص المرجعية الرشيدة الوارثة والنائبة عن ألائمة المعصومين عليهم السلام انها شاهدة علي الامة... ولا يمكن ان تكون شاهد زور ، لذا فأنها لا تستطيع ان تبارك أي انحراف او تسكت عنه او تعطي الشرعية له، ولا بد ان تعلن للأمة عدم إمضائها لمثله، خصوصاً في الأيام الأخيرة، حيث ساهمت في اتخاذ قرارات معادية لمصلحة العراق وشعبه ومستقبله)). بينما نلاحظ أن المرجعية الشاهدة ثبتت الشرعية لحزب الفضيلة ورموزه بقولها ((ان هذه التصرفات تثبت صدق دعاوي حزب الفضيلة الإسلامي)).
تعليق