محمد باقر الصدر.. عبقرية نادرة في زمن الازمات
عندما قرأت کتاب"فلسفتنا"للمفکر الشهيد محمد باقر الصدر في أواسطالثمانينات من الالفية السابقة، إنبهرت کثيرا بالفهم و التناول العميقين اللذين کنتأستشعرهما في أسلوب تناوله و مناقشته و محاججته للمدارس الفلسفية المتباينة و کيفأن الروح العلمية في البحث عن الحقيقة کانت قبس و منار هذا الراحل الکبير. حينها،کنت قد سمعت بالنبأ المفجع لإعدامه على يد الطاغية الارعن في بغداد، ولم أجد نفسيإلا تواقة لکي تنهل من بقايا تراث هذا الرجل العظيم، فقرأت له"إقتصادنا" و"البنکاللاربوي" و "مجتمعنا" و"المدرسة القرآنية"، والحق أنني وجدت نفسي أمام ظاهرةإستثنائية من حيث سعة الافق الثقافي و الاسلوب الامثل لمناقشة الاخر و محاججته وفقمبدأ إستقرائي جزل يتميز بالعمق في فهم و إستيعاب الطروحات الفلسفية. والذيإستوقفني طويلا هو تناوله لموضوع الاقتصاد و بصورة علمية تماما وکأن الذي يتناولالامر ليس برجل دين وإنما عالم إقتصاد متخصص و ذو فهم ثاقب في مجال إختصاصه، وحينتطالع کيفية تناوله لأسس و مبادئ ادم سميث و ديفيد ريکاردو الاقتصادية و کيف أنهيناقش و يحلل تلک الأسس و المبادئ و يحاول الخروج بمعطيات مقبولة مستقاة في ضوء فهمو إستعياب دقيق لها، کما أن ذلک التناول المميز للأسس التنظيرية لکارل مارکس فيکتابه"رأس المال" وأسلوب طرحه لنظرية"فائض القيمة" وإقراره بحقانية المنظورالمارکسي للظلم الواقع على الطبقات المسحوقة، فإنک تشعر أنک أمام طاقة عبقرية فذةتشرئب بالتوجه نحو الإستزادة من التراث الانساني على إختلاف مشاربه و تياراته مندون التقوقع داخل زوايا التحجر الديني أو الفکري أو العرقي. ولعل جرأة تناول هذاالمفکر للفلسفة الليبرالية و إعترافه بأن الإهتمام الإستثنائي لها بمسألة الحرية هيمن النقاط الإيجابية التي لابد من الثناء عليها و الوقوف عندها تماما مثلما وقفأمام مسألة فائض القيمة عند کارل مارکس وهي تؤکد أن هذا المفکر الکبير وإن کانمرجعا إسلاميا له قاعدة جماهيرية واسعة، إلا أنه رغم ذلک کان ذو أفق واسع من أبرزسماته الإنفتاح على کل ماهو إنساني ومحاولة إدافته و إضافته لخزينه الفکري الثر. وإذا کانت العديد من الکتب التأريخية تروي الظلم الکبير الذي أوقعه الخليفةالعباسي"هارون الرشيد"بأحد أبرز أئمة الشيعة وهو الإمام"موسى إبن جعفر"، فإن العالمالجليل محمد باقر الصدر حين يتعرض تأريخيا للرشيد، فإنه يطلب من تلامذته أن لايتسرعوا في الحکم على خليفة کان يخاطب الغيمة بقوله"إمطري حيثما شأتي فسيأتينيخراجک"، وأن يضعون أنفسهم مکانه لکي يرون هل کان بوسعهم أن يفعلون شيئا مغايرا للذيفعله الرشيد؟وهو بهذا الامر يکاد يجسد ذلک الرأي السديد الذي يقول"لکي تعرف ماهيةونفس الانسان فأعرض عليه أما السلطة أو المال"، هذا الاسلوب الإنساني الامثل فيمحاکاة الخصم، هو بالذات مايحتاجه المجتمع الدولي في الوضع الراهن، إذ أن تصور کلالکرات في سلة واحدة أو النظر الى النصف المملوء للقدح وعدم الإکتراث لنصفه الاخرهو الذي يتحکم بالعالم. الصدر الذي يملک من الجرأة و الشجاعة بحيث يدعو تلامذتهللتريث في الحکم على خصم تأريخي للشيعة"على الرغم من صحة الادلة التأريخية بهذاالصدد"هو بحق الرجل الذي نفتقده اليوم بين ظهرانينا و يحتاجه لا المجتمع الإسلاميالذي تتقاذفه التيارات الفکرية التي تجنح نحو الإنغلاق و المزيد من التشدد لوحده،وإنما کل المجتمعات الإنسانية الاخرى التي تعيش أزمات طاحنة تنبع جلها في زاوية عدمفهم وتقبل الاخر، وهنا تحضرني قصيدة"Simpthy" (العاطفة) لجون لينون والتي ذاعتشهرتها في فترة زمنية معاصرة للمفکر الصدر، والتي يقول فيها:
"حاليا نصف العالميکره النصف الاخر
والعاطفة هي مانحتاجها يا صديقي(1)"
ولو کان قد تسنى لجونلينون أن يسمع بهکذا طرح وفهم للآخر، لکان من المأخوذين بهذا الداعية الإنساني الذيقلما يجود الدهر بأمثاله وهو بحق فلتة زمانه و ظاهرة ليس من السهولة تکرارها، لقدکان الرجل المناسب في الزمن المناسب لکن رجلا غير مناسبا في مکان غير مناسب له قدحرم الإنسانية من العطاء الثر لهذا المفکر الإنساني.
إن الصدر الذي کان خطابهعاما و شاملا وکان يخاطب السني قبل الشيعي و الکوردي قبل العربي، وهو الذي أفتىبجواز الصلاة خلف الإمام السني، کان يجسد ظاهرة و إتجاها فکريا تنويريا منفتحا تمامالإنفتاح على کل التيارات الفکرية و المذهبية الاخرى وهو أمر لم يکن من السهولة فيذلک الزمن الصعب أن تجد من يجرأ حتى على مجرد الفکير به، هو الرجل الذي تحتاجهالساحة العراقية في وضعها الراهن وهو النموذج و المثل الاعلى الذي لابد من الإقتداءبه في ظلمة هذا المفترق الخطير الذي يمر به العراق، فهل هناک من صدرآخر؟!
*ملحوظة: کتبت هذه المقالة ردا على تلک التساؤلات و الإستفسارات التيوردتني حول السبب في إهتمامي بالمفکر الراحل محمد باقر الصدر و مالدوافع الکامنةوراء ذلک، والحق أن هذا الرد هو شئ متواضع أمام ذلک التوقير و التبجيل الذي أکنه فيأعماقي لهذا المفکر العظيم.
عندما قرأت کتاب"فلسفتنا"للمفکر الشهيد محمد باقر الصدر في أواسطالثمانينات من الالفية السابقة، إنبهرت کثيرا بالفهم و التناول العميقين اللذين کنتأستشعرهما في أسلوب تناوله و مناقشته و محاججته للمدارس الفلسفية المتباينة و کيفأن الروح العلمية في البحث عن الحقيقة کانت قبس و منار هذا الراحل الکبير. حينها،کنت قد سمعت بالنبأ المفجع لإعدامه على يد الطاغية الارعن في بغداد، ولم أجد نفسيإلا تواقة لکي تنهل من بقايا تراث هذا الرجل العظيم، فقرأت له"إقتصادنا" و"البنکاللاربوي" و "مجتمعنا" و"المدرسة القرآنية"، والحق أنني وجدت نفسي أمام ظاهرةإستثنائية من حيث سعة الافق الثقافي و الاسلوب الامثل لمناقشة الاخر و محاججته وفقمبدأ إستقرائي جزل يتميز بالعمق في فهم و إستيعاب الطروحات الفلسفية. والذيإستوقفني طويلا هو تناوله لموضوع الاقتصاد و بصورة علمية تماما وکأن الذي يتناولالامر ليس برجل دين وإنما عالم إقتصاد متخصص و ذو فهم ثاقب في مجال إختصاصه، وحينتطالع کيفية تناوله لأسس و مبادئ ادم سميث و ديفيد ريکاردو الاقتصادية و کيف أنهيناقش و يحلل تلک الأسس و المبادئ و يحاول الخروج بمعطيات مقبولة مستقاة في ضوء فهمو إستعياب دقيق لها، کما أن ذلک التناول المميز للأسس التنظيرية لکارل مارکس فيکتابه"رأس المال" وأسلوب طرحه لنظرية"فائض القيمة" وإقراره بحقانية المنظورالمارکسي للظلم الواقع على الطبقات المسحوقة، فإنک تشعر أنک أمام طاقة عبقرية فذةتشرئب بالتوجه نحو الإستزادة من التراث الانساني على إختلاف مشاربه و تياراته مندون التقوقع داخل زوايا التحجر الديني أو الفکري أو العرقي. ولعل جرأة تناول هذاالمفکر للفلسفة الليبرالية و إعترافه بأن الإهتمام الإستثنائي لها بمسألة الحرية هيمن النقاط الإيجابية التي لابد من الثناء عليها و الوقوف عندها تماما مثلما وقفأمام مسألة فائض القيمة عند کارل مارکس وهي تؤکد أن هذا المفکر الکبير وإن کانمرجعا إسلاميا له قاعدة جماهيرية واسعة، إلا أنه رغم ذلک کان ذو أفق واسع من أبرزسماته الإنفتاح على کل ماهو إنساني ومحاولة إدافته و إضافته لخزينه الفکري الثر. وإذا کانت العديد من الکتب التأريخية تروي الظلم الکبير الذي أوقعه الخليفةالعباسي"هارون الرشيد"بأحد أبرز أئمة الشيعة وهو الإمام"موسى إبن جعفر"، فإن العالمالجليل محمد باقر الصدر حين يتعرض تأريخيا للرشيد، فإنه يطلب من تلامذته أن لايتسرعوا في الحکم على خليفة کان يخاطب الغيمة بقوله"إمطري حيثما شأتي فسيأتينيخراجک"، وأن يضعون أنفسهم مکانه لکي يرون هل کان بوسعهم أن يفعلون شيئا مغايرا للذيفعله الرشيد؟وهو بهذا الامر يکاد يجسد ذلک الرأي السديد الذي يقول"لکي تعرف ماهيةونفس الانسان فأعرض عليه أما السلطة أو المال"، هذا الاسلوب الإنساني الامثل فيمحاکاة الخصم، هو بالذات مايحتاجه المجتمع الدولي في الوضع الراهن، إذ أن تصور کلالکرات في سلة واحدة أو النظر الى النصف المملوء للقدح وعدم الإکتراث لنصفه الاخرهو الذي يتحکم بالعالم. الصدر الذي يملک من الجرأة و الشجاعة بحيث يدعو تلامذتهللتريث في الحکم على خصم تأريخي للشيعة"على الرغم من صحة الادلة التأريخية بهذاالصدد"هو بحق الرجل الذي نفتقده اليوم بين ظهرانينا و يحتاجه لا المجتمع الإسلاميالذي تتقاذفه التيارات الفکرية التي تجنح نحو الإنغلاق و المزيد من التشدد لوحده،وإنما کل المجتمعات الإنسانية الاخرى التي تعيش أزمات طاحنة تنبع جلها في زاوية عدمفهم وتقبل الاخر، وهنا تحضرني قصيدة"Simpthy" (العاطفة) لجون لينون والتي ذاعتشهرتها في فترة زمنية معاصرة للمفکر الصدر، والتي يقول فيها:
"حاليا نصف العالميکره النصف الاخر
والعاطفة هي مانحتاجها يا صديقي(1)"
ولو کان قد تسنى لجونلينون أن يسمع بهکذا طرح وفهم للآخر، لکان من المأخوذين بهذا الداعية الإنساني الذيقلما يجود الدهر بأمثاله وهو بحق فلتة زمانه و ظاهرة ليس من السهولة تکرارها، لقدکان الرجل المناسب في الزمن المناسب لکن رجلا غير مناسبا في مکان غير مناسب له قدحرم الإنسانية من العطاء الثر لهذا المفکر الإنساني.
إن الصدر الذي کان خطابهعاما و شاملا وکان يخاطب السني قبل الشيعي و الکوردي قبل العربي، وهو الذي أفتىبجواز الصلاة خلف الإمام السني، کان يجسد ظاهرة و إتجاها فکريا تنويريا منفتحا تمامالإنفتاح على کل التيارات الفکرية و المذهبية الاخرى وهو أمر لم يکن من السهولة فيذلک الزمن الصعب أن تجد من يجرأ حتى على مجرد الفکير به، هو الرجل الذي تحتاجهالساحة العراقية في وضعها الراهن وهو النموذج و المثل الاعلى الذي لابد من الإقتداءبه في ظلمة هذا المفترق الخطير الذي يمر به العراق، فهل هناک من صدرآخر؟!
*ملحوظة: کتبت هذه المقالة ردا على تلک التساؤلات و الإستفسارات التيوردتني حول السبب في إهتمامي بالمفکر الراحل محمد باقر الصدر و مالدوافع الکامنةوراء ذلک، والحق أن هذا الرد هو شئ متواضع أمام ذلک التوقير و التبجيل الذي أکنه فيأعماقي لهذا المفکر العظيم.
تعليق